فصل: تفسير الآيات (78- 79):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: لباب التأويل في معاني التنزيل المشهور بـ «تفسير الخازن» (نسخة منقحة).



.تفسير الآيات (78- 79):

{وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (78) مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ (79)}
قوله عز وجل: {وإن منهم} يعني من اليهود {لفريقاً} يعني طائفاً وجماعة وهم كعب بن الأشرف ومالك بن الصيف وحيي بن أخطب وأبو ياسر وشعبة بن عمرو الشاعر {يلوون} أي يعطفون ويميلون، وأصل اللي الفتل من قولك لويت يده إذا فتلتها {ألسنتهم بالكتاب} يعني بالتحريف والتغيير والتبديل وتحريف الكلام تقليبه عن وجهه لأن المحرف يلوي لسانه عن سنن الصواب بما يأتي به من عند نفسه قال الواحدي: ويحتمل أن يكون المعنى يلوون بألسنتهم الكتاب لأنهم يحرفون الكتاب عما هو عليه بألسنتهم فيأتون به على القلب ونقل الإمام فخر الدين عن القفال قال يلوون ألسنتهم معناه أن يعمدوا إلى اللفظة فيحرفونها في حركات الإعراب تحريفاً يتغير به المعنى وهذا كثير في لسان العرب فلا يبعد مثله في العبرانية فلما فعلوا ذلك في الآيات الدالة على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم من التوراة كان ذلك هو المراد من قوله يلوون ألسنتهم بالكتاب وقيل إنهم غير واصفة النبي صلى الله عليه وسلم من التوراة وبدلوها، وآية الرجم وغير ذلك مما بدلوا وغيروا {لتحسبوه من الكتاب} يعني لتظنوا أن الذي حرفوه وبدلوه من الكتاب الذي أنزله الله أنبيائه {وما هو من الكتاب} يعني ذلك الذي يزعمون أنه من الكتاب ما هو منه {ويقولون هو من عند الله وما هو من عند الله} يعني الذي يقولونه ويغيرونه، وإنما كرر هذا بلفظين مختلفين مع اتحاد المعنى لأجل التأكيد {ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون} يعني أنهم كاذبون. وقال ابن عباس: إن الآية نزلت في اليهود والنصارى جميعاً وذلك أنهم حرفوا التوراة والإنجيل وألحقوا في كتاب الله ما ليس فيه. قوله عز وجل: {ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة} قيل إن نصارى نجران قالوا إن عيسى أمرهم ان يتخذوه رباً فقال الله تعالى رداً عليهم: ما كان لبشر يعني عيسى عليه السلام أن يؤتيه الله الكتاب يعني الإنجيل. وقال ابن عباس في قوله تعالى ما كان لبشر يعني محمداً صلى الله عليه وسلم أن يؤتيه الله الكتاب يعني القرآن وذلك أن أباً رافع من اليهود والسيد من نصارى نجران قالا: يا محمد تريد أن نعبد ك ونتخذك رباً؟ قال معاذ الله أن آمر بعبادة غير الله وما بذلك أمرني الله، وما بذلك بعثني فأنزل الله هذه الآية ما كان لبشر أي ما ينبغي لبشر وهو جميع بني آدم لا واحد له من لفظه كالقوم والرهط ويوضع موضع الواحد والجمع أن يؤتيه الله الكتاب والحكم يعني الفهم والعلم، وقيل هو إمضاء الحكم من الله تعالى والنبوة يعني المنزلة الرفيعة {ثم يقول للناس كونوا عباداً لي من دون الله} ومعنى الآية أنه لا يجتمع لرجل نبوة مع القول للناس كونوا عباداً لي من دون الله وكيف يدعو الناس إلى عبادة نفسه دون الله وقد أتاه الله ما أتاه من الكتاب والحكم والنبوة وذلك أن الأنبياء موصون بصفات لا يحصل معها ادعاء الإلهية والربوبية منها إن الله تعالى أتاهم الكتب السماوية، ومنها إيتاء النبوة ولا يكون إلاّ بعد كمال العلم وكل هذه تمنع من هذه الدعوى {ولكن كونوا ربانيين} يعني ولكن يقول لهم كونوا ربانيين فأضمر القول على حسب مذهب العرب في جواز الإضمار إذا كان في الكلام ما يدل عليه، واختلفوا في معنى الرباني فقال ابن عباس: معناه كونوا فقهاء علماء وعنه كونوا فقهاء معلمين وقيل معناه حكماء حكماء، وقيل الرباني الذي يربي الناس بصغار العلم وكباره وقيل الرباني العالم الذي يعمل بعلمه، وقيل الرباني العالم بالحلال والحرام والأمر والنهي وقيل الرباني الذي جمع بين علم البصيرة والعلم بسياسة الناس، ولما مات ابن عباس رضي الله عنهما قال محمد بن الحنفية: اليوم مات رباني هذه الأمة قال سيبوية: الرباني المنسوب إلى الرب بمعنى كونه عالماً به ومواظباً على طاعته وزيادة الألف والنون فيه دلالة على كمال هذه الصفة وقال المبرد: الربانيون أرباب العلم واحدهم ربان وهو الذي يربى العلم ويربي الناس أي يعلمهم وينصحهم والألف والنون للمبالغة فعلى قول سيبويه الرباني منسوب إلى الرب على معنى التخصيص بمعرفة الرب وطاعته، وعلى قول المبرد الرباني مأخوذ من التربية.
وقيل الربانيون هم ولاة الأمر والعلماء وهما الفريقان اللذان يطاعان ومعنى الآية على هذا التأويل لا أدعوكم إلى أن تكونوا عباداً لي ولكن أدعوكم إلى أن تكونوا ملوكاً وعلماء ومعلمين الناس الخير ومواظبين على طاعة الله وعبادته. وقال أبو عبيدة: أحسب أن هذه الكلمة ليست عربية إنما هي عبرانية أو سريانية وسواء كانت عربية أو عبرانية فهي تدل على الذي علم وعمل بما علم وعلم الناس طريق الخير. وقوله تعالى: {بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون} أي كونوا ربانيين بسبب كونكم عالمين ومعلمين بسبب دراستكم الكتاب، فدلت الآية على أن العلم والتعليم والدراسة توجب كون الإنسان ربانياً فمن اشتغل بالعلم والتعليم لا لهذا المقصود ضاع علمه وخاب سعيه.

.تفسير الآيات (80- 81):

{وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (80) وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آَتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (81)}
قوله عز وجل: {ولا يأمركم} قرئ بنصب الراء بنصب الراء عطفاً على قوله ثم يقول: فيكون مردوداً على البشر وقيل على إضمار أن أي ولا أن يأمركم، وقرئ برفع الراء على الاستئناف وهو ظاهر ومعناه ولا يأمركم الله وقيل لا يأمركم محمد صلى الله عليه وسلم وقيل ولا يأمركم عيسى وقيل ولا يأمركم الأنبياء {أن تتخذوا الملائكة والنبيين أرباباً} يعني كفعل قريش والصابئين حيث قالوا الملائكة بنات الله وكفعل اليهود والنصارى حيث قالوا في المسيح والعزير ما قالوا وإنما خص الملائكة والنبيين بالذكر لأن الذين وصفوا بعبادة غير الله عز وجل من أهل الكتاب لم يحك عنهم إلاّ عبادة الملائكة وعبادة المسيح وعزير، فلهذا المعنى خصهم بالذكر {أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون} إنما قاله على طريق التعجب والإنكار، يعني لا يقول هذا ولا يفعله.
قوله عز وجل: {وإذ أخذ الله ميثاق النبيين} قال الزجاج: موضع إذ نصب والمعنى واذكر في أقاصيصك إذ أخذ الله. وقال الطبري: معناه واذكروا يا أهل الكتاب إذ أخذ الله يعني حين أخذ الله ميثاق النبيين. وأصل الميثاق في اللغة عقد يؤكد بيمين، ومعنى ميثاق النبيين ما وثقوا به على أنفسهم من طاعة الله فيما أمرهم به ونهاهم عنه وذكروا في معنى أخذ الميثاق وجهين: أحدهما: أنه مأخوذ من الأنبياء. والثاني: أنه مأخوذ لهم من غيرهم فلهذا السبب اختلفوا في المعنى بهذه الاية، فذهب قوم إلى أن الله تعالى أخذ الميثاق من النبيين خاصة قبل أن يبلغوا كتاب الله ورسالاته إلى عباده أن يصدق بعضهم بعضاً، وأخذ العهد على كل نبي أن يؤمن بمن يأتي بعده من الأنبياء وينصره إن أدركه وإن لم يدركه أن يأمر قومه بنصرته إن أدركوه فأخذ الميثاق من موسى أن يؤمن بعيسى، ومن عيسى أن يؤمن بمحمد صلى الله عليه وسلم وعليهم أجمعين. وهذا قول سعيد بن جبير والحسن وطاوس وقيل: إنما أخذ الميثاق من النبيين في أمر محمد صلى الله عليه وسلم خاصة وهو قول علي وابن عباس وقتادة والسدي فعلى هذا القول اختلفوا، فقيل إنما أخذ الله الميثاق على أهل الكتاب الذين أرسل إليهم النبيين ويدل عليه قوله ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه وإنما كان محمد صلى الله عليه وسلم مبعوثاً إلى أهل الكتاب دون النبيين، وإنما أطلق هذا اللفظ عليهم لأنهم كانوا يقولون نحن أولى بالنبوة من محمد لأنا أهل الكتاب والنبيون منا، وقيل أخذ الله ميثاق على النبيين وأممهم جميعاً في أمر محمد صلى الله عليه وسلم فاكتفى بذكر الأنبياء لأن العهد مع المتبوع عهد مع الأتباع وهو قول ابن عباس قال علي بن أبي طالب: ما بعث الله نبياً آدم فمن بعده إلا أخذ عليه العهد في أمر محمد صلى الله عليه وسلم وأخذ هو العهد على قومه ليؤمنن به ولئن بعث وهم أحياء لينصرنه وقيل إن المراد من الآية أن الأنبياء كانوا يأخذون العهد والميثاق على أممهم بأنه إذا بعث محمداً أن يؤمنوا به وينصروه وهذا قول كثير من المفسرين وقوله: {لما آتيتكم من كتاب وحكمة} قرئ بفتح اللام من لما وبكسرها مع التخفيف في القراءتين فمن قرأ بفتح اللام قال: معنى الآية وإذ أخذ الله ميثاق النبيين من أجل الذي آتاهم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول يعني ذكر محمد صلى الله عليه وسلم في التوراة لتؤمنن به للذي عندكم في التوراة من ذكره ومن قرأ بكسر اللام جعل قوله لتؤمنن به من أخذ الميثاق كما يقال أخذت ميثاقك لتفعلن لأن أخذ الميثاق بمنزلة الاستحلاف فكان معنى الآية وإذ استحلف الله النبيين للذي أتاهم من كتاب وحكمة متى جاءهم رسول مصدق لما معهم ليؤمنن به ولينصرنه وقوله: {ثم جاءكم رسول} يعني محمداً صلى الله عليه وسلم {مصدق لما معكم} وذلك أن الله وصفه في كتب الأنبياء المتقدمة وشرح فيها أحواله فإذا جاءت صفاته وأحواله مطابقة في كتبهم المنزلة فقد صار مصدقاً لها فيجب الإيمان به والانقياد لقوله ولام قوله: {لتؤمنن به} لام القسم تقديره والله لتؤمنن به {ولتنصرنه} قال البغوي: قال الله عز وجل للأنبياء حين استخرج الذرية من صلب آدم والأنبياء فيهم كالمصابيح أخذ عليهم الميثاق في أمر محد صلى الله عليه وسلم {أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري} الآية.
وقال الإمام فخر الدين: يحتمل أن يكون هذا الميثاق ما قرر في عقولهم من الدلائل الدالة على أن الانقياد من الله واجب، فإذا جاء رسول وظهرت المعجزات الدالة على صدقة، فإذا أخبرهم بعد ذلك أن الله أمر الخلق بالإيمان به عرفوا عند ذلك وجوبه بتقرير هذا الدليل في عقولهم فهذا هو المراد من الميثاق {قال اأقرتم} يعني قال الله تعالى: {أأقررتم} فإن فسرنا أن أخذ الميثاق كان من النبيين؛ كان معناه قال الله تعالى للنبيين: أأقرتم بألإيمان به والنصر له وإن فسرنا بأن أخذ الميثاق كان على الأمم كان معناه قال كل نبي لأمته أأقرتم وذلك لأنه تعالى أضاف اخذ الميثاق إلى نفسه وأن كان النبييون أخذوه على الأمم فلذلك طلب هذا الإقرار وأضافه إلى نفسه وإن وقع من الأنبياء والمقصود أن الأنبياء بالغوا في إثبات هذا الميثاق وتأكيده على الأمم وطالبوهم بالقبول وأكدوا ذلك بالإشهاد {وأخذتم على ذلكم إصري} أي عهدي والإصر العهد الثقيل وقيل سمي العهد إصراً لأنه مما يؤصر أي يشد ويعقد. {قالوا أقررنا} أي قال النبيون: أقررنا بما ألزمتنا من الإيمان برسلك الذين ترسلهم مصدقين لما معنا من كتبك {قال فاشهدوا} يعني قال الله عز وجل للنبيين: فاشهدوا يعني أنتم على أنفسكم وقيل: على أممكم وأتباعكم الذين أخذتم الميثاق وقيل: قال الله للملائكة فاشهدوا فهو كناية عن غير مذكور، وقيل: معناه فاعلموا وبينوا لأن أصل الشهادة العلم والبيان {وأنا معكم من الشاهدين} يعني قال الله يا معشر الأنبياء وأنا معكم من الشاهدين عليكم وعلى أتباعكم أو قال للملائكة وأنا معكم من الشاهدين عليهم.

.تفسير الآيات (82- 83):

{فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (82) أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (83)}
{فمن تولى} أي أعرض عن الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم {بعد ذلك} الإقرار {فأولئك هم الفاسقون} أي الخارجون عن الإيمان والطاعة. قوله عز وجل: {أفغير دين الله يبغون} وذلك أن أهل الكتاب اختلفوا فادعى كل فريق منهم أنه على دين إبراهيم عليه السلام فاختصموا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كلا الفريقين بريء من دين إبراهيهم» فغضبوا وقالوا: لا نرضى بقضائك ولا نأخذ بدينك فأنزل الله أفغير دين الله؛ الهمزة للاستفهام والمراد منه الإنكار والتوبيخ يعني أفبعد أخذ الميثاق عليهم ووضوح الدلائل لم أن دين إبراهيم هو دين الله الإسلام. تبغون قرئ بالتاء على خطاب الحاضر أي أفغير دين الله تطلبون ما معشر اليهود والنصارى وقرئ بالياء على الغيبة رداً على قوله فمن تولى بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون {وله أسلم} أي خضع وانقاد {من في السموات والأرض طوعاً وكرهاً} الطوع الانقياد والاتباع بسهولة والكره ما كان من ذلك بمشقة وإباء من النفس. واختلفوا في معنى قوله طوعاً وكرهاً فقيل: أسلم أهل السموات طوعاً وأسلم بعض أهل الأرض طوعاً وبعضهم كرهاً من خوف القتل والسبي، وقيل: أسلم المؤمن طوعاً وانقاد الكافر كرهاً، وقيل هذا في يوم أخذ الميثاق حيث قال: ألست بربكم؟ قالوا: بلى فمن سبقت له السعادة قال ذلك طوعاً، ومن سبقت له الشقاوة قال ذلك كرهاً. وقيل: أسلم المؤمن طوعاً فنفعه إسلامه يوم القيامة والكافر يسلم كرهاً عند الموت في وقت اليأس فلم ينفعه ذلك في القيامة وقيل إنه لا سبيل لأحد من الخلق إلى الامتناع على الله في مراده فأما المسلم فينقاد لله فيما أمره أو نهاه عنه طوعاً وأما الكافر فينقاد لله كرهاً في جميع ما يقتضي عليه ولا يمكنه دفع قضائه وقدره عنه {وإليه ترجعون} قرئ بالتاء والياء والمعنى أن مرجع الخلق كلهم إلى يوم القيامة ففيه وعيد عظيم لمن خالفه في الدنيا.

.تفسير الآيات (84- 86):

{قُلْ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (84) وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآَخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (85) كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (86)}
قوله عز وجل: {قل آمنا بالله} لما ذكر الله عز وجل في الآية المتقدمة أخذ الميثاق على الأنبياء في تصديق الرسول الذي يأتي مصدقاً لما معهم بين في هذه الآية أن من صفة محمد صلى الله عليه وسلم مصدقاً لما معهم فقال تعالى: {قل آمنا بالله} وإنما وحد الضمير في قوله قل وجمع في قوله آمنا بالله لأنه خاطبه بلفظ الواحد ليدل هذا الكلام على أنه لا يبلغ هذا التكليف عن الله تعالى إلى الخلق إلا هو. ثم قال: آمنا بالله تنبيهاً على أنه حيث قال هذا القول وافقه أصحابه فحسن الجمع في قوله آمنا، ومعنى الآية: قل يا محمد صدقنا بالله أنه ربنا وإلهنا لا إله غيره ولا رب سواه وإنما قدم الإيمان بالله علىغيره لأنه الأصل {وما أنزل علينا} يعني وقل يا محمد وصدقنا أيضاً بما أنزل علينا من وحيه وتنزيله وإنما قدم ذكر القرآن لأنه أشرف الكتب وأنه لم يحرف ولم يبدل وغيره حرف وبدل {وما أنزل على إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى} إنما خص هؤلاء الأنبياء بالذكر لأن أهل الكتاب يعترفون بوجودهم ولم يختلفوا في نبوتهم، والأسباط هم أولاد يعقوب الاثنا عشر وكانوا أنبياء ثم جمع جميع الأنبياء فقال {والنبيون} أي وما أوتي النبيون {من ربهم لا نفرق بين أحد منهم} وذلك أن أهل الكتاب يؤمنون ببعض النبيين ويكفرون ببعض فأمر الله عز وجل نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم أن يخبر عن نفسه وعن أمته أنه يؤمن بجميع الأنبياء. فإن قلت: لم عدي أنزل في «هذه الآية بحرف الاستعلاء وفيما تقدم من مثلها في البقرة بحرف الانتهاء». قلت لوجود المعنيين جميعاً لأن الوحي ينزل من فوق وينتهي إلى الرسل فجاء تارة بأحد المعنيين وتارة بالمعنى الآخر {ونحن له مسلمون} أي موحدون مخلصون أنفسنا له لا نجعل له شريكاً في عبادتنا. قوله عز وجل: {ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه} يعني أن الدين المقبول عند الله هو دين الإسلام وإن كل دين سواه غير مقبول عنده لأن الدين الصحيح ما يأمر الله به ويرضى عن فاعله ويثيبه عليه {وهو في الآخرة من الخاسرين} يعني الذين وقعوا في الخسارة وهو حرمان الثواب وحصول العقاب وروى ابن جرير الطبري عن عكرمة: في قوله: {ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه} قالت اليهود فنحن مسلمون فقال الله عز وجل لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم قل لهم ولله على الناس حج البيت فلم يحجوا. قوله عز وجل: {كيف يهدي الله قوماً كفروا بعد إيمانهم} نزلت في اثني عشر رجلاً ارتدوا عن الإسلام وخرجوا من المدينة وأتوا مكة كفاراً منهم الحارث بن سويد الأنصاري وطعمة بن أبيرق وحجوج بن الأسلت.
وقال ابن عباس: نزلت في اليهود والنصارى وذلك أن اليهود كانوا قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم يستفتحون به على الكفار ويقرون به ويقولون: قد أظل زمان نبي مبعوث فلما بعث محمد صلى الله عليه وسلم كفروا به بغياً وحسداً ومعنى كيف يهدي الله كيف يرشد الله للصواب ويوفق للإيمان قوماً كفروا أي جحدوا نبوة محمد صلى الله عليه وسلم بعد إيمانهم أي تصديقهم إياه وإقرارهم به وبما جاء به من عند ربه {وشهدوا أن الرسول حق} يعني بعد أن أقروا وشهدوا أن محمداً رسول الله إلى خلقه وأنه حق وصدق {وجاءهم البينات} يعني الحجج والبراهين والمعجزات الدالة على صحة نبوته التي بمثلها ثبتت النبوة {والله لا يهدي القوم الظالمين} أي لا يوفقهم إلى الحق والصواب لما سبق في علمه تعالى أنهم ظالمون وقيل لا يهديهم في الآخرة إلى الجنة والثواب. فإن قلت: كيف قال في أول الاية كيف يهدي الله قوماً كفروا وقال في آخرها إلى الجنة والثواب. فإن قلت: كيف قال في أول الآية كيف يهدي الله قوماً كفروا وقال في آخرها والله لا يهدي القوم الظالمين وهذا تكرار؟ قلت: ليس فيه تكرار لأن قوله كيف يهدي الله قوماً كفروا إنما هو مختص بأولئك المرتدين عن الإسلام ثم إنه تعالى عمم ذلك الحكم في آخر الاية فقال: {والله لا يهدي القوم الظالمين} يعني جميع الكفار المرتدين عن الإسلام والكافر الأصلي وإنما سمي الكافر لأنه وضع العبادة في غير موضعها.