فصل: تفسير الآيات (87- 90):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: لباب التأويل في معاني التنزيل المشهور بـ «تفسير الخازن» (نسخة منقحة).



.تفسير الآيات (87- 90):

{أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (87) خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (88) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (89) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ (90)}
{أولئك جزاؤهم} يعني الذين كفروا بعد إيمانهم {أن عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين خالدين فيها} أي في عذاب اللعنة وقد تقدم تفسير هذه الآية في سورة البقرة {لا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينظرون} أي لا يؤخرون عن وقت العذاب لا يؤخر عنهم من وقت إلى وقت ثم استثنى سبحانه وتعالى فقال: {إلاّ الذين تابوا من بعد ذلك} يعني من بعد ارتدادهم وكفرهم وذلك أل الحارث بن سويد الأنصاري لما لحق بالكفار ندم على ذلك فأرسل إلى قومه أن سلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم هل لي من توبة؟ ففعلوا ذلك فأنزل الله تعالى إلاّ الذين تابوا من بعد ذلك وأصحلوا الله فبعث بها إليه أخوه الجلاس مع رجل من قومه، فأقبل إلى المدينة تائباً وقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم توبته وحسن إسلامه {وأصلحوا} أي وضموا إلى التوبة الأعمال الصالحة فبيَّن أن التوبة وحدها لا تكفي حتى يضاف إليها العمل الصالح. وقيل: معناه وأصلحوا باطنهم مع الحق بالمراقبات وظاهرهم مع الخلق بالعبادات والطاعات {فإن الله غفور رحيم} أي غفور لقبائحهم في الدنيا بالستر رحيم في الآخرة بالعفو وقيل: غفور بإزالة العذاب رحيم بإعطاء الثواب. قوله عز وجل: {إن الذين كفروا بعد إيمانهم ثم ازدادوا كفراً لن تقبل توبتهم} نزلت في اليهود وذلك أنهم كفروا بعيسى والإنجيل بعد إيمانهم بموسى وغيره من أنبيائهم ثم ازدادوا كفراً يعني كفرهم بمحمد صلى الله عليه وسلم والقرآن، وقيل نزلت في اليهود والنصارى وذلك أنهم كفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم لما رأوه بعد إيمانهم به قبل مبعثه لما ثبت عندهم من نعته وصفته في كتبهم ثم ازدادوا كفواً يعني ذنوباً في حال كفرهم. وقيل نزلت في جميع الكفار وذلك أنهم أشركوا بالله بعد إقرارهم بأن الله خالقهم ثم ازدادوا كفراً يعني بإقامتهم على كفرهم حتى هلكوا عليه، وقيل زيادة كفرهم هو قولهم نتربص بمحمد ريب المنون وقيل نزلت في أحد عشر رجلاً من أصحاب الحارث بن سويد الذين ارتدوا عن الإسلام فلما رجع الحارث إلى الإسلام أقاموا على كفرهم بمكة وقالوا: نقيم على الكفر ما بدا لنا ومى أردنا الرجعة ينزل فينا مثل ما نزل في الحارث فلما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة فمن دخل منهم في الإسلام قبلت توبته ونزل فيمن مات منهم على كفره: {إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار} الآية. فإن قلت قد وعد الله قبول الحسن وعطاء وقتادة والسدي: لن تقبل توبتهم حين يحضرهم الموت وهو وقت الحشرجة لأن الله تعالى قال: {وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن}
فإن الذي يموت على الكفر لا تقبل توبته كأنه قال إن اليهود أو الكفار أو المرتدين الذين فعلوا ما فعلوا ثم ماتوا على ذلك لن تقبل توبتهم وقال ابن عباس: إنهم الذين ارتدوا وعزموا على إظهار التوبة لستر أحوالهم والكفر في ضمائرهم وقال أبو العالية: هم قوم تابوا من ذنوب عملوها في حال للشرك ولم يتوبوا من الشرك فإن توبتهم في حال الشرك، غير مقبولة. وقال مجاهد: لن تقبل توتبهم إذا ماتوا على الكفر وقال ابن جرير الطبري: معنى لن تقبل توبتهم أي مما ازدادوا من الكفر على كفرهم بعد إيمانهم لا من كفرهم لأن الله تعالى لما وعد أن يقبل التوبة عن عباده وأنه قابل توبة كل تائب من كل ذنب لقوله تعالى: {إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا فإن الله غفور رحيم} علم أن المعنى الذين لا تقبل التوبة منه غير المعنى الذي تقبل التوبة منه فعلى هذا فالذي لا تقبل التوبة منه هو الازدياد على الكفر بعد الكفر لا يقبل منه توبة ما أقام على كفره لأن الله تعالى لا يقبل عمل مشرك ما أقام على شركه، فإذا تاب من شركه وكفره وأصلح فإن الله كما وصف نفسه غفور رحيم. وقوله تعالى: {وأولئك هم الضالون} يعني هؤلاء الذين كفروا بعد إيمانهم ثم ازدادوا كفراً وهم الذين ضلوا عن سبيل الحق وأخطؤوا منهاجه.

.تفسير الآيات (91- 92):

{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (91) لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (92)}
قوله عز وجل: {إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار} قال ابن عباس: لما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة دخل من كان من أصحاب الحارث بن سويد حباً في الإسلام فنزلت هذه الآية فيمن مات منهم على الكفر، وقيل نزلت فيمن مات كافراً من جميع أصناف اليهود والنصارى وعبد ة الأصنام، فالآية عامة في جميع من مات على الكفر {فلن يقبل أحدكم ملء الأرض ذهباً} أي قدر ما يملأ الأرض من شرقها إلى غربها {ولو افتدى به} قيل معناه لو افتدى به والواو زائدة مقحمة وقيل الواو على حالها وفائدتها أنها للعطف والتقدير لو تقرب إلى الله بملء الأرض ذهباً وقد مات على كفره لم ينفعه ذلك وكذا لو افتدى من العذاب بملء الأرض ذهباً لن يقبل منه، وهذا آكد في التغليظ لأنه تصريح بنفي القبول من جميع الوجوه. فإن قلت الكافر لا يملك شيئاً في الآخرة فما وجه قوله فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهباً؟ قلت: الكلام ورد على سبيل الفرض والتقدير والمعنى لو أن للكافر قدر ملء الأرض ذهباً يوم القيامة لبذله في تخليص نفسه من العذاب ولكن لا يقدر على شيء من ذلك وقيل معناه لو أن الكافر أنفق في الدنيا ملء الأرض ذهباً ثم مات على كفره لم ينفعه ذلك لأن الطاعة مع الكفر غير مقبولة {أولئك} إشارة إلى من مات على الكفر {لهم عذاب أليم وما لهم من ناصرين} يعني مانعين يمنعونهم من العذاب.
(ق) عن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يقول الله عز وجل لأهون أهل النار عذاباً يوم القيامة لو أن لك ما في الأرض من شيء أكنت تفتدي به؟ فيقول: نعم فيقول أردت منك أهون من هذا وأنت في صلب آدم أن لا تشرك بي شيئاً فأبيت إلا الشرك» لفظ مسلم. قوله عز وجل: {لن تنالوا البر} قال ابن عباس: يعني الجنة، وقيل: البر هو التقوى، وقيل هو الطاعة وقيل معناه لن تنالوا حقيقة البر ولن تكونوا أبرار حتى تنفقوا مما تحبون وقيل معناه لن تنالوا بر الله وهو ثوابه وأصل البر التوسع في فعل الخير يقال بر العبد ربه أي توسع في طاعته فالبر من الله الثواب ومن العبد الطاعة وقد يستعمل في الصدق وحسن الخلق لأنهما من الخير المتوسع فيه.
(ق) عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الصدق يهدي إلى البر وان البر يهدي إلى الجنة وأن الرجل ليصدق حتى يكتب عند الله صديقاً، وإن الكذي يهدي إلى الفجور وإن الفجور يهدي إلى النار وإن الرجل ليكذب حتى يكتب عند الله كذاباً».
(م) عن النواس بن سمعان قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البر والإثم فقال: «البر حسن الخلق والإثم ما حاك صدرك وكرهت أن يطلع عليه الناس منك فعلى هذا يكون المعنى عليكم بالأعمال الصالحة حتى تكونوا ابراراً وتدخلوا في زمرة الأبرار» ومن قال إن لفظ البر هو الجنة فقال معنى الآية لن تنالوا الثواب البر المؤدي إلى الجنة {حتى تنفقوا مما تحبون} يعني من جيد أموالكم أنفسها عندكم قال الله تعالى: {ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون} وقيل هو أن تنفق من مالك ما أنت محتاج إليه قال الله تعالى: {ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة}.
(ق) عن أبي هريرة قال: أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجل فقال: يا رسول أي الصدقة أفضل؟ قال: «إن تصدق وأنت صحيح شحيح تخشى الفقر وتأمل الغنى، ولا تهمل حتى إذا بلغت الحلقوم قلت لفلان كذا ولفلان كذا إلاّ وقد كان»، واختلفوا في هذا الإنفاق قال ابن عباس: هو الزكاة المفروضة والمعنى لن تنالوا حتى تخرجوا زكاة أموالكم فعلى هذا القول قيل إن الآية منسوخة بآية الزكاة وفيه بعداً لأنه ترغيب في إخراج الزكاة وقال ابن عمر: المراد بها سائر الصدقات وقال الحسن: كل شيء أنفقه المسلم من مالك مما يبتغي به وجه الله ويطلب ثوابه حتى التمرة فإنه يدخل في قوله: {لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون}.
(ق) عن أنس بن مالك قال: كان أبو طلحة أكثر الأنصار بالمدينة مالاً وكان أحب أمواله إليه بيرحا وكانت مستقبلة المسجد وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخلها ويشرب من ماء فيها طيب قال أنس: فلما نزلت هذه الآية: {لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون} قام أبو طلحة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إن الله تعالى يقول في كتابه {لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون} وإن أحب أموالي إلي بيرحا وإنها صدقة لله عز وجل أرجو برها وذخرها عند الله فضعها يا رسول الله حيث شئت فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بخ بخ ذلك مال رابح» أو قال ذلك مال رابح أرى أن تجعلها في الأقربين فقال أبو طلحة: افعل يا رسول الله فقسمها أبو طلحة في أقاربه وبني عمه قوله بخ بخ هي كلمة تقال عند المدح والرضا وتكريرها للمبالغة وهي مبنية على السكون فإذا وصلت جرب ونونت فقلت: بخ بخ قوله: مال رابح أي ذو ربح وفي الرواية الأخرى ذلك مال رايح بالياء معناه يروح عليك نفعه وثوابه وبيرحا اسم موضع بالمدينة وهو حائط كان لأبي طلحة.
وروي عن مجاهد قال: كتب عمر بن الخطاب إلى أبي موسى الأشعري أن يبتاع له جارية من سبي جلولاء يوم فتحت فلما جاءت أعجبته فقال عمر إن الله عزّ وجلّ يقول لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون فأعتقها عمر وعن حمزة بن عبد الله بن عمر أن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما خطرت على قلبه هذه الآية: {لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون} قال عبد الله فذكرت ما أعطاني الله تعالى فما كان شيء أحب إليّ من فلانة فقلت هي حرة لوجه الله تعالى قال ولولا أني لا أعود في شيء جعلته لله لنكحتها وعن عمرو بن ديناء قال لما نزلت هذه الاية لن تنالوا البر حتى تنفوا مما تحبون جاء زيد بن حارثة بفرس يقال لها سيل كان يحبها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: تصدق بهذه يا رسول الله فأعطاها رسول الله صلى الله عليه وسلم أسامة بن زيد بن حارثة فقال يا رسول الله إنما أردت أن أتصدق بها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قد قبلت صدقتك» وفي رواية كأن زيداً أوجد في نفسه فلما رأى ذلك منه النبي صلى الله عليه وسلم قال: أما إن الله قد قبلها وروى أن أبا ذر نزل به ضيف فقال للراعي: ائتني بخير إبلي فجاء بناقة مهزولة فقال للراعي خنتني فقال الراعي وجدت خير الإبل فحلها فذكرت يوماً حاجتكم إليه فقال: إن يوم حاجتي إليه ليوم أوضع في حفرتي وقوله تعالى: {وما تنفقوا من شيء} يعني من أي شيء كان من طيب تحبونه أو من خبيث تكرهونه {فإن الله به عليم} أي يعلمه ويجازيكم به.

.تفسير الآية رقم (93):

{كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (93)}
قوله عز وجل: {كل الطعام كان حلاًّ لبني إسرائيل إلاّ ما حرم الله على نفسه من قبل أن تنزل التوراة} سبب نزول هذه الآية أن اليهود قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: إنك تزعم أنك على ملة إبراهيم وكان إبراهيم لا يأكل لحوم الإبل وألبانها وأنت تأكل ذلك كله فلست على ملته فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «كان ذلك حلالاً لإبراهيم» قالوا كل ما نحرمه اليوم كان ذلك حراماً على نوح وإبراهيم حتى انتهى إلينا فأنزل الله عز وجل كل الطعام كان حلاً لبني إسرائيل إلاّ ما حرم إسرائيل على نفسه وهو يعقوب من قبل أن ينزل التوراة يعني ليس الأمر على ما تدعيه اليهود من تحريم لحوم الإبل على إبراهيم بل كان ذلك حلالاً على إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب، وإنما حرمه يعقوب بسبب من الأسباب وبقيت تلك الحرمة في أولاده فأنكر اليهود ذلك فأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بإحضار التوراة وطلب منهم أن يستخرجوا منها أن ذلك كان حراماً على إبراهيم، فعجزوا عن ذلك وافتضحوا وبأن كذبهم فيما ادعوا من حرمة هذه الأشياء على إبراهيم وقيل: إن اليهود أنكروا شرع محمد صلى الله عليه وسلم وادعوا أن النسخ غير جائز، فأبطل الله ذلك عليهم وأخبر أن كل الطعام كان حلاً لبني إسرائيل إلا ما حرم إسرائيل على نفسه فذلك الذي حرمه على نفسه كان حلالاً ثم صار حراماً عليه وعلى أولاده فقد حصل النسح وبطل قول اليهود بأن النسخ غير جائز، فأنكرت اليهود ذلك وقالوا: بل كان ذلك حراماً من زمن آدم إلى هذا الوقت فألزمهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بإحضار التوراة وقال: إن التوراة ناطقة بأن بعض أنواع الطعام إنما حرم بسبب أن إسرائيل حرمه على نفسه فخاف من اليهود من الفضيحة وامتنعوا من إحضار التوراة فحصل بذلك كذبهم وأنهم ينسبون إلى التوراة ما ليس فيها وبطل قولهم بأن النسخ غير جائز، وفي هذا دليل على صحة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وذلك أنه صلى الله عليه وسلم كان رجلاً أمياً لم يقرأ الكتب ولم يعرف ما في التوراة، فلما أخبر أن ذلك ليس في التوراة علم أن الذي أخبر به صلى الله عليه وسلم وحي من الله تعالى وقوله تعالى: {كل الطعام} يعني كل أنواع الطعام أو سائر المطعومات كان حلاً أي حلالاً لبني إسرائيل إلا ما حرم إسرائيل على نفسه إسرائيل هو يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم السلام، واختلفوا في الذي حرم يعقوب على نفسه قيل حرم لحوم الإبل وألبانها وروى الطبري بسنده عن ابن عباس: أن عصابة من اليهود حضرت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا أبا القاسم أخبرنا أي الطعام حرم إسرائيل على نفسه من قبل ان تنزل التوراة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أنشدكم بالله الذي أنزل التوراة على موسى هل تعلمون أن إسرائيل يعقوب مرض مرضاً شديداً فطال سقمه منه فنذر لله نذراً لئن عافاه الله من سقمه ليحرمنَّ أحب الطعام والشراب إليه، وكان أحب الطعام إليه لحم الإبل، وأحب الشراب إليه ألبانها»؟ فقالوا: اللّهم نعم. وقال ابن عباس: هي العروق وكان سبب ذلك أنه اشتكى عرق النسا وكان أصل وجعه فيما روي عن الضحاك أن يعقوب كان نذراً لئن وهب الله له اثني عشر ولداً وأتى بيت المقدس صحيحاً أن يذبح أحدهم. وفي رواية آخرهم فتلقاه ملك من الملائكة وقال: يا يعقوب وقال: يا يعقوب إنك رجل قوي فهل لك في الصراع؟ فعالجه فلم يصرع أحدهما صاحبه فغمزه الملك غمزة فعرض له عرق النسا من ذلك ثم قال أما إني لو شئت أن أصرعك لفعلت ولكن غمزتك هذه الغمزة لأنك قد نذرت إن أتيت بيت المقدس صحيحاً ذبحت آخر ولدك، فجعل الله لك بهذه الغمزة من ذلك مخرجاً، فلما قد يعقوب بيت المقدس أراد ذبح ولده ونسي ما قال له الملك فأتاه الملك وقال له: إنما غمزتك للمخرج وقد وفي نذرك فلا سبيل لك إلى ذبح ولدك. وقال ابن عباس في آخرين أقبل يعقوب من حران يريد بيت المقدس حين هرب من أخيه العيص، وكان يعقوب رجلاً بطشاً قوياً فلقيه ملك في صورة رجل فظن يعقوب أنه لص فعالجه أن يصرعه فغمز الملك فخذ يعقوب وصعد إلى السماء ويعقوب ينظر فهاج به عرق النسا ولقي منه شدة فكان لا ينام الليل من الوجع ويبيت وله رغاء أي صياح، فحلف يعقوب لئن شفاه الله أن لا يأكل عرقاً ولا طعاماً فيه عرق فحرمه على نفسه فكان بنوه بعد ذلك يتبعون العروق ويخرجونها من اللحم ولا يأكلونها، وقيل لما أصاب يعقوب ذلك وصف له الأطبار أن يجتنب لحوم الإبل فحرمها يعقوب على نفسه، وقيل إنما حرم يعقوب لحوم الجزور تعبد اً لله تعالى وسأل ربه أن تنجز فحرمه الله على ولده وهو ظاهر الآية لأن الله تعالى قال: كل الطعام اكن حلاًّ لبني إسرائيل، ثم استثنى ما حرم إسرائيل على نفسه فوجب بحكم الاستثناء أن يكون ذلك حراماً على بني إسرائيل أما قوله من قبل أن تنزل التوراة فمعناه أن قبل إنزال التوراة كان كل أنواع الطعام حلالاً لبني إسرائيل سوى ما حرمه إسرائيل على نفسه أما بعد نزول التوراة فقد حرم الله تعالى عليهم أشياء كثيرة من أنواع الطعام ثم اختلفوا في حال هذا الطعام المحرم على بني إسرائيل بعد نزول التوراة فقال السدي: حرم الله عليهم في التوراة ما كانوا حرموه على أنفسهم قبل نزولها وقال عطية: إنما كان حراماً عليهم بتحريم إسرائيل فإنه قال: إن عافاني الله تعالى لا يأكله ولد لي ولم يكن ذلك محرماً عليهم في التوراة وقال الكلبي: لم يحرمه الله في التوراة وانما حرم عليهم بعد نزول التوراة لظلمهم كما قال تعالى: {فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات احلّت لهم} وقال تعالى: {وعلى الذين هادوا حرمنا} إلى أن قال ذلك جزيناهم ببغيهم {وإنا لصادقون} فكانت بنو إسرائيل إذا أصابوا ذنباً عظيماً حرم الله عليهم طعاماً طيباً أو صب عليهم رجزاً وهو الموت.
وقال الضحاك: لم يكن شيء من ذلك حراماً عليهم ولا حرمه الله في التوراة، وإنما حرموه على أنفسهم اتباعاً لأبيهم ثم أضافوا تحريمه لله عز وجل فكذبهم الله تعالى فقال الله تعالى: {قل فأتوا بالتوراة} يعني قل لهم يا محمد فأتوا بالتوراة {فاتلوها} أي فاقرؤوها وما فيها حتى يتبين أن الأمر كما قلتم {إن كنتم صادقين} يعني فيما ادعيتم فلم يأتوا بها وخافوا الفضيحة.