فصل: تفسير الآيات (5- 14):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: لباب التأويل في معاني التنزيل المشهور بـ «تفسير الخازن» (نسخة منقحة).



.تفسير الآيات (5- 14):

{فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا (5) إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا (6) وَنَرَاهُ قَرِيبًا (7) يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ (8) وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ (9) وَلَا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا (10) يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ (11) وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ (12) وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ (13) وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنْجِيهِ (14)}
{فاصبر} أي يا محمد على تكذيبهم إياك {صبراً جميلاً} أي لا جزع فيه وهذا قبل أن يؤمر بالقتال ثم نسخ بآية السيف، {إنهم يرونه} أي العذاب {بعيداً} أي غير كائن {ونراه قريباً} أي كائناً لا محالة لأن كل ما هو آت قريب، وقيل الضمير في يرونه بعيداً يعود إلى يوم كان مقداره خمسين ألف سنة والمعنى أنهم يستبعدونه على جهة الانكسار والإحالة ونحن نراه قريباً في قدرتنا غير بعيد علينا فلا يتعذر علينا إمكانه {يوم تكون السماء كالمهل} أي كعكر الزيت وقال الحسن كالفضة المذابة {وتكون الجبال كالعهن} أي الصوف المصبوغ. وإنما شبه الجبال بالمصبوغ من الصوف لأنها ذات ألوان أحمر وأبيض وغرابيب سود ونحو ذلك فإذا بست الجبال وسيرت أشبهت العهن المنفوش إذا طيرته الريح. وقيل العهن الصوف الأحمر وهو أضعف الصوف وأول ما تتغير الجبال تصير رملاً مهيلاً ثم عهناً منفوشاً ثم تصير هباء منثوراً {ولا يسأل حميم حميماً} أي لا يسأل قريب قريبه لشغله بشأن نفسه والمعنى لا يسأل الحميم حميمه كيف حالك ولا يكلمه لهول ذلك اليوم وشدته. وقيل لا يسأله الشفاعة ولا يسأله الإحسان إليه ولا الرفق به كما كان يسأله في الدنيا وذلك لشدة الأمر وهول يوم القيامة {يبصرونهم} أي يرونهم وليس في القيامة مخلوق من جن أو إنس إلا وهو نصف عين صاحبه فيبصر الرجل أباه وأخاه وقرابته فلا يسألهم ويبصر حميمه فلا يكلمه لاشتغاله بنفسه. وقال ابن عباس يتعارفون ساعة من النهار ثم لا يتعارفون بعد ذلك، وقيل يعرف الحميم حميمه ومع ذلك لا يسأله عن حاله لشغله بنفسه. وقيل يبصرونهم أي يعرفونهم أما المؤمن فيعرف ببياض وجهه وأما الكافر فيعرف بسواد وجهه {يود المجرم} أي يتمنى المشرك {لو يفتدي من عذاب يومئذ} أي عذاب يوم القيامة {ببنيه وصاحبته} أي زوجته {وأخيه وفصيلته} أي عشيرته وقيل قبيلته وقيل أقربائه الأقربين {التي تؤويه} أي تضمه ويأوي إليها {ومن في الأرض جميعاً} يعني أنه يتمنى لو ملك هؤلاء وكانوا تحت يده ثم إنه يفتدي بهم جميعاً {ثم ينجيه} أي ذلك الفداء من عذاب الله.

.تفسير الآيات (15- 23):

{كَلَّا إِنَّهَا لَظَى (15) نَزَّاعَةً لِلشَّوَى (16) تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى (17) وَجَمَعَ فَأَوْعَى (18) إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا (19) إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا (20) وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا (21) إِلَّا الْمُصَلِّينَ (22) الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ (23)}
{كلا} أي لا ينجيه من عذاب الله شيء ثم ابتدأ فقال تعالى: {إنها لظى} يعني النار ولظى اسم من أسمائها وقيل: الدركة الثانية من النار سميت لظى لأنها تتلظى أي تلتهب، {نزاعة للشوى} يعني الأطراف كاليدين والرجلين مما ليس بمقتل. والمعنى أن النار تنزع الأطراف فلا تترك عليها لحماً ولا جلداً. وقال ابن عباس: تنزع العصب والعقب وقيل تنزع اللحم دون العظام وقيل تأكل الدماغ كله ثم يعود كما كان ثم تأكله فذلك دأبها. وقيل لمكارم خلقه ومحاسن وجهه وأطرافه، {تدعوا} يعني النار إلى نفسها {من أدبر} أي عن الإيمان {وتولى} أي عن الحق فتقول له إليّ يا مشرك إليّ يا منافق إليّ إليّ. قال ابن عباس تدعو الكافر والمنافق بأسمائهم بلسان فصيح ثم تلتقطهم كما يلتقط الطير الحب. وقيل تدعو أي تعذب قال أعرابي لآخر دعاك الله أي عذبك الله {وجمع فأوعى} يعني وتدعو من جمع المال في الوعاء ولم يؤد حق الله منه، {إن الإنسان خلق هلوعاً} قال ابن عباس الهلوع الحريص على ما لا يحل. وقيل شحيحاً بخيلاً. وقيل ضجوراً وقيل جزوعاً، وقيل ضيق القلب والهلع شدة الحرص وقلة الصبر وقال ابن عباس تفسيره ما بعده وهو قوله تعالى: {إذا مسه الشر جزوعاً وإذا مسه الخير منوعاً} يعني إذا أصابه الفقر لم يصبر وإذا أصابه المال لم ينفق. وقال ابن كيسان خلق الله الإنسان يحب ما يسره ويهرب مما يكره ثم تعبد ه بإنفاق ما يحب والصبر على ما يكره. قيل أراد بالإنسان هنا الكافر وقيل هو على عمومه ثم استثنى الله عز وجل فقال تعالى: {إلا المصلين} وهذا استثناء الجمع من الواحد لأن الإنسان واحد وفيه معنى الجمع {الذين هم على صلاتهم دائمون} يعني يقيموها في أوقاتها وهي الفرائض.
فإن قلت كيف قال على صلاتهم دائمون ثم قال بعده على صلاتهم يحافظون؟
قلت معنى إدامتهم عليها أن يواظبوا على أدائها، وأن لا يتركوها في شيء من الأوقات وأن لا يشتغلوا عنها بغيرها إذا دخل وقتها، والمحافظة عليها ترجع إلى الاهتمام بحالها وهو أن يأتي بها العبد على أكمل الوجوه. وهذا إنما يحصل بأمور ثلاثة منها ما هو سابق للصلاة كاشتغاله بالوضوء وستر العورة وإرصاد المكان الطاهر للصلاة، وقصد الجماعة وتعلق القلب بدخول وقتها وتفريغه عن الوسواس والالتفات إلى ما سوى الله عز وجل. وأما الأمور المقارنة للصلاة فهي أن لا يلتفت في الصلاة يميناً ولا شمالاً وأن يكون حاضر القلب في جميعها بالخشوع والخوف وإتمام ركوعها وسجودها. وأما الأمور الخارجة عن الصلاة فهو أن يحترز عن الرياء والسمعة خوف أن لا تقبل منه مع الابتهال والتضرع إلى الله تعالى في سؤال قبولها وطلب الثواب فالمداومة على الصلاة ترجع إلى نفسها والمحافظة عليها ترجع إلى أحوالها وهيئاتها. وروى البغوي بسنده عن أبي الخير قال سألنا عقبة بن عامر عن قوله عز وجل الذين هم على صلاتهم دائمون أهم الذين يصلون أبداً؟ قال لا ولكنه إذا صلى لم يلتفت عن يمينه ولا عن شماله ولا خلفه.

.تفسير الآيات (24- 39):

{وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ (24) لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (25) وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (26) وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (27) إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ (28) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (29) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (30) فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (31) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (32) وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ (33) وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (34) أُولَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ (35) فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ (36) عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ عِزِينَ (37) أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ (38) كَلَّا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ (39)}
{والذين في أموالهم حق معلوم} يعني الزكاة المفروضة لأنها مقدرة معلومة. وقيل هي صدقة التطوع وذلك بأن يوظف الرجل على نفسه شيئاً من الصدقة يخرجه على سبيل الندب في أوقات معلومة {للسائل} يعني الذي يسأل {والمحروم} يعني الفقير المتعفف عن السؤال فيحسب غنياً فيحرم {والذين يصدقون بيوم الدين} أي يؤمنون بالبعث بعد الموت والحشر والنشر والجزاء يوم القيامة {والذين هم من عذاب ربهم مشفقون} أي خائفون ثم أكد ذلك الخوف فقال تعالى: {إن عذاب ربهم غير مأمون} يعني أن الإنسان لا يمكنه القطع بأنه أدى الواجبات كما ينبغي ولا اجتنب المحظورات بالكلية كما ينبغي بل قد يكون وقع منه تقصير من الجانبين فلا جرم ينبغي أن يكون بين الخوف والرجاء.
قوله تعالى: {والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون} تقدم تفسيره في سورة المؤمنين.
قوله تعالى: {والذين هم بشهاداتهم قائمون} أي يقومون فيها عند الحكام ولا يكتمونها ولا يغيرونها وهذه الشهادة من جملة الأمانات إلا أنه خصها بالذكر لفضلها لأن بها تحيا الحقوق وتظهر وفي تركها تموت وتضيع، وقيل أراد بالشهادة الشهادة له بأن لا إله إلا الله واحد لا شريك له ولهذا عطف عليها {والذين هم على صلواتهم يحافظون} ثم ذكر ما أعده لهم فقال تعالى: {أولئك} يعني من هذه صفته {في جنات مكرمون} قوله تعالى: {فمال الذين كفروا} أي فما بالهم {قبلك مهطعين} أي مسرعين مقبلين إليك مادي أعناقهم ومديمي النظر إليك متطلعين نحوك، نزلت في جماعة من الكفار كانوا يجتمعون حول النبي صلى الله عليه وسلم يسمعون كلامه ويستهزئون به ويكذبونه فقال الله تعالى ما لهم ينظرون إليك ويجلسون عندك وهم لا ينتفعون بما يسمعون منك {عن اليمين وعن الشمال عزين} يعني أنهم كانوا عن يمينه وعن شماله مجتمعين حلقاً وفرقاً، والعزون جماعات في تفرقة {أيطمع كل امرئ منهم أن يدخل جنة نعيم} قال ابن عباس: معناه أيطمع كل رجل منهم أن يدخل جنتي نعيم كما يدخلها المسلمون ويتنعمون فيها وقد كذبوا نبيي، {كلا} أي لا يدخلها ثم ابتدأ فقال تعالى: {إنا خلقناهم مما يعلمون} أي من الأشياء المستقذرة من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة نبه الله على أنهم خلقوا من أصل واحد وشيء واحد وإنما يتفاضلون بالمعرفة ويستوجبون الجنة بالإيمان والطاعة. روى البغوي بإسناد الثعلبي عن بشر بن جحاش قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وبصق يوماً في كفه ووضع عليها أصبعه فقال: «يقول الله عز وجل يا ابن آدم أنى تعجزني وقد خلقتك من مثل هذه حتى إذا سويتك وعدلتك ومشيت بين بردين والأرض منك وئيد فجمعت ومنعت حتى إذا بلغت التراقي قلت أتصدق وأنى أوان الصدقة»، وأخرجه ابن الجوزي في تفسيره بلا إسناد. وقيل في معنى الآية إنا خلقناهم من أجل ما يعلمون وهو الأمر والنهي والثواب والعقاب. وقيل معناه إنا خلقناهم ممن يعلمون ويعقلون ولم نخلقهم كالبهائم بلا علم ولا عقل.

.تفسير الآيات (40- 44):

{فَلَا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ (40) عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْرًا مِنْهُمْ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (41) فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (42) يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ (43) خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ (44)}
{فلا أقسم} يعني وأقسم وقد تقدم بيانه {برب المشارق والمغارب} يعني مشرق كل يوم من السنة ومغربه. وقيل يعني مشرق كل نجم ومغربه {إنا لقادرون على أن نبدل خيراً منهم} معناه إنا لقادرون على إهلاكهم وعلى أن نخلق أمثل منهم وأطوع لله {وما نحن بمسبوقين} أي بمغلوبين عاجزين عن إهلاككم وإبدالكم بمن هو خير منكم {فذرهم يخوضوا} أي في أباطيلهم {ويلعبوا} في دنياهم {حتى يلاقوا يومهم الذي يوعدون} نسختها آية القتال ثم فسر ذلك فقال تعالى: {يوم يخرجون من الأجداث} يعني القبور {سراعاً} أي إلى إجابة الداعي {كأنهم إلى نصب} يعني إلى شيء منصوب كالعلم والراية ونحوه. وقرئ بضم النون والصاد وهي الأصنام التي كانوا يعبد ونها {يوفضون} أي يسرعون ومعنى الآية أنهم يخرجون من الأجداث يسرعون إلى الداعي مستبقين إليه كما كانوا يستبقون إلى نصبهم ليستلموها {خاشعة أبصارهم} أي ذليلة خاضعة {ترهقهم ذلة} أي يغشاهم هوان {ذلك اليوم الذي كانوا يوعدون} يعني يوم القيامة الذي كانوا يوعدون به في الدنيا، والله سبحانه وتعالى أعلم.

.سورة نوح:

.تفسير الآيات (1- 8):

{إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (1) قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (2) أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ (3) يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لَا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (4) قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا (5) فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا (6) وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آَذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا (7) ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا (8)}
قوله عز وجل: {إنا أرسلنا نوحاً إلى قومه أن أنذر قومك} أي بأن خوف قومك وحذرهم {من قبل أن يأتيهم عذاب أليم} يعني الغرق بالطوفان والمعنى إنا أرسلناه لينذرهم بالعذاب إن لم يؤمنوا {قال يا قوم إني لكم نذير مبين} أي أنذركم وأبين لكم {أن اعبد وا الله} أي وحدوه ولا تشركوا به شيئاً {واتقوه} أي وخافوه بأن تحفظوا أنفسكم مما يؤثمكم {وأطيعون} أي فيما آمركم به من عبادة الله وتقواه {يغفر لكم من ذنوبكم} أي يغفر لكم ذنوبكم. ومن صلة وقيل يغفر لكم ما سلف من ذنوبكم إلى وقت الإيمان وذلك بعض الذنوب {ويؤخركم إلى أجل مسمى} أي إلى منتهى آجالكم فلا يعاقبكم {إن أجل الله إذا جاء لا يؤخر لو كنتم تعلمون}، معناه يقول آمنوا قبل الموت تسلموا من العذاب فإن أجل الله وهو الموت إذا جاء لا يؤخر، قال الزمخشري إن قلت كيف قال ويؤخركم مع الإخبار بامتناع تأخير الأجل وهل هذا إلى تناقض قلت قضى مثلاً أن قوم نوح إن آمنوا عمرهم ألف سنة وإن بقوا على كفرهم أهلكهم على رأس تسعمائة سنة فقيل لهم آمنوا يؤخركم إلى أجل مسمى أي إلى وقت سماه الله وضربه أمداً تنتهون إليه لا تتجاوزونه وهو الوقت الأطول تمام الألف. ثم أخبر أنه إذا جاء ذلك الأجل لا يؤخر كما يؤخر هذا الوقت ولم تكن حيلة فبادروا في أوقات الإمهال والتأخير عنكم وحيث يمكنكم الإيمان، {قال} يعني نوحاً عليه الصلاة والسلام {رب إني دعوت قومي ليلاً ونهاراً فلم يزدهم دعائي إلا فراراً} أي نفاراً وإدباراً عن الإيمان {وإني كلما دعوتهم لتغفر لهم} أي ليؤمنوا بك فتغفر لهم {جعلوا أصابعهم في آذانهم} لئلا يسمعوا دعوتي {واستغشوا ثيابهم} أي غطوا وجوههم بثيابهم لئلا يرون {وأصروا} على كفرهم {واستكبروا} عن الإيمان بك {استكباراً} أي تكبراً عظيماً {ثم إني دعوتهم جهاراً} أي معلناً قال ابن عباس: بأعلى صوتي.

.تفسير الآيات (9- 17):

{ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا (9) فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا (10) يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا (11) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا (12) مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا (13) وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا (14) أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقًا (15) وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا (16) وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا (17)}
{ثم إني أعلنت لهم} أي كررت لهم الدعاء معلناً {وأسررت لهم إسراراً} قال ابن عباس يريد الرجل بعد الرجل أكلمه سراً بيني وبينه أدعوه إلى عبادتك وتوحيدك {فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفاراً يرسل السماء عليكم مدراراً} وذلك أن قوم نوح لما كذبوه زماناً طويلاً حبس الله عنهم المطر وأعقم أرحام نسائهم أربعين سنة فهلكت أموالهم ومواشيهم فقال لهم استغفروا ربكم أي من الشرك واطلبوا المغفرة بالتوحيد حتى يفتح عليكم أبواب نعمه وذلك لأن الاشتغال بالطاعة يكون سبباً لاتساع الخير والرزق.
وأن الكفر سب لهلاك الدنيا فإذا اشتغلوا بالإيمان والطاعة حصل ما يحتاجون إليه في الدنيا. وروى الشعبي أن عمر بن الخطاب خرج يستسقي بالناس فلم يزد على الاستغفار حتى يرجع فقيل له ما سمعناك استسقيت فقال طلبت الغيث بمجاديح السماء التي يستنزل بها القطر ثم قرأ: {استغفروا ربكم إنه كان غفاراً} الآية قوله بمجاديح السماء واحدها مجدح وهو نجم من النجوم. وقيل هو الدبران وقيل هي ثلاثة كواكب كالأثافي تشبيهاً بالمجدح الذي له شعب وهي عند العرب من الأنواء الدالة على المطر فجعل عمر الاستغفار مشبهاً بالأنواء مخاطبة لهم بما يعرفون وكانوا يزعمون أن من شأنها المطر لا أنه يقول بالأنواء.
وعن بكر بن عبد الله أن أكثر الناس ذنوباً أقلهم استغفاراً وأكثرهم استغفاراً أقلهم ذنوباً. وعن الحسن أن رجلاً شكا إليه الجدب فقال له استغفر الله وشكا آخر إليه الفقر وقلة النسل وآخر قلة ريع أرضه فأمرهم كلهم بالاستغفار فقال له الربيع بن صبيح أتاك رجال يشكون أنواعاً فأمرتهم كلهم بالاستغفار؟ فتلا هذه الآية وقوله يرسل السماء عليكم أي يرسل ماء السماء وذلك لأن ماء المطر ينزل من السماء إلى السحاب ثم ينزل من السحاب إلى الأرض. وقيل أراد بالسماء السحاب، وقيل أراد بالسماء المطر من قول الشاعر:
إذا نزل السماء بأرض قوم ** فحلوا حيثما نزل السماء

يعني المطر مدراراً أي كثير الدر وهو حلب الشاة حالاً بعد حال. وقيل مدراراً أي متتابعاً {ويمددكم بأموال وبنين} أي يكثر أموالكم وأولادكم {ويجعل لكم جنات} أي البساتين {ويجعل لكم أنهاراً} وهذا كله مما يميل طبع البشرية إليه {ما لكم لا ترجون لله وقاراً} قال ابن عباس أي لا ترون لله عظمة. وقيل معناه لا تخافون عظمته فالرجاء بمعنى الخوف، والوقار العظمة من التوقير وهو التعظيم. وقيل التعظيم وقيل معناه ما لكم لا تعرفون لله حقاً ولا تشكرون له نعمة وقيل معناه ما لكم لا ترجون في عبادة الله أن يثيبكم على توقيركم إياه خيراً {وقد خلقكم أطواراً} يعني تارة بعد تارة وحالاً بعد حال نطفة ثم علقة ثم مضغة إلى تمام الخلق.