فصل: تفسير الآيات (175- 178):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: لباب التأويل في معاني التنزيل المشهور بـ «تفسير الخازن» (نسخة منقحة).



.تفسير الآيات (175- 178):

{إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (175) وَلَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا يُرِيدُ اللَّهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآَخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (176) إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (177) وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (178)}
قوله عز وجل: {وإنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه} يعني إنما ذلكم المخوف والمثبط هو الشيطان يخوف بالوسوسة بأن ألقى ذلك في أفواههم ليرهبوا المؤمنين ويخوفوهم ويجبنوهم قوله أولياءه يعني الشيطان يخوفكم يا معشر المؤمنين بأوليائه. وقيل معناه أولياءه في صدوركم لتخافوهم وقيل معناه يخوف أولياءه المنافقين ليقعدوا عن قتال المشركين وأولياء الشيطان هم الكفار والمنافقون الذين يطيعونه ويؤثرون أمره وأولياء الله هم المؤمنون الذين لا يخافون الشيطان إذا خوفهم ولا يطيعونه إذا أمرهم {فلا تخافوهم} يعني فلا تخافوا أولياء الشيطان ولا تقعدوا عن قتلهم ولا تجبنوا عنهم {وخافون} أي فجاهدوا في سبيلي مع رسولي فإني وليكم وناصركم {إن كنتم مؤمنين} أي مصدقين بوعدي إني متكفل لكم بالنصر والظفر. قوله تعالى: {ولا يحزنك الذين يسارعون في الكفر} قيل هم كفار قريش وقيل هم المنافقون ورؤساء اليهود وقيل هم كفار قريش وقيل هم المنافقون ورؤساء اليهود وقيل هم قوم ارتدوا عن الإسلام والمعنى ولا يحزنك يا محمد من يسارع في الكفر ويجمع الجموع لمحاربتك فإن هذا المقصود لا يحصل له وقيل مسارعتهم في الكفر ومظاهرتهم الكفار على النبي صلى الله عليه وسلم والمعنى يسارعون في نصرة الكفر فلا يحزنك فعلهم فإنك منصور عليهم {إنهم لن يضروا الله شيئاً} يعني بمسارعتهم في الكفر إنما يضرون أنفسهم بذلك وقيل معناه لن يضروا أولياء الله شيئاً {يريد الله ألا يجعل لهم حظاً في الآخرة} يعني لا يجعل لهم نصيباً في ثواب الآخرة فلذلك خذلهم حتى سارعوا في الكفر. وفي الآية دليل على أن الخير والشرّ بإرادة الله تعالى وفيه رد على القدرية والمعتزلة {ولهم عذاب عظيم} يعني في الآخرة {إن الذين اشتروا الكفر بالإيمان} يعني المنافقين آمنوا ثم كفروا والمعنى أنهم استبدلوا الكفر بالإيمان فكأنهم أعطوا الإيمان وأخذوا الكفر كما يفعل المشتري من إعطاء شيء وأخذ غيره بدلاً عنه {لن يضروا الله شيئاً} يعني باستبدالهم الكفر وإنما ضروا أنفسهم بذلك {ولهم عذاب أليم} يعني في الآخرة.
قوله عز وجل: {ولا يحسبن الذين كفروا} قرئ تحسبن بالتاء والياء فمن قرأ بالتاء فمعناه ولا تحسبن يا محمد إملاءنا للكفار خير لأنفسهم ومن قرأ بالياء قال: معناه ولا يحسبن الكفار إملاءنا لهم خيراً نزلت في مشركي مكة وقيل نزلت في يهود بني قريظة والنضير {أنما نملي لهم} الإملاء الإمهال والتأخير وأصله من الملوءة وهي المدة من الزمان والمعنى ولا يظنن الذين كفروا إن أمهالنا إياهم بطول العمر والإنساء في الأجل {خير لأنفسهم} ثم قال تعالى: {أنما نملي لهم} ليزدادوا إثماً يعني إنما نمهلهم ونؤخر في آجالهم ليزدادا إثماً {ولهم عذاب مهين} يعني في الآخرة روى البغوي بسنده عن عبد الرحمن بن أبي بكر عن أبيه قال سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم أيّ الناس خير؟ قال: من طال عمره وحسن عمله قيل فأيّ الناس شرّ؟ قال: من طال عمره وساء عمله وروى ابن جرير الطبري بسنده عن الأسود قال: قال عبد الله: ما من نفس برة ولا فاجرة إلاّ والموت خير لها.
وقرأ: {ولا يحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم خير لأنفسهم إنما نملي لهم ليزدادوا إثماً} وقرأ: {نزلاً من عند الله وما عند الله خير للأبرار} وقال ابن الأنباري قال جماعة من أهل العلم أنزل الله عز وجل هذه الآية في قوم يعاندون الحق سبق في علمه أنهم لا يؤمنون فقال إنما نملي لهم ليزدادوا إثماً بمعاندتهم الحق وخلافهم الرسول وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رأيت الله يعطي على المعاصي فإن ذلك استدراج من الله لخلقه ثم تلا هذه الآية وقال الزجاج هؤلاء قوم أعلم الله نبيه صلى الله عليه وسلم أنهم لا يؤمنون أبداً وأن نفاقهم يزيدهم كفراً وإثماً وهذه الآية حجة ظاهرة على القدرية حيث أخبر الله تعالى أنه يطيل أعمار قوم ويمهلهم ليزدادوا كفراً وإثماً وغياً.

.تفسير الآية رقم (179):

{مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ فَآَمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ (179)}
قوله تعالى: {ما كان الله لينذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب} اختلف العلماء في سبب نزول هذه الآية فقال الكلبي قالت قريش يا محمد تزعم أن من خالفك فهو في النار والله عليه غضبان وإن من أطاعك وتبعك على دينك فهو في الجنة والله عنه راض فأخبرنا بمن يؤمن بك ومن لا يؤمن بك فأنزل الله تعالى هذه الآية وقال السدي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «عرضت على أمتي في صورها في الطين كما عرضت على آدم وأعلمت من يؤمن بي ومن يكفر بي» فبلغ ذلك المنافقين فقالوا استهزاء زغم محمداً أنه يعلم من يؤمن به ومن يكفر ممن لم يخلق بعد ونحن معه وما يعرفنا فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقام على المنبر فحمد الله تعالى وأثنى عليه ثم قال: «ما بال أقوام طعنوا في علمي لا تسألوني عن شيء فيما بينكم وبين الساعة إلاّ نبأتكم به» فقام عبد الله بن حذافة السهمي فقال من أبي يا رسول الله فقال حذافة فقام عمر فقال يا رسول الله رضينا بالله رباً وبالإسلام ديناً وبالقرآن إماماً وبك نبيّاً فاعفُ عنا عفا الله عنك فقال النبي صلى الله عليه وسلم «فهل أنتم منتهون فهل أنتم منتهون» ثم نزل عن المنبر فأنزل الله هذه الآية. وقيل إن المؤمنين سألوا أن يعطوا آية يفرقون بها بين المؤمن والكافر فنزلت هذه الآية وقيل إن قوماً من المنافقين ادعوا أن إيمانهم كإيمان المؤمنين فأظهر الله نفاقهم يوم أحد وأنزل هذه الآية واختلفوا في معنى الآية وحكمها فقال ابن عباس وأكثر المفسرين الخطاب للكفار والمنافقين والمعنى ما كان ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه يا معشر الكفار والمنافقين من الكفر والنفاق حتى يميز الخبيث من الطيب وقيل الخطاب للمؤمنين والمعنى ما كان الله ليذركم يا معشر المؤمنين على ما أنتم عليه من اختلاط المؤمن بالمنافق والتباس بعضهم ببعض حتى يميز الخبيث من الطيب يعني المنافق من المؤمن الخالص فيميز الله المؤمنين من المنافقين يوم أحد فأظهر المنافقون النفاق وتخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقيل: إنما حصل التميز يوم أحد بإلقاء الجميع في الخوف والقتل والهزيمة فمن كان مؤمناً ثبت على إيمانه وتصديقه ولم يتزلزل ومن كان منافقاً ظهر نفاقه وكفره وقيل في معنى الآية حتى يميز المؤمن من الكافر بالجهاد والهجرة. وقيل في معنى الآية ما كان الله ليذر المؤمنين في أصلاب الرجال المشركين وأرحام النساء المشركات. والمعنى ما كان الله ليدع أولادكم الذين جرى لهم الحكم بالإيمان على ما أنتم عليه من الشرك حتى يميز الخبيث من الطيب يعني يفرق بينكم وبين من في أصلابكم وأرحام نسائكم من المؤمنين فيحكم لأهل الإيمان بالجنة ولأهل الشرك والكفر والنفاق بالنار {وما كان الله ليطلعكم على الغيب} الخطاب في قوله ليطلعكم لكفار قريش الذين قالوا يا محمد أخبرنا عمن يؤمن بك ومن لا يؤمن والمعنى وما كان الله ليبين لكم أيها الكفار المؤمن من الكافر فيقول فلان مؤمن وفلان كافر أو منافق لأنه لا يعلم الغيب أحد غيره وإن سنة الله جارية أنه لا يطلع على غيبة أحاد الناس فلا سبيل إلى معرفة المؤمن من الكافر والمنافق إلاّ بالامتحان بالآفات والمصائب فيتميز المؤمن المخلص بثباته على إيمانه ويتزلزل المنافق عن المحن والبلايا.
وقيل في معنى الآية وما كان الله ليطلع محمداً على الغيب فيخبركم بالمؤمن من الكافر {ولكن الله يجتبي من رسله من يشاء} يعني ولكن الله يصطفى ويختار من رسله من يشاء فيطلعه على ما يشاء من غيبه {فآمنوا بالله ورسله} يعني أنه لما قالت الدلائل على صحة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم فلم يبق إلاّ الإيمان بالله ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم وإنما قال ورسله على الجمع ولم يقل ورسوله على التوحيد لقوله ولكن الله يجتبي من رسله من يشاء ولأنه إذا أقر بجميع الرسل كان مقراً بأحدهم وهذه صفة المؤمنين لأنهم آمنوا بجميع الرسل {وإن تؤمنوا وتتقوا} يعني وأن تصدقوا أجتبيته برسالتي واطلعته على ما أشاء من غيبي وأعلمته بالمنافق منكم والمؤمن المخلص وتتقوا ربكم فيما أمركم به ونهاكم عنه {فلكم أجر عظيم} يعني فلكم بأيمانكم واتقائكم ثواب جزيل وهو الجنة.

.تفسير الآية رقم (180):

{وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (180)}
قوله عز وجل: {ولا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خيراً لهم} يعني ولا يحسبن الذين يبخلون البخل خيراً لهم {بل هو} يعني البخل {شر لهم} والبخل هو إمساك المقتنيات عما لا يستحق حبسها عنه والبخيل هو الذي يكثر منه البخل والآية دالة على ذم البخل عن عبد الله بن عمر قال: خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «إياكم والشح فإنما هلك من كان قبلكم بالشح» أمرهم بالبخل فبخلوا وأمرهم بالفجور أخرجه أبو داود عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «خصلتان لا يجتمعان في مؤمن: البخل وسوء الخلق» أخرجه الترمذي وقال حديث حسن غريب واختلف العلماء فيمن نزلت هذه الآية فقال عبد الله بن مسعود وأبو هريرة وابن عباس في رواية أبي صالح عنه والشعبي ومجاهد نزلت هذه الآية في الذين يبخلون أن يؤدوا زكاة أموالهم ووجه هذا القول أن أكثر العلماء ذهبوا إلى أن البخل عبارة عن منع الواجب وأن من منع التطوع لا يكون بخيلاً ويدل عليه الوعيد الشديد في سياق الآية. وهو قوله تعالى سيطوقون ما بخلوا به وهذا لا يكون إلاّ في ترك الواجب لا في التطوع وقال ابن عباس في رواية عطية عنه وابن جريج عن مجاهد أنها نزلت في أحبار اليهود الذين كتموا صفة محمد صلى الله عليه وسلم ونبوته وهذا القول هو اختيار الزجاج ووجه هذا القول أن البخل عبارة عن منع الخير والنفع ويدخل فيه العلم كما يقال بخل فلان بعلمه وصحح الطبري القول الأول واختياره وقوله: {سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة} أي سيلزمون وبال ما بخلوا به إلزام الطوق فإن حملنا معنى الآية على منع الزكاة والبخل بها فقد قال ابن مسعود وابن عباس يجعل ما منعه من الزكاة حية تطوق في عنقه يوم القيامة تنهشه من فرقه إلى قدمه ويدل على صحة هذا التأويل ما روي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من آتاه الله مالاً فلم يود زكاته مثل له يوم القيام شجاع أقوع له زبيبتان يطوقه يوم القيامة ثم أخذ بلهزمتيه يعني شدقيه ثم يقول: أنا مالك أنا كنزك ثم تلا ولا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم» أخرجه البخاري قوله زبيبتان قيل هما النكتتان السودان فوق عيني الحية وقيل هما نقطتان يكتنفان فاها وقيل هما زبيبتان في شدقيها وقد جاء في الحديث تفسير لهزمتيه بأنهما شدقاه وقيل إنهما مضغتان في أصل الحنك وقيل هما منحنى اللحيين أسفل من الأذنين وكله متقارب.
(ق) عن أبي ذر قال: انتهيت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو جالس في ظل الكعبة فلما رآني قال: «هم الأخسرون ورب الكعبة قال: فجئت حتى جلست فلم أتقار أن قمت فقلت يا رسول الله فداك أبي وأمي من هم؟ قال هم الأكثرون أموالاً إلاّ من قال هكذا وهكذا وهكذا من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله وقيل ما هم ما من صاحب إبل ولا بقر ولا غنم لا يؤدي زكاتها إلاّ جاءت يوم القيامة أعظم ما كانت وأسمنه تنطحه بقرونها وتطؤه بأظلافها كلما نفذت أخراها عادت عليه أولادها حتى يقضي بين الناس» لفظ مسلم وفرقه البخاري، بمعناه في موضعين. وقيل في معنى الآية أنه يجعل في أعناقهم أطواق من النار وقيل يكلفون يوم القيامة أن يأتوا بما بخلوا به من أموالهم في الدنيا وإن حملنا تفسير البخل بالعلم وكتمانه فقد قال ابن عباس في قوله سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة أي يحملون وزره وإثمه فيكون على طريق التمثيل كما يقال قلدتك هذا الأمر وجعلته في عنقك وقيل يجعل في رقابهم طوق من نار ويدل عليه ما روي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «من سئل علماً يعلمه فكتمه ألجم بلجام من نار» أخرجه الترمذي وفي رواية أبي داود «من سئل عن علم فكتمه ألجمه الله بلجام من نار يوم القيامة» قيل في معنى الحديث إنهم لما سألوا عن العلم فكتموه ولم ينطقوا به بألسنتهم ولم يخرجوه من أفواههم عوضوا عن ذلك بلجام من نار في أفواههم عقوبة لهم والله أعلم.
قوله تعالى: {ولله ميراث السموات والأرض} يعني أنه سبحانه وتعالى الباقي الدائم بعد فناء خلقه وزوال أملاكهم فيموتون وتبقى أملاكهم فيرثها سبحانه والمقصود من الآية أنه يبطل ملك جميع المالكين ويبقى الملك لله تعالى وقيل في معنى الآية وله ما فيهما مما يتوارثه أهلهما من مال وغير ذلك ذلك فما لهؤلاء البخلاء يبخلون عليه بملكه ولا ينفقونه في سبيله {والله بما تعملون خبير} قرئ يعملون الياء على الغيبة على طريقة الالتفات وهي أبلغ في الوعيد والمعنى والله بما يعملون يعني البخلاء من منعهم الحقوق خبير فيجازيهم عليهم وقرئ بالتاء على خطاب الحاضرين.

.تفسير الآيات (181- 182):

{لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (181) ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (182)}
قوله عز وجل: {لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء} قال الحسن وقتادة لما نزلت هذه الآية من ذا الذي يقرض الله قرضاً حسناً قالت اليهود إن الله فقير يستقرض منا ونحن أغنياء وذكر الحسن أن القائل هذه المقالة هو حيي بن أخطب وقال عكرمة والسدي ومقاتل ومحمد بن إسحاق كتب النبي صلى الله عليه وسلم مع أبي بكر الصديق إلى يهود بني قينقاع يدعوهم إلى الإسلام وإلى إقام الصلاة وإيتاء الزكاة وأن يقرضوا الله قرضاً حسناً فدخل أبو بكر ذات يوم بيت مدارسهم فوجد ناساً كثيراً قد اجتمعوا على فنحاص بن عازوراء وكان من علمائهم ومعه حبر آخر يقال له أسبيع فقال أبو بكر لفنحاص: اتق الله وأسلم فوالله إنك لتعلم أن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم قد جاءكم بالحق من عند الله تجدونه مكتوباً عندكم في التوراة فآمن وصدق وأقرض الله قرضاً حسناً يدخلك الجنة ويضاعف لك الثواب. فقال فنحاص: يا أبا بكر تزعم أن ربنا يستقرض أموالنا وما يستقرض إلاّ الفقير من الغنى فإن كان ما تقول حقاً فإن الله إذاً فقير ونحن أغنياء فغضب أبو بكر وضرب وجه فنحاص ضربة شديدة وقال والذي نفسي بيده لولا العهد الذي بيننا وبينكم لضربت عنقك يا عدو الله فذهب فنحاص إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: يا محمد انظر ما صنع بي صاحبك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر ما حملك على ما صنعت فقال يا رسول الله إن هذا عدو الله قال قولاً عظيماً زعم أن الله فقير وأنهم أغنياء فغضبت لله وضربت وجهه فجحد ذلك فنحاص فأنزل الله تصديقاً لأبي بكر وتكذيباً لفنحاص ورداً عليهم: {لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء} وهذه المقالة وإن كانت قد صدرت من واحد من اليهود لكنهم يرضون بمقالته هذه فنسبت إلى جميعهم ولا يخلوا أن يكونوا قالوا هذه المقالة عن اعتقاد لذلك القول أو قالوها استهزاء وأيهما كان فهذه المقالة عظيمة القبح لا تصدر عن عاقل وإنما صدرت عن كافر متمرد في كفره وضلاله {سنكتب ما قالوا} يعني قولهم إن الله فقير ونحن أغنياء لأن ذلك كذب وافتراء والمعنى سنحفظ عليهم ما قالوا وقيل: سنثبت ذلك القول في صحائف أعمالهم التي تكتبها الحفظة عليهم حتى يوافوا بها يوم القيامة فهو وعيد وتهديد لهم {وقتلهم الأنبياء بغير حق} قيل معناه سنكتب ما قال هؤلاء اليهود ونكتب ما فعله أسلافهم فنجازي كلا الفريقين بما هو أهله وإنما نسب قتل الأنبياء إلى اليهود الذين كانوا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وإنما فعله أسلافهم وأوائلهم لأنهم رضوا بفعلهم فنسب إليهم.
وقيل في معنى الآية سنكتب على هؤلاء ما قالوا بأنفسهم ونكتب عليهم أيضاً رضاهم بقتل آبائهم الأنبياء والفائدة في ضم قتلهم الأنبياء إلى ما وصفوا الله تعالى بالفقر الإعلام بذلك أنهما أخوان في العظم وإن هذا القول منهم ليس بأول ما ارتكبوه من العظائم وأنهم أصلاء في الكفر والجهل والضلال ولهم في ذلك سوابق، وأن من قتل الأنبياء لا يبعد منه الإجتراء على مثل هذا القول العظيم الفحش والقبح {ونقول} يعني لهؤلاء الذين قالوا هذه المقالة {ذوقوا عذاب الحريق} أي ننتقم منهم بأن نقول لهم يوم القيامة ذوقوا عذاب الحريق كما أذقتم المسلمين الغصص في الدنيا {ذلك} أي ذلك العذاب المحرق جزاء فعلكم حيث وصفتم الله بالفقر وأقدمتم على قتل الأنبياء {بما قدمت أيديكم} إنما ذكر الأيدي على سبيل المجاز لأن الفاعل هو الإنسان لا اليد إلاّ أن اليد لما كانت آلة الفعل حسن إسناد الفعل إليها ولأن أكثر الأعمال يكون باليد فجعل كل عمل كالواقع بالأيدي على سبيل التغليب {وأن الله ليس بظلام للعبيد} فيعذب بغير ذنب بل هو سبحانه وتعالى عادل ومن العدل أن يعاقب المسيء ويثبت المحسن.