فصل: تفسير الآيات رقم (41- 42)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: لطائف الإشارات ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏41- 42‏]‏

‏{‏قَالَ نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لَا يَهْتَدُونَ ‏(‏41‏)‏ فَلَمَّا جَاءَتْ قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ ‏(‏42‏)‏‏}‏

‏{‏قَالَ نِكّرُواْ لَهَا عَرْشَهَا نَنظُرْ أَتَهْتَدِى أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لاَ يَهْتَدُونَ‏}‏‏.‏

أراد سليمانُ أن يمتحنَها وأن يختبرَ عقلَها، فأمر بتغيير عرْشِها، فلمَّا رأته‏:‏-

‏{‏قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ‏}‏‏.‏

فاستدلَّ بذلك على كمالِ عقلها، وكان ذلك أمراً ناقضاً للعادة، فصار لها آية وعلامةً على صحة نبوة سليمان- عليه السلام- وأسلَمَتْ‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏43- 44‏]‏

‏{‏وَصَدَّهَا مَا كَانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنَّهَا كَانَتْ مِنْ قَوْمٍ كَافِرِينَ ‏(‏43‏)‏ قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ‏(‏44‏)‏‏}‏

كان ذلك امتحاناً آخرَ لها‏.‏ فقد أَمَرَ سليمانُ الشياطينَ أن يصنعوا من الزجاج شِبْهَ طبقٍ كبيرٍ صافٍ مضيءٍ، ووَضَعَه فوق بِرْكَةٍ بها ماء كثير عميق، يُرَى الماءُ من أسفل الزجاج ولا يُمَيَّزُ بين الزجاج والماء، وأُمِرَتْ أن تخوضَ تلك البركة، فكَشَفَتْ عن ساقيها؛ لأنها وُصِفَتْ لسليمان بأنها جِنِّيةُ النَّسَبِ‏.‏ وأن رجليها كحوافر الدواب، فَتَقَوَّلوا عليها، ولمَّا تَوَهَّمَتْ أنها تخوض الماءَ كَشَفَتْ عن ساقيها، فرأى سليمان رِجْلَيْها صحيحين‏.‏ وقيل لها‏:‏ ‏{‏إِنَّهُ صَرْحٌ مُّمَرَّدٌ مِن قَوَارِيرَ‏}‏‏:‏ فصار ذلك أيضاً سبباً وموجباً ليقينها‏.‏ وآمنَتْ وتزوج بها سليمان عليه السلام‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏45- 50‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ ‏(‏45‏)‏ قَالَ يَا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ لَوْلَا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ‏(‏46‏)‏ قَالُوا اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ قَالَ طَائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ ‏(‏47‏)‏ وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ ‏(‏48‏)‏ قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ ‏(‏49‏)‏ وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ ‏(‏50‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ أَرْسَلْنَآ إِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً أَنِ اعْبُدُواْ اللَّهَ فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ‏}‏‏.‏

ذكر قصةَ ثمود، وقصة نبيِّهم صالح عليه السلام، وما جرى بينه وبينهم من التكذيب، وطلبهم منه معجزةً، وحديث الناقة وعقرها، وتبرمهم بالناقة بعد أن رأوا فيها من الفعل الذي كانت لهم فيه أعظم آية *** إلى قوله‏:‏

‏{‏وَمَكَرُواْ مَكْراً وَمَكَرْنَا مَكْراً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ‏}‏‏.‏

ومَكْرُهُم ما أظهروا في الظاهر من موافقة صالح، وعقرهم الناقة خفيةٌ، وتوريك الذَّنبِ على غير جارمه، والتبرِّي من اختيارهم ذلك‏.‏

وأمَّا مَكْرُ اللَّهِ جزاؤهم على مَكِرْهم بإخفاء ما أراد بهم من العقوبة عنهم، ثم إحلالهم بهم بغتةً‏.‏ فالمَكْرُ من الله تخليتُه إياهم مع مَكْرِهم بحيث لا يعصمهم، وتزيينُ ذلك في أعينهم، وتجيبُ ذلك إليهم *** ولو شاء لَعَصَمَهُم‏.‏ ومن أليم مَكْرِهِ انتشارُ الصيت بالصلاح، والعمر في السَِّرِّ بخلاف ما يتوهم بهم من الصلاح، وفي الآخرة لا يَجُوزُ في سُوقِها هذا النَّقْدُ‏!‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏51‏]‏

‏{‏فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ ‏(‏51‏)‏‏}‏

أهلكهم ولم يغادر منهم أحداً‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏52‏]‏

‏{‏فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ‏(‏52‏)‏‏}‏

وفي الخبر‏:‏ «لو كان الظلمُ بيتاً في الجنة لَسَلَّطَ اللَّهُ عليه الخرابَ»؛ فالنفوسُ إذا ظَلَمت بِزَلاَّتها خربت بلحوقها شؤم الذَّلة حتى يتعود صاحبُها الكسلَ، ويستوطن مركبَ الفشل، ويُحْرَم التوفيق، ويتوالى عليه الخذلانُ وقسوةُ القلب وجحودُ العين وانتفاءُ تعظيمِ الشريعة من القلب‏.‏ وأصحابُ القلوبِ إذا ظلموها بالغفلة ولم يحاولوا طَرْدَها عن قلوبهم *** خربت قلوبُهم حتى تقسوا بعد الرأفة، وتجف بعد الصفوة‏.‏

فخرابُ النفوس باستيلاء الشهوة والهفوة، وخرابُ القلوب باستيلاء الغفلة والقسوة، وخراب الأرواح باستيلاء الحجبة والوقفة، وخراب الأسرار باستيلاء الغيبة والوحشة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏54- 55‏]‏

‏{‏وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ ‏(‏54‏)‏ أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ ‏(‏55‏)‏‏}‏

ذَكَرَ قصة لوطٍ وأمته، وما أصَرُّوا عليه من الفاحشةِ، وما أَحَلَّ اللَّهُ بهم من العقوبة، وإحلالَ العقوبة بامرأته التي كانت تطابق القومَ، وتخليص الحقُّ لوطاً من بينهم، وما كان من أمر الملائكة الذين بُعِثُوا لإهلاكهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏59‏]‏

‏{‏قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آَللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ ‏(‏59‏)‏‏}‏

هم الذين سَلَّم عليهم في آزاله وهم في كتم العَدَمِ، وفي متناول علمه ومتعلق قدرته، ولم يكونوا أعياناً في العَدَم ولا أفادوا، فلمَّا أظهرهم في الوجود سَلَّم عليهم بذلك السلام، ويُسْمِعُهم في الآخرة ذلك السلام‏.‏ والذين سَلَّم عليهم هم الذين سَلِمُوا اليومَ من الشكوك والشُّبَهِ، ومن فنون البِدَعِ، ومن وجوه الألم، ثم من فنون الزَّلَلِ وصنوفِ الخَلَلِ، ثم من الغيبة والحجبة وما ينافي دوام القربة‏.‏

ويقال اصطفاهم، ثم هداهم، ثم آواهم، وسَلَّم عليهم قبل أَنْ خَلَقَهم وأبداهم، وبعد أن سَلَّم عليهم بودِّه لَقَّاهم‏.‏

ويقال‏:‏ اصطفاهم بنورِ اليقين وحُلَّةِ الوَصْلِ وكمالِ العَيْش‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏60‏]‏

‏{‏أَمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ ‏(‏60‏)‏‏}‏

‏{‏أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنزَلَ لَكُم مِّنَ السَّمَآءِ مَآءً فَأَنبَتْنَا بِهِ حَدَآئِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنبِتُواْ شَجَرَهَآ‏}‏‏.‏

فثمراتُ الظاهرِ غذاءُ النفوس، وثمراتُ الباطِن والأسرار ضياءُ القلوبِ، وكما لا تبقى في وقت الربيع من وحشة الشتاءِ بقيةٌ فلا يبقى في قلوبهم وأوقاتهم من الغيبةِ والحجبةِ والنفرةِ والتهمةِ شَظِيَّة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏61‏]‏

‏{‏أَمْ مَنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ‏(‏61‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏أَمَّن جَعَلَ الأَرْضَ قَرَاراً وَجَعَلَ خِلاَلَهَآ أَنْهَاراً وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِىَ‏}‏‏.‏

نفوسُ العابدين قرارُ طاعتهم، وقلوبُ العارفين قرار معرفتهم، وأرواح الواجدين قرار محبتهم، وأسرار الموحِّدين قراب مشاهدتهم، في أسرارهم أنوار الوصله وعيون القربة، وبها يسكن ظمأُ اشتياقهم وهيجانُ قَلَقِهم واحتراقِهم‏.‏

‏{‏وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِىَ‏}‏ من الخوف والرجاء، والرغبة والرهبة‏.‏

ويقال ‏{‏وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِىَ‏}‏ اليقين والتوكل‏.‏

ويقال الرواسي في الأرض الأبدالُ والأولياء والأوتاد؛ بهم يديم إمساكَ الأرض، وببركاتهم يَدْفَعُ عن أهلها البلاء‏.‏

ويقال الرواسي هم الأئمة الذين يَهْدُون المسترشدين إلى الله‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزاً أَءِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ‏}‏‏.‏

‏{‏وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزاً‏}‏ بين القلب والنفس لئلا يغلب أحدُهما صاحبَه‏.‏ ويقال بين العبودية وأحكامها، والحقيقة وأحكامها، فلو غَلَبَتْ العبوديةُ كان جَحْداً للحقيقة، ولو غلبت الحقيقةُ العبوديةَ كانت طَيّاً للشريعة‏.‏

ويقال‏:‏ ألْسِنَةُ المريدين مَقَرُّ ذكره، وأسماعُهم مَحلُّ الإدراك الموصِّل إلى الفهم، والعيون مقر الاعتبار‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏62‏]‏

‏{‏أَمْ مَنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ ‏(‏62‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ‏}‏‏.‏ فَصَلَ بين الإجابة وبين كَشْفِ السوء؛ فالإجابةُ بالقَولِ والكشفُ بالطَّوْلِ، الإجابة بالكلام والكشفُ بالإنعام‏.‏ ودعاءُ المضطر لا حجابَ له، وكذلك دعاء المظلوم ولكن ‏{‏لِكُلِّ أَجِلٍ كِتَابٌ‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏ 38‏]‏‏.‏

ويقال للجناية‏:‏ سراية؛ فَمَنْ كان في الجناية مختاراً فليس تسلم له دعوى الاضطرار عند سراية جُرْمِه الذي سَلَفَ منه وهو مختارٌ فيه، فأكثر الناس يتوهمون أنهم مضطرون، وذلك الاضطرار سراية ما بَدَرَ منهم في حال اختيارهم‏.‏

وما دام العبدُ يتوهم من نفسه شيئاً من الحَوْلَ والحيلة، ويرى لنفسه شيئاً من الأسباب يعتمد عليه أو يستند إليه- فليس بمضطرٍ، فالمضطرُّ يرى نَفْسَه كالغريق في البحر، أو الضَّالِّ في المتاهة، وهو يرى عِنَانَه بيد سَيِّدِه، وزِمَامه في قبضته، فهو كالميت بين يدي غاسِله، وهولا يرى لنفسه استحقاقاً للنجاة؛ لاعتقاده في نفسه أنه من أهل السخط، ولا يقرأ اسمه إلا من ديوان الشقاوة‏.‏

ولا ينبغي للمضطر أن يستعين بأحدٍ في أن يدعوَ له، لأنَّ اللَّهَ وَعَدَ الإجابة له *** لا لمن يدعو له‏.‏

ثم كما وَعَدَ المضطرَّ الإجابةَ وكَشْفَ السوء وَعَدَه بقوله‏:‏-

‏{‏وَيَجْعَلُكُمْ خَلَفَآءَ الأَرْضِ أَءِلَه مَّعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ‏}‏‏.‏

فإنَّ مع العسر يسراً، ولم يقل‏:‏ العسر إزالة، ولكن قال‏:‏ مع العسرِ يُسْرٌ؛ فنهارُ اليُسْرِ حاصلٌ بعد ظلام العُسْرِ‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏أَءِلَه مَّعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ‏}‏ لأنَّ العبدَ إذا زَالَ عُسْرهُ، وكُشِفَ عنه ضُرُّه نَسِيَ ما كان فيه، وكما قال القائل‏:‏

كأنَّ الفتى لم يَعْرَ يوماً إذا اكتسى *** ولم يَكُ صعلوكاً إذا ما تَمَوَّلاَ

تفسير الآية رقم ‏[‏63‏]‏

‏{‏أَمْ مَنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ ‏(‏63‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏أَمَّن يَهْدِيكُمْ فِى ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ‏}‏‏.‏

إذا أظلم الوقتُ على صاحبه في متعارض الخواطر عند استبهام وجه الصواب، وضاق الأمرُ بسبب وحشة التدبير وظلمات أحوال التجويز، والتحيُّر عند طلب ترجيح بعض الخواطر على بعضٍ بشواهد العقل‏.‏‏.‏ فَمَنْ الذي يرشدكم لوجه الصواب بِتَركِ التدبير، وللاستسلام لحكم التقدير، وللخروج من ظلمات مجوَّزات العقول إلى قضايا شهود التقدير، وتفويض الأمر إلى اختيار الحق، والاستسلام لما جَرَتْ به الأقسامُ، وسبَقَت به الأقدار‏؟‏‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏وََمَن يُرْسِلُ الرِّّيَاحَ بُشْرَا بَيْنَ يَدَى رَحْمَتِهِ أَءِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ‏}‏‏.‏

مَنْ الذي يُرْسِلُ رياحَ فَضْلِه بين يدي أنوار اختياره فيمحوَ آثارَ اختيارِ نَفْسِك، ويعجِّلَ بحُسنْ الكفاية لك‏؟‏

ويقال‏:‏ يرسل رياحَ التوكل فيُطَهِّرُ القلوبَ من آثار الاختيار وأوضار التدبير، ثم يُطْلِعُ شموسَ الرضا فيحصلُ بَردُ الكفاية فوق المأمول في حال سكينة القلب‏.‏‏.‏ ‏{‏أَءِلَةٌ مَّعَ اللَّهِ‏}‏‏؟‏ ‏{‏تَعَالَى الله عَمَّا يُشْرِكُونَ‏}‏‏:‏ من إحالة المقادير على الأسباب‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏64‏]‏

‏{‏أَمْ مَنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ‏(‏64‏)‏‏}‏

يُظِهرُ ما يُظْهِرُ بقدرته على مقتضى سابق حُكْمِه، ويخصص ما تعلقت به مشيئته وحقَّ فيه قولُه، وسَبَقَ به قضاؤه وقَدَرُه فإذا زال وانتفى وانعدم بعضُ ما يظهر ويخصص‏.‏‏.‏ فَمَنْ الذي يعيده مثلما بدأه‏؟‏ ومن الذي يضيَّق الرزقَ ويُوَسِّعُه‏؟‏ ومن الذي يقبض في بعض الأوقات على بعض الأشخاص‏؟‏ وفي وقت آخر مَنْ الذي يبسط على قوم آخرين‏؟‏

هل في قدرة أحدٍ غيرِ اللَّهِ ذلك‏؟‏

إِنْ توهمتم شيئاً منذ لك فأَوْضِحُوا عنه حُجَّتَكم‏.‏‏.‏ وإذ قد عجزتم‏.‏‏.‏ فهلاَّ صَدَّقْتُم‏؟‏ وبالتوحيد أقررتم‏؟‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏65‏]‏

‏{‏قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ ‏(‏65‏)‏‏}‏

‏{‏الْغَيْبَ‏}‏‏:‏ ما لا يطلع عليه أحد، وليس عليه للخلْق دليل، وهو الذي يستأثر بعلمه الحقُّ، وعلومُ الخَلْق عنه متقاصرة، ثم يريد اللَّهُ أن يخصَّ قوماً بعلمه أفردهم به‏.‏

‏{‏وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ‏}‏‏:‏ فإنه أخفى علَم الساعة عن كل أحدٍ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏66‏]‏

‏{‏بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآَخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمُونَ ‏(‏66‏)‏‏}‏

فهم في الجملة يَشُكُّون فيه؛ فلا ينفونه ولا بالقطع يجحدونه‏.‏‏.‏ وهكذا حُكْمُ كلِّ مريضٍ القلب، فلا حياةَ له في الحقيقة، ولا راحةَ له من يأسه، إذ هو من البعث في شكٍّ، ومن الحياة الثانية في استبعاد‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏67- 68‏]‏

‏{‏وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَئِذَا كُنَّا تُرَابًا وَآَبَاؤُنَا أَئِنَّا لَمُخْرَجُونَ ‏(‏67‏)‏ لَقَدْ وُعِدْنَا هَذَا نَحْنُ وَآَبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ ‏(‏68‏)‏‏}‏

وُعِدَ آباؤنا بذلك من قبل، ثم لم يكن لهم تحقيق، وما نحن إلا مِثْلُهم، وكانوا يسألون متى الساعة‏؟‏

تفسير الآية رقم ‏[‏71‏]‏

‏{‏وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ‏(‏71‏)‏‏}‏

فقال الحقُّ‏:‏ إنه عن قريبٍ سيحل بهم ميقاته‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏72- 73‏]‏

‏{‏قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ ‏(‏72‏)‏ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ ‏(‏73‏)‏‏}‏

لأنهم لا يُمَيِّزُون بين مِحَنِهم ومِنَحهم‏.‏ وعزيزٌ مَنْ يَعْرِفُ الفَرْقَ بين ما هو نعمةٌ من الله له وبين ما هو محنة؛ فإذاً تقاصَرَ عِلْمُ العبدِ عمَّا فيه صلاحه، فعسى أن يحب شيئاً ويظنَّه خيراً وبلاؤه فيه، ورُبَّ شيءٍ يظنُّه العبدُ نعمةً فيشكر عليها ويستديمها، وهي محنةٌ له يجب الصبر عليها والتضرع إلى الله في صَرْفِها‏!‏ وبعكس هذا كم من شيءٍ يظنه الإنسان بخلاف ما هو به‏!‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏74‏]‏

‏{‏وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ ‏(‏74‏)‏‏}‏

لا تَلْتَبِسُ على الله أحوالُهم؛ فصادِقٌ يستوي ظاهِرُه وباطنُه يعلمه، ومنافقٌ يخالف باطنُه ظاهرَه يُلَبِّسُ على الناس حالَه‏.‏‏.‏ وهو- سبحانه- يعلمه، وكافِرٌ يستوي في الجَحْدِ سِرُّه وعَلَنُه يعلمه، وهو يجازي كلاً على ما عَلِمَه‏.‏‏.‏ كيف لا‏.‏‏.‏ وهو قَدَّره، وعلى ما عليه قضاه وقَسَمَه‏؟‏‏!‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏75‏]‏

‏{‏وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ ‏(‏75‏)‏‏}‏

ما من شيء إلاَّ مُثْبَتٌ في اللوح المحفوظ حُكْمُه، ماضيةٌ فيه مشيئته، متعلِّقٌ به عِلْمُه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏76- 77‏]‏

‏{‏إِنَّ هَذَا الْقُرْآَنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ‏(‏76‏)‏ وَإِنَّهُ لَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ ‏(‏77‏)‏‏}‏

وهم يُخْفُون بعضاً، وبعضاً يُظْهِرُون، ومع ما يَهْوَوْن يدورون‏.‏

وفي هِذه الآية تخصيص لهذه الأمة بأن حفظ الله كتابَهم، وعَصَمَ مِنَ التغيير والتبديل ما به يدينون‏.‏ وهذه نعمةٌ عظيمةٌ قليلٌ منهم مَنْ عليها يشكرون؛ فالقرآن هدًى ورحمة للمؤمنين، وليس ككتابهم الذي أخبر الصادقُ أنهم له مُحَرِّفون مُبَدِّلُون‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏78‏]‏

‏{‏إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ ‏(‏78‏)‏‏}‏

هو ‏{‏الْعَزِيزُ‏}‏ المُعِزُّ للمؤمنين، ‏{‏الْعَلِيمُ‏}‏ بما يستحقه كلُّ أحدٍ من الثواب العظيم والعذاب الأليم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏79‏]‏

‏{‏فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ ‏(‏79‏)‏‏}‏

أي اجتهد في أداء فَرْضِه، وثِقْ بصدق وعده في نصره ورزقه، وكفايته وعَوْنِه‏.‏ ولا يهولنَّكَ ما يجري على ظواهرهم من أذًى يتصل منهم بك، فإنما ذلك كلُّه بتسليطنا إن كان محذوراً، وبتقييضنا وتسهيلنا إن كان محبوباً‏.‏ وإنك لَعَلَى حقٍّ وضياءٍ صِدْقٍ، وهم على شكٍ وظلمةِ شِركٍ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏80‏]‏

‏{‏إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ ‏(‏80‏)‏‏}‏

الذين أمات اللَّهُ قلوبَهم بالشِّرْكِ، وأَصَمَّهم عن سماع الحق- فليس في قُدْرَتِكَ أَنْ تَهْدِيَهم للرُّشْدِ أو تنقذهم من أُسْرِ الشكِّ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏81‏]‏

‏{‏وَمَا أَنْتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآَيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ ‏(‏81‏)‏‏}‏

أنت تهديهم من حيث الدعاء والدلالة، ولكنك لا تهدي أحداً من حيث إزالة الباطل من القلب وإمالته إلى العرفان، إذ ليست بقُدْرَتِكَ الإزالة أو الإمالة‏.‏

أنت لا تُسْمِعُ إِلاّ مَنْ يؤمِن بآياتنا، فلا يَسْمَعُ منك إِلاّ مَنْ أسعدناه من حيث التوفيق والإرشاد إِلى الطريق‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏82‏]‏

‏{‏وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآَيَاتِنَا لَا يُوقِنُونَ ‏(‏82‏)‏‏}‏

إذا حقَّ الوعدُ بإقامةِ القيامةِ أوضحنا أشراطَها في كلامِ الدَّابةِ المُخْرِجَةِ من الأرضِ وغير ذلك من الآيات‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏83‏]‏

‏{‏وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجًا مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآَيَاتِنَا فَهُمْ يُوزَعُونَ ‏(‏83‏)‏‏}‏

وعند ذلك لا ينفع الإيمانُ ولا يُقْبَلُ العُذْرُ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏85‏]‏

‏{‏وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِمَا ظَلَمُوا فَهُمْ لَا يَنْطِقُونَ ‏(‏85‏)‏‏}‏

ثم كَرَّرَ ذكر الليل والنهار واختلافهما‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏86‏]‏

‏{‏أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ‏(‏86‏)‏‏}‏

أي ليكونَ الليلُ وقتَ سكونِهم، والنهارُ وقتَ طلبِ معاشِهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏87‏]‏

‏{‏وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ ‏(‏87‏)‏‏}‏

أخبر أن اليومَ الذي يُنْفَخُ فيه في الصور هو يومُ إزهاق الأَرواح، وإخراجها عن الأجساد؛ فَمِنْ روحٍ ترقى إلى عِلِّيين، ومِنْ روحٍ تذهب إلى سجِّين‏.‏‏.‏ أولئك في حواصل طيرٍ تسرح في الجنة تأوي بالليلِ إلى قناديلَ معلقةٍ من تحت العرش صفتها التسبيح والرّوْح والراحة، ولبعضها الشهود والرؤية *** على مقادير استحقاقهم لِمَا كانوا عليه في دنياهم‏.‏

وأمَّا أرواحُ الكفار ففي النار تُعّذَّب على مقادير أجرامهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏88‏]‏

‏{‏وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ ‏(‏88‏)‏‏}‏

وكثيرٌ من الناس اليومَ من أصحاب التمكين، هم ساكنون بنفوسهم سائحون في الملكوت بأسرارهم‏.‏‏.‏ قيل‏:‏ إن الإشارة اليومَ إليهم‏.‏ كما قالوا‏:‏ العارف كائنٌ بائِنٌ؛ كائنٌ مع الناس بظاهره، بائنٌ عن جميع الخَلْق بسرائره‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏89- 90‏]‏

‏{‏مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آَمِنُونَ ‏(‏89‏)‏ وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ‏(‏90‏)‏‏}‏

يحتمل أن يكون ‏{‏خير‏}‏ ها هنا للمبالغة؛ لأن الذي له في الآخرةِ من الثوابِ خيرٌ مِمَّا منه من القُرَب‏:‏ ويحتمل فله نصيب خيرٌ أو عاقبة خيرٌ أو ثواب خيرٌ منها‏.‏ وهم آمنون مِنْ فَزَعِ القيامة‏.‏ ومن جاء بالسيئة‏:‏ فكما أن حالَهم اليوم من المطيعين بالعكس فَحُكْمُهم غَداً في الآخرة بالضدِّ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏91‏]‏

‏{‏إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ‏(‏91‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ‏}‏‏.‏

أخبر أنه أمره بالدين الحنيفيِّ، والتبرِّي من الشِّركِ؛ الجليِّ منه والخفيِّ، وبملازمةِ الطريق السَّويِّ‏.‏ وأخبر أَنَّ مَنْ اتبعه وصَدَّقَه أوجب الحقُّ ذمامه وحقَّه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏93‏]‏

‏{‏وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آَيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ‏(‏93‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏وَقُلِ الَْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيِكُمْ ءَايَاتِهِ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏‏.‏

سيريكم- عن قريبٍ- آياته، فطوبى لِمَنْ رجع قبل وفاته، والويلُ على مَنْ رجع بعد ذهاب الوقت وفواته‏!‏‏.‏

سورة القصص

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 2‏]‏

‏{‏طسم ‏(‏1‏)‏ تِلْكَ آَيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ ‏(‏2‏)‏‏}‏

«الطاء» تشير إلى طهارة نُفُوسِ العابدين عن عبادة غير الله، وطهارة قلوب العارفين عن تعظيم غير الله، وطهارة أرواح الواجدين عن محبة غير الله، وطهارة أسرار الموحِّدين عن شهود غير الله‏.‏ «والسين» تشير إلى سِرِّ اللَّهِ مع العاصين بالنجاة، ومع المطيعين بالدرجات، ومع المحبين بدوام المناجاة‏.‏ «والميم» تشير إلى مِنَّتِه على كافة المؤمنين بكفاية الأوقات والثبات في سبيل الخيرات‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏3‏]‏

‏{‏نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ‏(‏3‏)‏‏}‏

سماعُ قصةِ الحبيبِ من الحبيب يُوجِبُ سلوةَ القلب، وذهابَ الكَرْبِ، وبهجةَ السِّرِّ، وثَلَج الفؤاد‏.‏ وقد كرَّر ذكر قصة موسى تفخيماً لشأنه وتعظيماً لقَدْرِه، ثم زيادةً في البيان لبلاغة القرآن، ثم إفادةً لزوائدَ في المذكور قولُه في كل موضع يتكرر فيه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏4‏]‏

‏{‏إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ ‏(‏4‏)‏‏}‏

تكبَّر فرعونُ بغير حقٍّ فأقماه بحقٍّ، وتجبَّرَ بغير استحقاق فأَذَلَّة الله باستحقاق واستيجاب، وجعل أهلها شيعاً يذبِّح أبناءَهم بعد ما استضعفهم، ويستحي نساءَهم، وأفنى منهم من كان ‏(‏‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏، وبالفساد حَكَمَ فيهم، واللَّهُ لم يرضَ بِتَرْكِ إتلافهم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏5- 6‏]‏

‏{‏وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ ‏(‏5‏)‏ وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ ‏(‏6‏)‏‏}‏

نريد أن نَمُنَّ على المستَضْعَفِين بالخلاص من أيديهم، وأَنْ نجعلَهم أئمةً، بهم يَهْتَدِي الخلْقُ، ومنهم يتعلم الناسُ سلوكَ طريق الصدق، ونبارك في أعمارهم، فيصيرون وارثين لأعمار مَنْ يُنَاويهم، وتصير إليهم مساكنهم ومنازلهم؛ فهم هُدَاةٌ وأعلامٌ، وسادةٌ وقَادَةٌ؛ بهم يُقْتَدَى وبنُورِهم يُهْتَدَى‏.‏

‏{‏وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِى الأَرْضِ‏}‏‏:‏ نُزِيلُ عنهم الخوفَ، ونرزقهم البسط والاقتدار، ونمد لَهُمْ في الأجل‏.‏ ونُرِى فرعونَ وهامانَ وقومهما ما كانوا يحذرون من زوال مُلْكِهِم على أيديهم؛ وأَنَّ الحقَّ يُعْطِي- وإن كان عند الخَلْق أَنَّهُ يُبْطي‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏7‏]‏

‏{‏وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ ‏(‏7‏)‏‏}‏

أي ألقينا في قلبها، وأوحينا إليها وحيَ إلهامٍ، فاتخذت خاطرها في ذلك، وجرى منها ذلك وهي مختارة باختيارٍ أُدْخِلَ عليها‏.‏

لمَّا وضعت أم موسى كانت تخاف قتله، فإن فرعون قَتَلَ في ذلك اليوم كثيراً من الولدان المولودة لبني اسرائيل، رجاءَ أن يقتلَ مَنْ رأى في النوم ما عُبِّر له أن ذهابَ مُلْكِه على يدي إسرائيلي‏.‏‏.‏ فألقى الله في قلبها أن تفعل ذلك‏.‏

ثم إنه ربَّاه في حِجْرِه ذلك اليومَ- ليُعْلَمَ أنَّ الأقدارَ لا تُغَالَبُ‏.‏

جعلت أم موسى موسى في تابوتٍ، وألقته في نيل مصر، فجاء الماءُ به إلى بِرْكةٍ كان فرعونُ جالساً على حافتها، فأخذوه وحملوه إليه، وفتحوا رأسَ التابوت، فلمَّا رآه فرعون أخَذَتْ رؤيتُه بمجامع قلبه، وكذلك تمكَّن حُبَّه من قلب امرأةِ فرعون، قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 39‏]‏ حيث خَلَقَ الله ملامحةً في عيني موسى؛ فكان من يقع عليه بَصَرُه لا يتمالك من حُبِّه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏8‏]‏

‏{‏فَالْتَقَطَهُ آَلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ ‏(‏8‏)‏‏}‏

أخبر الله تعالى أنه كان عدواً لهم، وقالت امرأةُ فرعون‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏9‏]‏

‏{‏وَقَالَتِ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ قُرَّةُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لَا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ ‏(‏9‏)‏‏}‏

فلم يكن لهما ولد، وهم لا يشعرون إلى ماذا يؤول أمره‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏10‏]‏

‏{‏وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ‏(‏10‏)‏‏}‏

لمّا ألقته في الماء سَكَّنَ اللَّهُ قلبَها، وربط عليه، وألهمها الصبر، وأصبح فؤادها فارغاً إن كادت لتبدي به من حيث ضعف البشرية، ولكن الله ربط على قلبها‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏11‏]‏

‏{‏وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ ‏(‏11‏)‏‏}‏

أمَرَتْ أُمُّ موسى أختَه أن تتبعَ أثره، وتنظرَ إلى ماذا يؤول أمره، فلمَّا وجدوه واستمكن حُبُّه من قلوبهم طلبوا مَنْ يُرضِعه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏12- 13‏]‏

‏{‏وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ ‏(‏12‏)‏ فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ‏(‏13‏)‏‏}‏

أبَى موسى قبولَ ثدِي واحدةٍ ممن عُرِضَ عليهن‏.‏‏.‏ فَمَنْ بالغداة كانوا في اهتمامٍ كيف يقتلونه أمسوا- وهم في جهدهم- كيف يُغَذُونه‏!‏

فلمَّا أعياهم أَمرُه، قالت لهم أخته‏:‏ ‏{‏هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ‏}‏‏؟‏ فَقَبِلُوا نصيحتها شفقة منهم عليه، وقالوا‏:‏ نعم، فرُّدوه إلى أمه، فلما وضعت ثديها في فمه ارتضعها موسى فَسُرُّوى بذلك، وكانوا يَدْعُون أُمَّه حاضنةً ومرضعةً‏.‏‏.‏ ولم يُضِرْها، وكانوا يقولون عن فرعون‏:‏ إنه أبوه‏.‏‏.‏ ولم ينفعه ذلك‏!‏

ولمَّا أخذته أمُّه علمت بتصديق الله ظنها، وسكن عن الانزعاج قلبُها، وجرى من قصة فرعون ما جرى‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏14‏]‏

‏{‏وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آَتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ‏(‏14‏)‏‏}‏

لمَّا كَمُلَتْ سِنُّه وتمَّ عقلُه، واستوى كمال خصاله ‏{‏ءَاتَيْنَاهُ حُكْماً‏}‏‏:‏ أي أَتْمَمْنَا له التحصيل، وَوَفَّرْنا له العلم، وبذلك جَرَتْ سُنَّتُنا مع الأكابر والأنبياء‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏15‏]‏

‏{‏وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ ‏(‏15‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏وَدَخَلَ الْمَدِنَيةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِّنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلاَن هَذَا مِن شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ‏}‏ الآية‏.‏

قيل‏:‏ دخل المدينةَ في وقت الهاجرة، وتَفَرُّقِ الناس، فَوَجَدَ فيها رجلين يتخاصمان‏:‏ أحدهما إسرائيليٌّ من شيعة موسى وعلى دِينه، والآخرُ قِبطيٌّ مخالفٌ لهما، فاستغاث الإسرائيليُّ بموسى على القبطي، فوكَزَه موسى ليَدْفَعَه عن الإسرائيلي، فمات الرجلُ بذلك الوَكْز، ولم يكن موسى يقصد قَتْلَه، فقال موسى‏:‏

‏{‏هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُّضِلٌّ مُّبِينٌ‏}‏‏.‏

فقد تمنَّى موسى أنْ لو دَفَعَه عنه بأَيْسَرَ مما دفعه، ولم ينسب القتل إلى الشيطان، ولكنَّ دَفْعَهُ عنه بالغلظةِ نَسَبَه إلى الشيطان بأَنْ حَمَلَه على تلك الحِدَّة‏.‏

وهكذا‏.‏‏.‏ إذا أراده اللَّهُ أمراً أجرى أسباباً ليَحْصُلَ بها مرادُه، ولو أنه أراد فتنةَ موسى لَمَا قَبَضَ روحَ الرجلِ بمثل تلك الوكزة، فقد يُضْرَبُ الرجلُ الكثيرَ من الضَّرْبِ والسياط ثم لا يموت؛ فموتُ القبطي بوكزةٍ إجراءٌ لما قضاه وأراده‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏16‏]‏

‏{‏قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ‏(‏16‏)‏‏}‏

تاب موسى عَمَّا جرى على يده، واستغفر ربَّه، وأخبر اللَّهُ أنه غَفَرَ له، ولا عتابَ بعد المغفرة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏17‏]‏

‏{‏قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ ‏(‏17‏)‏‏}‏

قال موسى ربِّ بما أنعمت عليَّ من توفيقك لي بالتوبة فلن أعودَ بعد ذلك إلى مثل ما سَلَفَ مني‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏18- 19‏]‏

‏{‏فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفًا يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قَالَ لَهُ مُوسَى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ ‏(‏18‏)‏ فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُمَا قَالَ يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالْأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّارًا فِي الْأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ ‏(‏19‏)‏‏}‏

أصبح في المدينة خائفاً على نَفْسه من فرعون لأنه كان يَدَّعي أنه يحكم بالعدل، وخاف موسى أن ينسبه في قَتْلِ القبطيِّ إلى العَمْدِ والقصد‏.‏ فهو ‏{‏يَتَرَقَّبُ‏}‏ علم فرعون وأن يُخْبَر بذلك في وقته‏.‏

وقيل ‏{‏خَآئِفاً‏}‏ من الله مما جرى منه‏.‏ ويقال ‏{‏خَآئِفاً‏}‏ على قومه حلولَ العذابِ بهم‏.‏ وقيل ‏{‏يَتَرَقَّبُ‏}‏ نصرة الله إياه‏.‏ ويقال ‏{‏يَتَرَقَّبُ‏}‏ مُؤْنِساً يَأْنَسُ به‏.‏

فإذا الذي استنصره بالأمس يخاصِمُ إنساناً آخَرَ، ويستعين به لِيُعِينَه، فَهَمَّ موسى‏.‏ فأن يعين صاحبَه، فقال الذي يخاصمه‏.‏ ‏{‏يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَن تَقْتُلَنِى كَمَا قَتَلْتَ نَفْسَا بِالأَمْسِ‏}‏‏؟‏‏:‏ قيل لم يعلم ذلك الرجل أن موسى هو الذي قَتَلَ الرجلَ بالأمس، ولكن لمَّا قَصَدَ مَنْعَه عن صاحبه استدلَ على أن موسى هو الذي قتل الرجل بالأمس، فلما ذكر ذلك شاع في أفواه الناس أنَّ موسى هو الذي قتل القبطيَّ بالأمس، فأمسك موسى عن هذا الرجل‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏20‏]‏

‏{‏وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ ‏(‏20‏)‏‏}‏

جاء إسرائيليٌّ من معارف موسى يسعى، وقال إن القوم يريدون قَتْلَكَ، وأنا واقفٌ على تدبيرهم، وقد أرادوا إعلامَ فرعون‏.‏‏.‏ فاخرُجْ من هذا البلد، إني لك من الناصحين‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏21‏]‏

‏{‏فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ‏(‏21‏)‏‏}‏

خرج من مصر ‏{‏خائفاً‏}‏ أن يقتفوا أَثَرَه، ‏{‏يَتَرَقَّبُ‏}‏ أن يدركه الطلب، وقيل ‏{‏يَتَرَقَّبُ‏}‏ الكفايةَ والنصرةَ من الله، ودعا الله فقال‏:‏ ‏{‏نَجِّنِّى مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ‏}‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏22‏]‏

‏{‏وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ ‏(‏22‏)‏‏}‏

توجَّه بنفسه تلقاء مدين من غير قصدٍ إلى مدين أو غيره، بل خرج على الفتوح، توجَّه بقلبه إلى ربِّه ينتظر أن يهديَه ربُّه إلى النحو الذي هو خيرٌ له، فقال‏:‏ عسى ربي أن يهديني إلى أَرْشَدِ سبيلٍ لي‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏23- 24‏]‏

‏{‏وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ ‏(‏23‏)‏ فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ ‏(‏24‏)‏‏}‏

لمَّا وافى مدينَ شعيب كان وقت الهاجرة، وكانت لهم بئر يستقون منها، فيصبون الماءَ في الحياضِ، ويسقون أغنامهم، وكانوا أهل ماشية‏.‏

وكان شعيبُ النبيُّ عليه السلام قد كُفَّ بَصَره لكثرة بكائه؛ ففي القصة أنه بكى فذهب بَصَرَه، ثم رَدَّ الله عليه بَصَرَه فبكى، فردَّ الله بصرة فبكى حتى ذهب بَصَرَهُ، فأوحى الله إليه‏:‏ لِمَ تبكي يا شعيب‏.‏‏.‏‏؟‏ إِنْ كان بكاؤك لخوف النار فقد أَمَّنْتُكَ، وإن كان لأَجْلِ الجنة فقد أَتَحْتُها لك‏.‏

فقال‏:‏ ربِّ‏.‏‏.‏ إنما أبكي شوقاً إليك‏.‏ فأوحى الله إليه لأجل ذلك أَخْدَمْتُكَ نَبِيِّي وكليمي عَشْرَ حجج‏.‏

وكانت لشعيب أغنامٌ، ولم يكن لديه أجير، فكانت بِنْتاه تسوقان الغنْمَ مكانَ الرعاة، ولم يكن لهما قدرة على استقاء الماء من البئر، وكان الرعاة يستقون، فإذا انقضَوْا فإنْ بَقِيَتْ في الحوضِ بقيةٌ من الماء استقت بنات شعيب‏.‏

فلمَّا وافى موسى ذلك اليومَ وشاهَدَ ذلك ورآهما يمنعان غنمهما عن الماء رَقَّ قلبُه لهما وقال‏:‏ ما خطبكما‏؟‏ فقالتا‏:‏ ‏{‏لاَ نَسْقِى حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَآءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ‏}‏‏.‏ وليس لدينا أجير‏.‏ فلمَّا انصرف الرعاةُ سَقَى لهما، ثم ولّى إلى ظلِّ جدارٍ بعد ذلك‏.‏ كان الجوع قد أصابه خلال سَفَرِه، ولم يكن قد تعوَّد، قط الرحلةَ والغُرْبةَ، ولم يكن معه مالٌ، فدعا الله‏:‏

‏{‏فَقَالَ رَبِّ إِنِّى لِمَآ أَنزَلْتَ إِلَىَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ‏}‏‏.‏

قيل طَلَبَ قوةً تُزِيل جوعَه، وقيل طَلَبَ حالاً يستقِلُّ بها‏.‏ والأحسن أن يقال جاع فَطَلَبَ كِسْرَة يَسُدُّ بها رَمَقَه- والمعرفة توجِب سؤالَ ما تحتاج إليه من الله قليلاً أو كثيراً‏.‏ فلمَّا انصرفت ابنتا شعيب خَرَجَ شعيبُ إلى ظاهر الصحراء على طريق الماشية ليمسَّها بيديه فوجَدَ أثرَ الزيادة في تلك الكَرَّة، فسأَلَهما فَذَكَرَتا له القصة، وما سمعتا منه حين قال‏:‏ ‏{‏رَبِّ إِنِّى لِمَآ َأنزَلْتَ إِلَىَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ‏}‏ فقال شعيب‏:‏ إذاً هو جائع‏.‏ وبَعَثَ إحداهما لتدعوَه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏25‏]‏

‏{‏فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ‏(‏25‏)‏‏}‏

قيل إنما استحيَتْ لأنها كانت تخاطِبُ مَنْ لم يكن لها مَحْرَماً‏.‏

وقيل لمّا دَعَتْه للضيافة تكلمتْ مستحييةً- فالكريم يستحي من الضيافة‏.‏

ويقال لم تَطِبُ نَفْسُ شعيب لمَّا أَحْسَنَ موسى إليه وأنه لم يكافئه- وإن كان موسى لم يُرِدْ مكافأةً منهم ‏{‏فَلَمَّا جَآءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ‏}‏‏:‏ لم يَقُلْ‏:‏ فلما جاءَه قَدَّم السُّفْرةَ بل قال‏:‏ وقصَّ عليه القصص‏.‏‏.‏ وهذا طَرَفٌ من قصته‏.‏

ويقال‏:‏ وَرَدَ بظاهرِه ماءَ مدين، ووَرَدَ بقلبه موارِدَ الأُنْس والرَّوْح‏.‏ والموارد مختلفة؛ فمواردُ القلبِ رياضُ البَّسطِ بكشوفات المحاضرة فيطربون بأنواع الملاطَفَة، ومواردُ الأرواح مشاهدُ الأرواح فيُكَاشَفون بأنوار المشاهدة، فيغيبون عن كل إحساسٍ بالنَّفْسِ، ومواردُ الأسرارِ ساحاتُ التوحيدِ‏.‏‏.‏ وعند ذلك الولاية لله، فلا نَفْسَ ولا حِسَّ، ولا قلبَ ولا أُنْسَ‏.‏‏.‏ استهلاكٌ في الصمدية وفناءٌ بالكليةّ‏!‏

ويقال كانت الأجنبيةُ والبعد عن المحرميَّة يوجبان إمساكه عن مخاطبتهما، والإعراضَ والسكونَ عن سؤالهما‏.‏‏.‏ ولكن الذي بينهما من المشاكلة والموافقة بالسِّرِّ استنطقة حتى سألهما عن قصتهما، كما قيل‏:‏

أَجَارَتَنا إِنَّا غريبان ها هنا *** وكلُّ غريبٍ للغريبِ نسيبُ

ويقال‏:‏ لمَّا سألهما وأخبرتا عن ضعفهما لزمه القيامُ بأمرهما؛ ليُعْلَمَ أنَّ مَنْ تَفَقَّدَ أمرَ الضعفاء ووقف على موضع فاقتهم لزمه إشكاؤُهم‏.‏

ويقال مِنْ كمالِ البلاء على موسى أَنَّه وافى الناسَ وكان جائعاً، وكان مقتضى الرِّفْقِ أَنْ يُطْعِموه، ولكنه قَبَضَ القلوبَ عنه، واستقبله مِنْ موجباتِ حُكْمِ الوقتِ أَنْ يعملَ أربعين رجلاً؛ لأن الصخرة التي نَحَّاها عن رأس البئر- وَحْدَه- كان ينقلها أربعون رجلاً، فلمَّا عَمِلَ عَمَلَ أربعين رجلاٌ، تولَّى إلى الظِّلِّ، وقال‏:‏ إنْ رأيتَ أَنْ تُطْعِمَني بعد مُقَاساة اللتيا والتي‏.‏‏.‏ فذلك فَضْلُكَ‏!‏‏.‏

قال ذلك بلسان الانبساط، ولا لسانَ أحلى من ذلك‏.‏ وسُنَّةُ الشكوى أن تكون إليه لا مِنْكَ‏.‏‏.‏ بل منه إليه‏.‏

ويقال‏:‏ تولَّى إلى ظلِّ الأُنْس ورَوْح البسط واستقلال السِّرِّ بحقيقة الوجود‏.‏

ويقال قال‏:‏ ‏{‏رَبِّ إِنِّى لِمَآ أَنزَلْتَ إِلَىَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ‏}‏‏:‏ فَزِدْني فقراً؛ فإنَّ فقري إليك يوجِبُ استعانتي بك‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏26- 27‏]‏

‏{‏قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ ‏(‏26‏)‏ قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ ‏(‏27‏)‏‏}‏

كان شُعيبُ عليه السلام يحتاج إلى أجير، ولكن لا يسكن قلبُ إلى أحدٍ، فلمَّا رأى موسى، وسمع من ابنته وصفةَ بالقوة والأمانة سأل‏:‏

عَرَفْتُ قُوَّتَه‏.‏‏.‏ فكيف عرفْتِ أمانتَه‏؟‏

فقالت‏:‏ كنتُ أمشي قُدَّامَه فأَخَّرَني عنه في الطريق قائلاً‏:‏ سيري ورائي واهديني، لئلا يَقَعَ بَصَرُه عليَّ‏.‏‏.‏ فقال شعيب‏:‏

‏{‏قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَىَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَن تَأْجُرَنِى ثَمَانِىَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِندِكَ وَمَآ أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِى إِن شَآءَ اللهُ مِنَ الصَّالِحِينَ‏}‏‏.‏

فرغب موسى وتزوجها على صداقٍ أن يعمل عشر حجج لشعيب‏.‏

وفي القصة أن شعيباً قال لموسى‏:‏ ادخلْ هذا البيتَ وأخْرِجْ مما فيه من العِصِيِّ عصاً، وكان البيتُ مظلِماً، فَدَخَل وأخرج العصا، تلك التي أظهر الله فيها معجزاته، ويقال‏:‏ إنها كانت لآدم عليه السلام، ووقعت لشعيب من نبيٍّ إلى نبيٍّ‏.‏ إذ يقال‏:‏ إنه لما هَبَطَ آدمُ إلى الأرض صال عليه ما على وجهها من السَِّباع، فأنزل عليه الله عصاً، وأمَرَه جبريلُ أنْ يَرُدَّ السباعَ عن نَفْسِه بتلك العصا‏.‏

وتوارث الأنبياءُ واحداً بعد الآخر تلك العصا، فلمَّا أخرج موسى تلك العصا، قال شعيب‏:‏ ردَّها إلى البيت، واطرحها فيه، وأخْرِجْ عصاً أخرى، فَفَعَلَ غير مرة، ولم تحصل كلَّ مرة في يده إلا تلك العصا، فلمَّ تَكَرَّرَ ذلك عِلِمَ شعيبُ أنَّ له شأناً فأعطاه إياها‏.‏

وفي القصة‏:‏ أنه في اليوم الأول ساق غَنَمه، وقال له شعيب‏:‏ إنَّ طريقَكَ يتشعب شِعْبَيْن‏:‏ على أحدهما كَلأٌ كثيرٌ *** فلا تَسْلُكْه في الرعي فإنَّ فيه ثعباناً، واسْلُكْ الشِّعْبَ الآخرَ‏.‏ فلمَّا بلغ موسى مَفْرِقَ الطريقين، تَفَرَّقَتْ أغنامُه ولم تطاوعه، وسامت في الشِّعْبِ الكثيرِ الكَلأَ، فَتَبِعَها، ووقع عليه النومُ، فلمَّا انتبه رأى الثعبانَ مقتولاً، فإن العصا قتلته، ولمَّا انصرف أخبر شعيباً بذلك فَسُرَّ به‏.‏ وهكذا كان يرى موسى في عصاه آياتٍ كثيرة، ولذا قال‏:‏ ‏{‏وَلِىَ فِيهَا مَئَارِبُ أُخْرَى‏}‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏29‏]‏

‏{‏فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آَنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آَنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آَتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ ‏(‏29‏)‏‏}‏

مَضَتْ عَشْرُ حِجَجٍ، وأراد موسى الخروجَ إلى مصر، فَحَمَلَ ابنَه شعيب، وسارَ بأهله متوجِّهاً إلى مصر‏.‏ فكان أهلُه في تسييره وكان هو في تسيير الحقِّ، ولمَّا ظَهَرَ ما ظهر بامرأته من أمر الطِّلْقِ استصعب عليه الوقتُ، وبينا هو كذلك آنسَ من جانب الطور ناراً- أي أبصر ورأى- فكأنه يشير إلى رؤية فيها نوعُ أُنْسٍ‏:‏ وإنَّ اللَّهَ إِذا أراد أمراً أجْرَى ما يليق به، ولو لم تقع تلك الحالةُ لم يخرج موسى عندها بإيناس النار، وقد توهم- أول الأمر- أن ما يستقبله في ذلك من جملة البلايا، ولكنه كان في الحقيقة سَبَبَ تحقيق النبوة‏.‏ فلولا أسرار التقدير- التي لا يهتدي إليها الخَلْقُ- لما قال لأهله‏:‏ ‏{‏امْكُثُواْ إِنِّى ءَانَسْتُ نَاراً لَّعَلِّى ءَاتِيكُم مِّنْهَا بِخَبَرٍ‏}‏‏.‏

ويقال‏:‏ أراح له ناراً ثم لَوَّح له نوراً، ثم بدا ما بدا، ولا كان المقصودْ النَّارَ ولا النورَ‏.‏ وإنما سماع نداء‏:‏ ‏{‏إِنِّى أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالِمِينَ‏}‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏30‏]‏

‏{‏فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ‏(‏30‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏فَلَمَّآ أَتَاهَا نُودِىَ مِن شَطِئِ الْوَادِ الأَيْمَنِ فِى الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَن‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏.‏

أخفى تعيين قَدَم موسى على الظنون بهذا الخطاب حيث قال‏:‏ «من شاطئ الواد الأيمن»، ثم قال‏:‏ «في البقعة المباركة» ثم قال «من الشجرة»‏.‏

وأخْلِقْ بأن تكون تلك البقعة مباركة، فعندها سَمِعَ خطابَ مولاه بلا واسطة؛ وأعِزُّ الأماكنِ في العالمِ مَشْهَدُ الأحباب‏:‏

وإني لأهوى الدارَ ما يستعزني *** لها الود إلا أنها من دياركا

ويقال كم قَدَمٍ وَطَئَتْ لك البقعة، ولكن لم يسمع أصحابُها بها شيئاً‏!‏‏.‏‏.‏ وكم ليلةٍ جَنَّت تلك البقعة ولم يظهر من تلك النار فيها شعلة‏!‏‏.‏

ويقال‏:‏ شتَّان بين شجرة وشجرة؛ شجرة آدم عندها ظهور محنتِه وفتنتِه، وشجرة موسى وعندها افتتاح نُبُوَّتِه ورسالتِه‏!‏‏.‏

ويقالك لم يأتِ بالتفصيل نوعُ تلك الشجرة، ولا يُدْرَى ما الذي كانت تثمره، بل هي شجرة الوصلة؛ وثمرتها القربة، وأصلُها في أرض المحبة وفَرْعُها باسِقٌ في سماء الصفوة، وأوراقها الزلفة، وأزهارها تَنْفَتِقُ عن نسيم الرَّوْح والبهجة‏:‏

فلمَّا سمع موسى تغيَّر عليه الحال؛ ففي القصة‏:‏ أنه غُشِي عليه، وأرسل اللَّهُ إليه الملائكة لِيُرِّوحوه بمراوح الأُنْس، وهذا كان في ابتداء الأمر، والمبتدئ مرفوقٌ به‏.‏ وفي المرة الأخرى خرَّ موسى صَعِقاً، وكان يفيق والملائكة تقوله له‏:‏ يا ابن الحيض‏.‏ أمثالك مَنْ يسأل الرؤية‏؟‏‏!‏‏.‏

وكذا الحديث والقصة؛ في البداية لُطْفٌ وفي النهاية عُنْفٌ، في الأولِ خَتْل وفي الآخرِ قَتْل، كما قيل‏:‏

فلمَّا دارت الصهباءُ *** دعا بالنَّطع والسيفِ

كذا مَنْ يشرب الراح *** مع التِّنِّين في الصيفِ

تفسير الآية رقم ‏[‏31‏]‏

‏{‏وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآَهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى أَقْبِلْ وَلَا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآَمِنِينَ ‏(‏31‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ‏}‏‏.‏

يا موسى‏.‏‏.‏ اخْلَعْ نعليكَ وألقِ عصاك، وأقِمْ عندنا هذه الليلة، فلقد تَعِبْتَ في الطريق- وذلك إن لم يكن في النقل والآثار فهو مما يليق بتلك الحال‏.‏

يا موسى‏.‏‏.‏ كيف كُنْتَ في الطريق‏؟‏ كيف صَعَّدْتَ وكيف صوَّبت وكيف شرَّقْتَ وكيف غَرَّبْتَ‏؟‏ ما كنتَ في الطريق وحدَك يا موسى‏!‏ أحصَيْنا خُطَاكَ- فقد أحصينا كلَّ شيءٍ عَدَداً‏.‏ يا موسى‏.‏‏.‏ تعِبْتَ فاسترحْ، وبعد ما جِئْتَ فلا تَبْرَحْ- كذلك العبدُ غداً إذا قطع المسافةَ في القيامةِ، وتبوَّأَ مَنْزِلَه من الجنة؛ فأقوامٌ إذا دخلوها رجعوا إلى منازلهم ثم يوم اللقاء يستحضرون، وآخرون يمضون من الطريق إلى بساط الزلفة، وكذا العبد أو الخادم إذا دَخَلَ بَلَدَ سلطانِه‏.‏ يبتدئ أولاً بخدمة الشُّدَّةِ العَلِيَّةِ ثم بعدها ينصرف إلى منزله‏.‏ وكذلك أمرنا؛ إذا أصبحنا كلَّ يوم‏:‏ ألا نشتغِلَ بشيءٍ حتى نَفْتَتِحَ النهارَ بالخطاب مع الحقِّ قبل أن نخاطِبَ المخلوق، نحضر بساط الخدمة- أي الصلاة- بل نحضر بساط الدنوِّ والقربة، قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَاسْجُدْ وَاقْتَرِب‏}‏ ‏[‏العلق‏:‏ 19‏]‏‏:‏ فالمُصَلِّي مُنَاج رَبَّه‏.‏ ولو عَلِمَ المُصَلِّي مَن يناجي ما التفت؛ أي لم يخرج عن صلاته ولم يلتفت يميناً ولا شمالا في التسليم الذي هو التحليل‏.‏

قوله جل ذكره‏:‏ ‏{‏فَلَمَّا رَءَاهَا تَهْتَزُ كَأَنَّهَا جَآنٌ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى أَقْبِلْ وَلاَ تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الأَمِنِينَ‏}‏‏.‏

عندما انقلبت العصا حَيَّةً وَلَّى موسى مُدْبِراً ولم يعقب، وكان موضع ذلك أن يقول‏:‏ حديثٌ أَوَّلُه تسليطُ ثعبان‏!‏ مَنْ ذا يُطِيقُ أوَّلَه‏؟‏‏!‏‏.‏

فقيل له‏:‏ لا تَخَفْ يا موسى؛ إن الذي يَقْدِرُ أَنْ يَقْلِبَ العصا حيةً أن يَخْلُقَ لك منها السلامة‏:‏ ‏{‏يَا مُوسَى أَقْبِلْ وَلاَ تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الأَمِنِينَ‏}‏‏:‏ ليس المقصودُ مِنْ هذا أنت، إنما أثبت هذا لأسلطَه على عدوِّك، فهذه معجزتُك إلى قومك، وآيتُك على عودِّك‏.‏

ويقال‏:‏ شتان بين نبيِّنا- صلى الله عليه وسلم- وبين موسى عليه السلام؛ رجع من سماع الخطاب وأتي بثعبان سَلّطَه على عدوِّه، ونبينا- صلى الله عليه وسلم- رجع بعد ما أُسْرِيَ به إلى السماء، وأوحى إليه ما أوحى- لِيُوَافِيَ أُمَّتَه بالصلاة التي هي المناجاة، وقيل له‏:‏ السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، فقال‏:‏ «السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين»‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏32‏]‏

‏{‏اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ ‏(‏32‏)‏‏}‏

قيل له‏:‏ اسلُكْ يَدَكَ في جيبك، لأنَّ المدرعةَ التي كانت عليه لم يكن لها كُم‏.‏ وفي هذا إِشارة إلى أنه ينبغي على المرء للوصول إلى مراده ومقصوده أن يتشمَّر، وأن يجِدَّ، وأن يُخْرجَ يَدَه من كُمِّه‏.‏ وأنه قال لموسى‏:‏ أدْخِلْ يَدَكَ في جيبك تخرج بيضاءَ، وألق عصاكَ نجعلْها ثعباناً، بلا ضَرْبِكَ بها، وبلا استعمالِك لها يا موسى‏:‏ الأمرُ بِنَا لا بِكَ، وأنا لا أنت‏.‏

‏{‏وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِن رَّبِّكَ‏}‏‏:‏ يا موسى، في وصف خضوعك تَجِدني، وبتبرِّيكَ عن حَوْلِكَ وَقُوَّتِك تَصِل إليَّ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏33‏]‏

‏{‏قَالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْسًا فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ ‏(‏33‏)‏‏}‏

تَعلَّلَ بكلِّ وجهٍ رَجَاءَ أن يُعَافَى من مشقةِ التبليغ ومقاساةِ البلاءِ؛ لأنه عَلِمَ أنَّ النبوةَ فيها مَشَقّةٌ، فلم يَجِدْ الرُّخصةَ والإعفاءَ مِمَّا كُلِّفَ، وأجاب سُؤْلَه في أخيه حيث سأله أنْ يجعلَ له رِدْءاً، وضمن لهما النصرة‏.‏

ثم إنهما لَمَّا أتَيَا فرعونَ قابلهما بالتكذيب والجحد، ورماهما بالخطأ والكذب والسحر، وجاوباه بالحجة، ودَعَوَاه إِلى سَوَاءِ المحجَّة، فأَبَى إِلاَّ الْجَحْدَ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏38‏]‏

‏{‏وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ ‏(‏38‏)‏‏}‏

ادَّعى الانفرادَ بالإلهية فزاد في ضلالِه على عَبَدَةِ الأصنام الذين جعلوا أصنامَهم شركاءَ، ثم قال لهامان‏:‏ «ابْن لي صَرْحاً لعلِّي أطلع إِلى إله موسى» وكان هذا من زيادة ضلاله، حيث تَوَهَّم أن المعبودَ من جهة فوق، وأنه يمكن الوصول إليه‏.‏ ولعمري لو كان في جهةٍ لأمكن تقدير الوصول إليه وتجويزه‏!‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏39- 40‏]‏

‏{‏وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لَا يُرْجَعُونَ ‏(‏39‏)‏ فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ ‏(‏40‏)‏‏}‏

أبَى إِلا أنْ يدومَ جحودُه، وعُنوده، فأغرقه اللَّهُ في البحرِ، كما أغرق قلبَه في بحر الكُفْر‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏41‏]‏

‏{‏وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يُنْصَرُونَ ‏(‏41‏)‏‏}‏

لا لِشَرَفِهم جعلهم أئمة ولكن لسبب تَلَقِهم قَدَّمَهم في الخزي والهوان على كلِّ أمة، ولكن لم يُرْشدُوا إِلاَّ إلى الضلال‏.‏ ولم يَدُلُّوا الخَلْقَ إِلاّ على المُحَال، وما حصلوا إلا على سوءِ الحال، وما ذاقوا إلا خِزْيَ الوبال‏.‏ أفاضوا على مُتَّبِعهم من ظلمات قلوبهم فافتضحوا في خِسَّةِ مطلوبهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏42‏]‏

‏{‏وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ ‏(‏42‏)‏‏}‏

كانوا في الدينا مُبْعَدين عن معرفته، وفي الآخرة مُبْعَدين عن مغفرته، فانقلبوا من طَرْدٍ إلى طرد، ومن هَجْرٍ إلى بُعْدٍ، ومن فراقٍ إلى احتراقٍ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏43‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولَى بَصَائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ‏(‏43‏)‏‏}‏

إنما تطيب المنازلُ إذا خَلَتْ من الأجانب، وأطيبُ المساكنِ ما كانت زينتُها بِفَقْدِ الرُّقباءِ وغَيْبَتِهم، فلمّا أهلك اللَّهُ فرعونَ وقومَه، وأورث بني إسرائيلَ أموالَهم وديارَهم، ومحا عن جميعِها آثارَهم- طابَ لهم العيشُ وطَلَعَتْ عليهم شموسُ السعادة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏44‏]‏

‏{‏وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الْأَمْرَ وَمَا كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ ‏(‏44‏)‏‏}‏

لم تكن حاضراً فتعرف ذلك مشاهدةً، ولكنهم رأوا انَّ إخبارَك عنهم بحيث لا يكذبك كتابُهم، وبالضرورة عرفوا حالَكَ، وكيف أنّك لم تَعْلَمْ هذا من أحدٍ، ولا قَرَأْتَه من كتاب، لأَنّكَ أُمِّيٌّ لا تُحْسِنُ القراءة، وإذاً فليس إخبارُكَ إلا بتعريفنا إياك، وإطلاعنا لَكَ على ذلك‏.‏

ويقال ‏{‏وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِىِّ‏}‏‏:‏ وما كنت بجانب الطور إذ نادينا موسى، وكَلَّمْنَاه، وخاطبناه في بابِكَ وبابِ أُمَّتِكَ، ولم تقدح غَيْبَتُكُم في الحال، وكَوْني لكم خيرٌ من كَوْنِكم لكم‏.‏

ويقال‏:‏ لمَّا خَاطَبَ موسى وكَلَّمَه سأله موسى‏:‏؛ إِنَّي أرى في التوراة أُمَّةً صفتهم كذا وكذا‏.‏‏.‏ مَنْ هم‏؟‏ وسأل عن أوصاف كثيرة، وعن الجميع كان يُجابُ بأنِّها أمة أحمد، فاشتاق موسى إلى لقائنا، فقال له‏:‏ إنه ليس اليومَ وقتُ ظهورِهم، فإِنْ شئْتَ أَسمعتُكَ كلامَهم، فأراد أن يسمعَ كلامنا، فنادانا وقال‏:‏ يا أمةَ أحمد‏.‏‏.‏‏.‏، فأجاب الكلُّ من أصلاب آبائهم، فَسمِعَ موسى كلامَهم ولم يُدْرِكْهُم‏.‏ والغنيُّ إذا سأله فقيرٌ وأجابه لا يرضى بأن يردَّه من غير إحسان إليه‏.‏ ‏(‏وفي رواية عن ابن عباس‏)‏ أن الله قال‏:‏ «يا أمة محمد قد أجبتكم قبل أن تدعوني وأعطيتكم قبل أن تسألوني، وغفرت لكم قبل أن تستغفروني، ورحمتكم قبل أن تسترحموني»‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏وَمَا كُنتَ ثَاوِياً فِى أُهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُواْ عَلَيْهِمْ ءَايَاتِنَا وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسلِينَ‏}‏‏.‏

ومما كان موسى عليه السلام يتلوه عليهم من الآيات ذِكْرُ نبيِّنا صلى الله عليه وسلم بالجميل‏.‏ وذكر أمته بحسن الثناء عليهم، فنحن في الوجود مُحْدَثٌ مخلوقٌ وفي ذكره متعلق لا باستفتاح‏.‏ ولم نكن في العَدَم أعياناً، ولا أشياء، ولكنا كنا في متعلق القدرة ومتناول العلم والمشيئة‏.‏ وذكرنا في الخطاب الأزليّ، والكلام الصمديّ والقول الأبديّ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏46‏]‏

‏{‏وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ‏(‏46‏)‏‏}‏

ما طلبه موسى لأمته جعلناه لأمتك، وكما نادينا موسى- وهو في الوجود والظهور- ناديناكم وأنتم في كتم العَدَمِ، أنشدوا‏:‏

كُنْ لي كما كُنْتَ *** في حالِ لم أكُنِ

تفسير الآيات رقم ‏[‏47- 48‏]‏

‏{‏وَلَوْلَا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آَيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ‏(‏47‏)‏ فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا لَوْلَا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا وَقَالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ ‏(‏48‏)‏‏}‏

تمنوا في زمانِ الفترة أن يبعث اللَّهُ إليهم رسولاً ليهتدوا به، ووعدوا من أنفسِهم الإيمانَ والإجابة، فلمَّا أتاهم الرسولُ كذَبوه، وقالوا‏:‏ هلاّ خُصَّ بمثل معجزات موسى في الظهور، وكان ذلك منهم خطأ، واقتراحاً في غير موضع الحاجة، وتَحكُّماً بعد إزاحة العِلّةِ‏:‏

وكذا الملولُ إذا أراد قطيعةً *** مَلَّ الوصالَ وقال كان وكانا

ثم قال‏:‏ أفلا تَذْكُرُون كيف كفروا بموسى وأخيه ورموهما بالسحر‏؟‏

وقال‏:‏ إنْ ارتبتم أنَّ هذا الكتاب من عند الله فَأْتوا بكتابٍ مِثْلِه، واستعينوا بشركائكم‏.‏ ومِنْ وقته إلى يومنا هذا لم يأتِ أحدٌ بسورة مِثْلِه، وإلى القيامة لا يأتون بكتابٍ مثله‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏51- 55‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ‏(‏51‏)‏ الَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ ‏(‏52‏)‏ وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آَمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ ‏(‏53‏)‏ أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ‏(‏54‏)‏ وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ ‏(‏55‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ‏}‏‏.‏

أتبعنا رسولاً بعد رسول، وأردفنا كتاباً بعد كتاب، فما ازدادوا إلا كفراً وثبوراً، وجحداً وعتواً *** فلا إلى الحقِّ رجعوا، ولا إلى الاستقامة جنحوا‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏الَّذِينَ ءَاتَيْنَاهُمْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِهِ هُم بِهِ يُؤْمِنُونَ‏}‏‏.‏

مَنْ أكحلنا بصيرتهم بنور الهداية صَدَّقوا بمقتضى مساعدة العناية، ومَنْ أعميناه عن شهود التحقيق ولم تساعده لطائف التوفيق انتكس في غوايته، وانهمك في ضَلالته‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوآ ءَامَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحقُّ مِن رَّبِّنَآ إِنَّا كُنَّا مِن قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ‏}‏‏.‏

إذا سمعوا دعوتنا قابلوها بالتصديق، وانقادوا بِحُسْنِ الاستسلام، فلا جَرَمَ يُؤْتَوْن أجرَهم مرتين بما صبروا على الأوامر وصبروا على المحارم في عاجلهم وآجالهم، مرةً في الآخرة وهي المثوبة وأخرى في الدنيا وهي لطائف القربة‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏وَإِذَا سَمِعُواْ اللَّغْوَ أَعْرَضُواْ عَنْهُ وَقَالُواْ لَنَآ أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ لاَ نَبْتَغِى الْجَاهِلِينَ‏}‏‏.‏

‏{‏اللَّغْوَ‏}‏‏:‏ ما يُلْهِي عن الله‏.‏ ويقال ‏{‏اللَّغْوَ‏}‏ ما لا يوجِب وسيلةً عند الله، ويقال ما لا يكون بالحقِّ للحقِّ، ويقال هو ما صَدَرَ عن قلبٍ غافلٍ، ويقال هو ما يوجِب سماعُه السَّهو‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏56‏]‏

‏{‏إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ ‏(‏56‏)‏‏}‏

الهداية في الحقيقةِ إمالةُ القلبِ من الباطلِ إلى الحقِّ، وذلك من خصائص قدرة الحقِّ- سبحانه- وتطلق الهداية بمعنى الدعاء إلى الحق- توسُّعاً، وذلك جائزٌ بل واجبٌ في صفته صلى الله عليه وسلم، قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِنَّكَ لَتَهْدِى إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 52‏]‏‏.‏

ويقال‏:‏ لَكَ شَرَفُ النبوَّةِ، ومنزلةُ الرسالةِ، وجمالُ السفارةِ، والمقامُ المحمودُ، والحوض المورود، وأنت سيد ولد آدم‏.‏‏.‏ ولكنك لا تهدي من أحببت؛ فخصائصُ الربوبيةِ لا تصلح لِمَنْ وَصْفُه البشرية‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏57‏]‏

‏{‏وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آَمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ‏(‏57‏)‏‏}‏

قالوا نخاف الأعرابَ على أنفسنا إنْ صَدَّقْنَاكَ، وآمَنَّا بِكَ، لإجماعهم على خلافنا ولا طاقة لنا بهم فقال الله تعالى‏:‏ «وكيف تخافونهم وترون اللَّهَ أظفركم على عدوِّكم، وحَكَمْنا بتعظيم بيتكم، وجعلنا مكةَ تُجْبَى إليها ثمراتُ كل شيءٍ من أقطار الدنيا»‏؟‏

ويقال من قام بحقِّ الله- سبحانه- سَخّر له الكونَ بجملته، ومَنْ اشتغل برعاية سِرِّه لله، وقام بحقِّ الله، واستفرغ أوقاته في عبادة الله مُكِّنَ من التصرِّف بهمته في مملكة الله؛ فالخَلْقَ مُسَخّرٌ له، والوقتُ طَوعُ أمرِه، والحقُّ- سبحانه- متولٍ أيامَه وأعماله يُحَقِّقُ ظنَّه، ولا يُضَيِّعُ حقّه‏.‏

أمَّا الذي لا يطيعه فيهلك في أودية ضلاله، ويتيه في مفازات خِزْيِهِ، ويبوء بوِزْرِ هواه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏58‏]‏

‏{‏وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ ‏(‏58‏)‏‏}‏

لم يعرفوا قَدْرَ نعمتهم، ولم يشكروا سلامة أحوالهم، وانتظامَ أمورهم، فهاموا في أودية الكفران على وجوهِهم، فَخَرُّوا في أودية الصغار على أذقانهم، وأذاقهم اللَّهُ من كاساتِ الهوان ما كسر خمارَ بَطَرِهم؛ فماكنهم منهم خالية، وسقوفُها عليهم خاوية، وغِربانُ الدمار ناعية‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏59‏]‏

‏{‏وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ ‏(‏59‏)‏‏}‏

‏{‏وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِى أُمِّهَا رَسُولاً‏}‏‏:‏ بالتكليف يأمرهم‏.‏ ويأمر التكوين- على ما يريد- يقفهم‏.‏ وهو- سبحانه- يبعث الرسلَ إنذاراً ويعمي السُّبَلَ عليهم اقتداراً؛ يُوَضِّحُ الحجةَ بحيث لا شبهة، ولكنه لا يهدي إلا مَنْ سَبَقَت له السعادة بحكم القسمة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏60‏]‏

‏{‏وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلَا تَعْقِلُونَ ‏(‏60‏)‏‏}‏

الدنيا حلوة خَضِرَة، ولكنها في التحقيق مُرَّةٌ مَذِرَة، فَبِشْرُها يُوهِمُ أنها صَفْوٌ ولكن مِن وراءِ صَفْوِها حَسُوٌ ‏{‏وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى‏}‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏61‏]‏

‏{‏أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لَاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ ‏(‏61‏)‏‏}‏

الدنيا سمومُ حَنْظَلِها تتلو طمومَ عَسَلِها، وتَلَفُ ما يحصل من شربها يغلب لُطْفَ ما يظهر من أربها، وليس من أُكْرِمَ بوجدان نعيم عقباه كَمَنْ مُنِيَ بالوقوع في جحيم دنياه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏62‏]‏

‏{‏وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ ‏(‏62‏)‏‏}‏

إنما يكون ذلك على جهة التهويل وإبطال كيد أهل التضليل‏.‏‏.‏ وإلاَّ فَمِنْ أين لهم الجواب فضلاً عن الصواب‏!‏ والذي يسألهُم هو الذي على ما شاء جَعَلَهم؛ فما وَرَدَ فِعْلٌ إلا على فِعْلِهِ، وما صَدَرَ ما صَدَرَ إلا من أصْلِه‏.‏ وإذْ تَبَرَّأَ بعضُهم من بعض بَيَّنَ أنه لم يكن للأصنام استحقاقُ العبودية ولا لأحدٍ من النفي والإثبات بالإيجاد والإحداثِ ذَرَّةَ أو منه شظيَّة‏.‏‏.‏ كلاّ بل هو الواحد القهار‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏65- 66‏]‏

‏{‏وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ ‏(‏65‏)‏ فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْبَاءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لَا يَتَسَاءَلُونَ ‏(‏66‏)‏‏}‏

يسألهم سؤالَ هيبةٍ؛ فلا يَبْقَى لهم تمييزٌ، ولا قوةُ عقلٍ، ولا مُكْنَةُ جوابٍ، قال جلّ ذكره‏:‏

‏{‏فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الأَنبَآءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لاَ يَتَسَآءَلُونَ‏}‏‏.‏

إذ استولت عليهم الحَيْرَةُ، واستمكن منهم الدهشُ؛ فلا نُطْقَ ولا عقلَ ولا تمييز ولا فهم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏67- 68‏]‏

‏{‏فَأَمَّا مَنْ تَابَ وَآَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَعَسَى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ ‏(‏67‏)‏ وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ‏(‏68‏)‏‏}‏

يختار ما يشاء ومَنْ يشاء من جملة ما يخلق‏.‏ ومَنْ ليس إليه شيءٌ من الخَلْقِ‏.‏‏.‏ فما له والاختيار‏؟‏‏!‏

الاختيار للحقِّ استحقاقُ عِزٍّ يوجِبُ أن يكون ذلك له، لأنَّه لو لم يُنَفِّذْ مشيئتَه واختيارَه لم يكن بوصف العِزِّ، فَمَنْ بَقِيَ عن مُرادِه لا يكون إلاَّ ذليلاً؛ فالاختيارُ للحقِّ نعتُ عِزٍّ، والاختيارُ للخَلْقِ صفةُ نَقْصٍ ونعتُ بلاءٍ وقصور؛ فاختيارُ العَبْدِ غيرُ مُبَارَكٍ عليه لأنَّه صفةٌ هو غيرُ مُسْتَحِقٍّ لها، ومَنْ اتصف بما لا يليق به افتضح في نَفْسِه، قال قائلُهم‏:‏

ومعالٍ إذا ادَّعاها سواه *** لَزِمَتْه جِنَايةُ السُّرَّاقِ

والطينةُ إذا ادَّعَتْ ما هو صفة الحقِّ أظهرت رعونتَها، فما للإنسان والاختيار‏؟‏‏!‏ وما للمملوكِ والمِلْك‏؟‏‏!‏ وما للعبيدِ والتصدُّر في دَسْتِ الملوك‏؟‏‏!‏

قال تعالى‏:‏ ‏{‏مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ‏}‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏69‏]‏

‏{‏وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ ‏(‏69‏)‏‏}‏

ولِمَ لا وقد قال‏:‏ ‏{‏أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ‏}‏ ‏[‏الملك‏:‏ 14‏]‏‏؟‏ فالعِلْمُ- الذي لا يَعْزُبُ عنه معلومٌ- نعتُ من لم يَزَلْ، والإبداع من العَدَمِ إلى الوجود ينفرِّدُ بالقدرة عليه لم يَزَلْ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏70‏]‏

‏{‏وَهُوَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآَخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ‏(‏70‏)‏‏}‏

‏{‏لآ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ‏}‏‏:‏ تَوَحَّدَ بِعِزِّ هيبته، وتَفَرَّدَ بجلال ربوبيته، لا شبيهَ يساويه، ولا نظيرَ يُضاهيه‏.‏ ‏{‏لَهُ الْحَمْدُ‏}‏ استحقاقاً على عَطِيَّتِه، وله الشكر استيجاباً على نعمته؛ ففي الدنيا المحمودُ اللَّهُ، وفي العقبى المشكورُ اللَّهُ؛ فالإحسان من اللَّهِ لأن السلطانَ للَّهِ، والنعمةُ من اللَّهِ لأنَّ الرحمةَ للًَّهِ، والنصرةُ من اللَّهِ لأنَّ القدرةَ للَّهِ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏71‏]‏

‏{‏قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلَا تَسْمَعُونَ ‏(‏71‏)‏‏}‏

إن دامت ليالي الفترة فَمَنْ الذي يأتي بنهار التوبة غيرُ اللَّهِ‏؟‏

وإِنْ دامت ليالي الطَّلَبِ فَمَنْ الذي يأتي بصُبْحِ الوجودِ غيرُ اللَّهِ‏؟‏

وإِن دامت ليالي القبض فمن الذي يأتي بصبح البسط غيرُ اللَّهِ‏؟‏

وإِن دام ليل الفراق فمن الذي يأتي بصبح الوصالِ غيرُ الله‏؟‏

تفسير الآية رقم ‏[‏72‏]‏

‏{‏قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلَا تُبْصِرُونَ ‏(‏72‏)‏‏}‏

إِنْ دام في الوصلة نهارُكم فأيُّ سبيل للواشين إلى تنغيص سروركم‏؟‏

وإن دام نهارُ معاشكم ووقتُ اشتغالكم بحظوظكم فَمَنْ إلهٌ غيرُ اللَّهِ يأتيكم بليلٍ تَسْكنُون فيه إِلى الله إلا الله، وتستريحون من أشغالكم بالخلوة مع اللَّهِ إلا الله‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏73‏]‏

‏{‏وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ‏(‏73‏)‏‏}‏

الأوقات ظروفٌ لما يحصل فيها من الأفعال والأحوال؛ فالظروفُ من الزمان متجانسة، وإنما الاختلافُ راجعٌ إلى أعيان ما يحصل فيها؛ فليالي أهل الوصال ساداتُ الليالي، أهل الفراق أسوأ الليالي؛ فأهلُ القُرْبِ لياليهم قِصَارٌ وكذلك أيامُهم، وأربابُ الفراقِ لياليهم طوال وكذلك جميع أوقاتهم في ليلهم ونهارهم، يقول قائلهم‏:‏

والليالي إذا نأيتِ طوالٌ *** وأراها إذا دَنَوْتِ قِصَار

وقال آخر‏:‏

والليلُ أطولُ وقتٍ حين أفقدها *** والليل أقصر وقتٍ حين ألقاها

وقال ثالث‏:‏

يطولُ اليومُ لا ألقاكِ فيه *** وحَوْلٌ نلتقي فيه- قصيرُ

تفسير الآيات رقم ‏[‏74- 75‏]‏

‏{‏وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ ‏(‏74‏)‏ وَنَزَعْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا فَقُلْنَا هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ ‏(‏75‏)‏‏}‏

كلا *** لا حُجَّة لهم، ولا جوابَ يعذرهم، ولا شفيعَ يرحمهم، ولا ناصِرَ يُعِينهم‏.‏

اشتهرت ضلالتهُم، واتضحت للكافة جهالتهُم؛ فدامَ عذابُ الأبد، وحاقَ بهم وبالُ السَّرمَد‏.‏