فصل: فصـــل: أما ما ذكره من قول ابن إسرائيل الأمر أمران

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مجموع فتاوى ابن تيمية **


/ فصـــل

وأما ما ذكره من قول ابن إسرائيل‏:‏ الأمر أمران‏:‏ أمر بواسطة وأمر بغير واسطة، إلى آخره ـ فمضمونه أن الأمر الذي بواسطة هو الأمر الشرعي الديني، والذي بلا واسطة هو الأمر القدري الكوني، وجعله أحد الأمرين بواسطة والآخر بغير واسطة كلام باطل، فإن الأمر الديني يكون بواسطة وبغير واسطة، فإن اللّه كلم موسى وأمره بلا واسطة، وكذلك كلم محمداً صلى الله عليه وسلم، وأمره ليلة المعراج، وكذلك كلم آدم وأمره بلا واسطة وهي أوامر دينية شرعية‏.‏

وأما الأمر الكوني‏:‏ فقول القائل‏:‏ إنه بلا واسطة خطأ، بل الله ـ تعالى ـ خلق الأشياء بعضها ببعض، وأمر التكوين ليس هو خطابا يسمعه المكون المخلوق، فإن هذا ممتنع؛ ولهذا قيل‏:‏ إن كان هذا خطابا له بعد وجوده لم يكن قد كون بكن؛ بل كان قد كون قبل الخطاب، وإن كان خطابا له قبل وجوده فخطاب المعدوم ممتنع‏.‏ وقد قيل في جواب هذا‏:‏ إنه خطاب لمعلوم لحضوره في العلم، وإن كان معدوما في العين‏.‏

وأما ما ذكره الفقير فهو سؤال وارد بلا ريب‏.‏

/وأما ما ذكره عن شيخه من أن آدم كان توحيده ظاهرًا وباطنًا فكان قوله‏:‏ لا تقرب ظاهراً، وكان أمره ‏[‏بكل‏]‏ باطنا‏.‏

فيقال‏:‏ إن أريد بكونه قال‏:‏ ‏[‏كل‏]‏ باطنا أنه أمره بذلك في الباطن أمر تشريع ودين، فهذا كذب وكفر‏.‏ وإن كان أراد أنه خلق ذلك وقدره وكونه، فهذا قدر مشترك بين آدم وبين سائر المخلوقات، فإنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون‏.‏

وإن قيل‏:‏ إن آدم شهد الأمر الكوني القدري وكان مطيعاً لله بامتثاله له، كما يقول هؤلاء‏:‏ إن العارف الشاهد للقدر يسقط عنه الملام، فهذا مع أنه معلوم بطلانه بالضرورة من دين الإسلام فهو كفر باتفاق المسلمين‏.‏

فيقال‏:‏ الأمر الكوني يكون موجودًا قبل وجود المكون، لا يسمعه العبد، وليس امتثاله مقدورًا له، بل الرب هو الذي يخلق ما كونه بمشيئته وقدرته، والله ـ تعالى ـ ليس له شريك في الخلق والتكوين‏.‏والعبد وإن كان فاعلاً بمشيئته وقدرته، والله خالق كل ذلك، فتكوين الله للعبد ليس هو أمرًا لعبد موجود في الخارج يمكنه الامتثال، وكذلك ما خلقه من أحواله وأعماله خلقه بمشيئته وقدرته و‏{‏إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ٍ‏}‏‏[‏يس‏:‏82‏]‏، فكل ما كان من المكونات فهو داخل في هذا الأمر‏.‏/وأكل آدم من الشجرة، وغير ذلك من الحوادث، داخل تحت هذا كدخول آدم، فنفس أكل آدم هو الداخل تحت هذا الأمر كما دخل آدم‏.‏

فقول القائل‏:‏ إنه قال لآدم في الباطن‏:‏ ‏[‏كل‏]‏مثل قوله‏:‏ إنه قال للكافر‏:‏ اكفر، وللفاسق‏:‏ افسق، والله لا يأمر بالفحشاء، ولا يحب الفساد، ولا يرضى لعباده الكفر، ولا يوجد منه خطاب باطن، ولا ظاهر للكفار والفساق، والعصاة بفعل الكفر والفسوق والعصيان، وإن كان ذلك واقعا بمشيئته، وقدرته وخلقه وأمره الكوني، فالأمر الكوني ليس هو أمراً للعبد أن يفعل ذلك الأمر، بل هو أمر تكوين لذلك الفعل في العبد، أو أمر تكوين لكون العبد على ذلك الحال‏.‏فهو ـ سبحانه ـ الذي خلق الإنسان هلوعا‏{‏إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا ‏.‏ وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا‏}‏ ‏[‏المعارج‏:‏20، 21‏]‏، وهو الذي جعل المسلمين مسلمين، كما قال الخليل‏:‏‏{‏رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏128‏]‏ فهو ـ سبحانه ـ جعل العباد على الأحوال التي خلقهم عليها، وأمره لهم بذلك أمر تكوين، بمعنى أنه قال لهم‏:‏ كونوا كذلك فيكونون كذلك، كما قال للجماد‏:‏ كن فيكون‏.‏

فأمر التكوين لا فرق فيه بين الجماد والحيوان، وهو لا يفتقر إلى علم المأمور ولا إرادته ولا قدرته، لكن العبد قد يعلم ما جرى به القدر في أحواله، كما يعلم ما جرى به القدر في أحوال غيره، وليس في ذلك علم منه بأن الله أمره في الباطن، بخلاف ما أمره في الظاهر، بل أمره بالطاعة باطنا / وظاهرًا، ونهاه عن المعصية باطنا وظاهراً، وقدر ما يكون فيه من طاعة ومعصية باطنا وظاهرًا، وخلق العبد وجميع أعماله باطنا وظاهرًا، وكون ذلك بقوله‏:‏ كن باطنا وظاهرًا‏.‏

وليس في القدر حجة لابن آدم ولا عذر، بل القدر يؤمن به ولا يحتج به، والمحتج بالقدر فاسد العقل والدين، متناقض، فإن القدر إن كان حجة وعذرًا لزم ألا يلام أحد، ولا يعاقب ولا يقتص منه، وحينئذ فهذا المحتج بالقدر يلزمه ـ إذا ظلم في نفسه وماله وعرضه وحرمته ـ ألا ينتصر من الظالم، ولا يغضب عليه، ولا يذمه، وهذا أمر ممتنع في الطبيعة، لا يمكن أحد أن يفعله، فهو ممتنع طبعا محرم شرعا‏.‏

ولو كان القدر حجة وعذرًا، لم يكن إبليس ملوما ولا معاقبا، ولا فرعون وقوم نوح وعاد وثمود وغيرهم من الكفار، ولا كان جهاد الكفار جائزاً، ولا إقامة الحدود جائزاً، ولا قطع السارق، ولا جلد الزاني ولا رجمه، ولا قتل القاتل ولا عقوبة معتد بوجه من الوجوه‏.‏

ولما كان الاحتجاج بالقدر باطلا في فطر الخلق وعقولهم، لم تذهب إليه أمة من الأمم، ولا هو مذهب أحد من العقلاء، الذين يطردون قولهم، فإنه لا يستقيم عليه مصلحة أحد، لا في دنياه ولا آخرته، ولا يمكن اثنان أن يتعاشرا ساعة واحدة، إن لم يكن أحدهما ملتزما مع الآخر نوعاً من الشرع، فالشرع نور الله في أرضه، وعدله بين عباده‏.‏

/ لكن الشرائع تتنوع‏:‏ فتارة تكون منزلة من عند الله كما جاءت به الرسل، وتارة لا تكون كذلك، ثم المنزلة‏:‏ تارة تبدل وتغيرـ كما غير أهل الكتاب شرائعهم ـ وتارة لا تغير ولا تبدل، وتارة يدخل النسخ في بعضها وتارة لا يدخل‏.‏وأما القدر،فإنه لا يحتج به أحد إلا عند اتباع هواه، فإذا فعل فعلا محرما بمجرد هواه وذوقه ووجده، من غير أن يكون له علم بحسن الفعل ومصلحته استند إلى القدر، كما قال المشركون‏:‏‏{‏لَوْ شَاء اللّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِن شَيْءٍ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏148‏]‏، قال الله تعالى‏:‏‏{‏كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم حَتَّى ذَاقُواْ بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنتُمْ إَلاَّ تَخْرُصُونَ ‏.‏ قُلْ فَلِلّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاء لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏148، 149‏]‏‏.‏ فبين أنهم ليس عندهم علم بما كانوا عليه من الدين، وإنما يتبعون الظن‏.‏

والقوم لم يكونوا ممن يسوغ لكل أحد الاحتجاج بالقدر، فإنه لو خرب أحد الكعبة، أو شتم إبراهيم الخليل، أو طعن في دينهم لعادوه وآذوه، كيف وقد عادوا النبي صلى الله عليه وسلم على ما جاء به من الدين، وما فعله هو أيضا من المقدور‏.‏

فلو كان الاحتجاج بالقدر حجة لكان للنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه‏.‏ فإن كان كل ما يحدث في الوجود فهو مقدر، فالمحق والمبطل يشتركان في الاحتجاج بالقدر، إن كان الاحتجاج به صحيحاً، ولكن كانوا يعتمدون / على ما يعتقدونه من جنس دينهم وهم في ذلك يتبعون الظن ليس لهم به علم بل هم يخرصون‏.‏

وموسى لما قال لآدم‏:‏ ‏(‏لماذا أخرجتنا ونفسك من الجنة ‏؟‏‏)‏ فقال آدم عليه السلام ـ فيما قال لموسى‏:‏ ‏(‏لم تلومني على أمر قدره الله على قبل أن أخلق بأربعين عاماً ‏؟‏ فحج آدم موسى‏)‏،لم يكن آدم ـ عليه السلام ـ محتجا على فعل ما نهى عنه بالقدر، ولا كان موسى ممن يحتج عليه بذلك فيقبله، بل آحاد المؤمنين لا يفعلون مثل هذا، فكيف آدم وموسى‏؟‏

وآدم قد تاب مما فعل واجتباه ربه وهدى، وموسى أعلم بالله من أن يلوم من هو دون نبي على فعل تاب منه، فكيف بنبي من الأنبياء‏؟‏ وآدم يعلم أنه لو كان القدر حجة لم يحتج إلى التوبة، ولم يجر ما جرى من خروجه من الجنة وغير ذلك، ولو كان القدر حجة لكان لإبليس وغيره، وكذلك موسى يعلم أنه لو كان القدر حجة لم يعاقب فرعون بالغرق، ولا بنو إسرائيل بالصعقة وغيرها، كيف وقد قال موسى‏:‏ ‏{‏رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي‏}‏‏[‏القصص‏:‏16‏]‏، وقال‏:‏‏{‏أَنتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏155‏]‏، وهذا باب واسع‏.‏

وإنما كان لوم موسى لآدم من أجل المصيبة التي لحقتهم بآدم من أكل الشجرة؛ ولهذا قال‏:‏ لماذا أخرجتنا ونفسك من الجنة‏؟‏ واللوم لأجل المصيبة التي لحقت الإنسان نوع، واللوم لأجل الذنب الذي هو حق الله نوع آخر، / فإن الأب لو فعل فعلا افتقر به حتى تضرر بنوه، فأخذوا يلومونه لأجل ما لحقهم من الفقر، لم يكن هذا كلومه لأجل كونه أذنب‏.‏والعبد مأمور أن يصبر على المقدور، ويطيع المأمور، وإذا أذنب استغفر، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ‏}‏‏[‏غافر‏:‏55‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ‏}‏ ‏[‏التغابن‏:‏11‏]‏‏.‏ قال طائفة من السلف‏:‏ هو الرجل تصيبه المصيبة فيعلم أنها من عند الله فيرضى ويسلم‏.‏

فمن احتج بالقدر على ترك المأمور، وجزع من حصول ما يكرهه من المقدور فقد عكس الإيمان والدين، وصار من حزب الملحدين المنافقين، وهذا حال المحتجين بالقدر‏.‏

فإن أحدهم إذا أصابته مصيبة عَظُمَ جَزَعُه وقَلَّ صَبْرُه، فلا ينظر إلى القدر ولا يسلم له، وإذا أذنب ذنباً أخذ يحتج بالقدر، فلا يفعل المأمور، ولا يترك المحظور، ولا يصبر على المقدور، ويدعي مع هذا أنه من كبار أولياء الله المتقين، وأئمة المحققين الموحدين، وإنما هو من أعداء الله الملحدين، وحزب الشيطان اللعين‏.‏

وهذا الطريق إنما يسلكه أبعد الناس عن الخير والدين والإيمان، تجد أحدهم أجبر الناس إذا قدر، وأعظمهم ظلما وعدوانا، وأذل الناس إذا قهر، وأعظمهم جزعا ووهنا، كما جربه الناس من الأحزاب البعيدين عن الإيمان بالكتاب،والمقاتلة من أصناف الناس‏.‏

/والمؤمن إن قدر عدل وأحسن،وإن قهر وغلب صبر واحتسب،كما قال كعب بن زهير في قصيدته التي أنشدها للنبي صلى الله عليه وسلم ـ التي أولها‏:‏ بانت سعاد‏.‏‏.‏‏.‏إلخ ـ في صفة المؤمنين‏:‏

ليسوا مفاريح إن نالت رماحهم ** يوما وليسوا مجازيعا إذا نيلوا

وسئل بعض العرب عن شيء من أمر النبي صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ رأيته يغلب فلا يبطر، ويُغلب فلا يضجر‏.‏

وقـد قـال تعالى‏:‏ ‏{‏أَإِنَّكَ لَأَنتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَاْ يُوسُفُ وَهَـذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيِصْبِرْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏90‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا‏}‏ ‏[‏آل عـمـران‏:‏120‏]‏، وقـال تـعـالـى‏:‏ ‏{‏بَلَى إِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ وَيَأْتُوكُم مِّن فَوْرِهِمْ هَـذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُم بِخَمْسَةِ آلافٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُسَوِّمِينَ‏}‏ ‏[‏آل عـمـران‏:‏ 125‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏168‏]‏،فذكر الصبر والتقوى في هذه المواضع الأربعة، فالصبر يدخل فيه الصبر على المقدور، والتقوى يدخل فيها فعل المأمور وترك المحظور‏.‏

فمن رزق هذا وهذا فقد جمع له الخير، بخلاف من عكس فلا يتقى الله بل يترك طاعته متبعا لهواه ويحتج بالقدر،ولا يصبر إذا ابتلى ولا ينظر حينئذ إلى القدر، فإن هذا حال الأشقياء، كما قال بعض العلماء‏:‏ أنت عند الطاعة قدري، وعند المعصية جبري، أي مذهب وافق هواك تمذهبت به‏.‏

/يقول‏:‏ أنت إذا أطعت جعلت نفسك خالقا لطاعتك، فتنسى نعمة الله عليك أن جعلك مطيعا له، وإذا عصيت لم تعترف بأنك فعلت الذنب،بل تجعل نفسك بمنزلة المجبور عليه بخلاف مراده،أو المحرك الذي لا إرادة له ولا قدرة ولا علم، وكلاهما خطأ‏.‏

وقد ذكر أبو طالب المكي عن سهل بن عبد الله التستري أنه قال‏:‏إذا عمل العبد حسنة فقال‏:‏ أي رب، أنا فعلت هذه الحسنة، قال له ربه‏:‏ أنا يسرتك لها وأنا أعنتك عليها‏.‏ فإن قال‏:‏ أي رب، أنت أعنتني عليها ويسرتني لها، قال له ربه‏:‏ أنت عملتها وأجرها لك، وإذا فعل سيئة فقال‏:‏أي رب، أنت قدرت على هذه السيئة‏.‏ قال له ربه‏:‏ أنت اكتسبتها وعليك وزرها،فإن قال‏:‏أي رب،إني أذنبت هذا الذنب وأنا أتوب منه، قال له ربه‏:‏أنا قدرته عليك وأنا أغفره لك‏.‏ وهذا باب مبسوط في غير هذا الموضع‏.‏

وقد كثر في كثير من المنتسبين إلى المشيخة والتصوف شهود القدر فقط، من غير شهود الأمر والنهي، والاستناد إليه في ترك المأمور وفعل المحظور، وهذا أعظم الضلال

ومن طرد هذا القول والتزم لوازمه، كان أكفر من اليهود والنصارى والمشركين، لكن أكثر من يدخل في ذلك يتناقض ولا يطرد قوله

وقول هذا القائل هو من هذا الباب فقوله‏:‏ آدم كان أمره بكل باطنا فأكل، وإبليس كان توحيده ظاهراً فأمر بالسجود لآدم فرآه غيراً فلم يسجد / فغير الله عليه وقال‏:‏ ‏{‏اخْرُجْ مِنْهَا‏}‏الآية ‏[‏الأعراف‏:‏18‏]‏، فإن هذا ـ مع ما فيه من الإلحاد ـ كذب على آدم وإبليس فإن آدم اعترف بأنه هو الفاعل للخطيئة،وأنه هو الظالم لنفسه وتاب من ذلك، ولم يقل‏:‏إن الله ظلمني، ولا إن الله أمرني في الباطن بالأكل،قال تعالى‏:‏‏{‏فَتَلَقَّى آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏37‏]‏،وقال تعالى‏:‏‏{‏قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏23‏]‏، وإبليس أصر واحتج بالقدر فقال‏:‏‏{‏قَالَ رَبِّ بِمَآ أَغْوَيْتَنِي لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ‏}‏‏[‏الحجر‏:‏39‏]‏‏.‏

وأما قوله‏:‏ ‏[‏رآه غيراً فلم يسجد‏]‏، فهذا شر من الاحتجاج بالقدر، فإن هذا قول أهل الوحدة الملحدين، وهو كذب على إبليس، فإن إبليس لم يمتنع من السجود لكونه غيراً بل قال‏:‏ ‏{‏أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏12‏]‏، ولم تؤمر الملائكة بالسجود لكون آدم ليس غيراً، بل المغايرة بين الملائكة وآدم ثابتة معروفة، والله تعالى‏:‏ ‏{‏ّوَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاء هَـؤُلاء إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ‏.‏قَالُواْ سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ‏}‏‏[‏البقرة‏:‏31، 32‏]‏

وكانت الملائكة وآدم معترفين بأن الله مباين لهم، وهم مغايرون له، ولهذا دعوه دعاء العبد ربه، فآدم يقول‏:‏ ‏{‏رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا‏}‏‏[‏الأعراف‏:‏23‏]‏، والملائكة تقول‏:‏ ‏{‏لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا‏}‏‏[‏البقرة‏:‏32‏]‏، وتقول‏:‏ ‏{‏رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ‏}‏الآية ‏[‏غافر‏:‏7‏]‏، وقد قال تعالى‏:‏‏{‏قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏64‏]‏، وقال تعالى‏:‏‏{‏أَغَيْرَ اللّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلاَ يُطْعَمُ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏14‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏أَفَغَيْرَ اللّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنَزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلاً‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏114‏]‏

فلو لم يكن هناك غيره لم يكن المشركون أمروه بعبادة غير الله، ولا اتخاذ غير الله ولياً ولا حكماً، فلم يكونوا يستحقون الإنكار، فلما أنكر عليهم ذلك دل على ثبوت غيرٍ يمكن عبادته واتخاذه ولياً وحكماً، وأنه من فعل ذلك فهو مشرك بالله كما قال تعالى‏:‏‏{‏فَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏213‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏لاَّ تَجْعَل مَعَ اللّهِ إِلَـهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَّخْذُولاً‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏22‏]‏،وأمثال ذلك‏.‏

وأما قول القائل‏:‏ إن قوله‏:‏ ‏{‏لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ‏}‏‏[‏آل عمران‏:‏128‏]‏ عين الإثبات للنبي صلى الله عيله وسلم كقوله‏:‏ ‏{‏وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَـكِنَّ اللّهَ رَمَى‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏17‏]‏، ‏{‏إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ‏}‏ ‏[‏الفتح‏:‏10‏]‏ فهذا بناء على قول أهل الوحدة والاتحاد، وجعل معنى قوله‏:‏ ‏{‏لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ‏}‏ أن فعلك هو فعل الله لعدم المغايرة، وهذا ضلال عظيم من وجوه‏:‏

أحدها‏:‏ أن قوله‏:‏ ‏{‏لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ‏}‏ نزل في سياق قوله‏:‏ ‏{‏لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنقَلِبُواْ خَآئِبِينَ‏.‏ لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذَّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏127، 128‏]‏‏.‏/وقد ثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدعو على قوم من الكفار أو يلعنهم في القنوت، فلما أنزل الله هذه الآية ترك ذلك، فعلم أن معناها إفراد الرب تعالى بالأمر، وأنه ليس لغيره أمر، بل إن شاء الله ـ تعالى ـ قطع طرفاً من الكفار، وإن شاء كَبَتَهُم فانقلبوا بالخسارة، وإن شاء تاب عليهم وإن شاء عذبهم‏.‏

وهذا كما قال في الآية الأخرى‏:‏ ‏{‏قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلاَ ضَرًّا إِلاَّ مَا شَاء اللّهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏188‏]‏، ونحو ذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَّا قُتِلْنَا هَاهُنَا‏}‏ ‏{‏قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لله‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏154‏]‏‏.‏

الوجه الثاني‏:‏ أن قوله‏:‏‏{‏وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَـكِنَّ اللّهَ رَمَى‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏17‏]‏ لم يرد به أن فِعلَ العبد هو فعل الله ـ تعالى ـ كما تظنه طائفة من الغالطين ـ فإن ذلك لو كان صحيحا لكان ينبغي أن يقال لكل أحد، حتى يقال للماشي‏:‏ ما مشيت إذ مشيت ولكن الله مشى، ويقال للراكب‏:‏ وما ركبت إذ ركبت ولكن الله ركب، ويقال للمتكلم‏:‏ ما تكلمت إذ تكلمت ولكن الله تكلم، ويقال مثل ذلك للآكل والشارب، والصائم والمصلي ونحو ذلك‏.‏

وطرد ذلك يستلزم أن يقال للكفار‏:‏ ما كفرت إذ كفرت ولكن الله كفر، ويقال للكاذب‏:‏ ما كذبت إذ كذبت ولكن الله كذب‏.‏

ومن قال مثل هذا فهو كافر ملحد، خارج عن العقل والدين‏.‏

/ولكن معنى الآية أن النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر رماهم، ولم يكن في قدرته أن يوصل الرمي إلى جميعهم فإنه إذ رماهم بالتراب وقال‏:‏ ‏(‏شاهت الوجوه‏)‏ لم يكن في قدرته أن يوصل ذلك إليهم كلهم، فالله تعالى أوصل ذلك الرمي إليهم كلهم بقدرته‏.‏ يقول‏:‏ وما أوصلت إذ حذفت ولكن الله أوصل، فالرمي الذي أثبته له ليس هو الرمي الذي نفاه عنه، فإن هذا مستلزم للجمع بين النقيضين، بل نفى عنه الإيصال والتبليغ، وأثبت له الحذف والإلقاء، وكذلك إذا رمى سهما فأوصله الله إلى العدو إيصالا خارقاً للعادة، كان الله هو الذي أوصله بقدرته‏.‏

الوجه الثالث‏:‏ أنه لو فرض أن المراد بهذه الآية‏:‏أن الله خالق أفعال العباد فهذا المعنى حق، وقد قال الخليل‏:‏‏{‏رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏128‏]‏، فالله هو الذي جعل المسلم مسلما، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ الْإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا‏.‏ إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا‏.‏ وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا‏}‏ ‏[‏المعارج‏:‏19، 21‏]‏، فالله هو الذي خلقه هلوعا، لكن ليس في هذا أن الله هو العبد، ولا أن وجود الخالق هو وجود المخلوق، ولا أن الله حال في العبد‏.‏

فالقول بأن الله خالق أفعال العباد حق، والقول بأن الخالق حال في المخلوق أو وجوده وجود المخلوق باطل‏.‏

وهؤلاء ينتقلون من القول بتوحيد الربوبية إلى القول بالحلول والاتحاد، وهذا عين الضلال والإلحاد‏.‏

/الوجه الرابع‏:‏ أن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ‏}‏ ‏[‏الفتح‏:‏10‏]‏ لم يرد به‏:‏ أنك أنت الله، وإنما أراد‏:‏أنك أنت رسول الله ومبلغ أمره ونهيه، فمن بايعك فقد بايع الله، كما أن من أطاعك فقد أطاع الله، ولم يرد بذلك أن الرسول هو الله، ولكن الرسول أمر بما أمر الله به‏.‏

فمن أطاعه فقد أطاع الله، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏‏(‏من أطاعني فقد أطاع الله، ومن أطاع أميري فقد أطاعني، ومن عصاني فقد عصى الله، ومن عصى أميري فقد عصاني‏)‏ ومعلوم أن أميره ليس هو إياه‏.‏

ومن ظن في قوله‏:‏‏{‏إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ‏}‏ أن المراد به‏:‏ أن فعلك هو فعل الله، أو المراد‏:‏ أن الله حال فيك ونحو ذلك، فهو ـ مع جهله وضلاله بل كفره وإلحاده ـ قد سلب الرسول خاصيته وجعله مثل غيره‏.‏

وذلك أنه لو كان المراد به‏:‏ كون الله فاعلا لفعلك، لكان هذا قدراً مشتركا بينه وبين سائر الخلق، وكان من بايع أبا جهل فقد بايع الله، ومن بايع مسيلمة الكذاب فقد بايع الله، ومن بايع قادة الأحزاب فقد بايع الله، وعلى هذا التقدير فالمبايع هو الله أيضا، فيكون الله قد بايع الله، إذ الله خالق لهذا ولهذا، وكذلك إذا قيل بمذهب أهل الحلول والوحدة والاتحاد، فإنه عام عندهم في هذا وهذا، فيكون الله قد بايع الله‏.‏

وهذا يقوله كثير من شيوخ هؤلاء الحلولية الاتحادية، حتى إن أحدهم إذا أمر بقتال العدو يقول‏:‏ أقاتل الله ‏؟‏ ما أقدر أن أقاتل الله، ونحو هذا / الكلام الذي سمعناه من شيوخهم، وبينا فساده لهم وضلالهم فيه غير مرة‏.‏

وأمـا الحـلـول الخـاص فليس هـو قـول هؤلاء، بل هو قول النصارى ومن وافقهم من الغالية وهو باطل أيضا، فإن الله ـ سبحانه ـ قال له‏:‏‏{‏لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏128‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ‏}‏‏[‏الجن‏:‏19‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏1‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏23‏]‏، وقال‏:‏‏{‏لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا‏.‏ وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا‏}‏ ‏[‏الفتح‏:‏18، 19‏]‏‏.‏

فقوله‏:‏ ‏{‏لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ‏}‏ بيَّن قوله‏:‏ ‏{‏إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ‏}‏؛ ولهذا قال‏:‏ ‏{‏يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ‏}‏‏[‏الفتح‏:‏10‏]‏‏.‏ ومعلوم أن يد النبي صلى الله عليه وسلم كانت مع أيديهم، كانوا يصافحونه ويصفقون على يده في البيعة، فعلم أن يد الله فوق أيديهم ليست هي يد النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن الرسول عبد الله ورسوله، فبايعهم عن الله وعاهدهم وعاقدهم عن الله، فالذين بايعوه بايعوا الله الذي أرسله وأمره ببيعتهم‏.‏

ألا ترى أن كل من وكل شخصا يعقد مع الوكيل، كان ذلك عقداً مع الموكل ‏؟‏ ومن وكل نائبا له في معاهدة قوم فعاهدهم عن مستنيبه، كانوا معاهدين لمستنيبه‏؟‏ ومن وكل رجلا في إنكاح أو تزويج، كان الموكل هو الزوج الذي وقع له العقد‏؟‏ وقد قال تعالى‏:‏‏{‏إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ‏}‏الآية ‏[‏التوبة‏:‏111‏]‏، ولهذا قال في تمام الآية‏:‏‏{‏وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا‏}‏‏[‏الفتح‏:‏10‏]‏‏.‏

فتبين أن قول ذلك الفقير هو القول الصحيح، وأن الله إذا كان قد قال لنبيه‏:‏ ‏{‏لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ‏}‏ فإيش نكون نحن‏؟‏ وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم في الصحيح أنه قال‏:‏ ‏(‏لا تُطْرُوني كما أَطرت النصارى المسيح ابن مريم، فإنما أنا عبد، فقولوا‏:‏ عبد الله ورسوله‏)‏

وأما قول القائل‏:‏

ما غبت عن القلب ولا عن عيني ** مـا بـيـنـكم وبـيـنـنـا مـن بـين

فهذا قول مبنى على قول هؤلاء، وهو باطل متناقض، فإن مبناه على أنه يرى الله بعينه، وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏واعلموا أن أحداً منكم لن يرى ربه حتى يموت‏)‏

وقد اتفق أئمة المسلمين على أن أحداً من المؤمنين لا يرى الله بعينه في الدنيا، ولم يتنازعوا إلا في النبي صلى الله عليه وسلم خاصة، مع أن جماهير الأئمة على أنه لم يره بعينه في الدنيا، وعلى هذا دلت الآثار الصحيحة الثابتة عن النبي صلى الله علسه وسلم، والصحابة وأئمة المسلمين‏.‏

ولم يثبت عن ابن عباس، ولا عن الإمام أحمد وأمثالهما، أنهم قالوا‏:‏ إن محمداً رأى ربه بعينه، بل الثابت عنهم إما إطلاق الرؤية وإما تقييدها بالفؤاد، / وليس في شيء من أحاديث المعراج الثابتة أنه رآه بعينه، وقوله‏:‏ ‏(‏أتاني البارحة ربي في أحسن صورة‏)‏ الحديث الذي رواه الترمذي وغيره، إنما كان بالمدينة في المنام، هكذا جاء مفسراً‏.‏

وكذلك حديث أم الطفيل وحديث ابن عباس وغيرهما ـ مما فيه رؤية ربه ـ إنما كان بالمدينة كما جاء مفسراً في الأحاديث، والمعراج كان بمكة كما قال تعالى‏:‏‏{‏سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏1‏]‏، وقد بسط الكلام على هذا في غير هذا الموضع‏.‏

وقد ثبت بنص القرآن أن موسى قيل له‏:‏ ‏{‏لن رآني‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏143‏]‏، وأن رؤية الله أعظم من إنزال كتاب من السماء، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَن تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِّنَ السَّمَاء فَقَدْ سَأَلُواْ مُوسَى أَكْبَرَ مِن ذَلِكَ فَقَالُواْ أَرِنَا اللّهِ جَهْرَةً‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏153‏]‏، فمن قال‏:‏ إن أحدًا من الناس يراه، فقد زعم أنه أعظم من موسى بن عمران،ودعواه أعظم من دعوى من ادعى أن الله أنزل عليه كتاباً من السماء‏.‏

والناس في رؤية الله على ثلاثة أقوال‏:‏

فالصحابة والتابعونَ وأئمة المسلمين على أن الله يرى في الآخرة بالأبصار عيانًا، وأن أحداً لا يراه في الدنيا بعينه، لكن يرى في المنام ويحصل للقلوب ـ من المكاشفات والمشاهدات ـ ما يناسب حالها‏.‏

ومن الناس من تقوى مشاهدة قلبه، حتى يظن أنه رأى ذلك بعينه، / وهو غالط، ومشاهدات القلوب تحصل بحسب إيمان العبد، ومعرفته في صورة مثالية، كما قد بسط في غير هذا الموضع‏.‏

والقول الثاني‏:‏ قول نفاة الجهمية‏:‏ أنه لا يرى في الدنيا ولا في الآخرة‏.‏

والثالث‏:‏ قول من يزعم أنه يرى في الدنيا والآخرة‏.‏

وحلولية الجهمية يجمعون بين النفي والإثبات، فيقولون‏:‏ إنه لا يري في الدنيا ولا في الآخرة، وأنه يرى في الدنيا والآخرة، وهذا قول ابن عربي ـ صاحب الفصوص ـ وأمثاله؛ لأن الوجود المطلق الساري في الكائنات لا يرى، وهو وجود الحق عندهم‏.‏

ثم من أثبت الذات قال‏:‏ يرى متجلياً فيها، ومن فرق بين المطلق والمعين قال‏:‏ لا يرى إلا مقيداً بصورة‏.‏

وهؤلاء قولهم دائر بين أمرين‏:‏ إنكار رؤية الله، وإثبات رؤية المخلوقات، ويجعلون المخلوق هو الخالق، أو يجعلون الخالق حالا في المخلوق، وإلا فتفريقهم بين الأعيان الثابتة في الخارج وبين وجودها هو قول من يقول‏:‏ بأن المعدوم شيء في الخارج، وهو قول باطل، وقد ضموا إليه أنهم جعلوا نفس وجود المخلوق هو وجود الخالق‏.‏

وأما التفريق بين المطلق والمعين ـ مع أن المطلق لا يكون هو في الخارج مطلقاً ـ فيقتضي أن يكون الرب معدوما، وهذا هو جحود الرب وتعطيله،/ وإن جعلوه ثابتا في الخارج جعلوه جزءا من الموجودات،فيكون الخالق جزءا من المخلوق أو عرضا قائما بالمخلوق، وكل هذا مما يعلم فساده بالضرورة، وقد بسط هذا في غير هذا الموضع‏.‏

وأما تناقضه فقوله‏:‏

ما غبت عن القلب ولا عن عيني ** ما بينكم وبيـــــــننا من بـــين

يقتضى المغايرة، وأن المخاطَب غير المخاطِب، وأن المخاطَب له عين وقلب لا يغيب عنهما المخاطب، بل يشهده القلب والعين، و الشاهد غير المشهود‏.‏

وقوله‏:‏

ما بينكم وبيننا من بين **

فيه إثبات ضمير المتكلم وضمير المخاطب، وهذا إثبات لاثنين، وإن قالوا‏:‏ هذه مظاهر ومجالٍ، قيل‏:‏ فإن كانت المظاهر والمجالي غير الظاهر والمتجلي، فقد ثبتت التثنية وبطلت الوحدة، وإن كان هو إياها فقد بطل التعدد، فالجمع بينهما تناقض‏.‏

وقول القائل‏:‏

فارق ظلم الطبع وكن متحدا ** بالله وإلا فكل دعواك محال

إن أراد الاتحاد المطلق، فالمفارق هو المفارق، وهو الطبع وظلم الطبع، وهو المخاطب بقوله‏:‏ وكن متحداً بالله وهو المخاطب بقوله‏:‏ كل دعواك محال وهو القائل هذا القول، وفي ذلك من التناقض ما لا يخفى‏.‏

/وإن أراد الاتحاد المقيد، فهو ممتنع، لأن الخالق والمخلوق إذا اتحدا فإن كانا بعد الاتحاد اثنين ـ كما كانا قبل الاتحاد ـ فذلك تعدد وليس باتحاد‏.‏

وإن كانا استحالا إلى شيء ثالث ـ كما يتحد الماء واللبن والنار والحديد، ونحو ذلك مما يثبته النصارى بقولهم في الاتحاد ـ لزم من ذلك أن يكون الخالق قد استحال وتبدلت حقيقته، كسائر ما يتحد مع غيره، فإنه لابد أن يستحيل‏.‏

وهذا ممتنع على الله ـ تعالى ـ ينزه عنه؛ لأن الاستحالة تقتضى عدم ما كان موجوداً، والرب ـ تعالى ـ واجب الوجود بذاته وصفاته اللازمة له، يمتنع العدم على شيء من ذلك؛ ولأن صفات الرب اللازمة له صفات كمال، فعدم شيء منها نقص يتعالى الله عنه، ولأن اتحاد المخلوق بالخالق يقتضي أن العبد متصف بالصفات القديمة اللازمة لذات الرب، وذلك ممتنع على العبد المحدث المخلوق، فإن العبد يلزمه الحدوث والافتقار والذل‏.‏

والرب ـ تعالى ـ يلازمه القدم والغنى والعزة، وهو ـ سبحانه ـ قديم غني عزيز بنفسه، يستحيل عليه نقيض ذلك، فاتحاد أحدهما بالآخر يقتضى أن يكون الرب متصفا بنقيض صفاته من الحدوث والفقر والذل، والعبد متصفاً بنقيض صفاته من القدم، والغنى الذاتي، والعز الذاتي، وكل ذلك ممتنع، وبسط هذا يطول‏.‏

/ ولهذا سئل الجنيد عن التوحيد فقال‏:‏ التوحيد إفراد الحدوث عن القدم، فبين أنه لابد من تمييز المحدث عن القديم‏.‏

ولهذا اتفق أئمة المسلمين على أن الخالق بائن عن مخلوقاته، ليس في مخلوقاته شيء من ذاته، ولا في ذاته شيء من مخلوقاته، بل الرب رب، والعبد عبد‏:‏ ‏{‏إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا ‏.‏ لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا ‏.‏ وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا‏}‏‏[‏مريم‏:‏93‏:‏ 95‏]‏

وإن كان المتكلم بهذا البيت أراد الاتحاد الوصفي ـ وهو أن يحب العبد ما يحبه الله، ويبغض ما يبغضه الله، ويرضى بما يرضى الله،ويغضب لما يغضب الله،ويأمر بما يأمر الله به،،وينهى عما ينهى الله عنه،ويوالي من يواليه الله،ويعادي من يعاديه الله، ويحب لله ويبغض لله، ويعطي لله ويمنع لله، بحيث يكون موافقا لربه تعالى ـ فهذا المعنى حق وهو حقيقة الإيمان وكماله،كما في الحديث الذي رواه البخاري عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏يقول الله تعالى‏:‏ من عادى لي ولياً فقد بارزني بالمحاربة، وما تقرب إليّ عبدي بمثل أداء ما افترضت عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلى بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنتُ سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، فبي يسمع، وبي يبصر، وبي يبطش، وبي يمشي، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه، وما ترددت عن شيء / أنا فاعله ترددي عن قبض نفس عبدي المؤمن، يكره الموت وأكره مساءته، ولابد له منه‏)‏‏.‏

وهذا الحديث يحتج به أهل الوحدة وهو حجة عليهم من وجوه كثيرة‏:‏

منها‏:‏ أنه قال‏:‏ ‏(‏من عادى لي وليا فقد بارزني بالمحاربة‏)‏ فأثبت نفسه ووليه ومعادي وليه، وهؤلاء ثلاثة، ثم قال‏:‏ ‏(‏وما تقرب إلىّ عبدي بمثل أداء ما افترضت عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلىّ بالنوافل حتى أحبه‏)‏ فأثبت عبداً يتقرب إليه بالفرائض ثم بالنوافل، وأنه لا يزال يتقرب بالنوافل حتى يحبه، فإذا أحبه كان العبد يسمع به، ويبصر به، ويبطش به، ويمشي به‏.‏

وهؤلاء هو عندهم قبل أن يتقرب بالنوافل، وبعده هو عين العبد وعين غيره من المخلوقات فهو بطنه وفخذه، لا يخصون ذلك بالأعضاء الأربعة المذكورة في الحديث، فالحديث مخصوص بحال مقيد، وهم يقولون بالإطلاق والتعميم، فأين هذا من هذا‏؟‏

وكذلك قد يحتجون بما في الحديث الصحيح‏:‏ ‏(‏إن الله يتجلى لهم يوم القيامة ثم يأتيهم في صورة غير الصورة التي رأوه فيها أول مرة فيقول‏:‏ أنا ربكم، فيقولون‏:‏ نعوذ بالله منك، هذا مكاننا حتى يأتينا ربنا، فإذا جاء ربنا عرفناه‏.‏ ثم يأتيهم في الصورة التي رأوه فيها في أول مرة فيقول‏:‏ أنا ربكم فيقولون‏:‏ أنت ربنا‏)‏ فيجعلون هذا حجة لقولهم‏:‏ إنه يرى في الدنيا في كل صورة بل هو كل صورة‏.‏

/وهذا الحديث حجة عليهم في هذا أيضا، فإنه لا فرق عندهم بين الدنيا والآخرة وهو عندهم ـ في الآخرة ـ المنكرون الذين قالوا‏:‏ نعوذ بالله منك، هذا مكاننا حتى يأتينا ربنا‏.‏

وهؤلاء الملاحدة يقولون‏:‏ إن العارف يعرفه في كل صورة، فإن الذين أنكروه يوم القيامة في بعض الصور كان لقصور معرفتهم‏.‏ وهذا جهل منهم، فإن الذين أنكروه يوم القيامة ثم عرفوه لما تجلى لهم في الصورة التي رأوه فيها أول مرة هم الأنبياء والمؤمنون، وكان إنكارهم مما حمدهم ـ سبحانه وتعالى ـ عليه، فإنه امتحنهم بذلك حتى لا يتبعوا غير الرب الذي عبدوه؛ فلهذا قال في الحديث‏:‏ ‏(‏وهو يسألهم ويثبتهم وقد نادى المنادي‏:‏ ليتبع كل قوم ما كانوا يعبدون‏)‏

ثم يقال لهؤلاء الملاحدة‏:‏ إذا كان عندكم هو الظاهر في كل صورة، فهو المنكر وهو المنكر، كما قال بعض هؤلاء لآخر‏:‏ من قال لك‏:‏ إن في الكون سوى الله فقد كذب، وقال له الآخر‏:‏ فمن هو الذي كذب‏؟‏

وذكر ابن عربي أنه دخل على مريد له في الخلوة وقد جاءه الغائط فقال‏:‏ ما أبصر غيره أبول عليه‏؟‏ فقال له شيخه‏:‏ فالذي يخرج من بطنك من أين هو‏؟‏ قال‏:‏ فرجت عني‏.‏

ومر شيخان منهم التلمساني هذا والشيرازي على كلب أجرب ميت، فقال الشيرازي للتلمساني‏:‏ هذا أيضا من ذاته‏؟‏ فقال التلمساني‏:‏ هل ثم شيء خارج عنها‏؟‏

/وكان التلمساني قد أضل شيخًا زاهدًا عابدًا ببيت المقدس يقال له‏:‏أبو يعقوب المغربي المبتلى، حتى كان يقول‏:‏ الوجود واحد، وهو الله ولا أرى الواحد، ولا أرى الله، ويقول‏:‏ نطق الكتاب والسنة بثنوية الوجود، والوجود واحد لا ثنوية فيه، ويجعل هذا الكلام له تسبيحا، يتلوه كما يتلو التسبيح

وأما قول الشاعر‏:‏

إذا بلغ الصب الكمال من الهوى ** وغاب عن المذكور في سطوة الذكر

فشاهــد حقا حين يشهده الهوى ** بأن صلاة العارفين من الكفــــــر

فهذا الكلام ـ مع أنه كفر ـ هو كلام جاهل لا يتصور ما يقول، فإن الفناء والغيب‏:‏ هو أن يغيب بالمذكور عن الذكر، وبالمعروف عن المعرفة، وبالمعبود عن العبادة، حتى يفنى من لم يكن ويبقى من لم يزل، وهذا مقام الفناء الذي يعرض لكثير من السالكين؛ لعجزهم عن كمال الشهود المطابق للحقيقة، بخلاف الفناء الشرعي، فمضمونه الفناء بعبادته عن عبادة ما سواه، وبحبه عن حب ما سواه، وبخشيته عن خشية ما سواه، وبطاعته عن طاعة ما سواه، فإن هذا تحقيق التوحيد والإيمان‏.‏

وأما النوع الثالث من الفناء ـ وهو الفناء عن وجود السوي بحيث يرى أن وجود الخالق هو وجود المخلوق ـ فهذا هو قول هؤلاء الملاحدة أهل الوحدة‏.‏

/والمقصود هنا أن قوله‏:‏ يغيب عن المذكور، كلام جاهل، فإن هذا لا يحمد أصلا، بل المحمود أن يغيب بالمذكور عن الذكر، لا يغيب عن المذكور في سطوات الذكر، اللهم إلا أن يريد أنه غاب عن المذكور فشهد المخلوق، وشهد أنه الخالق ولم يشهد الوجود إلا واحدًا، ونحو ذلك من المشاهد الفاسدة، فهذا شهود أهل الإلحاد لا شهود الموحدين، ولعمري إن من شهد هذا الشهود الإلحادي فإنه يرى صلاة العارفين من الكفر‏.‏

وأما قول القائل‏:‏

الكون يناديك أما تسمعنـي ** من ألف أشتاتي ومن فرقنـــي ‏؟‏

انظر لتراني منظرًا معتبـــرًا ** ما فيَّ سوى وجـود من أوجدني

فهو من أقوال هؤلاء الملاحدة، وأقوالهم كفر متناقض باطل في العقل والدين، فإنه إذا لم يكن فيه إلا وجود من أوجده، كان ذلك الوجود هو الكون المنادي، وهو المخاطب المنادي، وهو الأشتات المؤلفة المفرقة، وهو المخاطب الذي قيل له‏:‏ انظر‏.‏

وحينئذ يكون الوجود الواجب القديم الأزلي، قد أوجد نفسه وفرقها وألفها‏.‏ فهذا جمع بين النقيضين، فإن الواجب بنفسه لا يكون مفعولا مصنوعا، والشيء الواحد لا يكون خالقا مخلوقا، قديما محدثا، واجبا بنفسه واجبا بغيره، فإن هذا جمع بين النقيضين‏.‏

/فالواجب هو الذي لا تقبل ذاته العدم، والممكن هو الذي تقبل ذاته العدم، فيمتنع أن يكون الشيء الواحد قابلا للعدم غير قابل للعدم، والقديم هو الذي لا أول لوجوده، والمحدث هو الذي له أول، فيمتنع كون الشيء الواحد قديما محدثا‏.‏

ولولا أنه قد علم مرادهم بهذا القول، لأمكن أن يراد بذلك ما في سوى الوجود الذي خلقه من أوجدني، وتكون إضافة الوجود إلى الله إضافة الملك، لكن قد علم أنه لم يرد هذا؛ ولأن هذه العبارة لا تستعمل في هذا المعنى، وإنما يراد بوجود الله وجود ذاته لا وجود مخلوقاته، وهكذا قول القائل‏:‏

ذات وجود الــــــــ ** ـكون للخلق شهـــود

أن ليس لموجــــــــو ** د سوى الحق وجــود

مراده به أن وجود الكون هو نفس وجود الحق، وهذا هو قول أهل الوحدة، وإلا فلو أراد أن وجود كل موجود من المخلوقات هو من الحق تعالى ـ فليس لشيء وجود من نفسه، وإنما وجوده من ربه، والأشياء باعتبار أنفسها لا تستحق سوى العدم، وإنما حصل لها الوجود من خالقها وبارئها، فهي دائمة الافتقار إليه لا تستغني عنه لحظة، لا في الدنيا ولا في الآخرة ـ لكان قد أراد معنى صحيحا وهو الذي عليه أهل العقل والدين، من الأولىن والأخرىن‏.‏

وهؤلاء القائلون بالوحدة قولهم متناقض؛ ولهذا يقولون‏:‏ الشيء / ونقيضه، وإلا فقوله‏:‏ منه وإلا علاه يبدي ويعيد، يناقض الوحدة، فمن هو البادي والعائد منه وإليه إذا لم يكن إلا واحدًا‏.‏ وقوله‏:‏

وما أنا في طراز الكون شيء ** لأني مثل ظل مستحيـــــل

يناقض الوحدة؛ لأن الظل مغاير لصاحب الظل، فإذا شبه المخلوق بالظل لزم إثبات اثنين، كما إذا شبهه بالشعاع، فإن شعاع الشمس ليس هو نفس قرص الشمس، وكذلك إذا شبهه بضوء السراج وغيره‏.‏

والنصارى تشبه الحلول والاتحاد بهذا‏.‏

وقلت لمن حضرني منهم وتكلم بشيء من هذا‏:‏ فإذا كنتم تشبهون المخلوق بالشعاع الذي للشمس والنار، والخالق بالنار والشمس، فلا فرق في هذا بين المسيح وغيره، فإن كل ما سوى الله ـ على هذا ـ هو بمنزلة الشعاع والضوء، فما الفرق بين المسيح وبين إبراهيم وموسى‏؟‏ بل ما الفرق بينه وبين سائر المخلوقات على هذا ‏؟‏

وجعلت أردد عليه هذا الكلام، وكان في المجلس جماعة حتى فهمه فهما جيدًا، وتبين له وللحاضرين أن قولهم باطل لا حقيقة له، وأن ما أثبتوه للمسيح إما ممتنع في حق كل أحد وإما مشترك بين المسيح وغيره، وعلى التقديرين فتخصيص المسيح بذلك باطل‏.‏

وذكرت له‏:‏أنه ما من آية جاء بها المسيح إلا وقد جاء موسى بأعظم/ منها، فإن المسيح عليه السلام وإن كان جاء بإحياء الموتى فالموتى الذين أحياهم الله على يد موسى أكثر، كالذين قالوا‏:‏ ‏{‏لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ‏}‏ ثم بعثهم الله بعد موتهم‏.‏ كما قال‏:‏ ‏{‏ثُمَّ بَعَثْنَاكُم مِّن بَعْدِ مَوْتِكُمْ‏}‏‏[‏البقرة‏:‏55، 65‏]‏، وكالذي ضرب ببعض البقرة، وغير ذلك‏.‏

وقد جاء بإحياء الموتى غير واحد من الأنبياء والنصارى يصدقون بذلك‏.‏

وأما جعل العصا حَيّة، فهذا أعظم من إحياء الميت، فإن الميت كانت فيه حياة فردت الحياة إلى محل كانت فيه الحياة، وأما جعل خشبة يابسة حيوانا تبتلع العِصِيّ والحبال، فهذا أبلغ في القدرة، وأنذر، فإن الله يحيي الموتي، ولا يجعل الخشب حيات‏.‏

وأما إنزال المائدة من السماء، فقد كان ينزل على قوم موسى كل يوم من المن والسلوى، وينبع لهم من الحجر من الماء ما هو أعظم من ذلك، فإن الحلوى أو اللحم دائما هو أجل في نوعه وأعظم في قدره مما كان على المائدة، من الزيتون والسمك وغيرهما‏.‏

وذكرت له نحوا من ذلك، مما يبين أن تخصيص المسيح بالاتحاد ودعوى الإلهية ليس له وجه، وأن سائر ما يذكر فيه إما أن يكون مشتركا بينه وبين غيره من المخلوقات، وإما أن يكون مشتركا بينه وبين غيره من الأنبياء والرسل، مع أن بعض الرسل كإبراهيم وموسى، قد يكون أكمل في ذلك منه، وأما / خلقه من امرأة بلا رجل، فخلق حواء من رجل بلا امرأة أعجب من ذلك، فإنه خلق من بطن امرأة، وهذا معتاد، بخلاف الخلق من ضلع رجل، فإن هذا ليس بمعتاد‏.‏

فما من أمر يذكر في المسيح عليه السلام إلا وقد شركه فيه أو فيما هو أعظم منه غيره من بني آدم، فعلم قطعا أن تخصيص المسيح باطل، وأن ما يدعونه له إن كان ممكنا فلا اختصاص له به، وإن كان ممتنعا فلا وجود له فيه ولا في غيره‏.‏

ولهذا قال هؤلاء الاتحادية‏:‏ إن النصارى إنما كفروا بالتخصيص، وهذا أيضا باطل، فإن في الاتحاد عمومًا وخصوصا‏.‏

والمقصود هنا‏:‏ أن تشبيه الاتحادية أحدهم بالظل المستحيل يناقض قولهم بالوحدة، وكذلك قول الآخر‏:‏

أحن إليه وهو قلبي وهل يـــرى ** سواي أخو وجد يحن لقلبه‏؟‏

ويحجب طرفي عنه إذ هو ناظري ** وما بعده إلا لإفراط قربـــــه

هو ـ مع ما قصده به من الكفر والاتحاد ـ كلام متناقض، فإن حنين الشيء إلى ذاته متناقض؛ ولهذا قال‏:‏ وهل يرى سواي أخو وجد يحن لقلبه‏؟‏

وقوله‏:‏وما بعده إلا لإفراط قربه‏.‏ متناقض، فإنه لا قرب ولا بعد عند/ أهل الوحدة، فإنها تقتضي اثنين يقرب أحدهما من الآخر، والواحد لا يقرب من ذاته ولا يبعد من ذاته‏.‏