فصل: تفسير الآيات (5- 6):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: لباب التأويل في معاني التنزيل المشهور بـ «تفسير الخازن» (نسخة منقحة).



.تفسير الآيات (5- 6):

{إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا (5) إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا (6)}
{إنا سنلقي عليك قولاً ثقيلاً} قال ابن عباس شديداً. وقيل ثقيلاً يعني كلاماً عظيماً جليلاً ذا خطر وعظمة لأنه كلام رب العالمين وكل شيء له خطر ومقدار فهو ثقيل والمعنى فصير نفسك مستعدة لقبول هذا القول العظيم الثقيل الشاق، وقيل سماه ثقيلاً لما فيه من الأوامر والنواهي فإن فيه مشقة وكلفة على الأنفس وقيل ثقيلاً لما فيه من الوعد والوعيد والحلال والحرام والحدود والفرائض والأحكام. وقيل ثقيلاً على المنافقين لأنه يبين عيوبهم ويظهر نفاقهم، وقيل هو خفيف على اللسان بالتلاوة ثقيل في الميزان بالثواب يوم القيامة. وقيل ثقيلاً أي ليس بالخفيف ولا السفساف لأنه كلام ربنا تبارك وتعالى. وقيل معناه أنه قول مبين في صحته وبيانه ونفعه كما تقول هذا كلام رصين وهذا قول له وزن إذا استجدته وعلمت أنه صادق الحكمة والبيان. وقيل سماه ثقيلاً لما فيه من المحكم والمتشابه والناسخ والمنسوخ. وقيل ثقيلاً في الوحي وذلك أنه صلى الله عليه وسلم «كان إذا نزل عليه القرآن والوحي يجد له مشقة»،.
(ق) عن عائشة رضي الله عنها «أن الحارث بن هشام سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله كيف يأتيك الوحي؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أحياناً يأتيني في مثل صلصلة الجرس وهذا أشده علي فيفصم عني وقد وعيت ما قال، وأحياناً يتمثل إلي الملك رجلاً فيكلمني فأعي ما يقول. قالت عائشة ولقد رأيته ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد فيفصم عنه وإن جبينه ليتفصد عرقاً».
(م) عن عبادة بن الصامت قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نزل عليه الوحي كرب لذلك وتربد له وجهه» وفي رواية «كان إذا نزل عليه الوحي عرفنا ذلك في فيه وغمض عينيه وتربد وجهه» قوله مثل صلصلة الجرس الصلصة الصوت الشديد الصلب اليابس من الأشياء الصلبة كالجرس ونحوه. قوله فيفصم أي ينفصل عني ويفارقني وقد وعيت ما قال أي حفظت. وقولها ليتفصد عرقاً أي يجري عرقه كما يجري الدم من الفاصد. قوله تربد وجهه الربدة في الألوان غبرة مع سواد، وقوله تعالى: {إن ناشئة الليل} أي ساعاته كلها وكل ساعة منه ناشئة، لأنها تنشأ عن التي قبلها وقال ابن أبي مليكة سألت ابن عباس وابن الزبير عنها فقالا الليل كله ناشئة وهي عبارة عن الأمور التي تحدث وتنشأ في الليل وقالت عائشة الناشئة القيام بعد النوم. وقيل هي قيام آخر الليل وقيل أوله، وقيل أي ساعة قام الإنسان من الليل فقد نشأ. روي عن زين العابدين علي بن الحسين أنه كان يصلي بين المغرب والعشاء ويقول هذه ناشئة الليل، وقيل كل صلاة بعد العشاء الآخرة فهي ناشئة الليل، وقيل ناشئة الليل قيامه وقيل ناشئة الليل وطاؤه {هي أشد وطأ} قرئ بكسر الواو مع المد يعني من المواطأة والموافقة وذلك لأن مواطأة القلب اللسان والسمع والبصر تكون بالليل أكثر مما تكون بالنهار.

.تفسير الآيات (7- 10):

{إِنَّ لَكَ فِي النَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلًا (7) وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا (8) رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا (9) وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا (10)}
{إن لك في النهار سبحاً طويلاً} أي تصرفاً وتقلباً وإقبالاً وإدباراً في حوائجك واشتغالك. وقيل فراغاً وسعة لنومك وتصرفك في حوائجك أفضل من الليل {واذكر اسم ربك} أي بالتوحيد والتعظيم والتقديس والتسبيح {وتبتل إليه تبتيلاً} قال ابن عباس أخلص إليه إخلاصاً وقيل تفرغ لعبادته وانقطع إليه انقطاعاً والمعنى بتل إليه نفسك واقطعها عن كل شيء سواه. وقيل التبتل رفض الدنيا وما فيها والتماس ما عند الله. وقيل معناه وتوكل عليه توكلاً واجتهد في العبادة وقيل يقال للعابد إذا ترك كل شيء وأقبل على العبادة قد تبتل أي انقطع عن كل شيء إلا من عبادة الله وطاعته.
فإن قلت كيف قال تبتيلاً مكان تبتلاً ولم يجيء على مصدره؟
قلت جاء تبتيلاً على بتل نفسك إليه تبتيلاً فوقع المصدر موضع مقارنة في المعنى ويكون التقدير وبتل نفسك إليه تبتيلاً فهو كقوله والله أنبتكم من الأرض نباتاً، وقيل لأن معنى تبتل بتل نفسك فجيء به على معناه مراعاة لحق الفواصل. وقيل الأصل في تبتل أن يقال تبتلت تبتيلاً وتبتلت تبتيلاً فتبتيلاً محمول على معنى بتل إليه تبتيلاً وقيل إنما عدل عن هذه العبارة لدقيقة لطيفة وهي أن المقصود إنما هو التبتل فأما التبتيل فهو تصرف والمشتغل بالتصرف لا يكون متبتلاً إلى الله تعالى لأن المشتغل بغير الله لا يكون منقطعاً إليه إلا أنه لابد من التبتيل حتى يحصل التبتل فذكر أولاً التبتل لأنه المقصود وذكر التبتيل ثانياً إشعاراً بأنه لابد منه {رب المشرق والمغرب} يعني أن التبتل والانقطاع لا يليق إلا لله تعالى الذي هو رب المشرق والمغرب {لا إله إلا هو فاتخذه وكيلاً} أي فوض أمرك إليه وتوكل عليه. وقيل معناه اتخذ يا محمد ربك كفيلاً بما وعدك من النصر على الأعداء {واصبر على ما يقولون} أي من التكذيب لك والأذى {واهجرهم هجراً جميلاً} أي واعتزلهم اعتزالاً حسناً لا جزع فيه وهذه الآية منسوخة بآية القتال.

.تفسير الآيات (11- 19):

{وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا (11) إِنَّ لَدَيْنَا أَنْكَالًا وَجَحِيمًا (12) وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ وَعَذَابًا أَلِيمًا (13) يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيبًا مَهِيلًا (14) إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شَاهِدًا عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا (15) فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وَبِيلًا (16) فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا (17) السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولًا (18) إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا (19)}
{وذرني والمكذبين} أي دعني ومن كذبك لا تهتم به فإني أكفيكه {أولي النعمة} أي أصحاب النعم والترفه نزلت في صناديد قريش المستهزئين وقيل نزلت في المطعمين ببدر {ومهلهم قليلاً} يعني إلى يوم بدر فلم يكن إلا يسير حتى قتلوا ببدر. وقيل أراد بالقليل أيام الدنيا ثم وصف عذابهم فقال تعالى: {إن لدينا} أي عندنا في الآخرة {أنكالاً} يعني قيوداً عظاماً ثقالاً لا تنفك أبداً وقيل أغلالاً من حديد {وجحيماً وطعاماً ذا غصة} أي غير سائغ في الحلق لا ينزل ولا يخرج وهو الزقوم والضريع {وعذاباً أليماً} أي وجيعاً {يوم ترجف الأرض والجبال} أي تتزلزل وتتحرك وهو يوم القيامة {وكانت الجبال كثيباً مهيلاً} يعني رملاً سائلاً وهو الذي إذا أخذت منه شيئاً يتبعك ما بعده {إنا أرسلنا إليكم} يعني يا أهل مكة {رسولاً} يعني محمداً صلى الله عليه وسلم {شاهداً عليكم} أي بالتبليغ وإيمان من آمن منكم وكفر من كفر {كما أرسلنا إلى فرعون رسولاً} يعني موسى بن عمران عليه الصلاة والسلام، قيل إنما خص فرعون وموسى بالذكر من بين سائر الأمم والرسل لأن محمداً صلى الله عليه وسلم آذاه أهل مكة واستخفوا به لأنه ولد فيهم كما أن فرعون ازدرى بموسى وآذاه لأنه رباه {فعصى فرعون الرسول فأخذناه} أي فرعون {أخذاً وبيلاً} أي شديداً ثقيلاً يعني عاقبناه عقوبة غليظة، خوَّف بذلك كفار مكة ثم خوَّفهم يوم القيامة فقال تعالى: {فكيف تتقون إن كفرتم} أي كيف لكم بالتّقوى يوم القيامة إن كفرتم أي في الدنيا، المعنى لا سبيل لكم إلى التّقوى إذا وافيتم القيامة. وقيل معنى الآية فكيف تتقون العذاب يوم القيامة، وبأي شيء تتحصنون من عذاب ذلك اليوم، وكيف تنجون منه إن كفرتم في الدّنيا {يوماً يجعل الولدان شيباً} يعني شيوخاً شمطاً من هول ذلك اليوم وشدته وذلك حين يقال لآدم عليه الصّلاة والسّلام قم، فابعث بعث النار من ذريتك.
(ق) عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «يقول الله عز وجل يوم القيامة: يا آدم فيقول لبيك وسعديك» زاد في رواية «والخير في يديك فينادى بصوت إن الله يأمرك أن تخرج من ذريتك بعث النّار قال يا رب، وما بعث النار؟ قال من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون، فحينئذ تضع الحامل حملها، ويشيب الوليد وترى النّاس سكارى، وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد، فشق ذلك على الناس حتى تغيرت وجوههم قالوا: يا رسول الله أينا ذلك الرجل فقال النبي صلى الله عليه وسلم أبشروا فإن من يأجوج ومأجوج تسعمائة وتسعاً وتسعين ومنكم واحد ثم قال: أنتم في الناس كالشعرة السوداء في جنب الثّور الأبيض، أو كالشّعرة البيضاء في جنب الثّور الأسود، وفي رواية كالرّقمة في ذراع الحمار، وإني لأرجو أن تكونوا ربع أهل الجنة، فكبرنا ثم قال: ثلث أهل الجنة فكبرنا ثم قال شطر أهل الجنة فكبرنا».

.تفسير الآية رقم (20):

{إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآَنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآَخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآَخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (20)}
{إن ربك يعلم أنك تقوم أدنى من ثلثي اللّيل} أي أقل من ثلثي الليل {ونصفه وثلثه} أي تقوم نصفه وثلثه {وطائفة من الذين معك} يعني المؤمنين، وكانوا يقومون معه الليل {والله يقدر اللّيل والنّهار} يعني أن العالم بمقادير الليل والنهار وأجزائهما وساعاتهما هو الله تعالى. لا يفوته علم ما يفعلون، فيعلم القدر الذي يقومون من اللّيل والذي ينامون منه. {علم أن لن تحصوه} يعني أن لن تطيقوا معرفته على الحقيقة. قيل قاموا حتى انتفخت أقدامهم، فنزل: علم أن لن تحصوه أي لن تطيقوه، قيل كان الرجل يصلي الليل كله مخافة أن لا يصيب ما أمر الله به من القيام فقال تعالى: {علم أن لن تحصوه} أي لن تطيقوا معرفة ذلك {فتاب عليكم} أي فعاد عليكم بالعفو والتخفيف، والمعنى عفا عنكم ما لم تحيطوا بعلمه ورفع المشقة عنكم {فاقرؤوا ما تيسر من القرآن} فيه قولان:
أحدهما: أن المراد بهذه القراءة. القراءة في الصلاة، وذلك لأن القراءة أحد أجزاء الصّلاة، فأطلق اسم الجزء على الكل، والمعنى فصلوا ما تيسر عليكم. وقال الحسن: يعني في صلاة المغرب والعشاء، قال قيس بن أبي حازم: صليت خلف ابن عباس بالبصرة فقرأ في أول ركعة بالحمد، وأول آية من البقرة، ثم قام في الثانية، فقرأ بالحمد والآية الثانية من البقرة، ثم ركع فلما انصرف أقبل علينا بوجهه فقال: إن الله تعالى يقول فاقرؤوا ما تيسر منه، وقيل نسخ ذلك التّهجد، واكتفي بما تيسر ثم نسخ ذلك أيضاً بالصّلوات الخمس وذلك في حق الأمة وثبت قيام اللّيل في حقه صلى الله عليه وسلم بقوله تعالى: {ومن اللّيل فتهجد به نافلة لك}.
القول الثاني: أن المراد بقوله فاقرؤوا ما تيسر من القرآن دراسته، وتحصيل حفظه وأن لا يعرض للنسيان، فقيل يقرأ مائة آية ونحوها، وقيل إن قراءة السورة القصيرة كافية. روى البغوي بإسناده عن أنس رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من قرأ خمسين آية في يوم وليلة لم يكتب من الغافلين، ومن قرأ مائة آية كتب من القانتين، ومن قرأ مائتي آية، لم يحاججه القرآن يوم القيامة، ومن قرأ خمسمائة آية كتب له قنطار من الأجر» وذكره الشّيخ محيي الدّين في كتابه الأذكار ولم يضعفه وقال: في رواية: «من قرأ أربعين آية بدل خمسين وفي رواية عشرين» وفي رواية عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «ألم أخبر أنك تصوم الدهر، وتقرأ القرآن كل ليلة قلت بلى يا رسول الله، ولم أرد بذلك إلا الخير قال فصم صوم داود وكان أعبد النّاس واقرأ القرآن في كل شهر مرة قال قلت يا نبي الله إني أطيق أفضل من ذلك قال فاقرأه في كل عشر قال: قلت يا نبي الله إني أطيق أفضل من ذلك قال فاقرأه في سبع ولا تزد على ذلك».

.سورة المدثر:

.تفسير الآيات (1- 5):

{يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ (2) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3) وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ (4) وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (5)}
قوله عز وجل: {يا أيها المدثر}.
(ق) عن يحيى بن كثير قال: سألت أبا سلمة بن عبد الرحمن عن أول ما نزل من القرآن قال: {يا أيها المدثر} قلت يقولون: {اقرأ باسم ربك} قال أبو سلمة سألت جابراً عن ذلك وقلت له مثل الذي قلت فقال لي جابر لا أحدثك إلا ما حدثنا به رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «جاورت بحراء شهراً فلما قضيت جواري هبطت فنوديت فنظرت عن يميني فلم أر شيئاً ونظرت عن شمالي فلم أر شيئاً ونظرت خلفي فلم أر شيئاً فرفعت رأسي فرأيت شيئاً فأتيت خديجة فقلت دثروني فدثروني وصبوا علي ماء بارداً فنزلت {يا أيها المدثر قم فأنذر وربك فكبر وثيابك فطهر والرجز فاهجر} وذلك قبل أن تفرض الصلاة» وفي رواية: «فلما قضيت جواري هبطت فاستبطنت الوادي- وذكر نحوه- فإذا هو قاعد على عرش في الهواء- يعني جبريل- فأخذتني رجفة شديدة».
(ق) عن جابر رضي الله عنه من رواية الزهري عن أبي سلمة عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يحدث عن فترة الوحي فقال لي في حديثه: «فبينما أنا أمشي سمعت صوتاً من السماء فرفعت رأسي فإذا الملك الذي جاءني بحراء جالس على كرسي بين السماء والأرض فجثثت منه رعباً فقلت زملوني زملوني فدثروني» فأنزل الله عز وجل: {يا أيها المدثر} إلى: {والرجز فاهجر} وفي رواية: «فجئثت منه حتى هويت إلى الأرض فجئت إلى أهلي» وذكره وفيه قال أبو سلمة الرّجز الأوثان قال ثم حمى الوحي بعد وتتابع.
فإن قلت دل هذا الحديث على أن سورة المدثر أول ما نزل من القرآن، ويعارضه حديث عائشة رضي الله عنها المخرج في الصحيحين أيضاً في بدء الوحي، وسيأتي في موضعه إن شاء الله تعالى وفيه: «فغطني الثالثة حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني فقال: {اقرأ باسم ربك الذي خلق} حتى بلغ: {ما لم يعلم} فرجع بها رسول الله صلى الله عليه وسلم يرجف فؤاده» الحديث.
قلت الصّواب الذي عليه جمهور العلماء أن أول ما نزل من القرآن على الإطلاق {اقرأ باسم ربك الذي خلق}، كما صرح به في حديث عائشة، وقول من قال إن سورة المدثر أول ما نزل من القرآن على الإطلاق ضعيف لا يعتد به، وإنما كان نزولها بعد فترة الوحي كما صرح به في رواية الزّهري عن أبي سلمة عن جابر، ويدل عليه أيضاً قوله في الحديث وهو يحدث عن فترة الوحي إلى أن قال وأنزل الله تعالى: {يا أيها المدثر} ويدل عليه أيضاً قوله: «فإذا الملك الذي جاءني بحراء ثم قال وأنزل الله تعالى: {يا أيها المدثر}» وأيضاً قوله «ثم حمي الوحي بعد وتتابع» فالصواب إن أول ما نزل من القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم سورة {اقرأ باسم ربك الذي خلق} وإن أول ما نزل بعد فترة الوحي سورة المدثر فحصل بهذا الذي بيناه الجمع بين الحديثين، والله أعلم قوله «فإذا هو قاعد على عرش بين السماء والأرض» يريد به السرير الذي يجلس عليه وقوله يحدث عن فترة الوحي، أي عن احتباسه وعدم تتابعه، وتواليه في النزول قوله «فجئثت منه» روى بجيم مضمومة ثم همزة مكسورة ثم ثاء مثلثة ساكنة ثم تاء الضّمير وروى بثاءين مثلثتين بعد الجيم، ومعناه فرعبت منه وفزعت. وقوله «وحمي الوحي بعد وتتابع» أي كثر نزوله، وازداد بعد فترته من قولهم حميت الشّمس والنّار إذا ازداد حرهما، وقوله وصبوا علي ماء فيه أنه ينبغي لمن فزع أن يصب عليه ماء حتى يسكن فزعه والله أعلم.
وأما التّفسير فقوله عز وجل: يا أيها المدثر أصله المتدثر وهو الذي يتدثر في ثيابه ليستدفئ بها، وأجمعوا على أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنما سماه مدثراً لقوله صلى الله عليه وسلم دثروني، وقيل معناه يا أيّها المدثر بدثار النّبوة والرّسالة من قولهم ألبسه الله لباس التقوى، فجعل النّبوة كالدثار واللباس، مجازاً {قم فأنذر} أي حذرهم من عذاب ربك إن لم يؤمنوا والمعنى قم من مضجعك ودثارك، وقيل قم قيام عز واشتغل بالإنذار الذي تحملته {وربك فكبر} أي عظم ربك عما يقوله عبد ة الأوثان {وثيابك فطهر} فيه أربعة أوجه: أحدها أن ينزل لفظ الثّياب والتّطهير على الحقيقة، والثاني أن ينزل لفظ الثياب على الحقيقة والتطهير على المجاز والثالث أن ينزل لفظ الثّياب على المجاز، والتّطهير على الحقيقة والرابع أن ينزل لفظ الثّياب والتّطهير على المجاز.
أما الوجه الأول: فمعناه وثيابك فطهر من النّجاسات والمستقذرات، وذلك أن المشركين لم يكونوا يحترزون عنها فأمر صلى الله عليه وسلم بصون ثيابه من النجاسات، وغيرها خلافاً للمشركين.
الوجه الثاني: معناه وثيابك فقصر وذلك لأن المشركين كانوا يطولون ثيابهم ويجرون أذيالهم على النّجاسات وفي الثّوب الطّويل من الخيلاء والكبر والفخر ما ليس في الثوب القصير فنهى عن تطويل الثوب وأمر بتقصيره لذلك، وقيل معناه وثيابك فطهر عن أن تكون مغصوبة أو محرمة بل تكون من وجه حلال وكسب طيب.
الوجه الثالث: معناه حمل الثوب على النفس قال عنترة:
وشككت بالرمح الأصم ثيابه ** ليس الكريم على القنا بمحرم

يريد نفسه والمعنى ونفسك فطهر عن الذّنوب والرّيب وغيره وكنى بالثياب عن الجسد لأنها تشتمل عليه.