فصل: تفسير الآيات (34- 43):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: لباب التأويل في معاني التنزيل المشهور بـ «تفسير الخازن» (نسخة منقحة).



.تفسير الآيات (34- 43):

{وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ (34) كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ (35) وَإِذَا رَآَكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آَلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ هُمْ كَافِرُونَ (36) خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آَيَاتِي فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ (37) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (38) لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لَا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلَا عَنْ ظُهُورِهِمْ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (39) بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (40) وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (41) قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ (42) أَمْ لَهُمْ آَلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنَا لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَلَا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ (43)}
قوله عزّ وجلّ: {وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد} يعني الدوام والبقاء في الدنيا {أفإن مت فهم الخالدون} نزلت هذه الآية حين قالوا نتربص بمحمد ريب المنون نشمت بموته، فنفى الله الشماتة عنه بهذا والمعنى أن الله تعالى قضى أن لا يخلد في الدنيا بشراً لا أنت ولاهم فإن مت أنت أفيبقى هؤلاء وفي معناه قول القائل:
فقل للشامتين بنا أفيقوا ** سيلقى الشامتون كما لقينا

{كل نفس ذائقة الموت} هذا العموم مخصوص بقوله تعالى: {تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك} فإن الله تعالى حي لا يموت ولا يجوز عليه الموت. والذوق هاهنا عبارة عن مقدمات الموت وآلامه العظيمة قبل حلوله {ونبلوكم} أي نختبركم {بالشر والخير} أي بالشدة والرخاء والصحة والسقم والغنى والفقر، وقيل مما تحبون وما تكرهون {فتنة} أي ابتلاء لننظر كيف شكركم فيما تحبون وصبركم فيما تكرهون {وإلينا ترجعون} أي للحساب والجزاء. قوله عز وجل: {وإذا رآك الذين كفروا إن} أي ما {يتخذونك إلا هزواً} أي سخرياً قيل نزلت في أبي جهل مر به النبي صلى الله عليه وسلم فضحك وقال هذا نبي بني عبد مناف {أهذا الذي يذكر آلهتكم} أي يقول بعضهم لبعض أهذا الذي يعيب ألهتكم والذكر يطلب على المدح والذم مع القرينة {وهم بذكر الرحمن هم كافرون} وذلك أنهم كانوا يقولون لا نعرف الرحمن إلا رحمن اليمامة وهو مسيلمة الكذاب قوله تعالى: {خلق الإنسان من عجل} قيل معناه أن بنيته وخلقته من العجلة وعليها طبع، وقيل لما دخل الروح في رأس آدم وعينيه نظر إلى ثمار الجنة فلما دخل في جوفه اشتهى الطعام فوثب قبل أن تبلغ الروح إلى رجليه عجلاً إلى ثمار الجنة، فوقع فقيل خلق الإنسان من عجل وأورث بنيه العجلة وقيل معناه خلق الإنسان من تعجيل في خلق الله إياه، لأن خلقه كان بعد كل شيء في آخر النهار يوم الجمعة، فأسرع في خلقه قبل مغيب الشمس فلما أحيا الروح رأسه قال يا رب استعجل بخلقي قبل غروب الشمس، وقيل خلق بسرعة وتعجيل على غير قياس خلق بنيه لأنهم خلقوا من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة أطواراً أطواراً طوراً بعد طور وقيل خلق الإنسان من عجل أي من طين قال الشاعر:
والنخل ينبت بين الماء والعجل

أي بين الماء والطين. وقيل أراد بالإنسان النوع الإنساني يدل عليه قوله: {سأريكم آياتي فلا تستعجلون} وذلك أن المشركين كانوا يستعجلون العذاب، وقيل نزلت في النظر بن الحرث، ومعنى سأريكم آياتي أي مواعيدي فلا تطلبوا العذاب قبل وقته فأراهم يوم بدر، وقيل كانوا يستعجلون القيامة فلذلك قال تعالى: {ويقولون} يعني المشركين {متى هذا الوعد إن كنتم صادقين} وهذا هو الاستعجال المذموم المذكور على سبيل الاستهزاء فبين تعالى أنهم إنما يقولون ذلك لجهلهم وغفلتهم، بين ما لهؤلاء المستهزئين فقال تعالى: {لو يعلم الذين كفروا حين لا يكفون} يعني لا يدفعون {عن وجوههم النار ولا عن ظهورهم} قيل السياط {ولا هم ينصرون} أي لا يمنعون من العذاب والمعنى لو علموا لما أقاموا على كفرهم ولما استعجلوا بالعذاب ولما قالوا متى هذا الوعد إن كنتم صادقين {بل تأتيهم} يعني الساعة {بغتة} أي فجأة {فتبهتهم} أي تحيرهم {فلا يستطيعون ردها} اي صرفها ودفعها عنهم {ولا هم ينظرون} أي لا يمهلون للتوبة والمعذرة {وقد استهزئ برسل من قبلك} أي يا محمد كما استهزأ بك قومك {فحاق} أي نزل وأحاط {بالذين سخروا منهم ما كانوا به يستهزئون} أي عقوبة استهزائهم وفيه تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم أي فكذلك يحيق بهؤلاء وبال استهزائهم.
قوله تعالى: {قل من يكلؤكم} أي يحفظكم {بالليل} إذ نمتم {والنهار} إذا انصرفتم في معايشكم {من الرحمن} قال ابن عباس معناه من يمنعكم من عذاب الرحمن {بل هم عن ذكر ربهم} أي عن القرآن ومواعظه {معرضون} أي لا يتأملون في شيء منها {أم لهم آلهة تمنعهم من دوننا} معناه ألهم آلهة من دوننا تمنعهم ثم وصف آلهتهم بالضعف فقال {لا يستطيعون نصر أنفسهم} أي لايقدرون على نصر أنفسهم فكيف ينصرون من عبد هم {ولا هم منا يصبحون} قال ابن عباس يمنعون وقيل يجارون وقيل ينصرون وقيل معناه لا يصبحون من الله بخير.

.تفسير الآيات (44- 57):

{بَلْ مَتَّعْنَا هَؤُلَاءِ وَآَبَاءَهُمْ حَتَّى طَالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ أَفَلَا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ (44) قُلْ إِنَّمَا أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ وَلَا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاءَ إِذَا مَا يُنْذَرُونَ (45) وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذَابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (46) وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ (47) وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْرًا لِلْمُتَّقِينَ (48) الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ (49) وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (50) وَلَقَدْ آَتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ (51) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ (52) قَالُوا وَجَدْنَا آَبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ (53) قَالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآَبَاؤُكُمْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (54) قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ (55) قَالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (56) وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ (57)}
{بل متعنا هؤلاء} يعني الكفار {وآباءهم} أي في الدنيا بأن أنعمنا عليهم وأمهلناهم {حتى طال عليهم العمر} أي امتد بهم الزمان فاغتروا {أفلا يرون} يعني هؤلاء المشركين {أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها} يعني ننقص من أطراف المشركين، ونزيد من أطراف المؤمنين يريد بذلك ظهور النبي صلى الله عليه وسلم وفتحه ديار الشرك أرضاً فأرضاً وقرية فقرية، والمعنى أفلا يرى هؤلاء المشركون بالله المستعجلون بالعذاب آثار قدرتنا في إتيان الأرض من جوانبها بأخذ الواحد، بعد الواحد وفتح البلاد والقرى مما حول مكة وإدخالها في ملك محمد صلى الله عليه وسلم، وموت رؤوس المشركين المتنعمين بالدنيا. أما كان لهم عبرة في ذلك فيؤمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم ويعلموا أنهم لا يقدرون على الامتناع منا ومن إرادتنا فيهم ثم قال {أفهم الغالبون} استفهام بمعنى التقريع معناه بل نحن الغالبون وهم المغلوبون {قل} يا محمد {إنما أنذركم بالوحي} أي أخوفكم بالقرآن {ولا يسمع الصم الدعاء إذا ما ينذرون} أي يخوفون {ولئن مستهم} أي أصابتهم {نفحة من عذب ربك} قال ابن عباس طرف وقيل شيء قليل {ليقولن يا ويلنا إن كنا ظالمين} دعوا على أنفسهم بالويل بعد ما أقروا على أنفسهم بالظلم والشرك. وقوله عز وجل: {ونضع الموازين القسط} أي ذوات العدل ومعنى وصفها بذلك لأن الميزان قد يكون مسقيماً وقد يكون بخلافه فبين أن تلك الموازين تجري على حد العدل ومعنى وضعها إحضارها {ليوم القيامة} أي لأهل يوم القيامة قيل المراد بالميزان العدل والقسط بينهم في الأعمال، فمن أحاطت حسناته بسيئاته فاز ونجا وبالعكس ذل وخسر، والصحيح الذي عليه أئمة السلف أن الله سبحانه وتعالى يضع الموازين الحقيقية ويزن بها أعمال العباد، وقال الحسن هو ميزان له كفتان ولسان وأكثر الأقوال أنه ميزان واحد وإنما جمع لاعتبار عدد الأعمال الموزونة به. وروي أن داود عليه الصلاة والسلام سأل ربه عزّ وجلّ أن يريه الميزان فأراه كل كفته ما بين المشرق والمغرب فلما رآه غشي عليه، ثم فاق فقال إلهي من الذي يقدر أن يملأ كفته حسنات؟ قال يا داود إني إذا رضيت عن عبد ي ملأتها بتمرة. فعلى هذا ففي كيفية وزن الأعمال مع أنها أعراض طريقان: أحدهما: أن توضع صحائف الأعمال فتوضع صحائف الحسنات في كفة، وصحائف السيئات في كفة. والثاني: أن يجعل في كفة الحسنات جواهر بيض مشرقة، وفي كفة السيئات جواهر سود مظلمة. فإن قلت كيف تصنع بقوله ونضع الموازني القسط مع قوله فلا نقيم لهم يوم القيامة وزناً.
قلت هذه في حق الكفار لأنهم ليس لهم أعمال توزن مع الكفر. وقوله تعالى: {فلا تظلم نفس شيئاً} يعني لا تبخس مما لها وما عليها من خير وشر شيئاً {وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها} معناه أنه لا ينقص من إحسان محسن، ولا يزاد في إساءة مسيء، وأراد بالحبة الجزء اليسير من الخردل، ومعنى أتينا بها يعني أحضرناها لنجازي بها.
وعن عبد الله بن عمرو ابن العاص أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله سيخلص رجلاً من أمتي على رؤوس الخلائق يوم القيامة فينشر له تسعة وتسعين سجلاً، كل سجل مد البصر، ثم يقول أتنكر من هذا شيئاً، أظلمك كتبتي الحافظون، فيقول لا يارب، فيقول أفلك عذر، فيقول لا يا رب. فيقول الله تعلى بلى إن لك عندنا حسنة فإنه لا ظلم عليك اليوم، فيخرج له بطاقة فيها أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبد ه ورسوله، فيقول أحضر وزنك فيقول يا رب ما هذه البطاقة مع هذه السجلات فيقال إنك لا تظلم فتوضع السجلات في كفة والبطاقة في كفة، فطاشت السجلات وثقلت البطاقة ولا يثقل مع اسم الله شيء» أخرجه الترمذي. السجل الكتاب الكبير، وأصله من التسجيل لأنه يجمع أحكاماً والبطاقة ورقة صغيرة تجعل في طي الثوب يكتب فيها ثمنه، والطيش الخفة، قلت في الحديث دليل على أن صحائف الأعمال هي التي توزن لا أن الأعمال تتجسد جواهر فتوزن والله أعلم. قوله تعالى: {وكفى بنا حاسبين} قال ابن عباس معناه كفى بنا عالمين حافظين لأن من حسب شيئاً فقد علمه وحفظه، والغرض منه التحذير فإن المحاسب إذا كان في العلم بحيث لا يمكن أن يشبته عليه شيء وفي القدرة بحيث لا يعجز عن شيء فحقيق بالعاقل أن يكون بأشد ا لخوف منه ويروى عن الشبلي أنه رؤي في المنام فقيل لهم ما فعل الله بك فقال:
حاسبونا فدققوا ** ثم منوا فأعتقوا

هكذا سيمة الملو ** ك بالمماليك يرفقوا

قوله عز وجل: {ولقد آتينا موسى وهارون الفرقان} يعني الكتاب المفرق بين الحق والباطل وهو التوراة، وقيل الفرقان النصر على الأعداء فعلى هذا يكون {وضياء} يعني التوراة ومن قال الفرقان هو التوراة جعل الواو زائدة في وضياء والمعنى آتينا موسى التوراة ضياء {وذكراً للمتقين} يعني يتذكرون بمواعظها ويعملون بما فيها {الذين يخشون ربهم بالغيب} أي يخافونه ولم يروه، وقيل يخافونه في الخلوات إذا غابوا عن أعين الناس {وهم من الساعة مشفقون} أي خائفون {وهذا ذكر مبارك أنزلناه} أي كما آتينا موسى التوراة، فكذلك أنزلنا القرآن ذكراً مباركاً، أي هو ذكر لمن آمن به مبارك يتبرك به ويطلب منه الخير {أفأنتم} يا أهل مكة {له منكرون} أي جاحدون. قوله تعالى: {ولقد آتينا إبراهيم رشده} أي صلاحه وهداه {من قبل} أي من قبل موسى وهرون، وقيل من قبل البلوغ وهو حين خرج من السرب وهو صغير {وكنا به عالمين} أي إنه من أهل الهداية والنبوة {إذ قال لأبيه وقومه ما هذه التماثيل} يعني الصور والأصنام {التي أنتم له عاكفون} أي مقيمون على عبادتها {قالوا وجدنا آباءنا لها عابدين} أي فاقتدينا بهم {قال} يعني إبراهيم {لقد كنتم أنتم وآباءكم في ضلال مبين} أي في خطأ بين بعبادتكم إياها {قالوا أجئتنا بالحق} أي بالصدق {أم أنت من اللاعبين} يعنون أجاد أنت فيما تقول أم أنت لاعب {قال بل ربكم رب السموات والأرض الذي فطرهن} أي خلقهن {وأنا على ذلكم من الشاهدين} أي على أنه الإله الذي يستحق العبادة، وقيل شاهد على أنه خالق السموات والأرض {وتالله لأكيدن أصنامكم} أي لأمكرن بها {بعد أن تولوا مدبرين} أي منطلقين إلى عيدكم، قيل إنما قال إبراهيم هذا القول سراً في نفسه، ولم يسمع ذلك إلا رجل واحد من قومه فأفشاه عليه، وهو القائل إنا سمعنا فتى يذكرهم، وقيل كان لهم في كل سنة مجمع وعيد فكانوا إذا رجعوا من عيدهم دخلوا على الأصنام فسجدوا لها ثم رجعوا إلى منازلهم فلما كان ذلك العيد قال أبو إبراهيم يا إبراهيم لو خرجت معنا إلى عيدنا أعجبك ديننا فخرج معه إبراهيم، فلما كان ببعض الطريق ألقى نفسه إلى الأرض وقال إني سقيم أشتكي رجلي فتركوه ومضوا، فنادى في آخرهم وقد بقي ضعفاء الناس تالله لأكيدن أصنامكم فسمعوها منه، ثم رجع إبراهيم إلى بيت الآلهة وهن في بهو عظيم، ومستقبل باب البهو صنم عظيم إلى جنبه صنم أصغر منه والأصنام جنبها إلى جنب بعض كل صنم الذي يليه أصغر منه وهكذا إلى باب البهو، وإذا هم قد جعلوا طعاماً بين يدي الآلهة وقالوا إذا رجعنا وقد بركت الآلهة عليه أكلنا منه، فلما نظر إبراهيم إليهم وإلى ما بين أيديهم من الطعام قال لهم على طريق الاستهزاء {ألا تأكلون} فلما لم يجيبوه {ما لكم لا تنطقون فراغ عليهم ضرباً باليمين} وجعل يكسرهن بفأس في يده حتى إذا لم يبق إلا الصنم العظيم، علق الفأس في عنقه، وقيل في يده ثم خرج.

.تفسير الآيات (58- 68):

{فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلَّا كَبِيرًا لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ (58) قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآَلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ (59) قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ (60) قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ (61) قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآَلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ (62) قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ (63) فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ (64) ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ (65) قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ (66) أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (67) قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آَلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (68)}
قوله تعالى: {فجعلهم جذاذاً} أي كسراً وقطعاً {إلا كبيراً لهم} أي تركه ولم يسكره ووضع الفأس في عنقه، ثم خرج وقيل ربطه على يده وكانت اثنين وسبعين صناماً بعضها من ذهب وبعضها من فضة وبعضها من حديد وبعضها من نحاس ورصاص وحجر وخشب وكان الصنم الكبير من الذهب مكللاً بالجواهر في عينيه ياقوتتان تتقدان وقوله: {لعلهم إليه يرجعون} قيل معناه يرجعون إلى إبراهيم وإلى دينه وما يدعوهم إليه إذا علموا ضعف الآلهة وعجزها وقيل معناه لعلهم يرجعون إلى الصنم فيسألونه ما لهؤلاء تكسروا وأنت صحيح والفأس في عنقك، فلما رجع القوم من عيدهم إلى بيت آلهتهم ورأوا أصنام مكسرة {قالوا من فعل هذا بآلهتنا إنه لمن الظالمين} أي في تكسيرها واجترائه عليها {قالوا سمعنا فتى يذكرهم} أي يسبهم ويعيبهم {يقال له إبراهيم} أي هو الذي نظن أنه صنع هذا فبلغ ذلك نمرود الجبار وأشراف قومه {قالوا فأتوا به على أعين الناس} أي جيئوا به ظاهراً بمرأى الناس وإنما قاله نمرود {لعلهم يشهدون} أي عليه بأنه الذي فعل ذلك كرهوا أن يأخذوه بغير بنية وقيل معناه لعلهم يحضرون عذابه وما يصنع به فلما أتوا به {قالوا} له {أأنت فعلت هذا بآلهتنا يا إبراهيم قال} يعني إبراهيم {بل فعله كبيرهم هذا} غضب أن تعبد ون معه هذه الصغار وهو أكبر منها فكسرهن وأراد إبراهيم بذلك إقامة الحجة عليهم فذلك قوله: {فاسألوهم إن كانوا ينطقون} أي حتى يخبروا بمن فعل ذلك بهم، وقيل: معناه إن قدروا على النطق قدروا على الفعل فأراهم عجزهم عن النطق وفي ضمنه أنا فعلت ذلك.
(ق) عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لم يكذب إبراهيم إلا ثلاث كذبات ثنتين منهن في ذات الله قوله إني سقيم وقوله: {فعله كبيرهم هذا} وقوله لسارة: هذه أختي» لفظ الترميذي قيل في قوله إني سقيم أي: سأسقم وقيل: سقيم القلب مغتم بضلالتكم.
وأما قوله بل فعله كبيرهم هذا فإنه علق خبره بشرط نطقه كأنه قال: إن كان ينطق فهو على طريق التبكيت لقومه وقوله لسارة: هذه أختي، أي في الدين والإيمان قال الله تعالى: {إنما المؤمنون إخوة} فكل هذه الألفاظ صدق في نفسها ليس فيها كذب. فإن قلت: قد سماها النبي صلى الله عليه وسلم كذبات بقوله: لم يكذب إبراهيم إلا ثلاث كذبات وقال في حديث الشفاعة ويذكر كذباته. قلت: معناه أنه لم يتكلم بكلام صورته صورة الكذب، وإن كان حقاً في الباطن إلا هذه الكلمات ولما كان مفهوم ظاهرها خلاف باطنها أشفق إبراهيم عليه الصلاة والسلام منها بمؤاخذته بها قال البغوي: وهذه التأويلات لنفي الكذب عن إبراهيم والأولى هو الأول للحديث، ويجوز أن يكون الله أذن له في ذلك لقصد الصلاح وتوبيخهم والاحتجاج عليهم، كما أذن ليوسف حين أمر مناديه فقال: أيتها العير إنكم لسارقون ولم يكونوا سرقوا قال الإمام فخر الدين الرازي: وهذا القول مرغوب عنه، والدليل القاطع عليه أنه لو جاز أن يكذب لمصلحة ويأذن الله فيه فلنجوز هذا الاحتمال في كل ما أخبر الأنبياء عنه، وذلك يبطل الوثوق بالشرائع ويطرق التهمة إلى كلها، الحديث محمول على المعاريض، فإنه فيها مندوحة عن الكذب.
وقوله: {فرجعوا إلى أنفسهم} يعني تفكروا بقلوبهم ورجعوا إلى عقولهم {فقالوا} ما نراه إلا كما قال {إنكم أنتم الظالمون} يعني بعبادتكم ما لا يتكلم وقيل معناه أنتم الظالمون لهذا الرجل في سؤالكم إياه، وهذه آلهتكم حاضرة فاسألوها {ثم نكسوا على رؤوسهم} قال أهل التفسير أجرى الله الحق على ألسنتهم في القول الأول وهو إقرارهم على أنفسهم بالظلم ثم أدركتهم الشقاوة فرجعوا إلى حالهم الأولى وهو قوله: {ثم نكسوا على رؤوسهم} أي ردوا إلى الكفر وقالوا {لقد علمت ما هؤلاء ينطقون} يعني فكيف نسألهم، فلما اتجهت الحجة لإبراهيم عليهم {قال} لهم {أفتعبد ون من دون الله ما لا ينفعكم شيئاً} يعني إن عبد تموه {ولا يضركم} يعني إن تركتم عبادته {أف لكم} يعني تباً لكم {ولما تعبد ون من دون الله} والمعنى أنه حقرهم وحقر معبودهم {أفلا تعقلون} يعني أليس لكم عقل تعقلون به أن هذه الأصنام لا تستحق العبادة؟ فلما لزمتهم الحجة وعجزوا عن الجواب {قالوا حرقوه وانصروا آلهتكم} يعني أنكم لا تنصرونها إلا بتحريق إبراهيم لأنه يعيبها ويطعن فيها {إن كنتم فاعلين} يعني ناصرين آلهتكم. قال ابن عمر: الذي قال هذا رجل من الأكراد قيل اسمه هيزن فخسف الله به الأرض فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة. وقيل: قاله نمرود بن كنعان بن سنحاريب بن نمرود بن كوش بن حام بن نوح.
ذكر القصة في ذلك:
فلما اجتمع نمرود وقومه لإحراق إبراهيم حبسوه في بيت وبنوا بنياناً كالحظيرة بقرية يقال لها كوثى ثم جمعوا له صلاب الحطب وأصناف الخشب مدة شهر حتى كان الرجل يمرض فيقول: لئن عوفيت لأجمعن حطباً لإبراهيم وكانت المرأة تنذر في بعض ما تطلب لئن أصابته لتحتطبن في نار إبراهيم، وكانت المرأة تغزل وتشتري الحطب بغزلها احتساباً في دينها، وكان الرجل يوصي بشراء الحطب من ماله لإبراهيم، فلما جمعوا ما أرادوا أشعلوا في كل ناحية من الحطب ناراً فاشتعلت النار واشتدت حتى إن الطير ليمر بها فتحرق من شدة وهجها وحرها، فأوقدوا عليها سبعة أيام، فلما أرادوا أن يلقوا إبراهيم لم يعلموا كيف يلقونه، فقيل إن إبليس جاء وعلمهم عمل المنجنيق فعملوه ثم عمدوا إلى إبراهيم فقيدوه ورفعوه على رأس البنيان ووضعوه في المنجنيق مقيداً مغلولاً، فصاحت السماء والأرض ومن فيها من الملائكة وجميع الخلق إلا الثقلين صيحة واحدة: أي ربنا إبراهيم خليلك يلقى في النار وليس في أرضك أحد يعبد ك غيره، فأذن لنا في نصرته فقال الله تعالى إنه خليلي ليس لي خليل غيره وأنا إلهه ليس له إله غيري فإن استغاث بأحد منكم أو دعاه فلينصره فقد أذنت له في ذلك، وإن لم يدع غيري، فأنا أعلم به وأنا وليه فخلوا بيني وبينه، فلما أرادوا إلقاءه في النار أتاه خازن المياه وقال: إن أردت أخمدت النار، وأتاه خازن الهواء وقال: إن شئت طيرت النار في الهواء فقال إبراهيم: لا حاجة لي إليكم حسبي الله ونعم الوكيل.
وروي عن أبي بن كعب أن إبراهيم قال حين أوثقوه في النار: لا إله إلا أنت سبحانك لك الحمد ولك الملك لا شريك لك، ثم رموا به في المنجنيق إلى النار، فاستقبله جبريل فقال: يا إبراهيم ألك حاجة قال: أما إليك فلا قال جبريل فسأل ربك فقال إبراهيم: حسبي من سؤالي علمه بحالي.
(خ) عن أبن عباس في قوله تعالى: {وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل} قال: قالها إبراهيم عليه الصلاة والسلام حين ألقي في النار وقالها محمد صلى الله عليه وسلم حين {قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم} قال كعب الأحبار: جعل كل شيء يطفئ عنه النار إلا الوزغ فإنه كان ينفخ في النار.
(ق) عن أم شريك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم «أمر بقتل الأوزاغ زاد البخاري وقال كان ينفخ على إبراهيم».