فصل: سورة المؤمنون:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: لباب التأويل في معاني التنزيل المشهور بـ «تفسير الخازن» (نسخة منقحة).



.سورة المؤمنون:

.تفسير الآيات (1- 2):

{قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ (2)}
عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم إذا نزل عليه الوحي يسمع عند وجهه دوي كدوي النحل فأنزل الله عليه يوماً فمكث ساعة ثم سري عنه فقرأ قد أفلح المؤمنون إلى عشر آيات من أولها. وقال: من أقام هذه العشر آيات دخل الجنة ثم استقبل القبلة ورفع يديه وقال اللهم زدنا ولا تنقصنا وأكرمنا ولا تهنا وأعطنا ولا تحرمنا وآثرنا ولا تؤثر علينا اللهم أرضنا وأرض عنا» أخرجه الترمذي. قوله عز وجل: {قد أفلح المؤمنون} قال ابن عباس قد سعد المصدقون بالتوحيد وبقوا في الجنة وقيل الفلاح البقاء والنجاة {الذين هم في صلاتهم خاشعون} قال ابن عباس: مخبتون أذلاّء خاضعون. وقيل خائفون وقيل: متواضعون وقيل الخشوع من أفعال القلب كالخوف والرهبة وقيل هو من أفعال الجوارح كالسكون وترك الالتفات وغض البصر. وقيل لابد من الجمع بين أفعال القلب والجوارح وهو الأولى فالخاشع في صلاته لابد وأن يحصل له الخشوع في جميع الجوارح، فأما ما يتعلق بالقلب من الأفعال فنهاية الخضوع والتذلل للمعبود ولا يلتفت الخاطر إلى شيء سوى ذلك التعظيم. وأما ما يتعلق بالجوارح فهو أن يكون ساكناً مطرقاً ناظراً إلى موضع سجوده. وقيل الخشوع هو أن لا يعرف من على يمينه ولا من على شماله.
(ق) عن عائشة قالت: «سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الالتفات في الصلاة فقال هو اختلاس يختلسه الشيطان من صلاة العبد» الاختلاس هو الاختطاف عن أبي ذر عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «لا يزال الله مقبلاً على العبد وهو في صلاته ما لم يلتفت فإذا التفت انصرف عنه» وفي رواية «أعرض عنه» أخرجه أبو داود والنسائي. وقيل الخشوع هو أن لايرفع بصره إلى السماء.
(خ) عن أنس بن مالك قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «ما بال أقوام يرفعون أبصارهم إلى السماء في صلاتهم فاشتد قوله في ذلك حتى قال: لينتهن عن ذلك أو لتخطفن أبصارهم» وقال أبو هريرة كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يرفعون أبصارهم إلى السماء في الصلاة فلما نزل {الذين هم في صلاتهم خاشعون} رمقوا بأبصارهم إلى موضع السجود. وقيل الخشوع هو أن لا يعبث بشيء من جسده في الصلاة لما روي «أن النبيّ صلى الله عليه وسلم أبصر رجلاً يعبث بلحيته في الصلاة فقال: لو خشع قلب هذا خشعت جوارحه» ذكره البغوي بغير سند. عن أبي ذر عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «إذا قام أحدكم إلى الصلاة فلا يمسح الحصى فإن الرحمة تواجهه» أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي. وقيل الخشوع في الصلاة هو جمع الهمة والإعراض عمّا سوى الله والتدبر فيما يجري على لسانه من القراءة والذكر.

.تفسير الآيات (3- 10):

{وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (3) وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ (4) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (5) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (6) فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (7) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (8) وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (9) أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ (10)}
{والذين هم عن اللغو معرضون} قال ابن عباس عن الشرك وقيل عن المعاصي وقيل هو كل باطل ولهو ما لا يجمل من القول والفعل وقيل هو معارضة الكفار الشتم والسب {والذين هم للزكاة فاعلون} أي الزكاة الواجبة مؤدّون فعبر عن التأدية بالفعل لأنها فعل وقيل الزكاة ها هنا العمل الصالح والأول أولى {والذين هم لفروجهم حافظون} الفرج اسم لسوأة الرجل والمرأة وحفظه التعفف عن الحرام {إلاّ على أزواجهم} على بمعنى من {أو ما ملكت أيمانهم} يعني الإماء والجواري والآية في الرجال خاصة لأن المرأة لا يجوز لها أن تستمتع بفرج مملوكها {فإنهم غير ملومين} يعني بعدم حفظ فرجه من امرأته وأمته فإنه لا يلام على ذلك وإنما لا يلام فيما إذا كان على وجه أذن فيه الشرع دون الإتيان في غير المأتي وفي حال الحيض والنفاس فإنه محظور فلا يجوز ومن فعله فإنه ملوم {فمن ابتغى وراء ذلك} أي التمس وطلب سوى الأزواج والولائد وهن الجواري المملوكة {فأولئك هم العادون} أي الظالمون المجاوزون الحد من الحلال إلى الحرام. وفيه دليل على أن الاستمناء باليد حرام وهو قول أكثر العلماء. سئل عطاء عنه فقال: مكروه سمعت أن قوماً يحشرون وأيديهم حبالى فأظن أنهم هؤلاء وقال سعيد بن جبير عذب الله أمة كانوا يعبثون بمذاكيرهم. قوله عز وجل: {والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون} أي حافظون يحفظون ما ائتمنوا عليه والعقود التي عاقدوا الناس عليها يقومون بالوفاء بها. والأمانات تختلف فمنها ما يكون بين العبد وبين الله تعالى كالصلاة والصوم وغسل الجنابة وسائر العبادات التي أوجبها الله تعالى على العباد فيجب الوفاء بجميعها. ومنها ما يكون بين العباد كالودائع والصنائع والأسرار وغير ذلك فيجب الوفاء به أيضاً {والذين هم على صلواتهم يحافظون} أي يداومون ويراعون أوقاتها وإتمام أركانها وركوعها وسجودها وسائر شروطها. فإن قلت كيف كرر ذكر الصلاة أولاً وآخراً. قلت هما ذكران مختلفان فليس تكراراً وصفهم أولاً بالخشوع في الصلاة وآخراً بالمحافظة عليها. قوله عز وجل: {أولئك} يعني أهل هذه الصفة {هم الوارثون} يعني يرثون منازل أهل النار من الجنة. عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «ما منكم من أحد إلا وله منزلان منزل في الجنة ومنزل في النار فمن مات ودخل النار ورث أهل الجنة منزله» وذلك قوله تعالى: {أولئك هم الوارثون} ذكره البغوي بغير سند وقيل معنى الوراثة هو أن يؤول أمرهم إلى الجنة وينالوها كما يئول أمر الميراث إلى الوارث.

.تفسير الآيات (11- 18):

{الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (11) وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ (12) ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (13) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آَخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ (14) ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ (15) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ (16) وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ (17) وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ (18)}
{الذين يرثرون الفردوس} هو أعلى الجنة. عن عبادة بن الصامت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إنّ في الجنة مائة درجة ما بين كل درجة ودرجة كما بين السماء والأرض والفردوس أعلاها درجة ومنها تفجر أنهار الجنة الأربعة ومن فوقها يكون العرش فإذا سألتم الله فسألوه الفردوس» أخرجه الترمذي {هم فيها خالدون} أي لا يخرجون منها ولايموتون. قوله عز وجل: {ولقد خلقنا الإنسان} يعني ولد آدم الإنسان اسم جنس {من سلالة من طين} قال ابن عباس السلالة صفوة الماء وقيل هي المني لأن النطفة تسل من الظهر من طين يعني طين آدم لأن السلالة تولدت من طين خلق منه آدم وقيل: المراد من الإنسان هو آدم، وقوله من سلالة أي سل من كل تربة {ثم جعلناه نطفة} يعني الذي هو الإنسان جعلناه نطفة {في قرار مكين} أي حريز وهو الرحم وسمي مكيناً لاستقرار النطفة فيه إلى وقت الولادة {ثم خلقنا النطفة علقة} أي صيرنا النطفة قطعة دم جامد {فخلقنا العلقة مضغة} أي جعلنا الدم الجامد قطعة لحم صغيرة {فخلقنا المضغة عظاماً فسكونا العظام لحماً} وذلك لأن اللحم يستر العظم فجعله كالسكوة له. قيل إن بين كل خلق وخلق أربعين يوماً {ثم أنشأناه خلقاً آخر} أي مبايناً للخلق الأول قال ابن عباس: هو نفخ الروح فيه وقيل جعله حيواناً بعد ما كان جماداً وناطقاً بعدما كان أبكم وسميعاً وكان أصم وبصيراً وكان أكمه وأودع باطنه وظاهره عجائب صنعه وغرائب فطره وعن ابن عباس قال: إن ذلك تصريف أحواله بعد الولادة من الاستهلال إلى الرضاع إلى القعود والقيام إلى المشي إلى الفطام إلى أن يأكل ويشرب إلى أن يبلغ الحلم ويتقلب في البلاد إلى ما بعدها {فتبارك الله} أي استحق التعظيم والثناء بأنه لم يزل ولا يزال {أحسن الخالقين} أي المصورين والمقدرين. فإن قلت كيف الجمع بين هذه الآية وبين قوله تعالى: {الله خالق كل شيء} وقوله: {هل من خالق غير الله} قلت الخلق له معان: منها الإيجاد والإبداع ولا موجد ولا مبدع إلاّ الله تعالى. ومنها التقدير كما قال الشاعر:
ولأنت تفري ماخلقت وبع ** ض القوم يخلق ثم لا يفري

معناه أنت تقدّر الأمور وتقطعها وغيرك لا يفعل ذلك فعلى هذا يكون معنى الآية الله أحسن المقدرين. وجواب آخر وهو أنّ عيسى عليه الصلاة والسلام خلق طيراً وسمّى نفسه خالقاً بقوله: {إني أخلق لكم من الطين كهيئة الطير} فقال {تبارك الله أحسن الخالقين} {ثم إنكم بعد ذلك} أي بعد ما ذكر من تمام الخلق {لميتون} أي عند انقضاء آجالكم {ثم إنكم يوم القيامة تبعثون} أي للحساب والجزاء.
قوله عز وجل: {ولقد خلقنا فوقكم سبع طرائق} يعني سبع سموات طرائق لأن بعضها فوق بعض وقيل لأنها طرائق الملائكة في الصعود والهبوط {وما كنا عن الخلق غافلين} يعني بل كنا لهم حافظين من أن تسقط السماء عليهم فتهلكهم. وقيل معناه بنينا فوقهم سماء أطلعنا فيها الشمس والقمر والكواكب. وقيل ما تركناهم سدى بغير أمر ونهي وقيل معناه إنما خلقنا السماء فوقهم لتنزل عليهم الأرزاق والبركات منها. وقيل معناه وما كنا عن الخلق غافلين أي عن أعمالهم وأقوالهم وضمائرهم لا تخفى علينا خافية {وأنزلنا من السماء ماء بقدر} أي يعلمه الله من حاجتهم إليه وقيل بقدر ما يكفيهم لمعايشهم في الزرع والغرس والشرب وأنواع المنفعة {فأسكناه في الأرض} يعني ما يبقى في الغدران والمستنقعات مما ينتفع به الناس في الصيف عند انقطاع المطر. وقيل أسكناه في الأرض ثم أخرجناه منها ينابيع كالعيون والآبار فكل ماء في الأرض من السماء {وإنّا على ذهاب به لقادرون} وصح من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «سيحان وجيحان والفرات والنيل كل من أنهار الجنة» أخرجه مسلم. وعن ابن عباس عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «إنّ الله عزّ وجلّ أنزل من الجنة خمسة أنهار سيحون وجيحون ودجلة والفرات والنيل، أنزلها الله عزّ وجلّ من عين واحدة من عيون الجنة من أسفل درجة من درجاتها على جناحي جبريل استودعها الجبال وأجراها في الأرض وجعل فيها منافع للناس فذلك قوله: {وأنزلنا من السماء ماء بدر فأسكناه في الأرض} فإذا كان عند خروج يأجوج ومأجوج أرسل الله عزّ وجلّ جبريل فرفع من الأرض القرآن والعلم كله والحجر الأسود من ركن البيت ومقام إبراهيم وتابوت موسى بما فيه وهذه الأنهار الخمسة فيرفع كل ذلك إلى السماء فذلك قوله تعالى: {وإنا على ذهاب به لقادرون} فإذا رفعت هذه الأشياء كلها من الأرض فقد أهلها خير الدين والدنيا» وروى هذا الحديث البغوي في تفسيره. وقال روى هذا الحديث الإمام الحسن بن سفيان بن عثمان بن سعيد بالإجازة عن سعيد بن سابق الإسكندارني عن مسلمة بن علي عن مقاتل بن حيّان عن عكرمة عن ابن عباس. ثم ذكر ما أنبت بالماء.

.تفسير الآيات (19- 29):

{فَأَنْشَأْنَا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ لَكُمْ فِيهَا فَوَاكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (19) وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآَكِلِينَ (20) وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهَا وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (21) وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (22) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ (23) فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آَبَائِنَا الْأَوَّلِينَ (24) إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ (25) قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ (26) فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا فَإِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (27) فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانَا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (28) وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلًا مُبَارَكًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (29)}
فقال تعالى: {فأنشأنا لكم به} أي بالماء {جنات} أي بساتين {من نخيل وأعناب} إنما أفردهما بالذكر لكثرة منافعهما فإنهما يقومان مقام الطعام والإدام والفواكة رطباً ويابساً {لكم فيها} أي في الجنات {فواكة كثيرة ومنها تأكلون} أي شتاءً وصيفاً {وشجرة} أي وأنشأنا لكم شجرة وهي الزيتون {تخرج من طور سيناء} أي من جبل مبارك وقيل من جبل حسن قيل هو بالنبطية وقيل بالحبشة وقيل السريانية ومعناه الجبل الملتف بالأشجار. وقيل كل جبل فيه أشجار مثمرة يسمى سيناء وسينين وقيل هو من السناء وهو الارتفاع وهو الجبل الذي منه نودي موسى بين مصر وإيلة وقيل هو جبل فلسطين وقيل سيناء اسم حجارة بعينها أضيف الجبل إليها لوجودها عنده. وقيل هو اسم المكان الذي فيه هذا الجبل {تنبت بالدهن} أي تنبت وفيها الدهن وقيل تنبت بثمر الدهن وهو الزيت {وصبغ للآكلين} الصبغ الأدام الذي يكون مع الخبز ويصبغ به جعل الله في هذه الشجرة المباركة أدماً وهو الزيتون ودهناً وهو الزيت وخصّ جبل الطور بالزيتون لأنه منه نشأ وقيل إن أول شجرة نبتت بعد الطوفان الزيتون وقيل إنها تبقى في الأرض نحو ثلاثة آلاف سنة. قوله عز وجل: {وإن لكم في الأنعام لعبرة} أي أية تعتبرون بها {نسقيكم مما في بطونها} أي ألبانها ووجه الاعتبار فيه أن اللبن يخلص إلى الضرع من بين فرث ودم بإذن الله تعالى ليس فيه منهما شيء فيستحيل إلى الطهارة وإلى طعم يوافق الشهوة والطبع ويصير غذاء، وتقدّم بسط الكلام بما فيه كفاية في سورة النحل {ولكم فيها منافع كثيرة ومنها تأكلون} يعني كما تنتفعون بها وهي حية فكذلك تنتفعون بها بعد الذبح للأكل {وعليها} أي وعلى الإبل {وعلى الفلك تحملون} أي على الإبل في البر وعلى السفن في البحر. قوله تعالى: {ولقد أرسلنا نوحاً إلى قومه فقال يا قوم اعبد وا الله ما لكم من إله غيره} أي ما لكم معبوداً سواه {أفلا تتقون} أي أفلا تخافون عاقبة إذا عبد تم غيره {فقال الملأ الذين كفروا من قومه ما هذا إلا بشر مثلكم} أي آدمي مثلكم مشارك لكم في جميع الأمور {يريد أن يتفضل عليكم} أي إنه يحب الشرف والرياسة متبوعاً وأنتم له تبع {ولو شاء الله لأنزل ملائكة} يعني بإبلاغ الوحي {ما سمعنا بهذا} يعني الذي يدعونا إليه نوح {في آياتنا الأولين إن هو إلا رجل به جنة} يعني جنون {فتربصوا به حتى حين} يعني إلى الموت فتستريحوا منه {قال رب انصرني بما كذبون} يعني أعني بإهلاكهم بتكذيبهم إياي {فأوحينا إليه أن اصنع الفلك بأعيننا} يعني بمرأى منا قاله ابن عباس.
وقيل بعلمنا وحفظنا لئلا يتعرض له أحد ولا يفسد عليه عمله {ووحينا} قيل: إن جبريل علمه عمل السفينة ووصف له كيفية اتخاذها {فإذا جاء أمرنا} يعني عذابنا {وفار التنور} قيل هو التنور الذي يخبز فيه وكان من حجارة، وقيل التنور هو وجه الأرض والمعنى أنك إذا رأيت الماء يفور من التنور {فاسلك فيها} يعني فأدخل في السفينة {من كل زوجين اثنين} يعني من كل حيوان ذكر وانثى {وأهلك} يعني وسائر من آمن بك {إلا من سبق عليه القول} يعني وجب عليه العذاب {منهم} يعني الكفار وقيل أراد بأهله أهل بيته خاصة والذي سبق عليه القول منهم هو ابنه كنعان {ولا تخاطبني في الذين ظلموا إنهم مغرقون} قوله عز وجل: {فإذا استويت} يعني اعتدلت {أنت ومن معك على الفلك} يعني في السفينة {فقل الحمد لله الذين نجانا من القوم الظالمين} يعني الكافرين {وقل رب أنزلني منزلاً مباركاً} قيل موضع النزول وهو السفينة عند الركوب. وقيل هو وجه الأرض بعد الخروج من السفينة وأراد بالبركة النجاة من الغرق وكثرة النسل بعد الإنجاء {وأنت خير المنزلين} معناه أنه قد يكون الإنزال من غير الله كما يكون من الله فحسن أن يقول وأنت خير المنزلين لأنه يحفظ من أنزله ويكلؤه في سائر أحواله ويدفع عنه المكره بخلاف منزل الضيف فإنه لا يقدر على ذلك.