فصل: الجزء الثالث

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: لطائف الإشارات ***


الجزء الثالث

سورة الشعراء

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 2‏]‏

‏{‏طسم ‏(‏1‏)‏ تِلْكَ آَيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ ‏(‏2‏)‏‏}‏

ذَكَرْنَا فيما مضى اختلافَ السَّلَفِ في الحروف المُقَطَّعَة؛ فعند قوم‏:‏ الطاءُ إشارة إلى طهارة عِزِّه وتَقَدُّسِ عُلُوِّه، والسين إشارةٌ ودلالةٌ على سناء جبروته، والميم دلالةٌ على مَجْدِ جلاله في آزله‏.‏

ويقال الطاء إِشارة إلى شجرة طوبى، والسين إلى سِدْرَةِ المُنتهى، والميم إلى اسم محمد صلى الله عليه وسلم؛ أي ارتقى محمدٌ ليلةَ الإسراء عن شهوده شجرةَ طوبى حتى بَلَغَ سدرةَ المنتهى، فلم يُسَاكِنْ شيئاً من المخلوقات في الدنيا والعُقْبى‏.‏

ويقال الطاء طَرَبُ أربابِ الوصلة على بساط القرب بوجدان كما الروح، والسين سرورُ العارِفين بما كوشفوا به من بقاء الأحدية باستقلالهم بوجوده والميم إشارة إلى موافقتهم لله بِتَرْكِ التخيُّر على الله، وحُسْنِ الرضا باختيار الحق لهم‏.‏

ويقال الطاء إشارةٌ إلى طيبِ قلوب الفقراء عند فقد الأسباب لكمال العَيْشِ بمعرفة وجود الرزَّاق بَدَلَ طيب قلوب العوام بوجود الأرْفاق والأرزاق‏.‏

ويقال الطاء إشارةٌ إلى طهارة أسرار أهل التوحيد، والسين إشارة إلى سلامة قلوبهم عن مساكنة كلِّ مخلوق، والميم إشارة إلى مِنَّةِ الحقِّ عليهم بذلك‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏3‏]‏

‏{‏لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ ‏(‏3‏)‏‏}‏

أي لِحِرْصِكَ على إيمانهم ولإشفاقِكَ من امتناعهم عن الإيمان فأنت قريبٌ مِنْ أنْ تقتلَ نَفْسَكَ من الأسفِ على تَرْكِهم الإيمان‏.‏

فلا عليكَ- يا محمد- فإنه لا تبديلَ لِحُكْمِنَا؛ فَمَنْ حَكَمْنَا له بالشقاوة لا يُؤْمِن‏.‏

ليس عليك إلاَّ البلاغ؛ فإن آمنوا فبها، وإلاَّ فكُلُّهُمْ سَيَرَوْنَ يومَ الدِّين ما يستحقون‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏4‏]‏

‏{‏إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آَيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ ‏(‏4‏)‏‏}‏

أخبر عن قدرته على تحصيل مرادِه من عباده، فهو قادرٌ على أن يُؤْمِنوا كَرْهاً؛ لأن التقاصُرَ عن تحصيل على تحصيل المراد يوجِبُ النقصَ والقصورَ في الألوهية‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏5‏]‏

‏{‏وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ إِلَّا كَانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ ‏(‏5‏)‏‏}‏

أي ما نُجَدِّد لهم شَرْعاُ، وما نرسل لهم رسولاً *** إلا أعرضوا عن تأمل برهانه، وقابلوه بالتكذيب‏.‏ فلو أنهم أنعموا النظرَ في آياتِ الرسل لا تضح لهم صِدْقُهم، ولكن المقسوم لهم من الخذلان في سابق الحكم يمنعهم من الإيمان والتصديق‏.‏ فقد كَذَّبوا، وعلى تكذيبهم أصَرُّوا، فسوف تأتيهم عاقبةُ أعمالِهم بالعقوبة الشديدة، فيذوقون وبالَ شِرْكهم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏7- 9‏]‏

‏{‏أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ ‏(‏7‏)‏ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ ‏(‏8‏)‏ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ‏(‏9‏)‏‏}‏

فنونُ ما ينبت في الأرض وقتَ الربيعِ لا يأتي عليه الحَصْرُ، ثم اختصاصُ كلِّ شيءٍ منها بلون وطعمٍ ورائحة مخصوصة، وكلِّ شكلٌ وهيئةٌ ونَوْرٌ مخصوص، وورق مخصوص *** إلى ما تَلْطُفُ عنه العبارة، وتَدِق فيه الإشارة‏.‏ وفي ذلك آياتٌ لِمَن استبصر، ونَظَرَ وفكَّرَ‏.‏

‏{‏وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ‏}‏‏:‏ القاهرُ الذي لا يُقْهَر، القادر الذي لا يُقْدَر، المنيعُ الذي لا يُجْبَر‏.‏ ‏{‏الرَّحيِمُ‏}‏‏:‏ المحسنُ لعباده، المريدُ لسعادة أوليائه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏10- 11‏]‏

‏{‏وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ‏(‏10‏)‏ قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلَا يَتَّقُونَ ‏(‏11‏)‏‏}‏

أخبر أنه لما أمره بالذهاب إلى فرعون لدعوته إلى الله عَلِمَ أن شديد الخصومة، قد غَرَّتْه نَفْسُه فهو لا يبالي بما فعل‏.‏ وأخَذَ ‏(‏موسى‏)‏ يتعلَّلُ- لا على جهة الإباء والمخالفة- ولكن على وجه الاستعفاء والإقالة إلى أن عَلِمَ أنَّ الأمرَ به جَزْمٌ، والحُكْمَ به عليه حَتْمٌ‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏12- 15‏]‏

‏{‏قَالَ رَبِّ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ ‏(‏12‏)‏ وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلَا يَنْطَلِقُ لِسَانِي فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ ‏(‏13‏)‏ وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ ‏(‏14‏)‏ قَالَ كَلَّا فَاذْهَبَا بِآَيَاتِنَا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ ‏(‏15‏)‏‏}‏

سأل موسى- عليه السلام- أن يَشْفَعَه بهارون ويُشْرِكَه في الرسالة‏.‏ وأخبر أنه قَتَلَ نَفْساً، وأنه في حُكْمِ فرعون عليه دَمٌ، فقال‏:‏ ‏{‏فَأَخَافُ أَن يَقْتُلُونِ‏}‏ إلى أنْ قال له الحقُّ‏:‏

‏{‏قَالَ كَلاَّ فاذهبا بِآيَاتِنَآ إِنَّا مَعَكُمْ مُّسْتَمِعُونَ‏}‏

‏{‏كَلاَّ‏}‏ حرفُ رَدْعٍ وتنبيه؛ أي كلا أن يكون ذلك كما توهمتَ، فارْتَدِعْ عن تجويز ذلك، وانتَبِهْ لغيره‏.‏ إني معكما بالنصرة والقوة والكفاية والرحمة، واليدُ ستكون لكما، والسلطانُ سيكون لكما دونَ غيركما، فأنا أسمع ما تقولون وما يقال لكم، وأُبْصِرُ ما يُبْصِرُونَ وما تُبْصِرُون أنتم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏16‏]‏

‏{‏فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولَا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ ‏(‏16‏)‏‏}‏

ويقال في القصة‏:‏ إن موسى وهارون كانا يترددان على باب فرعون سنةً كاملةً ولم يجدا طريقاً إليه‏.‏ ثم بعد سَنَةٍ عَرَضَا الرسالة عليه، فقابلهما بالتكذيب، وكان من القصة ما كان‏.‏‏.‏ وقال فرعون لمَّا رأى موسى‏:‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏18- 19‏]‏

‏{‏قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ ‏(‏18‏)‏ وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ ‏(‏19‏)‏‏}‏

فلم يكن لموسى- عليه السلام- جوابٌ إلا الإقرارَ والاعتراف

تفسير الآيات رقم ‏[‏20- 21‏]‏

‏{‏قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ ‏(‏20‏)‏ فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ ‏(‏21‏)‏‏}‏

قال‏:‏ كل ذلك قد كان، وفررت منكم لمّا خفتكم، فأكرمني الله بالنبوة، وبعثني رسولاً إليكم‏.‏‏.‏

ويقال‏:‏ لم يجحد حقَّ تربيته، والإحسانَ إليه في الظاهر، ولكن بَيَّنَ أنه إذا أمر اللَّهُ بشيءٍ وَجَبَ اتباعُ أمره‏.‏ ولكن إذا كانت تربية المخلوقين توجِبُ حَقّاً فتربيةُ اللَّهِ أوْلَى بأن يُعَظِّمَ العبدُ قَدْرَها‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏فَفَرَرْتُ مِنكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ‏}‏‏:‏ يجوز حَمْلُه على ظاهره، وأنه خاف منهم على نَفْسِه‏.‏ والفرارُ- عند عَدَمِ الطاقة- غيرُ مذمومٍ عند كلِّ أحد‏.‏

ويقال‏:‏ فررت منكم لمَّا خِفْتُ أن تنزل بكم عقوبةٌ من الله لِشُؤْمِ شِرْكِكِم، أو من قول فرعون‏:‏ ‏{‏مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِى‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 38‏]‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏22‏]‏

‏{‏وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ ‏(‏22‏)‏‏}‏

ذَكَرَ فرعونُ- من جملة ما عدَّ على موسى من وجوه الإحسان إليه- أنه استحياه بين بني إسرائيل، ودفع عنه القتلَ، فقال موسى‏:‏ أو تلك نعمة تمنها عليَّ‏؟‏ هل استعبادُك لبني إسرائيل يَعَدُّ نعمةً‏؟‏ إنَّ ذلك ليس بنعمة، ولا لَكَ فيها مِنَّة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏23‏]‏

‏{‏قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ ‏(‏23‏)‏‏}‏

نَظَرَ اللعينُ بجَهْلِه، وسألَ على النحو الذي يليق بِغَيِّه؛ فسأل بلفظ ‏{‏ما‏}‏- و«ما» يُسْتَخْبَرُ بها عمَّا لا يعقل، فقال‏:‏ ‏{‏وَمَا رَبُّ الْعَالَِمِينَ‏}‏‏.‏

ولكنَّ موسى أعرض عن لفظه ومقتضاه، وأخبر عمَّا يصحُّ في وصفه تعالى فقال‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏24‏]‏

‏{‏قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ ‏(‏24‏)‏‏}‏

فَذَكَرَ صفتَه- سبحانه وتعالى- بأنَّه إلهٌ ما في السموات والأرض، فأخذ في التعجب‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏25- 26‏]‏

‏{‏قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلَا تَسْتَمِعُونَ ‏(‏25‏)‏ قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آَبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ ‏(‏26‏)‏‏}‏

قال موسى‏:‏ ‏{‏رَبُّكُمْ وَرَبُّ ءَابَآئِكُمُ الأَوَّلِينَ‏}‏ فحاد فرعونُ عن سنن الاستقامة في الخطاب، وأخذ في السفاهة قائلاً‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏27‏]‏

‏{‏قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ ‏(‏27‏)‏‏}‏

لأنه يزعم أنَّ هناك إلهاً غيره‏.‏ ولم يكن في شيءٍ مما يجري من موسى- عليه السلام- أو مما يتعلَّق به وصفُ جنونٍ‏.‏ ولم يُشْغَلْ بمجاوبته في السفاهة فقال‏:‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏28- 29‏]‏

‏{‏قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ ‏(‏28‏)‏ قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ ‏(‏29‏)‏‏}‏

أي إن كنتم من جملة مَنْ له عقلٌ وتمييزٌ‏.‏ فقال فرعون‏:‏

‏{‏قَالَ لَئِنِ اتخذت إلها غَيْرِي لأَجْعَلَنَّكَ مِنَ المسجونين‏}‏

مضى فرعونُ يقول‏:‏ لأفعلنَّ، ولأصنعنَّ *** إن اتخذتَ إلهاً غيري وجرى ما جرى ذِكْرُه وشَرْحُه في غير موضع‏.‏

ثم إنه أظهر معجزته بإلقاء العصا، وقَلَبَها- سبحانه- ثعباناُ كاد يلتقم دار فرعون بمن فيها، ووثَبَ فرعونُ هارباً، واختفى تحت سريره، وهو ينتفض من الخوف، وتَلَطَّخَتْ بِزَّتُه وافتضح في دعواه، واتضحت حالته، فاستغاث بموسى واستجاره، وأخذ موسى الثعبان فردَّه الله عصاً‏.‏

ولمَّا فَارقَه موسى- عليه السلام- تداركته الشقاوة، وأدركه شؤمُ الكفر، واستولى عليه الحرمانُ، فَجَمَع قومَه وكلَّمهم في أمره، وأجمعوا كلُّهم على أنه سحَرَهم‏.‏ وبعد ظهور تلك الآية عاد إلى غيِّه *** كما قيل‏:‏

إذا ارْعَوَى عَادَ إلى جَهْلِه *** كَذِي الضَّنَى عاد إلى نُكْسِه

ثم إنه جَمَعَ السَّحَرَة، واستعان بهم، فَلمَّا اجتمعوا قالوا‏:‏ ‏{‏إِنَّ لَنَا لأَجْراً‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 113‏]‏‏.‏ فنطقوا بخساسة هِمَّتِهم، فَضَمَنَ لهم أجْرَهم‏.‏ وإنَّ مَنْ يعمل لغيره بأُجْرَةٍ ليس كَمَنْ يكون عملُه لله‏.‏ ومَنْ لا يكون له ناصِرٌ إلاَّ بضمانِ الجَعَالَة وبَذْل الرِّشَا فَعَنْ قريبٍ سيُخْذَل‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏42‏]‏

‏{‏قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذًا لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ ‏(‏42‏)‏‏}‏

قال فرعون‏:‏ ‏{‏وَإِنَّكُمْ إِذاً لَّمِنَ الْمُقَرَّبِينَ‏}‏، ومَنْ طَلَبَ القربةَ عند مخلوقٍ فإنَّ ما يصل إليه من الذُّلِّ يزيد على ما أمَّله من العِزِّ في ذلك التَقَرُّب‏.‏ والمُقَرَّبون من الله أوَّلُ من يدخل عليه يومَ اللقاء، فهم أولُ مَنْ لهم وصولٌ‏.‏ والمُقَرُّبون من الله لهم على الله دَخْلَة، والناسُ بوصف الغفلة والخَلْقُ في أسْرِ الحجبة‏.‏

ثم لمَّا اجتمع الناسُ، وجاء السَّحَرةُ بما مَوَّهُوا، التقَمَتْ عصا موسى جميعَ ما أتوا به، وعادت عصاً، وتلاشت أعيانُ حِبَالهم التي جاءوا بها، وكانت أوقاراً، وألْقِيَ السحرةُ سُجَّداً، ولم يحتفلوا بتهديد فرعون إياهم بالقَتْل والصَّلْب والقَطْع، فأصبحوا وهم يُقْسِمُون بعِزَّة فرعون، ولم يُمْسُوا حتى كانوا يقولون‏:‏ ‏{‏لَن نُّؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَآءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 72‏]‏‏.‏

ثم لمَّا ساعَدَهم التوفيقُ، وآمنوا بالله كان أهمَّ أمورهم الاستغفارُ لِمَا سَلَفَ من ذنوبهم، وهذه هي غاية هِمَّةِ الأولياء، أن يستجيروا بالله، وأن يستعيذوا من عقوبة الله، فأعْرَفُهُم بالله أخْوَفُهُم مِنَ الله‏.‏

ولمَّا أَمَرَ اللَّهُ موسى بإخراج بني إسرائيل، وتَبِعَهم فرعونُ بجَمْعِه، وقال أصحابُ موسى‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏61- 62‏]‏

‏{‏فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ ‏(‏61‏)‏ قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ ‏(‏62‏)‏‏}‏

فكان كما قال، إذ هداهم اللَّهُ وأنجاهم، وأغْرَقَ فرعونَ وقومَه وأقصاهم، وقد قال سبحانه‏:‏ ‏{‏وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 36‏]‏ يُنَجِّيهم من كلِّ بلاء، ويَخُصُّهم بكل نعمة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏69- 74‏]‏

‏{‏وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ ‏(‏69‏)‏ إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ ‏(‏70‏)‏ قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ ‏(‏71‏)‏ قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ ‏(‏72‏)‏ أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ ‏(‏73‏)‏ قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آَبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ ‏(‏74‏)‏‏}‏

عاتب إبراهيمُ أباه وقومَه، وطالَبَهُم بالحجة على ما عابَهم به وقال لِمَ تعبدون ما لا يَسْمَعُ ولا يُبْصِرُ؛ ولا ينفع ولا يَضُرُّ، ولا يُحِسُّ ولا يَشْعُر‏؟‏ فلم يرجعوا في الجواب إلا إلى تقليدهم أسلافَهم، وقالوا‏:‏

على هذه الجملة وَجَدْنا أسلافَنَا‏.‏ فنطق إبراهيمُ- عليه السلام- بعد إقامة الحجة عليهم والإخبار عن قبيح صنيعهم بمَدْح مولاه والإغراق في وصفه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏75- 77‏]‏

‏{‏قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ ‏(‏75‏)‏ أَنْتُمْ وَآَبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ ‏(‏76‏)‏ فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ ‏(‏77‏)‏‏}‏

ذَكَرَهم بأقلِّ عبارة فلم يقل‏:‏ فإنهم أعداءٌ لي، بل وَصَفَهم بالمصدر الذي يصلح أن يوصَفَ به الواحد والجماعة فقال‏:‏ ‏{‏فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِّى‏}‏‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏إِلاَّ رَبَّ الْعَالَمِينَ‏}‏، وهذا استثناء منقطع، وكأنه يضرب بلطفٍ عن ذِكْرِهم صفحاً حتى يتوصَّلَ إلى ذكر الله، ثم أخذ في شرح وصفه كأنه لا يكاد يسكت، إذ مضى يقول‏:‏ والذي *** والذي *** والذي‏.‏‏.‏، ومن أمارات المحبة كَثْرَةُ ذِكْرِ محبوبك، ولإعراضُ عن ذكرِ غيره، فتَنَزُّهُ المحبين بتقلُّبِهم في رياض ذِكْرِ محبوبهم، والزهَّادُ يعددون أورادهم، وأَربابُ الحوائج يعددون مآربَهم، فيطنبون في دعائهم، والمحبون يُسْهِبونَ في الثناء على محبوبهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏78‏]‏

‏{‏الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ ‏(‏78‏)‏‏}‏

كان مهتداياً، ولكنه يقصد بالهداية التي ذَكَرها فيما يستقبله من الوقت، أي‏:‏ يهديني إليه به، فإنِّي مَحْقٌ في وجوده وليس لي خَبَرٌ غنِّي‏!‏

والقوم حين يكونون مستغرقين في نفوسهم لا يهتدون من نفوسهم إلى معبودهم، فيهديهم عنهم إلى ربهم، ويصيرون في نهايتهم مستهلكين في وجوده، فانين عن أوصافهم، وتصير معارِفُهم- التي كانت لهم- واهيةً ضعيفةً، فيهديهم إليه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏79‏]‏

‏{‏وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ ‏(‏79‏)‏‏}‏

لم يُشِرْ إلى طعامٍ معهودٍ أو شرابٍ مألوفٍ ولكن أشار إلى استقلاله به من حيث المعرفة بدل استقلال غيره بطعامهم، وإلى شراب محبته الذي يقوم بل استقلال غيره بشرابهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏80‏]‏

‏{‏وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ ‏(‏80‏)‏‏}‏

لم يَقُلْ‏:‏ وإذا أمرضني لأنه حفظ أدبَ الخطاب‏.‏

ويقال لم يكن ذلك مرضاً معلوماً، ولكنه أراد تمارضاً، كما يتمارض الأحبابُ طمعاً في العيادة، قال بعضهم‏:‏

إن كان يمنعكَ الوشاةُ زيارتي *** فادخُلْ عليَّ بِعَلَّةِ العُوَّادِ

ويقول آخر‏:‏

يَوَدُّ بأن يمشِي سقيماً لَعَلَّها *** إذا سَمِعَتْ منه بشَكْوى تُرَاسِلُه

ويقال ذلك الشفاءُ الذي أشار إليه الخليلُ هو أن يَبْعَثَ إليه جبريلَ ويقول له‏:‏ يقول لَكَ مولاك *** كيف كنتَ البارحة‏؟‏

تفسير الآية رقم ‏[‏81‏]‏

‏{‏وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ ‏(‏81‏)‏‏}‏

أضاف الموتَ إلى الله؛ فالموتُ فوق المرض، لأن الموتَ لهم غنيمةٌ ونعمةٌ؛ إذ يَصِلُون إليه بأرواحهم‏.‏

ويقال‏:‏ ‏{‏يُمِيتُنِى‏}‏ بإعراضه عني وقت تعزُّزِه، ‏{‏ويحييني‏}‏ بإقباله عليَّ حين تَفَضُّلِه‏.‏ ويقال يميتني عني ويحييني به‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏82‏]‏

‏{‏وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ ‏(‏82‏)‏‏}‏

خطيئةُ الأحبابِ شهودُهم محنتَهم، وتعنِّيهم عند شدة البلاء عليهم، وشكواهم مما يمُّسهم من برحاء الاشتياق، قال بعضهم‏:‏

وإذا محاسني- اللاتي أُدِلُّ بها- *** كانت ذنوبي‏.‏‏.‏ فَقُلْ لي‏:‏ كيف أعتذر‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏83‏]‏

‏{‏رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ ‏(‏83‏)‏‏}‏

‏{‏هَبْ لِى حُكْماً‏}‏‏:‏ على نفسي، فإنَّ مَنْ لا حُكْمَ له على نفسه لا حَكْمَ له على غيره‏.‏

‏{‏وَأَلْحِقْنِى بِالصَّالِحِينَ‏}‏‏:‏ فأقومَ بِحقِّكَ دونَ الرجوع إلى طلب الاستقلال بشيءٍ‏.‏ دون حقك‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏84‏]‏

‏{‏وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآَخِرِينَ ‏(‏84‏)‏‏}‏

في التفاسير‏:‏ ‏{‏لِسَانَ صِدْقٍ‏}‏‏:‏ أي ثناء حسناً على لسان أمة محمد صلى الله عليه وسلم‏.‏

ويقال لا أذكرك إلا بك، ولا أعرفك إلا بك‏.‏

ويقال أن أذكرك ببيان آلائك، وأذكرك بعد قبض روحي إلى الأبد بذكرٍ مُسرمَدٍ‏.‏

ويقال أذكرني على لسان المخبرين عنك‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏86‏]‏

‏{‏وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ ‏(‏86‏)‏‏}‏

على لسان العلماء‏:‏ قالَه بعد يأسه من إيمان أبيه، وأمَّا على لسان الإشارة فقد ذَكَرَه في وقت غَلَبَاتِ البَسْطِ ويُتَجَاوَزُ ذلك عنهم‏.‏

وليست إجابةُ العبد واجباً على الله في كل شيء، فإذا لم يُجَبْ فإنَّ للعبد سلوةً في ذكر أمثال هذا الخطاب، وهذا لا يهتدي إليه كلُّ أحدٍ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏87‏]‏

‏{‏وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ ‏(‏87‏)‏‏}‏

أي لا تُخْجِلْني بتذكيري خلَّتي، فإنّ شهودَ ما مِن العبد- عند أرباب القلوب وأصحاب الخصوص- أشَدُّ عقوبة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏88- 89‏]‏

‏{‏يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ ‏(‏88‏)‏ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ‏(‏89‏)‏‏}‏

قيل‏:‏ «القلب السليم» اللديغ‏.‏

وقيل هو الذي سَلِمَ من الضلالة ثم من البِدعة ثم من الغفلة ثم من الغيبة ثم من الحجبة ثم من المُضاجعة ثم من المساكنة ثم من الملاحظة‏.‏ هذه كلها آفاتٌ، والأكابرُ سَلِمُوا منها، والأصاغرُ امتُحِنُوا بها‏.‏

ويقال‏:‏ «القلب السليم» الذي سَلِمَ من إرادة نَفْسِه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏90- 91‏]‏

‏{‏وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ ‏(‏90‏)‏ وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ ‏(‏91‏)‏‏}‏

‏{‏أزلفت‏}‏‏:‏ أي قُرِّبَتْ وأُدْنِيَتْ في الوقت، فإنَّ ما هو آتٍ قريبٌ، وبالعين أُحْضِرَتْ‏.‏ وكما تُجَرُّ النارُ إلى المحشر بالسلاسل فلا يَبْعُد إدناءُ الجنة من المتقين‏.‏

‏{‏وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ‏}‏ أُظْهِرَتْ؛ فتؤكَّدُ الحُجَّةُ على أرباب الجحود، ويُعْرَضُونَ على النار، وتُعْرَضُ عليهم منازلُ الأشرار، فَيُكَبْكَبُونَ فيها أجميعن، ويأخذون يُقِرُّونَ بذنوبهم، ومن جملتها ما أخبر أنهم يقولون‏:‏-

تفسير الآيات رقم ‏[‏97- 98‏]‏

‏{‏تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ‏(‏97‏)‏ إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ ‏(‏98‏)‏‏}‏

ولا فضيحةَ أقبحُ ولا عيبَ فيهم أشنعُ مما يعترفون به على أنفسهم بقولهم‏:‏ ‏{‏إِذْ نُسَوِّيكُم بِرَبِّ الْعَالَمِينَ‏}‏ فإنَّ أقبحَ أبوابِ الشِّرْكِ وأشنعَ أنواعِ الكُفْرِ وأقبحَ أحوالِهم- التشبيهُ في صفة المعبود‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏100- 101‏]‏

‏{‏فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ ‏(‏100‏)‏ وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ ‏(‏101‏)‏‏}‏

في بعض الأخبار‏:‏ يجيء- يومَ القيامة- عَبْدٌ يُحتَسَبُ فتستوي حسناتُه وسيئاته ويحتاج إلى حسنة واحدة يَرْضَى عنها خصومُ، فيقول الله- سبحانه‏:‏ عبدي *** بقيت لك حسنةٌ واحدة، إن كانت أدْخَلْتُكَ الجنةَ‏.‏‏.‏ أُنظُرْ‏.‏‏.‏ وتَطَلَّبْ من الناس لعلَّ واحداً يهب لَكَ حسنةً واحدةً‏.‏ فيأتي العبدُ في الصفين، ويطلب من أبيه ثم من أمه ثم من أصحابه، ويقول لكلِّ واحدٍ في بابه فلا يجيبه أحدٌ، فالكلُّ يقول له‏:‏ انا اليومَ فقيرٌ إلى حسنةٍ واحدةٍ، فيرجع إلى مكانه، فيسأله الحقُّ- سبحانه‏:‏ ماذا جئتَ به‏؟‏

فيقول‏:‏ يا ربِّ *** لم يُعْطِني أحدٌ حسنةً من حسناته‏.‏

فيقول الله- سبحانه‏:‏ عبدي‏.‏‏.‏ ألم يكن لك صديق ‏(‏فيَّ‏)‏‏.‏

فيتذكر العبدُ ويقول‏:‏ فلان كان صديقاً لي‏.‏

فيدله الحقُّ عليه، فيأتيه ويكلِّمه في بابه، فيقول‏:‏ بلى، لي عباداتٌ كثيرة قَبِلَها اليومَ فقد وهبتُك منها، فيسير هذا العبدُ ويجيء إلى موضعه، ويخبر ربَّه بذلك، فيقول الله- سبحانه‏:‏ قد قَبِلْتُها منه، ولن أنقص من حقِّه شيئاً، وقد غفرت لكَ وله، وهذا معنى قوله‏.‏

‏{‏فَمَا لَنَا مِن شَافِعِينَ وَلاَ صَدِيقٍ حَمِيمٍ‏}‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏105‏]‏

‏{‏كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ ‏(‏105‏)‏‏}‏

ذكر قصة نوحٍ وما لَقِيَ من قومه، وأنهم قالوا‏:‏

‏{‏قَالُواْ أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الأَرْذَلُونَ‏}‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏111‏]‏

‏{‏قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ ‏(‏111‏)‏‏}‏

إنَّ أتباعَ كلِّ رسولٍ إنما هم الأضعفون، لكنهم- في حكم الله- هم المتقدِّمون الأكرمون‏.‏ قال عليه السلام‏:‏ «نُصِرْت بضعفائكم»‏.‏

وإنَّ اللَّهَ أغرق قومه لمَّا أصَرُّوا واستكبروا‏.‏

وكذلك فَعَلَ بمن ذَكَرَتْهم الآياتُ في هذه السورة من عادٍ وثمودٍ وقوم لوطٍ وأصحاب مدين‏.‏‏.‏ كلٌّ منهم قابلوا رُسُلَهم بالتكذيب، فَدَمّر اللَّهُ عليهم أجمعين، ونَصَرَ رسولَه على مقتضى سُنَّتِه الحميدة فيهم‏.‏ وقد ذَكَرَ الله قصةَ كل واحدٍ منهم ثم أعقبها قوله‏:‏-

‏{‏وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزَيِزُ الرَّحِيمُ‏}‏‏.‏

‏{‏الْعِزيزُ‏}‏‏:‏ القادر على استئصالهم، ‏{‏الرَّحِيمُ‏}‏ الذي أخَّرَ العقوبة عنهم بإمهالهم، ولم يقطع الرزقَ مع قُبْحِ فِعالِهم‏.‏

وهو ‏{‏عزيز‏}‏ لم يُسْتَضَرّ بقبيح أعمالهم، ولو كانوا أجمعوا على طاعته لمَّا تَجَمَّلَ بأفعالهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏127‏]‏

‏{‏وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ ‏(‏127‏)‏‏}‏

أخبر عن كل واحدٍ من الأنبياء أنه قال‏:‏ ‏{‏لا أسألكم عليه أجر‏}‏ ليَعْلَمَ الكافةُ أنّ من عَمِلَ لله فلا ينبغي ان يَطْلُبَ الأجْرَ من غير الله‏.‏ وفي هذا تنبيهٌ للعلماء- الذين هم وَرَثَةُ الأنبياء- أن يتأدَّبوا بأنبيائهم، وألاّ يطلبوا من الناس شيئاً في بَثِّ علومهم، ولا يرتفقون منهم بتعليمهم، والتذكير لهم أنه مَنْ ارتفق في بثَّ ما يُذَكِّرُ به من الدِّين وما يَعِظُ به المسلمين فلا يبارِكُ اللَّهُ للناس فيما منه يَسْمَعون، ولا للعلماء أيضاً بركةٌ فيما من الناس يَأخُذُون، إنهم يبيعون دينَهم بَعَرضٍ يسيرٍ ثم بَرَكَة لهم فيها إذلا يبتغون به الله، وسيَحْصُلُون على سُخْطِ الله‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏192- 195‏]‏

‏{‏وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ ‏(‏192‏)‏ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ ‏(‏193‏)‏ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ ‏(‏194‏)‏ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ ‏(‏195‏)‏‏}‏

كلامُ اللَّهِ العزيز مُنَزّلٌ على قلب الرسول- صلى الله عليه وسلم- في الحقيقة بسفارة جبريل عليه السلام‏.‏ والكلامُ من الله غيرُ منفصل، وبغير الله غير متصل‏.‏‏.‏ وهو- على الحقيقة لا على المجاز- مُنَزّلٌ‏.‏ ومعناه أن جبريل- عليه السلام- كان على السماء‏.‏ فَسمِعَ من الربِّ، وحَفِظَ ونَزَلَ، وبَلَّغَ الرسولَ‏.‏ فَمَرََّةً كان يُدْخِلُ عليه حالةً تأخذه عنه عند نزول الوحي عليه‏.‏ ثم يُورِدُ جبريلُ ذلك على قلبه‏.‏ ومرةً كان يتمثل له المَلَكُ فيُسْمِعهُ‏.‏ والرسولُ- صلى الله عليه وسلم- يحفظه يُؤدِّبه‏.‏ والله- سبحانه ضَمِنَ له أنه سيُقْرِؤُه حتى لا ينساه‏.‏ فكان يجمع اللَّهُ الحِفْظَ في قلبه‏.‏ ويُسَهِّلُ له القراءةَ عند لفظه‏.‏ ولمَّا عَجَزَ الناسُ بأجمعهم عن معارضته مع تحدِّيه إياهم بالإتيان بمثله‏.‏‏.‏ عُلِمَ صِدْقُه في أنَّه مِنْ قِبَلِ الله‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏196‏]‏

‏{‏وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ ‏(‏196‏)‏‏}‏

جميعُ ما في هذا الاكتاب من الأخبار والقصص، وما في صفةِ الله من استحقاق جلاله- موافِقٌ لمِا في الكتب المُنَزَّلة من قِبَلِ الله قَبْلَه، فمهما عارضوه فإنه كما قال جلَّ شأنه‏:‏ ‏{‏لا يَأَْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 42‏]‏‏.‏

ثم أخبر أنه لو نَزَّل هذا الكتابَ بغير لسانهم وبلغةٍ غير لغتهم لم يهتدوا إلى ذلك، ولَقَالوا‏:‏ لو كان بلساننا لعرفناه ولآمَنَّا به، فازاح عنهم العِلَّةَ، وأكّد عليهم الحُجَّة‏.‏

ثم أخبر عن صادق عِلْمِه بهم، وسابِق حَكْمِه بالشقاوة عليهم، وهو أنهم لا يؤمنون به حتى يَرَوْا العذابَ في القيامة، حين لا ينفعهم الإيمانُ ولا الندامةُ‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏205- 207‏]‏

‏{‏أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ ‏(‏205‏)‏ ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ ‏(‏206‏)‏ مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ ‏(‏207‏)‏‏}‏

إن أرخينا المُدَّةَ، وأمهلناهم أزمنةً كثيرة- وهم بوصف الغفلة- فما الذي كان ينفعهم إذا أخَذَهُم العذابُ بغتةّ‏؟‏‏!‏

ثم أخبر أنه لم يُهْلِكَ أهلَ قريةٍ إلاّ بعد أن جاءهم النذيرُ وأظهر لهم البيناتِ، فإذا أصَرُّوا على كُفْرِهم عَذّبهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏212‏]‏

‏{‏إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ ‏(‏212‏)‏‏}‏

وَجَدُوا السمع- الذي هو الإدراك- ولكن عَدِمُوا الفَهْمَ، فلم يستجيبوا لِمَا دُعُوا إليه‏.‏ فعند ذلك استوجبوا من الله سوء العاقبة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏214‏]‏

‏{‏وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ ‏(‏214‏)‏‏}‏

وذلك تعريفٌ له أنهم لا تنفعهم قَرَابَتُهُم منه، ولا تُقْبَلُ شفاعتُه- إنْ لم يؤمِنوا- فيهم‏.‏ فليس هذا الأمر من حيث النّسب، فهذا نوحٌ لمَّا كَفَرَ ابنُه لم تنفْعه بُنُوَّتُه، وهذا الخليلُ إبراهيم عليه السلام لما كَفَرَ أبوه لم تنفع أُبُوَّتُه، وهذا محمدٌ- عليه الصلاة والسلام- كثيرٌ من أقاربه كانوا أشدَّ الناسِ عليه في العداوةِ فلم تنفعهم قرابتُهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏215‏]‏

‏{‏وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ‏(‏215‏)‏‏}‏

أَلِنْ جَانِبَكَ وقارِبْهم في الصحبة، واسحبْ ذيلَ التجاوز على ما يبدر منهم من التقصير، واحتمِلْ منهم سوءَ الأحوال، وعاشِرْهم بجميلِ الأخلاق، وتحمَّلْ عنهم كَلَّهم، وارْحَمْهُم كُلّهم، فإِنْ مرضوا فعُدْهم، وإِنْ حرموك فأَعْطِهم، وإِنْ ظلموك فتجاوَزْ عنهم، وإِنْ قصّرُوا في حقي فاعفُ عنهم، واشفْع لهم، واستغفِرْ لهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏216‏]‏

‏{‏فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ ‏(‏216‏)‏‏}‏

لا تفعلْ مثلَ فِعْلِهم، وكِل حسابَهم إلينا إلا فيما أمرناك بأن تقيم فيه عليهم حَدًّا، فعند ذلك لا تأخذْكَ رأفةٌ تمنعكَ من إقامة حدِّنا عليهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏217‏]‏

‏{‏وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ ‏(‏217‏)‏‏}‏

انْقَطِعْ إلينا، واعتصِمْ بِنا، وتوسَّل إلينا بِنا، وكن على الدوام بنا، فإذا قُلْتَ فَقُلْ بنا، وإذا صُلْتَ فَصُلْ بنا، واشهد بقلبك- وهو في قبضتنا- تتحققْ بأنك بنا ولنا‏.‏

توّكلْ على ‏{‏الْعَزِيزُ‏}‏ تَجِدْ العِزّةَ بتوكلك عليه في الدارين، فإِنّ العزيز مَنْ وثق بالعزيز‏.‏

‏{‏الرَّحِيمُ‏}‏ الذي يقرِّبُ مَنْ تَقَرَّبَ إليه، ويُجْزِلُ البِرَّ لِمَنْ تَوسَّل به إليه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏218‏]‏

‏{‏الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ ‏(‏218‏)‏‏}‏

اقتطعه بهذه الآية عن شهود الخَلْق، فإِنّ مَنْ عَلِمَ أنه بمشهدٍ من الحقِّ رَاعَى دقائقَ أحواله، وخفايا اموره مع الحقِّ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏219‏]‏

‏{‏وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ ‏(‏219‏)‏‏}‏

هَوَّنَ عليه معاناةَ مشاقِّ العبادة بإخباره برؤيته‏.‏ ولا مشقّةَ لِمَنْ يَعْلَمُ أَنّه بمرأىً من مولاه، وإنّ حَمْلَ الجبالِ الرواسي على شَفْرِ جَفْنِ العينِ لَيَهونُ عند مَنْ يشاهد رَبّه‏.‏

ويقال ‏{‏وَتَقَلُّبَكَ فِى السَّاجِدِينَ‏}‏ بين أصحابك، فهم نجومٌ وأنت بينهم بَدْرٌ، أو هم بدورٌ وأنت بينهم شَمْسٌ، أو هم شموسٌ وأنت بينهم شمس الشموس‏.‏

ويقال‏:‏ تقلبك في أصلابِ آبائك من المسلمين الذين عرفوا اللَّهَ، فسجدوا له دوْن مَنْ لم يعرفوه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏220‏]‏

‏{‏إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ‏(‏220‏)‏‏}‏

‏{‏السَّمِيعُ‏}‏ لأنين المحبين، ‏{‏الْعَلِيمُ‏}‏ بحنين العارفين‏.‏

‏{‏السَّمِيعُ‏}‏ لأنين المُذْنبين، ‏{‏الْعَلِيمُ‏}‏ بأحوال المطيعين‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏221- 223‏]‏

‏{‏هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ ‏(‏221‏)‏ تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ ‏(‏222‏)‏ يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ ‏(‏223‏)‏‏}‏

بيَّن أن الشياطين تتنزَّلُ على الكفار والكهنة فتوحي إليهم بوساوسهم الباطلة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏224‏]‏

‏{‏وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ ‏(‏224‏)‏‏}‏

لمَّا ذَكَرَ الوحيَ وما يأتي به الملائكةُ من قِبَلِ الله ذكر ما يوسوس به الشياطينُ إلى أوليائه، وألَحْقَ بهم الشعراءَ الذين في الباطل يهيمون، وفي أعراض الناس يقعون، وفي التشبيهات- عن حدِّ الاستقامة- يخرجون، ويَعِدُون من أنفسهم بما لا يُوفُون، وسبيلَ الكذبِ يسلكون‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏227‏]‏

‏{‏إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ ‏(‏227‏)‏‏}‏

‏{‏إِلاَّ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُواْ الله كَثِيراً وَانتَصَرُواْ مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُواْ‏}‏‏.‏

فيكون شِعْرُه خالياً من هذه الوجوه المعلولة المذمومة، وهذا كما قيل‏:‏ الشعرُ كلامُ إنسان؛ فحسنه كحسنه وقبيحه كقبيحه‏.‏

قوله جلّ ذكره ‏{‏وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُواْ أَىَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ‏}‏‏.‏

سيعلم الذين ظلموا سوءَ ما عملوا، ويندمون على ما أسلفوا، ويصدقون بما كَذَّبوا‏.‏

سورة النمل

تفسير الآية رقم ‏[‏1‏]‏

‏{‏طس تِلْكَ آَيَاتُ الْقُرْآَنِ وَكِتَابٍ مُبِينٍ ‏(‏1‏)‏‏}‏

بطهارةِ قُدّسِي وسناءٍ عِزِّي لا ُأخَيِّبُ أَمَلَ من أَمَّلَ لطفي‏.‏

بوجود بِرِّي تطيب قلوبُ أوليائي، وبشهود وجهي تغيب أسرار أصفيائي‏.‏

طَلَبُ القاصدين مُُقَابَلٌ بلطفي، وسَعْيُ العاملين مشكورٌ بعطفي‏.‏

‏{‏تِلْكَ ءَايَاتُ الْقُرْءَانِ وَكِتَابٍ مُّبِينٍ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 1‏]‏‏:‏ هذه دلالات كَرَمِنا، وأماراتُ فضلنا وشواهدُ بِرَّنا، نُبَيِّنُ لأوليائنا صِدْقَ وَعْدِنا، ونُحقِّقُ للأصفياء حِفْظَ عَهْدِنا‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏2‏]‏

‏{‏هُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ ‏(‏2‏)‏‏}‏

هذه الآياتُ وهذا الكتابُ بيانٌ وشِفاءٌ، ونورٌ وضياءٌ، وبشرى ودليلٌ لِمَنْ حققنا لهم الإيمان، وأَكَّدْنا لهم الضمان، وكفلنا لهم الإحسان‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏3‏]‏

‏{‏الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآَخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ ‏(‏3‏)‏‏}‏

يديمون المواصلات، ويستقيمون في آداب المناجاة ويؤدون عن أموالهم وأحوالهم وحركاتِهم وسكناتِهم الزكاة، بما يقومون في حقوق المسلمين أحسنَ مقام، وينوبون عن ضعفائهم أحسنَ مناب‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏4‏]‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ ‏(‏4‏)‏‏}‏

أغشيناهم فَهُم لا يُبْصِرُون، وعَمَّيْنَا عليهم المسالكَ فهم عن الطريقة المُثْلَى يَعْدِلون، أولئك الذين في ضلالتهم يعمهون، وفي حيرتهم يَتَرَدُّون‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏5‏]‏

‏{‏أُولَئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذَابِ وَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ ‏(‏5‏)‏‏}‏

‏{‏سُوءُ الْعَذَابِ‏}‏ أن يجد الآلآمَ ولا يجد التسلِّي بمعرفة المُسَلِّي، ويحمل البلاَءَ ولا يحمل عنه ثقلَه وعذابَه شهودُ المُبْلِي‏.‏‏.‏ وذلك للكفار، فأمٍّا المؤمنون فيُخَفِّفُ عنهم العذابَ في الآخرةِ حُسْنُ رجائِهم في الله، ثم تضرُّعُهم إلى الله، ثم فَضْلُ الله معهم بالتخفيف في حال البلاء ثم ما وقع عليهم من الغشي والإفاقة- كما في الخبر- إلى وقت إخراجهم من النار‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏6‏]‏

‏{‏وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآَنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ ‏(‏6‏)‏‏}‏

أي أن الذي أكرمكَ بإنزال القرآن عليك هو الذي يحفظك عن الأسواء والأعداء وصنوف البلاء‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏7‏]‏

‏{‏إِذْ قَالَ مُوسَى لِأَهْلِهِ إِنِّي آَنَسْتُ نَارًا سَآَتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ آَتِيكُمْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ ‏(‏7‏)‏‏}‏

سار موسى بأهله من مدين شعيب متوجهاً إلى مصر، ودَجَا عليه الليلُ، وأخذ امرأتَه الطَّلْقُ وهَبَّت الرياحُ الباردة، ولم يورِ الزَّنْد، وضاق على موسى الأمرُ، واستبهم الوقتُ، وتشتتت به الهمة، واستولى على قلبه الشغل‏.‏ ثم رأى ناراً من بعيد، فقال لأهله‏:‏ امكثوا إنِّي أبصرتُ ناراً‏.‏ وفي القصة‏:‏ إنه تشتت أغنامُه، وكانت له بقور وثيران تحمل متاعَه فشردت، فقالت امرأتُه‏:‏

كيف تتركنا وتمضي والوادي مسبع‏؟‏‏!‏‏.‏

فقال‏:‏ امكثوا‏.‏‏.‏ فإني لأجلكم أمضي وأتعرف أمرَ هذه النار، لَعَلِّي آتيكم منها إِمَّا بِقَبَسٍ أو شعلةٍ، أو بخبرٍ عن قوم نُزُولٍ عليها تكون لنا بهم استعانة، ومن جهتهم انتفاع‏.‏ وبَدَتْ لعينه تلك النارُ قريبةً، فكان يمشي نحوها، وهي تتباعد حتى قَرُب منها، فرأى شجرةً رطبةً خضراءَ تشتعل كلُّها من أولها إلى آخرها، وهي مضيئة، فَجَمَعَ خُشَيْبَاتٍ وأراد أن يقتبس منها، فعند ذلك سمع النداءَ من الله لا من الشجرة كما تَوَهَّم المخالِفون من أهل البدع‏.‏ وحصل الإجماعُ أَنَّ موسى سمع تلك الليلة كلامَ الله، ولو كان النداء في الشجرة لكان المتكلم به الشجرة، ولأجل الإجماع قلنا‏:‏ لم يكن النداء في الشجرة وإلا فنحن نجوَّز أن يخلق الله نداءً في الشجرة ويكون تعريفاً، ولكن حينئذٍ يكون المتكلم بذلك الشجرة‏.‏

ولا يُنْكر في الجواز أن يكون الله أسمع موسى كلامه بإسماع خلقه له، وخَلَقَ كلاماً في الشجرة أيضاً، فموسى سمع كلامَه القديم وسمع كلاماً مخلوقاً في الشجرة *** وهذا من طريق العقل جائز‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏8‏]‏

‏{‏فَلَمَّا جَاءَهَا نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ‏(‏8‏)‏‏}‏

أي بورِكَ مَنْ هو في طلب النار ومَنْ هو حول النار‏.‏

ومعنى بورِكَ لَحِقَتْه البركةُ أو أصابته البَرَكةُ *** والبركةُ الزيادةُ والنَّماءُ في الخير‏.‏

والدعاء مِنَ القديم- سبحانه- بهذا يكون تحقيقاً له وتيسيراً به‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏9‏]‏

‏{‏يَا مُوسَى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ‏(‏9‏)‏‏}‏

الذي يُخَاطِبُكَ أنا اللَّهُ ‏{‏الْعَزِيزُ‏}‏ في استحقاق جلالي، ‏{‏الْحَكِيمُ‏}‏ في جميع أفعالي‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏10‏]‏

‏{‏وَأَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآَهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى لَا تَخَفْ إِنِّي لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ ‏(‏10‏)‏‏}‏

‏{‏وَأَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَءَاهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَآنٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ‏}‏‏.‏

في آية أخرى بَيَّنَ أنه سأله، وقال له على وجه التقرير‏:‏ ‏{‏وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 17‏]‏ وأجابه بقوله‏:‏ ‏{‏هِىَ عَصَاىَ‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 17‏]‏ وذَكَرَ بعضَ مَا لَه فيها من المآرب والمنافع، فقال الله‏:‏ ‏{‏وََألْقِ عَصَاكَ‏}‏، وذلك لأنه أراد أَنْ يُرِيَه فيها من عظيم البرهان ما يجعل له كمالَ اليقين‏.‏

وألقاها موسى فَقَلَبَهَا اللَّهُ ثعباناً، أولاً حيةً صغيرةً ثم صارت حيةً كبيرةً، فأوجس في نفسه موسى خيفةً وولَّى مُدْبِراً هارباً، وكان خوفه من أن يُسَلِّطَهَا عليه لمَّا كان عارفاً بأن الله يعذِّبَ مَنْ يشاء بما يشاء، فقال له الحقُّ‏:‏

‏{‏يَا مُوسَى لاَ تَخَفْ إِنِّى لاَ يَخَافُ لَدَىَّ الْمُرْسَلُونَ‏}‏‏.‏

أي لا ينبغي لهم أن يخافوا‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏11‏]‏

‏{‏إِلَّا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏11‏)‏‏}‏

وهذا يدلُّ على جواز الذَّنْبِ على الأنبياء عليهم السلام فيما لا يتعلق بتبليغ الرسالة بشرط تَرْكِ الإصرار‏.‏ فأمَّا مَنْ لا يُجِيزُ عليهم الذنوبَ فيحمل هذا على ما قبل النبوة‏.‏

فلمَّا رأى موسى انقلابَ العصا عَلِمَ أَنَّ الحقَّ هو الذي يكاشفه بذلك‏.‏

ويقال‏:‏ كيف عَلِمَ موسى- عليه السلام- أَنَّ الذي سمعه كلامُ اللَّهِ‏؟‏

والجواب أنه بتعريفٍ منه إياه- ويجوز أن يكون ذلك العلم ضرورياً فيه، ويجوز أن يكون كَسْبياً، ويكون الدليل له الذي له الذي به عَلِمَ صِدْقَه في قوله‏:‏ ‏{‏إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ‏}‏ هو ما ظهر على يَدِهِ- في الوقت- من المعجزة، من قَلْبِ العصا، وإخراج يده بيضاء‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏12‏]‏

‏{‏وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آَيَاتٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ ‏(‏12‏)‏‏}‏

من غير سوءٍ أي بَرَصٍ‏.‏ وفي القصة أن موسى عليه السلام ذَكَرَ اشتغال قلبه بحديث امرأته، وما أصابه تلك الليلة من الأحوال التي أَوْجَبَتْ انزعاجَه، وقَصْدَه في طلب النار، فقال الله تعالى‏:‏ «إنا قد كفيناكَ ذلك الأمرَ، ووكلنا بامرأتِكَ وأسبابك، فجمعنا أغنامَك وثيرانَك، وسَلِمْتَ لَكَ المرأةُ»‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏13- 14‏]‏

‏{‏فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آَيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ ‏(‏13‏)‏ وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ ‏(‏14‏)‏‏}‏

لم يُظْهِرْ اللَّهُ- سبحانه- آيةً على رسولٍ من أنبيائه- عليهم السلام- إلاّ كانت في الوضوح بحيث لو وَضَعوا النظرَ فيها موضعَه لتَوَصَّلُوا إلى حصول العلم وثلج الصدور، ولكنهم قَصَّروا في بعضها بالإعراض عن النظر فيها، وفي بعضها الآخر عرفوها وقابلوها بالجَحْدِ‏.‏ قال تعالى وقولُه صِدْقٌ‏:‏

‏{‏وَجَحَدُواْ بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَآ أَنفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ‏}‏‏.‏

وكما يَحْصُلُ من الكافِر الجَحْدُ تحصل للعاصي عند الإلمام ببعض الذنوب حالةٌ يعلم فيها- بالقطع- أن ما يفعله غير جائز، وتتوالى على قلبه الخواطرُ الزاجرةُ الداعيةُ له عن فِعْلِها من غير أَنْ يكونَ متغافلاً عنها أو ناسياً لها، ثم يُقْدِمُ على ذلك غيرَ مُحْتَفِلٍ بها مُوَافَقَةً لشهوتِه‏.‏ وهذا الجنسُ من المعاصي أكثرُها شؤماً، وأشدُّها في العقوبة، وأبْعَدُها عن الغفران‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏15‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ آَتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا وَقَالَا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ ‏(‏15‏)‏‏}‏

يقتضي حكمُ هذا الخطاب أنه أفْرَدهُما بجنسٍ من العلم لم يشارِكُهُما فيه أحدٌ؛ لأنه ذَكَرَه على وجه تخصيصهما به، ولا شكّ أنه كان من العلوم الدينية؛ ويحتمل أنه كان بزيادة بيانٍ لهما أغناهما عن إقامة البرهان عليه وتصحيحه بالاستدلال الذي هو مُعَرَّضٌ للشك فيه‏.‏

ويحتمل أن يكون علمهما بأحوال أمتهما على وجه الإشراف على ما كانوا يستسرون به، فيكون إخبارُهما عن ذلك معجزةً لهما‏.‏

ويحتمل أن يكون قوله‏:‏ ‏{‏عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ‏}‏‏.‏

ويحتمل أن يكون علمهما بالله على وجه زيادةٍ لهما في البيان‏.‏

وفي الآية دليل على أن التفضيل الذي يحصل بالعلم لا يحصل بغيره من الصفات، فأخبر بأنهما شَكَرَ الله على عظيم ما أنعم به عليهما‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏16‏]‏

‏{‏وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ ‏(‏16‏)‏‏}‏

ورث أباه في النبوة، وورثه في أن أقامه مقامه‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ‏}‏‏:‏ وكان ذلك معجزةً له، أظهرها لقومه ليعلموا بها صِدْقَ إخباره عن نبوته‏.‏ ومَنْ كان صاحبَ بصيرةٍ وحضور قلب بالله يشهد الأشياءَ كلّها بالله ومن الله‏.‏ ويكون مُكَاشَفاً بها من حيث التفهيم، فكأنه يسمع من كل شيءٍ تعريفاتٍ الحقِّ- سبحانه- للعبد مما لا نهاية له، وذلك موجودٌ فيهم مَحْكِيٌّ عنهم‏.‏ وكما أنَّ ضربَ الطّبْلِ مثلاً دليلٌ يُعْرَفُ- بالمواضعة- عند سماعه وقتُ الرحيلِ والنزولِ فالحقُّ- سبحانه- يخصُّ أهلَ الحضورِ بفنون التعريفاتِ، من سماعِ الأصواتِ وشهودِ أحوال المرئيات في اختلافها، كما قيل‏:‏

إذا المرءُ كانت له فِكرةٌ *** ففي كل شيءٍ له عِبْرَةً

تفسير الآية رقم ‏[‏17‏]‏

‏{‏وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ ‏(‏17‏)‏‏}‏

سخَّر اللَّهُ لسليمان- عليه السلام- الجنَّ والطيرَ، فكان الجنُّ مكلَّفين، والطيرُ كانت مُسَخَّرَةً إلا أنه كان عليها شَرْعٌ، وكذلك الحيوانات التي كانت في وقته، حتى النمل كان سليمان يعرف خطابَهم ينفذ عليهم حُكْمه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏18‏]‏

‏{‏حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ ‏(‏18‏)‏‏}‏

قيل إن سليمان استحضر أميرَ النمل الذي قال لقومه‏:‏ ‏{‏ادْخُلُواْ مَسَاكِنَكُمْ‏}‏ وقال له‏:‏ أمَا عَلِمْتَ أَنِّي معصومٌ، وأَنَّي لن أُمَكِّنْ عسكري مِنْ أَنْ يطؤوكم‏؟‏ فأخبره أميرُ النمل أنّه لا يعلم ذلك؛ لأنه ليس بواجبٍ أن يكون النملُ عالماً بعصمة سليمان‏.‏ ولو قال‏:‏ لعلكم أبيح لكم ذلك‏.‏‏.‏ لكان هذا أيضاً جائزاً‏.‏

وقيل إن ذلك النمل قال لسليمان‏:‏ إني أَحْمِلُ قومي على الزهد في الدنيا، وخَشِيتُ إِنْ يَرَوْكُم في مُلْكِكم أَنْ يرغبوا فيها، فأَمَرْتُهم بدخول مساكنهم لئلا يتشوَّشَ عليهم زُهْدُهُم‏.‏ ولَئِنْ صَحَّ هذا ففيه دليلٌ على وجوب سياسة الكبار لِمَنْ هو في رعيتهم‏.‏ وفي الآية دليلٌ على حَسْنِ الاحتراز مِمّا يُخْشَى وقوعُه، وأَنَّ ذلك مما تقتضيه عادةُ النّفْسِ وما فُطِرُوا عليه من التمييز‏.‏

ويقال إن ذلك النمل قال لسليمان‏:‏ ما الذي أعطاك اللَّهُ من الكرامة‏؟‏

فقال‏:‏ سَخّرَ لي الريحَ‏.‏

فقال‏:‏ أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ الإشارة فيه أنه ليس بيدك مما أُعْطِيتَ إلا الريح‏؟‏

وهكذا بيَّنَه الكبيرُ على لسان الصغير‏!‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏19‏]‏

‏{‏فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ ‏(‏19‏)‏‏}‏

‏{‏فَتَبَسَّمَ ضَاحِكاً مِّن قَوْلِهَا‏}‏‏.‏

التبسُّمُ من الملوكِ يندر لمراعاتهم حُكْمَ السياسة، وذلك يدلُّ على رضاهم واستحسانهم لما منه يحصل التبسُّم، فلقد استحسن سليمان من كبير النمل حُسْنَ سياسته لرعيته‏.‏

وفي القصة أنه استعرض جُنْدَه ليراهم كم هم، فَعَرَضَهم عليه، وكانوا يأتون فوجاً فوجاً، حتى مضى شَهْرٌ وسليمان واقفٌ ينظر إليهم مُعْتَبِراً فلم ينتهوا، ومَرَّ سليمانُ عليه السلام‏.‏

وفي القصة‏:‏ أن عظيم النمل كان مثل البغل في عِظَمِ الجثة، وله خرطوم‏.‏ والله أعلم‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏رَبِّ أَوْزِعْنِى أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِى أَنْعَمْتَ عَلَىَّ وَعَلَى وَلِدَىَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضاهُ‏}‏‏.‏

في ذلك دليلٌ على أن نَظَرَه إليهم كان نَظَرَ اعتبارٍ، وأنه رأى تعريفَ الله إِياه ذلك، وتنبيهُه عليه من جملة نِعَمِه التي يجب عليها الشكرُ‏.‏

وفي قوله‏:‏ ‏{‏وَعَلَى وَالِدَىَّ‏}‏ دليلٌ على أَنَّ شُكْرَ الشاكر لله لا يختص بما أَنْعَمَ به عليه على الخصوص، بل يجب على العبد أن يشكر الله على ما خَصَّ وَعَمَّ من نِعَمِه‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏وَأَدْخِلْنِى بِرَحْمَتِكَ فِى عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ‏}‏‏.‏

سأل حُسْنَ العاقبة‏.‏ لأنَّ الصالحَ من عباده مَنْ هو مختوم له بالسعادة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏20‏]‏

‏{‏وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ ‏(‏20‏)‏‏}‏

تَطَلّبَه فَلَمَّا لم يَرَه تَعَرَّف ما سبب تأخره وغيبته‏.‏

ودلَّ ذلك على تيقظ سليمان في مملكته، وحسن قيامه وتكفله بأمور أمته ورعيته، حيث لم تَخْفَ عليه غيبةُ طيرٍ هو من أصغر الطيور لم يحضر ساعةً واحدةً‏.‏ وهذا أحسن ما قيل‏.‏

ثم تَهَدَّدَه إن لم يكن له عُذْرٌ بعذاب شديدٍ، وذلك يدلُّ على كمال سياسته وعَدْلِه في مملكته‏.‏

وقال قومٌ إنما عَرَفَ أن الهدهد يعرف أعماقَ الماء بإلهام خُصَّ به، وأنَّ سليمان كان قد نزل منزلاً ليس به ماء، فطلبَ الهدهد ليهديَهم إلى مواضع الماء، وهذا ممكن؛ لأن في الهدهد كَثْرَةً‏.‏ وغيبةُ واحدةٍ منها لا يحصل منها خَلَلٌ- اللهم إلاّ إِنْ كان ذلك الواحد مخصوصاً بمعرفة مواضع وأعماق الماء *** والله أعلم‏.‏

وروي أن ابن عباس سُئِلَ عن ذلك، وأنه قيل له‏:‏ إنْ كان الهدهدُ يرى الماءَ تحت الترابِ ويعرفه فكيف لا يرى الفَخَّ مخفيّاً تحت التراب‏؟‏

فقال‏:‏ إذا جاء القضاء عَمِيَ البصر‏.‏

ويقال‏:‏ إن الطير كانت تقف فوق رأس سليمان مُصْطَفّةً، وكانت تستر انبساط الشمس وشعاعها بأجنحتها، فوقع شعاعُ الشمسِ على الأرض، فنظر سليمانُ فرأى موضع الهدهد خالياً منه، فَعَرَفَ بذلك غَيْبَته‏.‏‏.‏ وهذا أيضاً ممكن، ويدل على كمال تَفَقُّدِه، وكمال تَيَقُّظِه- كما ذكرنا‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏21‏]‏

‏{‏لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ ‏(‏21‏)‏‏}‏

في هذه الآية دليل على مقدار الجُرْمِ، وأنه لا عِبْرَةَ بصغر الجثة وعِظَمِها‏.‏ وفيه دليل على أن الطير في زمانه كانت في جملة التكليف، ولا يبعد الآن أن يكون عليها شَرْعٌ، وأَنَّ لهم من الله إلهاماً وإعلاماً؛ وإِن كان لا يُعْرَفُ ذلك على وجه القَطْع‏.‏

وتعيين ذلك العذاب الشديدِ غيرُ ممكنٍ قطعاً، إلا تجويزاً واحتمالاً‏.‏

وعلى هذه الطريقة يَحْتَمِلُ كلَّ ما قيل فيه‏.‏

ويمكن أن يقال فإن وُجِدَ في شيءٍ نَقْلٌ فهو مُتَّبَعٌ‏.‏

وقد قيل هو نَتْفُ ريُشه وإلقاؤه في الشمس‏.‏

وقيل يفرِّق بينه وبين أليفه‏.‏

وقيل يشتِّت عليه وقتَه‏.‏

وقيل يُلْزِمُه خدمة أقرانه‏.‏

والأَولى في هذا أن يقال من العذاب الشديد كيت وكيت، وألا يُقْطَعَ بشيءٍ دون غيره على وجه القطع‏.‏

فَمِنَ العذاب الشديد أن يُمْنَعَ حلاوة الخدمة فيجد أَلَمَ المشقة‏.‏ ومن ذلك أن يقطع عنه حُسْنُ التولي لشأْنه ويوكَلَ إلى حَوْلِهِ ونَفْسِه، ومن ذلك أن يُمْتَحَنَ بالحِرْصِ في الطلب ثم يحال بينه وبين مقصوده ومطلوبه‏.‏ ومن العذاب الشديد الطمع في اسم العذر ثم لا يرتفع ومن ذلك سَلْبُ القناعة‏.‏ ومنه عَدَمُ الرضا بما يجري‏.‏ ومن ذلك توهم الحدثان وحسبان شيءٍ من الخَلْق‏.‏

ومن ذلك الحاجة إلى الأَخٍسَّةِ من الناس‏.‏ ومن ذلك ذُلُّ السؤال مع الغفلة عن شهود التقدير‏.‏ ومن ذلك صحبة الأضداد والابتلاء بمعاشرتهم‏.‏ ومن ذلك ضعف اليقين وقلة الصبر‏.‏ ومن ذلك التباس طريق الرُّشد‏.‏ ومنه حسبان الباطل بصفة الحق‏.‏ والتباس الحقِّ في صورة الباطل‏.‏ ومنه أن يطالب بما لا تتسع له ذات يده‏.‏ ومنه الفقر في الغُرْبة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏22‏]‏

‏{‏فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ ‏(‏22‏)‏‏}‏

فلم يلبث الهدهدُ أن جاء، وعََلِمَ أن سليمانَ قد تَهدَّدَه، فقال‏:‏ أَحَطْتُ علماً بما هو عليك خافٍ، ‏{‏وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ‏}‏‏.‏

ثم ذكر حديث بلقيس، وأنها ملكتهم، وأن لها من المالِ والمُلْكِ والسرير العظيم ما عَدَّه، فلم يتغير سليمانُ- عليه السلام- لذلك، ولم يستفزّه الطمع فيما سَمِعَ عن هذا كما يحدث من عادة الملوك في الطمع في مُلِكِ غيرهم، فلما قال‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏24‏]‏

‏{‏وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ ‏(‏24‏)‏‏}‏

فعند ذلك غَاظَ هذا سليمانَ، وغَضِبَ في الله، و‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏27‏]‏

‏{‏قَالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ ‏(‏27‏)‏‏}‏

وفي هذا دلالة على أن خَبَرَ الواحدِ لا يوجِب العلمَ فيجب التوقفُ فيه على حدِّ التجويز، وفيه دلالة على أنه لا يُطْرَح بل يجب أن يُتَعَرَّفَ‏:‏ هل هو صدق أم كذب‏؟‏

ولمَّا عَرَفَ سليمان هذا العُذْرَ تَرَكَ عقوبتَه وما تَوَعَّدَه به *** وكذلك سبيلُ الوالي؛ فإنَّ عَدْلَه يمنعه من الحيفِ على رعيته، ويَقْبَلُ عُذْرَ مَنْ وَجَدَهُ في صورة المجرمين إذا صَدَقَ في اعتذاره‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏28‏]‏

‏{‏اذْهَبْ بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهِ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ ‏(‏28‏)‏‏}‏

في الآية إشارة إلى أنه لا ينبغي للإنسان أن يذكر بين يدي الملوك كلَّ كلمة، فإنه يَجُرُّ العناءَ بذلك إلى نَفْسه؛ وقد كان لسليمان من الخَدَمِ والحَشَم ومَنْ يأتمر بأمره الكثير، ولكنه لم يستعمل واحداً في هذا التكليف إلا الهدهد لأنه هو الذي قال ما قال، فلزمه الخروج من عهدة ما قال‏.‏

ويقال لمَّا صَدَقَ فيما أخبر لِمَلِكهِ عُوِّضَ عليه فَأُهِّلَ للسفارة والرسالة- على ضعف صورته‏.‏

فمضى الهدهد، وألقى الكتاب إليها كما أُمِرَ، وانتحى إلى جانبٍ ينتظر ماذا يفعلون وبماذا يُجَاب‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏29- 31‏]‏

‏{‏قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ ‏(‏29‏)‏ إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ‏(‏30‏)‏ أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ ‏(‏31‏)‏‏}‏

‏{‏كِتَابٌ كَرِيمٌ‏}‏ الكَرَمُ نَفْيُ الدناءة، وقيل لأنه كان مختوماً، وقيل لأنَّ الرسولُ كان طيراً؛ فَعَلِمَتْ أَنَّ مَنْ تكون الطيرُ مُسَخَّرة لَهُ لا بُدّ أنه عظيمُ الشأنِ‏.‏ وقيل لأنه كان مُصَدَّراً ببسم الله الرحمن الرحيم‏.‏ وقيل لأنه كتب فيه اسم نَفْسِه أولاً ولم يَقُلْ‏:‏ إنه من سليمان إلى فلانة‏.‏ ويقال لم يكن في الكتاب ذكر الطمع في المُلْكِ بل كان دُعَاءً إلى الله‏:‏ ‏{‏أَلاَّ تَعْلُواْ عَلَىَّ وَأْتُونِى مُسْلِمِينَ‏}‏‏.‏

ويقال أَخَذَ الكتابُ بمجامع قلبها، وقَهَرَها؛ فلم يكن لها جواب، فقالت، ‏{‏إِنِّى أُلْقِىَ إِلّىَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ‏}‏ فلمَّا عَرَفَتْ قَدْرَ الكتابِ وصلت باحترامها إلى بقاء مُلكِها، ورُزِقَتْ الإسلامَ وصُحْبَةً سليمان‏.‏

ويقال إذا كان الكتابُ كريماً لما فيه من آية التسمية فالكريمُ من الصلاة ما لا يتجرَّدُ عن التسمية‏.‏ وإذا تجرَّدت كان الأمرُ فيها بالعكس‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏32‏]‏

‏{‏قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ ‏(‏32‏)‏‏}‏

أَخَذَتْ في المشاورة كما تقتضيه الحال في الأمور العظام؛ فإن المَلِكَ لا ينبغي أن يكون مستبداً برأيه، ويجب أن يكون له قومٌ من أهل الرأي والبصيرة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏33‏]‏

‏{‏قَالُوا نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ ‏(‏33‏)‏‏}‏

أجابوا على شرط الأدب، وقالوا‏:‏ ليس منا إِلاّ بَذْلُ الوسع، وليس لنا إِلاّ إظهارُ النُّصح وما علينا إلا متابعةُ الأمر- وتمشيةُ الأمرِ وإمضاؤه *** إليكِ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏34‏]‏

‏{‏قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ ‏(‏34‏)‏‏}‏

ويقال إِنَّ‏:‏ ‏{‏وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ‏}‏ مِنْ قوْلِها‏.‏

ويقال‏:‏ تغييرُ الملوك إذا دخلوا قريةً- عن صفتها- معلومٌ، ثم يُنْظَر *** فإن كان الداخِلُ عادلاً أزال سُنَّةَ الجَوْرِ، وأثبت سُنَّةَ العَدْلِ، وإِنْ كان الداخلُ جائراً أزال الحَسَنَ وأثبت الباطلَ‏.‏ هذا معلوم؛ فإنَّ خرابَ البلادِ بولاةِ السُّوءِ، حيث يستولي أسافلُ الناس وأَسقاطُهم على الأعزة منهم، وكما قيل‏:‏

يا دولة ليس فيها *** من المعالي شظيهْ

زولى فما أنتِ إِلاّ *** عل الكرام بليهْ

وعمارة الدنيا بولاة الرُّشْدِ، يكسرون رقابَ الغاغة، ويُخَلِّصُون الكرامَ من أَسْرِ السِّفْلة، ‏(‏ويأخذ القوس باريها‏)‏، وتطلع شمسُ العدل من برج شرفها *** كذلك المعرفةُ والخصالُ المحمودة إذا باشَرَتْ قلبَ عبدٍ أخرجت عنه الشهواتِ والمُنى، وسفاسفَ الأخلاقِ من الحقد والحسد والشُّحِّ وصِغَرِ الهمة *** وغير ذلك من الأوصاف الذميمة وتُثْبِتُ بَدَلَها من الأحوال العَلِيَّةِ والأوصاف المَرْضِيَّةِ ما به نظامُ العبد وتمامُ سعادته‏.‏ ومتى استولت على قلبٍ غاغةُ النَّفسِ والخصالُ المذمومة أزالت عنه عمارته، وأَبْطَلَتْ نضارتَه، فتخرب أوطانُ الحقائق، وتتداعى مساكنُ الأوصاف الحميدة للأفوال، وعند ذلك، يَعْظُم البلاءُ وتتراكم المِحَنُ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏35‏]‏

‏{‏وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ ‏(‏35‏)‏‏}‏

جاء في القصة أنها بعثت إلى سليمانَ بهدايا، ومن جملتها لَبِنَةٌ مصنوعةٌ من الفضة وأخرى من الذهب‏.‏ وأن اللَّهَ أخبر سليمانَ بذلك، وأوحى إليه في معناه‏.‏ وأمَرَ سليمانُ الشياطينَ حتى بَنَوْا بساحة منزله ميداناً، وأمرهم أن يفرشوا الميدان بهيئة اللَّبنِ المصنوعِ من الذهب والفضة من أوله إلى آخره‏.‏ وأَمَرَ بأن توقف الدوابُّ على ذلك وألا تُنَظَّفَ آثارُها من رَوْثٍ وغيره، وأن يُتْرَكَ موضعان لِلَبِنَتَيْنِ خالِيَيْن في ممرِّ الدخول‏.‏ وأقبل رُسُلُها، وكانت معهم اللبنتان ملفوفتين، فلمَّا رَأَوْا الأمر، ووقعت أبصارُهم على طريقهم، صَغُرَ في أعينهم ما كان معهم، وخَجِلوا من تقديم ذلك إلى سليمان ووقعوا في الفكرة *** كيف يتخلصون مما معهم‏؟‏‏.‏ فلمَّا رأوا موضع اللَّبنَتَيْن فارغا ظنُّوا أن ذلك سُرِق من بينها، فقالوا لو أظهرنا نُسِبْنا إلى أنَّا سرقناهما من هذا الموضع، فطرحاهما في الموضع الخالي، ودَخَلاَ على سليمان‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏36- 37‏]‏

‏{‏فَلَمَّا جَاءَ سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آَتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آَتَاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ ‏(‏36‏)‏ ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لَا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ ‏(‏37‏)‏‏}‏

أتهدونني مالاً‏؟‏ وهل مثلي يُسْتَمالُ بمثل هذه الأفعال‏؟‏ إنكم وأمثالكم تعامِلُون بمثل ما عوملتم‏!‏ ارجع إليهم‏:‏-

‏{‏ارجع إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُم بِجُنُودٍ لاَّ قِبَلَ لَهُمْ بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُم مِّنْهَآ أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ‏}‏‏.‏

فلمَّا رجعوا إلى بلقيس، وأخبروها بما شاهدوا وسمعوا علمت أنه لا وَجْه لها سوى الاستسلام والطاعة، فَعَزَمَتْ على المسير إلى خدمته، وأوحى الله إلى سليمان بذلك، وأنها خرجت مستسلمةً، فقال‏:‏ ‏{‏أَيُّكُمْ يَأْتِينِى بِعَرْشِهَا‏؟‏‏}‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏38- 39‏]‏

‏{‏قَالَ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ ‏(‏38‏)‏ قَالَ عِفْريتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آَتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ ‏(‏39‏)‏‏}‏

بسط اللَّهُ- سبحانه- مُلْكَ سليمان، وكان في مُلْكِه الجِنُّ والإِنسُ والشياطين؛ الجن على جهة التسخير، والإنس على حكم الطوع، والشياطين وكانوا على أقسام‏.‏

ولمَّا قال‏:‏ ‏{‏أَيُّكُمْ يَأْتِينِى بِعَرْشِهَا‏؟‏‏}‏ قال عفريت من الجن- وكان أقواهم- ‏{‏أَنَاْ ءَاتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن تَقُومَ مِن مَّقَامِكَ وَإِنِّى عَلَيْهِ لَقَوِىٌ أَمِينٌ‏}‏، فلم يرغب سليمانُ في قوله لأنه بَنَى القولَ فيه على دعوى قُوَّتِه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏40‏]‏

‏{‏قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آَتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآَهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ ‏(‏40‏)‏‏}‏

‏{‏الَّذِى عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الْكِتَابِ‏}‏ ‏(‏قيل هو آصف‏)‏ وكان صاحب كرامة‏.‏ وكراماتُ الأولياءِ مُلْتَحِقَةٌ بمعجزات الأنبياء، إذ لو لم يكن النبيُّ صادقاً في نبوته لم تكن الكرامة تظهر على من يُصَدِّقه ويكون من جملة أمته‏.‏

ومعلومٌ أنه لا يكون في وُسْعِ البَشَرِ الإتيانُ بالعرش بهذه السرعة، وأن ذلك لا يحصل إلا بخصائص قدرة الله تعالى‏.‏ وقَطْعُ المسافة البعيدة في لحظةٍ لا يصح تقديره في الجواز إلا بأحد وجهين‏:‏ إمَّا بأن يُقَدِّم اللَّهُ المسافةَ بين العرش وبين منزل سليمان، وإمَّا بأن يعدم العرش ثم يعيده في الوقت الثاني بحضرة سليمان‏.‏ وأيُّ واحدٍ من القسمين كان- لم يكن إلاّ من قِبَل الله، فالذي كان عنده علم من الكتاب دعا الله- سبحانه- واستجاب له في ذلك، وأحضر العرش، وأمر سليمان حتى غَيَّرَ صورته فجعل أعلاه أسفله، وأسفله أعلاه، وأثبته على تركيبٍ آخر غير ما كان عليه‏.‏

ولمّا رأى سليمان ذلك أخذ في الشكر لله- سبحانه- والاعتراف بِعِظمِ نِعَمِه، والاستيحاء، والتواضع له، وقال‏:‏ ‏{‏هَذَا مِن فَضْلِ رَبِّى‏}‏‏:‏ لا باستحقاقٍ مني، ولا باستطاعةٍ من غيري، بل أحمد النعمةَ لربِّي حيث جعل في قومي ومِنْ أمتي مَنْ له الجاهُ عنده فاستجاب دعاءَه‏.‏

وحقيقةُ الشكرِ- على لسان العلماء- الاعترافُ بنعمة المُنْعِم على جهة الخضوع‏.‏ والأحسنُ أن يقال الشكرُ هو الثناءُ على المُحْسِنِ بِذِكْرِ إحسانه، فيدخل في هذا شكرُ اللَّهِ للعبد لأنه ثناءٌ منه على العبد بذكر إحسان العبد، وشكرُ العبد ثناءٌ على الله بذكر إحسانه *** إلاّ أَنَّ إحسان الحقِّ هو إنعامُه، وإحسانُ العبد طاعتُه وخدمتُه لله، وما هو الحميد من أفعاله‏.‏

فأمَّا على طريقِ أهل المعاملة وبيان الإشارة‏:‏ فالشكرُ صَرْفُ النعمة في وجه الخدمة‏.‏

ويقال الشكر أَلاَّ تستعينَ بنعمته على معاصيه‏.‏

ويقال الشكر شهودُ المنعِم من غير مساكنةٍ إلى النعمة‏.‏

ويقال الشكر رؤية العجز عن الشكر‏.‏

ويقال أعظمُ الشكرِ الشكرُ على توفيق الشكر‏.‏

ويقال الشكر على قسمين‏:‏ شكر العوام على شهود المزيد، قال تعالى‏:‏ ‏{‏لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ‏}‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏ 7‏]‏، وشكر الخواص يكون مجرداً عن طلب المزيد، غيرَ متعرض لمنال العِوَض‏.‏

ويقال حقيقةُ الشكرِ قيد النعم وارتباطها؛ لأَنَّ بالشكر بقاءَها ودوامَها‏.‏