فصل: سئل عن جماعة اختلفوا في قضاء الله وقدره

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مجموع فتاوى ابن تيمية **


/ وسئل ـ رحمه الله ـ عن تفصيل ‏[‏الإرادة‏]‏ و ‏[‏الإذن‏]‏ و ‏[‏الكتاب‏]‏ و ‏[‏الحكم‏]‏ و‏[‏القضاء‏]‏ و ‏[‏التحريم‏]‏ وغير ذلك، مما هو ديني موافق لمحبة الله ورضاه وأمره الشرعي، وما هو كوني موافق لمشيئته الكونية‏؟‏

فأجاب ‏:‏

الحمد لله، هذه الأمور المذكورة، وهي الإرادة والإذن والكتاب والحكم والقضاء والتحريم وغيرها، كالأمر والبعث والإرسال ينقسم في كتاب الله إلى نوعين‏:‏

أحدهما‏:‏ ما يتعلق بالأمور الدينية التي يحبها الله ـ تعالى ـ ويرضاها، ويثيب أصحابها، ويدخلهم الجنة، وينصرهم في الحياة الدنيا وفي الآخرة، وينصر بها العباد من أوليائه المتقين، وحزبه المفلحين وعباده الصالحين‏.‏

والثاني‏:‏ ما يتعلق بالحوادث الكونية التي قدرها الله وقضاها مما يشترك فيها المؤمن والكافر والبر والفاجر، وأهل الجنة وأهل النار وأولياء الله وأعداؤه، وأهل طاعته الذين يحبهم ويحبونه، ويصلي عليهم هو وملائكته، وأهل معصيته الذين يبغضهم ويمقتهم ويلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون‏.‏

/فمن نظر إليها من هذا الوجه شهد الحقيقة الكونية الوجودية، فرأى الأشياء كلها مخلوقة لله، مدبرة بمشيئته، مقهورة بحكمته، فما شاء الله كان وإن لم يشأ الناس، وما لم يشأ لم يكن وإن شاء الناس،لا معقب لحكمه ولا راد لأمره، ورأى أنه ـ سبحانه ـ رب كل شىء ومليكه، له الخلق والأمر، وكل ما سواه مربوبًا له، مدبر مقهور لا يملك لنفسه ضرًا ولا نفعًا، ولا موتًا ولا حياة ولا نشورًا، بل هو عبد فقير إلى الله ـ تعالى ـ من جميع الجهات، والله غني عنه، كما أنه الغني عن جميع المخلوقات، وهذا الشهود في نفسه حق، لكن طائفة قصرت عنه، وهم القدرية المجوسية، وطائفة وقفت عنده وهم القدرية المشركية‏.‏

أما الأولون، فهم الذين زعموا أن في المخلوقات ما لا تتعلق به قدرة الله ومشيئته وخلقه، كأفعال العباد، وغلاتهم أنكروا علمه القديم، وكتابه السابق، وهؤلاء هم أول من حدث من القدرية في هذه الأمة، فرد عليهم الصحابة وسلف الأمة، و تبرؤوا منهم‏.‏

وأما الطائفة الثانية، فهم شر منهم، وهم طوائف من أهل السلوك والإرادة والتأله والتصوف والفقر ونحوهم،يشهدون هذه الحقيقة ورأوا أن الله خالق المخلوقات كلها، فهو خالق أفعال العباد ومريد جميع الكائنات، ولم يميزوا بعد ذلك بين إيمان وكفر، ولا عرفان ولا نكر، ولا حق ولا باطل، ولا مهتد ولا ضال، ولا راشد ولا غوي، ولا نبي ولا متنبئ، ولا ولي لله ولا عدو،/ولا مرضى لله ولا مسخوط، ولا محبوب لله ولا ممقوت، ولا بين العدل والظلم، ولا بين البر و العقوق، ولا بين أعمال أهل الجنة وأعمال أهل النار، ولا بين الأبرار والفجار، حيث شهدوا ما تجتمع فيه الكائنات من القضاء السابق والمشيئة النافذة والقدرة الشاملة والخلق العام، فشهدوا المشترك بين المخلوقات وعموا عن الفارق بينهما، وصاروا ممن يخاطب بقوله تعالى‏:‏‏{‏أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ‏.‏ مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ‏}‏ ‏[‏القلم‏:‏35، 36‏]‏، وبقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ‏}‏ ‏[‏ص‏:‏28‏]‏، وبقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ‏}‏ ‏[‏الجاثية‏:‏21‏]‏‏.‏‏{وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏137‏]‏، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏‏(‏أعوذ بكلمات الله التامات التي لا يجاوزهن بَر ولا فاجر من شر ما خلق وذَرَأ وبَرَأ، ومن شر ما ينزل من السماء وما يعرج فيها، ومن شر ما ذرأ في الأرض وما يخرج منها، ومن شر فتن الليل والنهار، ومن شر كل طارق إلا طارقًا يطرق بخير يا رحمن‏)‏، فالكلمات التي لا يجاوزهن بر ولا فاجـر ليست هي أمره ونهيه الشرعيين، فإن الفُجَّار عَصَوْا أمره ونهيه، بل هي التي بها يكون الكائنات، وأما الكلمات الدينية المتضمنة لأمره ونهيه الشرعيين، فمثل الكتب الإلهية‏:‏ التوراة والإنجيل والزبور والقرآن،وقال/تعالى‏:‏‏{‏وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏40‏]‏، وقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏واستحللتم فروجهن بكلمة الله‏)‏، وأما قوله تعالى‏:‏‏{‏وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 115‏]‏ فإنه يعم النوعين‏.‏

وأما البعث بالمعنى الأول، ففي مثل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ‏}‏ ‏[‏ الإسراء‏:‏5‏]‏، والثاني في مثل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ‏}‏ ‏[‏الجمعة‏:‏2‏]‏، وقوله تعالى‏:‏‏{‏رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 129‏]‏، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنْ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 36‏]‏ ‏.‏

وأما الإرسال بالمعنى الأول، ففي مثل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏83‏]‏، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏22‏]‏‏.‏

وبالمعنى الثاني، في مثل قوله تعالي‏:‏‏{‏إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ‏}‏ ‏[‏نوح‏:‏1‏]‏، وقوله تعالى‏:‏‏{‏إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏119‏]‏، وقوله تعالى ‏:‏‏{‏وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏45‏]‏، وقوله تعالى‏:‏‏{‏وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهٌِ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏64‏]‏، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏25‏]‏، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شَاهِدًا عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا ‏.‏ فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وَبِيلًا‏}‏ ‏[‏المزمل‏:‏15، 16‏]‏‏.‏

/ سئل ـ رحمه الله تعالى‏:‏ عن أقوام يقولون‏:‏ المشيئة مشيئة الله في الماضي والمستقبل، وأقوام يقولون‏:‏ المشيئة في المستقبل لا في الماضي‏.‏ ما الصواب‏؟‏

فأجاب ‏:‏

الماضي مضى بمشيئة الله، والمستقبل لا يكون إلا أن يشاء الله، فمن قال في الماضي‏:‏ إن الله خلق السموات إن شاء الله، وأرسل محمدًا إن شاء الله، فقد أخطأ ‏.‏ ومن قال‏:‏ خلق الله السموات بمشيئة الله، وأرسل محمدًا بمشيئته ونحو ذلك، فقد أصاب‏.‏

ومن قال‏:‏ إنه يكون في الوجود شيء بدون مشيئة الله، فقد أخطأ‏.‏ ومن قال‏:‏ ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن،فقد أصاب، وكل ما تقدم فقد كان بمشيئة الله قطعا، فالله خلق السموات بمشيئته قطعًا، وأرسل محمدًا بمشيئته قطعًا، والإنسان الموجود خلقه الله بمشيئته قطعًا، وإن شاء الله أن يغير المخلوق من حال إلى حال، فهو قادر على ذلك، فما خلقه فقد كان بمشيئته قطعًا، وإن شاء الله أن يغيره غيره بمشيئته قطعًا، والله أعلم‏.‏

 /ما تقول السادة ـ أئمة المسلمين ـ في جماعة اختلفوا في قضاء الله وقدره، وخيره وشره،منهم من يرى أن الخير من الله ـ تعالى ـ والشر من النفس خاصة‏؟‏ أفتونا مأجورين‏.‏

فأجاب الشيخ ـ رضي الله عنه ‏:‏

مذهب أهل السنة والجماعة‏:‏ أن الله ـ تعالى ـ خالق كل شىء، وربه ومليكه لا رب غيره ولا خالق سواه، ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، وهو على كل شىء قدير، وبكل شىء عليم، والعبد مأمور بطاعة الله، وطاعة رسوله، منهي عن معصية الله، ومعصية رسوله، فإن أطاع كان ذلك نعمة، وإن عصى كان مستحقًا للذم والعقاب، وكان لله عليه الحجة البالغة، ولا حجة لأحد على الله ـ تعالى ـ وكل ذلك كائن بقضاء الله وقدره ومشيئته وقدرته، لكن يحب الطاعة ويأمر بها، ويثيب أهلها على فعلها ويكرمهم، ويبغض المعصية وينهي عنها، ويعاقب أهلها ويهينهم‏.‏

وما يصيب العبد من النعم، فالله أنعم بها عليه، وما يصيبه من الشر فبذنوبه /ومعاصيه، كما قال تعالي ‏:‏‏{‏وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏30‏]‏، وقال تعالى‏:‏‏{‏مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنْ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏79‏]‏ أي‏:‏ ما أصابك من خِصْب ونَصْر وهُدى فالله أنعم به عليك، وما أصابك من حزن وذل وشر فبذنوبك وخطاياك، وكل الأشياء كائنة بمشيئة الله وقدرته وخلقه، فلابد أن يؤمن العبد بقضاء الله وقدره، وأن يوقن العبد بشرع الله وأمره‏.‏

فمن نظر إلى الحقيقة القدرية وأعرض عن الأمر والنهي والوعد والوعيد، كان مشابهًا للمشركين، ومن نظر إلى الأمر والنهي، وكذب بالقضاء والقدر كان مشابهًا للمجوسيين، ومن آمن بهذا وبهذا، فإذا أحسن حمد الله ـ تعالى ـ وإذا أساء استغفر الله ـ تعالى ـ وعلم أن ذلك بقضاء الله وقدره،فهو من المؤمنين، فإن آدم ـ عليه السلام ـ لما أذنب تاب فاجتباه ربه وهداه، وإبليس أصر واحتج، فلعنه الله وأقصاه، فمن تاب كان آدميًا، ومن أصر واحتج بالقدر كان إبليسيًا، فالسعداء يتبعون أباهم، والأشقياء يتبعون عدوهم إبليس‏.‏

فنسأل الله أن يهدينا الصراط المستقيم،صراط الذين أنعم عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، آمين يا رب العالمين‏.‏