فصل: تفسير الآيات (69- 70):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: لباب التأويل في معاني التنزيل المشهور بـ «تفسير الخازن» (نسخة منقحة).



.تفسير الآيات (69- 70):

{وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا (69) ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا (70)}
قوله عز وجل: {ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم} الآية نزلت في ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم كان شديد الحب لرسول الله صلى الله عليه وسلم قليل الصبر عنه فأتاه ذات يوم وقد تغير لونه يعرف الحزن في وجهه، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما غير لونك» فقال يا رسول الله ما بي مرض ولا وجع غير أني إذا لم أراك استوحشت وحشة شديدة حتى ألقاك. ثم إني إذا ذكرت الآخرة أخاف أن لا أراك لأنك ترفع إلى عليين مع النبيين وإني أخاف إن دخلت الجنة كنت في منزلة هي أدنى من منزلتك وأن لم أدخل الجنة لا أراك أبداً فنزلت هذه الآية وقيل إن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال: كيف يكون الحال وأنت يا رسول الله في الدرجات العلى ونحن أسفل منك فكيف نراك؟ فأنزل الله تعالى هذه الآية: {ومن يطع الله} يعني في أداء الفرائض واجتناب النواهي {والرسول} أي ويطع الرسول في السنن التي سنها فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم بالهداية والتوفيق في الدنيا وبدخول الجنة في الآخرة {من النبيين} يعني أن المطيعين مع النبيين في الجنة لا تفوتهم رؤية الأنبياء في الجنة ومجالستهم لأنهم يكونون في درجتهم في الجنة لأن ذلك يقتضي التسوية في الدرجة بين الفاضل والمفضول {والصديقين} الصدّيق الكثير الصدق فعيل من الصدق بكل الدين والصديقون هم أتباع الرسل الذين اتبعوهم على مناهجهم بعدهم حتى لحقوا بهم وقيل الصديق هو الذي صدق بكل الدين حتى لا يخالطه فيه شك والمراد بالصديقين في هذه الآية أفاضل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كأبي بكر فإنه هو الذي سمي بالصديق من هذه الأمة وهو أفضل أتباع الرسل {والشهداء} هم الذين استشهدوا في سبيل الله وقيل هم الذين استشهدوا يوم أّحد {والصالحين} جمع صالح وهو الذي استوت سريرته وعلانيته في الخير. وقيل الصالح من اعتقاده صواب وعمله في سنة وطاعة وقيل المراد بالنبيين هنا محمد صلى الله عليه وسلم وبالصديقين أبو بكر وبالشهداء عمر وعثمان وعلي وبالصالحين سائر الصحابة {وحسن أولئك} يعني المشار إليهم وهم النبيون والصديقون والشهداء والصالحون وفيه معنى التعجب كأنه قال وما أحسن أولئك {رفيقاً} يعني في الجنة والرفيق الصاحب سمي رفيقاً لارتفاقك به وبصحبته وإنما وحد الرفيق وهو صفة الجمع لأن العرب تعبر به عن الواحد والجمع وقيل معناه وحسن كل واحد من أولئك رفيقاً.
(ق) عن أنس ان رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الساعة: فقال متى الساعة قال: «ما أعددت لها قال لا شيء إلا أني أحب الله ورسوله فقال أنت مع من أحببت» قال أنس فما فرحنا بشيء أشد فرحاً بقول النبي صلى الله عليه وسلم أنت مع من أحببت قال أنس: فأنا أحب النبي وأبا بكر وعمر وأرجو أن أكون معهم بحبي إياهم وإن لم أعمل بأعمالهم. وقوله تعالى: {ذلك} إشارة إلى ما تقدم ذكره من وصف الثواب {الفضل من الله} يعني الذي أعطى الله المطيعين من الأجر العظيم {وكفى بالله عليماً} يعني بجزاء من أطاعه وقيل معناه وكفى بالله عليماً بعباده فهو يوفقهم لطاعته وفيه دليل على أنهم لم ينالوا تلك الدرجة بطاعتهم بل إنما نالوها بفضل الله تعالى ورحمته ويدل عليه ما روي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لن يدخل أحداً منكم عمله الجنة قالوا ولا أنت يا رسول الله قال ولا أنا إلا أن يتغمدني الله منه بفضل ورحمة» لفظ البخاري ولمسلم نحوه.

.تفسير الآيات (71- 74):

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعًا (71) وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيدًا (72) وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا (73) فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآَخِرَةِ وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (74)}
قوله عز وجل: {يا أيها الذين آمنوا خذوا حذركم} الحذر احتراز من مخوف والمعنى احذرو واحترزوا من عدوكم. ولا تمكنوه من أنفسكم وقيل المراد بالحذر هنا السلاح يعني خذوا سلاحكم وعدتكم لقتال عدوكم وإنما سمي السلاح حذراً لأن به يتقى ويحذر. وقيل معناه احذروا عدوكم ولقائل أن يقول إذا كان المقدور كائناً فما يمنع الحذر فالجواب عنه بأنه لما كان الكل بقضاء الله وقدره كان الأمر بأخذ الحذر من قضاء الله وقدره {فانفروا ثبات} أي اخرجوا سرايا متفرقين سرية بعد سرية {أو انفروا جميعاً} يعني أو اخرجوا جميعاً كلكم مع نبيكم صلى الله عليه وسلم إلى جهاد عدوكم {وإن منكم لمن ليبطئن} نزلت في المنافقين. وإنما قال منكم لاجتماعهم مع أهل الإيمان في الجنسية والنسب وإظهار كلمة الإسلام لا في حقيقة الإيمان والمعنى وإن منكم لمن ليتأخرن وليتثاقلن عن الجهاد وهو عبد الله بن أبي ابن سلول المنافق وكان رأس المنافقين {فإن أصابتكم مصيبة} أي قتل وهزيمة {قال} يعني هذا المنافق {قد أنعم الله علي} يعني بالقعود {إذا لم أكن معهم} يعني مع المؤمنين {شهيداً} يعني حاضر الوقعة فيصيبني ما أصابهم {ولئن أصابكم فضل من الله} أي فتح وغنيمة {ليقولن} يعني هذا المنافق {كأن لم تكن بينكم وبينه مودة} أي معرفة ومودة في الدين والمعنى كأنه ليس من أهل دينكم وذلك أن المنافقين كانوا يوادّون المؤمنين في الظاهر {يا ليتني كنت معهم} في تلك الغزوة التي غنم فيها المؤمنون {فأفوز فوزاً عظيماً} أي فآخذ نصيباً وافراً من الغنيمة.
قوله عز وجل: {فليقاتل في سبيل الله} هذا خطاب للمنافق أي فليخلص الإيمان وليقاتل في سبيل الله وقيل هو خطاب للمؤمنين المخلصين أي فليقاتل المؤمنون في سبيل الله {الذين يشرون الحياة الدنيا بالآخرة} أي يبيعون يقال شريت بمعنى لأنه استبدال عوض بعوض. والمعنى فليقاتل المؤمنون الكافرين الذين يبيعون حياتهم الدنيا بثواب الآخرة وما وعد الله فيها لأهل الإيمان والطاعة وقيل معناه فليقاتل في سبيل الله المؤمنون الذين يبيعون الحياة الدنيا ويختارون الآخرة وثوابها على الدنيا الفانية {ومن يقاتل في سبيل الله فيقتل} أي فيستشهد {أو يغلب} يعني يظفر بعدوه من الكفار {فسوف نؤتيه} يعني في كلا الحالتين الشهادة أو الظفر نؤتيه فيهما {أجراً عظيماً} يعني ثواباً وافراً.
(ق) عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تضمن الله لمن خرج في سبيله لا يخرجه إلا جهاد في سبيلي وإيمان بي وتصديق برسلي فهو علي ضامن أن أدخله الجنة أو أرجعه إلى مسكنه الذي خرج منه نائلاً ما نال من أجرٍ أو غنيمةٍ» لفظ مسلم.

.تفسير الآيات (75- 76):

{وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا (75) الَّذِينَ آَمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا (76)}
قوله عز وجل: {وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله} قال المفسرون: هذا حض من الله على الجهاد في سبيله لاستنقاذ المؤمنين المستضعفين من أيدي الكفار وفيه دليل على أن الجهاد واجب والمعنى لا عذر لكم في ترك الجهاد وقد بلغ حال المستضعفين ما بلغ من الضعف والأذى {والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان} قال ابن عباس يريد ان قوماً من المؤمنين استضعفوا فحبسوا وعذبوا وقيل كان هؤلاء بمكة يلقون من المشركين أذى شديداً. وكان أهل مكة قد اجتهدوا أن يفتنوا قوماً من المؤمنين عن دينهم بالأذى لهم وكانوا مستضعفين في أيديهم ولم يكن لهم بمكة قوة يمتنعون بها من المشركين فعلى هذا يكون معنى الآية: وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله وفي خلاص المستضعفين. وقال ابن عباس معناه وعن المستضعفين لأن المراد صرف الأذى عنهم.
(خ) عن ابن عباس في قوله: {وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين} الآية. قال كنت أنا وأمي من المستضعفين وفي رواية ابن أبي مليكة قال تلا ابن عباس {إلاّ المستضعفين من الرجال والنساء والولدان} قال كنت أنا وأمي ممن عذر الله أنا من الولدان وأمي من النساء فعلى هذه الرواية الثانية من حديث ابن عباس يكون معنى والمستضعفين إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان فإنهم ممن عذر الله في ترك القتال والولدان جمع وليد وهو الصبي الصغير {الذين يقولون ربنا أخرجنا من هذه القرية} يعني مكة {الظالم أهلها} يعني الظالم أهلها أنفسهم بالشرك لقوله تعالى: {إن الشرك لظلم عظيم} وذلك أن المستضعفين لما منعهم المشركون من الهجرة من مكة إلى المدينة دعوا الله عز وجل فقالوا ربنا أخرجنا من هذه القرية يعني مكة الظالم أهلها بالشرك {واجعل لنا من لدنك ولياً} يعني ولياً يلي أمرنا {واجعل لنا من لدنك نصيراً} يبصرنا ويمنعنا من العدو فاستجاب الله دعاءهم وجعل لهم من لدنه خير ولي وخير ناصر وهو محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم فتولى أمرهم ونصرهم واستنقذهم من أيدي المشركين يوم فتح مكة واستعمل عليهم عتاب بن أسيد وكان ابن ثمان عشرة سنة فكان ينصر المظلمومين على الظالمين ويأخذ للضعيف من القوي.
قوله عز وجل: {الذين آمنوا يقاتلون في سبيل الله} يعني في طاعة الله وإعلاء كلمته وابتغاء مرضاته {والذين كفروا يقاتلون في سبيل الطاغوت} يعني في طاعة الشيطان {فقاتلوا أولياء الشيطان} أي فقاتلوا أيها المؤمنون حزب الشيطان وجنوده وهم الكفار {إن كيد الشيطان كان ضعيفاً} الكيد السعي في الفساد على جهة الاحتيال ويعني بكيده ما كاد المؤمنين به من تخويفه أولياءه الكفار يوم بدر وكونه ضعيفاً لأنه خذل أولياءه الكفار لما رأى الملائكة قد نزلت يوم بدر وكان النصر لأولياء الله وحزبه على أولياء الشيطان وإدخال كان في قوله ضعيفاً لتأكيد ضعف كيد الشيطان.

.تفسير الآيات (77- 78):

{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآَخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا (77) أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا (78)}
قوله عز وجل: {ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة} قال الكلبي نزلت في عبد الرحمن بن عوف الزهري والمقداد بن الأسود الكندي وقدامة بن مظعون الجمحي وسعد بن أبي وقاص وجماعة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كانوا يلقون من المشركين أذى كثيراً بمكة قبل أن يهاجروا فكانوا يقولون يا رسول الله ائذن لنا في قتالهم فإنهم قد آذونا فيقول لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كفوا أيديكم فإني لم أومر بقتالهم وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة» يعني قيل لهم كفوا أيديكم عن قتالهم وأدوا ما افترض عليكم من الصلاة والزكاة وفيه دليل على أن فرض الصلاة والزكاة كان قبل فرض الجهاد {فلما كتب عليهم القتال} أي فرض عليهم جهاد المشركين وأمروا بالخروج إلى بدر {إذا فريق منهم} يعني إذا جماعة من الذين سألوا أن يفرض عليهم الجهاد {يخشون الناس} يعني يخافون مشركي مكة {كخشية الله أو أشد خشية} أو بمعنى الواو يعني أشد خشية {وقالوا ربنا لم كتبت علينا القتال} يعني لمَ فرضت علينا الجهاد {لولا أخرتنا إلى أجل قريب} يعني هلاّ تركتنا ولم تفرض علينا القتال حتى نموت بآجالنا والقائلون لهذا القول هم المنافقون لأن هذا القول لا يليق بالمؤمنين وقيل قاله بعض المؤمنين وإنما قالوا ذلك خوفاً وجنباً لا اعتقاداً ثم إنهم تابوا من هذا القول {قل} أي قل لهم يا محمد {متاع الدنيا قليل} يعني أن منفعتها والاستمتاع بالدنيا قليل لأنه فان زائل {والآخرة} يعني وثواب الآخرة {خير لمن اتقى} يعني اتقى الشرك ومعصية الرسول صلى الله عليه وسلم {ولا تظلمون فتيلاً} أي ولا تنقصون من أجوركم قدر فتيل.
(م) عن المستورد بن شداد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما الدنيا في الآخرة إلا مثل ما يجعل أحدكم أصبعه هذه وأشار يعني بالسبابة في اليم فلينظر بم ترجع».
قوله عز وجل: {أينما تكونوا يدرككم الموت} نزلت في المنافقين الذين قالوا في قتلى أحد لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا فرد الله عليهم بقوله تعالى: {أينما تكونوا يدرككم الموت} يعني ينزل بكم الموت فبيّن تعالى أنه لا خلاص لهم من الموت وإذا كان لابد لهم من الموت كان القتل في القتال في سبيل الله وجهاد أعدائه أفضل من الموت على الفراش لأن الجهاد موت تحصل به سعادة الآخرة ثم بيّن تعالى أنه لابد لهم من الموت وأنه لا ينجي منه شيء بقوله: {ولو كنتم في بروج مشيدة} البروج في كلام العرب الحصون والقلاع والمشيدة المرفوعة المطولة وقيل هي المطلية بالشيد وهو الجص {إن تصبهم حسنة يقولوا هذه من عند الله} نزلت في المنافقين واليهود وذلك أن المدينة كانت ذات خير وأرزاق ونعم عند مقدم النبي صلى الله عليه وسلم فلما ظهر نفاق المنافقين وعناد اليهود أمسك الله عنهم بعض الإمساك فقال المنافقون واليهود ما زلنا نعرف النقص في ثمارنا ومزارعنا منذ قدم علينا هذا الرجل وأصحابه.
فقال الله تعالى وإن تصبهم يعني المنافقين واليهود حسنة أي خصب في الثمار ورخص في السعر يقولوا هذه من عند الله يعني من قبل الله {وإن تصبهم سيئة} أي جدب في الثمار وغلاء في السعر {يقولوا هذه من عندك} يعني من شؤم محمد وأصحابه وقيل المراد بالحسنة الظفر والغنيمة يوم بدر وبالسيئة القتل والهزيمة يوم أّحد ومعنى من عندك أنت الذي حملتنا عليه يا محمد فعلى هذا القول يكون هذا إخباراً عن المنافقين خاصة {قل} أي قل لهم يا محمد {كلّ من عند الله} يعني الحسنة والسيئة والخصب والجدب والغنيمة والهزيمة والظفر والقتل فأما الحسنة فإنعام من الله وأما السيئة فابتلاء منه {فمال هؤلاء القوم} أي فما شأن هؤلاء القوم المنافقين واليهود الذين قالوا ما قالوا {لا يكادون يفقهون حديثاً} يعني لا يفقهون معاني القرآن وأن الأشياء كلها من الله عز وجل خيرها وشرها.

.تفسير الآية رقم (79):

{مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا (79)}
قوله عز وجل: {ما أصابك من حسنة} يعني من خير ونعمة {فمن الله} يعني من فضل الله عليك يتفضل به إحساناً منه إليك {وما أصابك من سيئة} يعني من شدة ومكروه ومشقة وأذى {فمن نفسك} يعني فمن قبل نفسك وبذنب اكتسبته نفسك استوجبت ذلك به وفي المخاطب بهذا الكلام قولان: أحدهما أنه عام وتقديره ما أصابك أيها الإنسان والثاني أنه خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد به من غيره من الأمة والنبي صلى الله عليه وسلم بريء لأن الله عز وجل قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر وقد عصمه من حين البعثة فهو معصوم فيما يستقبل حتى يموت ويدل على أن المراد بهذا الخطاب غيره قوله عز وجل: {يا أيها النبي إذا طلقتم النساء} خاطبه وحده ثم جمع الكل بقوله إذا طلقتم النساء فمعنى قوله فمن نفسك أي عقوبة لذنبك يا ابن آدم كذا قاله قتادة. وقال الكلبي: ما أصابك من خير فالله هداك له وأعانك فيه وما أصابك من أمر تكرهه فبذنبك عقوبة لذلك الذنب وقد تعلق بظاهر هذه الآية القدرية وقالوا نفى الله السيئة عن نفسه ونسبها إلى الإنسان بقوله وما أصابك من سيئة فمن نفسك ولا متعلق لهم بأن لأنه ليس المراد من الآية حسنة الكسب من الطاعات ولا السيئة المكتسبة من فعل المعاصي بل المراد من الحسنة والسيئة في هذه الآية ما يصيب الإنسان من النعم والمحن وذلك ليس من فعل العبد لأنه لا يقال في الطاعة والمعصية أصابني وإنما يقال أصبتها. ويقال في النعم والمحن أصابني بدليل أنه لم يذكر عليه ثوباً ولا عقاباً فهو كقوله تعالى: {فإذا جاءتهم الحسنة قالوا لنا هذه وإن تصبهم سيئة يطيروا بموسى ومن معه} ولما ذكر الله حسنات الكسب وسيئاته وعد عليها بالثواب والعقاب فقال تعالى: {من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها} فبطل بهذا قول القدرية وقال بعضهم لو كانت الآية على ما يقول أهل القدر لقال ما أصبت من حسنة وما أصبت من سيئة ولم يقل ما أصابك لأن العادة جرت بقول الإنسان أصابني خير أو مكروه وأصبت حسنة أو سيئة وقيل في معنى الآية ما أصابك من حسنة أي النصر والظفر يوم بدر فمن الله أي من فضل الله، وما أصابك من سيئة أي من قتل وهزيمة يوم أُحد فمن نفسك يعني فبذنوب أصحابك وهو مخالفتهم إياك. فإن قلت كيف وجه الجمع بين قوله تعالى قل كل من عند الله وبين قوله وما أصابك من سيئة فمن نفسك فأضاف السيئة إلى فعل العبد في هذه الاية.
قلت أما إضافة الأشياء كلها إلى الله تعالى في قوله: {قل كل من عند الله} فعلى الحقيقة لأن الله تعالى وهو خالقها وموجدها وأما أضافة السيئة إلى فعل العبد فعلى المجاز تقديره وما أصابك من سيئة فمن الله بذنب نفسك عقوبة لك وقيل السيئة إلى فعل العبد على سبيل الأدب فهو كقوله تعالى: {وإذا مرضت فهو يشفين} فأضاف المرض إلى نفسه على طريق الأدب ولا يشك عاقل أن المرض هو الله تعالى وقيل هذه متصلة بما قبلها وفيه إضمار وتقديم وتأخير تقديره فمال هؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثاً ويقولون ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك قل كل من عند الله وقال ابن الأنباري في معنى الاية ما أصابك الله به من حسنة وما أصابك به من سيئة فالفعلان راجعان إلى الله تعالى. قوله تعالى: {وأرسلناك للناس رسولاً} يعني وأرسلناك يا محمد إلى كافة الناس رسولاً لتبلغهم رسالتي وما أرسلتك به ولست رسولاً إلى العرب خاصة كما قال بعض اليهود بل أنا رسول إلى الخلق كافة العرب وغيرهم {وكفى بالله شهيداً} يعني على إرسالك للناس كافة فما ينبغي لأحد أن يخرج عن طاعتك واتباعك، وقيل معناه وكفى بالله شهيداً على تبليغك ما أرسلت به إلى الناس وقيل معناه وكفى بالله شهيداً على أن الحسنة والسيئة من الله.