فصل: فصــل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ‏}‏

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مجموع فتاوى ابن تيمية **


/ فصــل

ومما اتفق عليه سلف الأمة وأئمتها ـ مع إيمانهم بالقضاء والقدر ـ أن الله خالق كل شيء، وأنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، وأنه يضل من يشاء ويهدي من يشاء، وأن العباد لهم مشيئة وقدرة يفعلون بمشيئتهم وقدرتهم ما أقدرهم الله عليه، مع قولهم أن العباد لا يشاؤون إلا أن يشاء الله، كما قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ‏.‏ فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ‏.‏ وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ‏}‏الآية ‏[‏المدثر‏:‏ 54 ـ 56‏]‏‏.‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا‏.‏ وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا‏}‏ ‏[‏الإنسان‏:‏ 29، 30‏]‏ وقال‏:‏ ‏{‏إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ‏.‏ لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ‏.‏ وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ‏}‏ ‏[‏التكوير‏:‏ 27-29‏]‏‏.‏

والقرآن قد أخبر بأن العباد يؤمنون، ويكفرون، ويفعلون، ويعملون، ويكسبون، ويطيعون، ويعصون، ويقيمون الصلاة، ويؤتون الزكاة، ويحجون، ويعتمرون، ويقتلون، ويزنون، ويسرقون ، ويصدقون، ويكذبون، ويأكلون، ويشربون، ويقاتلون، ويحاربون، فلم يكن من السلف والأئمة من يقول‏:‏ إن العبد ليس بفاعل ولا مختار، ولا مريد ولا قادر‏.‏ ولا قال أحد منهم‏:‏ إنه فاعل / مجازًا بل من تكلم منهم بلفظ الحقيقة والمجاز متفقون على أن العبد فاعل حقيقة، والله ـ تعالى ـ خالق ذاته وصفاته وأفعاله‏.‏

وأول من ظهر عنه إنكار ذلك هو الجهم بن صفوان وأتباعه، فحكى عنهم أنهم قالوا‏:‏ إن العبد مجبور، وأنه لا فعل له أصلا وليس بقادر أصلا، وكان الجهم غاليًا في تعطيل الصفات، فكان ينفي أن يسمى الله ـ تعالى ـ باسم يسمى به العبد، فلا يسمى شيئًا ولا حيًا ولا عالمًا ولا سميعًا ولا بصيرًا‏.‏ إلا على وجه المجاز‏.‏ وحكي عنه أنه كان يسمى الله ـ تعالى ـ قادرًا؛ لأن العبد عنده ليس بقادر، فلا تشبيه بهذا الاسم على قوله‏.‏

وكان هو وأتباعه ينكرون أن يكون لله حكمة في خلقه وأمره، وأن يكون له رحمة، ويقولون‏:‏ إنما فعل بمحض مشيئة، لا رحمة معها، وحكي عنه أنه كان ينكر أن يكون الله أرحم الراحمين، وإنه كان يخرج إلى الجذمى فينظر إليهم ويقول‏:‏ أرحم الراحمين يفعل مثل هذا بهؤلاء‏؟‏‏!‏ وكان يقول‏:‏ العباد مجبورون على أفعالهم ليس لهم فعل ولا اختيار‏.‏

وكان ظهور جهم ومقالته في تعطيل الصفات وفي الجبر والإرجاء في أواخر دولة بني أمية، بعد حدوث القدرية والمعتزلة وغيرهم، فإن القدرية حدثوا قبل ذلك في أواخر عصر الصحابة، فلما حدثت مقالته المقابلة لمقالة القدرية أنكرها السلف والأئمة، كما أنكروا قول القدرية من المعتزلة وغيرهم، وبدعوا الطائفتين، / حتى في لفظ الجبر أنكروا على من قال‏:‏ جبر، وعلى من قال‏:‏ لم يجبر‏.‏

والآثار بذلك معروفة عن الأوزاعي، وسفيان الثوري، وعبد الرحمن بن مهدي، وأحمد بن حنبل، وغيرهم من سلف الأمة وأئمتها، كما ذكر طرفًا من ذلك أبو بكر الخلال في ‏"‏كتاب السنة‏"‏ هو وغيره ممن يجمع أقوال السلف، وقال الأوزاعي والزبيدي وغيرهما ليس في الكتاب والسنة لفظ جبر، وإنما في السنة لفظ جبل كما في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأشج عبد القيس لما قدم عليه وفد عبد القيس من البحرين، فقالوا‏:‏ يارسول الله، بيننا وبينك هذا الحي من كفار مضر وإنا لا نصل إليك إلا في شهر حرام، فمرنا بأمر فصل نعمل به، ونأمر به من وراءنا، فقال‏:‏ ‏(‏آمركم بالإيمان بالله، أتدرون ما الإيمان‏؟‏ شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وأن تؤدوا خمس ما غنمتم‏)‏‏.‏ ونهاهم عن الانتباذ في الأوعية التي يسرع إليها السكر‏.‏ حتى قد يشرب الرجل ولا يدري أنه شرب مسكرًا، بخلاف الظروف التي توكأ فإنها إذا اشتد الشراب انشقت، ونهى عن الدباء وهو القرع والحنتم وهو ما يصنع من المدر كالجرار والمزفت ـ وهي الظروف المزفتة ـ والنقير وهو الخشب المنقور ثم قد قيل‏:‏ إن النبي صلى الله عليه وسلم أباح ذلك بعد هذا النهي‏.‏

ولهذا تنازع العلماء في هذا النهي، هل هو منسوخ أم لا‏؟‏ على قولين / مشهورين للعلماء، هما روايتان عند أحمد، والقول بالنسخ مذهب أبي حنيفة والشافعي، والقول بأن هذا كان لم ينسخ مذهب مالك، لكن مالك لا ينهى إلا عن صنفين فإنه ثبت في صحيح البخاري أنه حرم ذينك الصنفين، وأباح الآخرين بعد النهي‏.‏

وأما مسلم ، فروى في صحيحه النسخ في الجميع؛ فلهذا اختلف قول أحمد؛ لأن الأحاديث بالنهي متواترة، وحديث النسخ ليس مثلها؛ فلهذا صار للناس فيها ثلاثة أقوال، وهؤلاء وفد عبد القيس كانوا بالبحرين أسلموا طوعًا، كما أسلم أهل المدينة، وأول جمعة جمعت في الإسلام في قرية عندهم من قري البحرين‏.‏

والمقصود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ لأشج عبد القيس‏:‏ ‏(‏إن فيك لخلقين يحبهما الله، الحلم والأناة‏)‏، فقال‏:‏ أخلقين تخلقت بهما‏؟‏ أم خلقين جبلت عليهما‏؟‏ فقال‏:‏ ‏(‏بل خلقين جبلت عليهما‏)‏‏.‏ فقال‏:‏ الحمد لله الذي جبلني على ما يحب، فقال الأوزاعي والزبيدي وغيرهما من السلف لفظ الجبل جاءت به السنة، فيقال‏:‏ جبل الله فلانا على كذا، وأما لفظ الجبر فلم يرد، وأنكر الأوزاعي والزبيدي والثوري وأحمد بن حنبل وغيرهم لفظ الجبر في النفي والإثبات‏.‏

وذلك ؛لأن لفظ الجبر مجمل، فإنه يقال‏:‏ جبر الأب ابنته على النكاح، وجبر / الحاكم الرجل على بيع ما له لوفاء دينه، ومعنى ذلك أكرهه، ليس معناه أنه جعله مريدا لذلك مختارًا محبا له راضيًا به‏.‏ قالوا‏:‏ ومن قال‏:‏ إن الله ـ تعالى ـ جبر العباد بهذا المعنى فهو مبطل، فإن الله أعلي وأجل قدرًا من أن يجبر أحدًا، وإنما يجبر غيره العاجز عن أن يجعله مريدا للفعل مختارًا له محباً له راضياً به والله سبحانه قادر على ذلك، فهو الذي جعل المريد للفعل، المحب له، الراضي به، مريدًا له، محبًا له، راضيًا به، فكيف يقال أجبره وأكرهه كما يجبر المخلوق المخلوق، مثل ما يجبر السلطان والحاكم والأب وغيرهم من يجبرونه، إما بحق وإما بباطل، وإجبارهم هو إكراههم لغيرهم على الفعل، والإكراه قد يكون إكراهًا بحق، وقد يكون إكراها بباطل‏.‏

فالأول‏:‏ كإكراه من امتنع من الواجبات على فعلها، مثل إكراه الكافر الحربي على الإسلام، أو أداء الجزية عن يد وهم صاغرون، وإكراه المرتد على العود إلى الإسلام، وإكراه من أسلم على إقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت، وعلى قضاء الديون التي يقدر على قضائها، وعلى أداء الأمانة التي يقدر على أدائها، وإعطاء النفقة الواجبة عليه التي يقدر على إعطائها‏.‏

وأما الإكراه بغير حق، فمثل إكراه الإنسان على الكفر والمعاصي، وهذا الإجبار الذي هو الإكراه يفعله العباد بعضهم مع بعض؛ لأنهم لا يقدرون على إحداث الإرادة والاختيار في قلوبهم وعلي جعلهم فاعلين / لأفعالهم، والله ـ تعالى ـ قادر على إحداث إرادة للعبد ولاختياره، وجعله فاعلا بقدرته و مشيئته، فهو أعلا وأقدر من أن يجبر غيره ويكرهه على أمر شاءه منه، بل إذا شاء جعله فاعلاً له بمشيئته، كما أنه قادرعلى أن يجعله فاعلا للشيء مع كراهته له، فيكون مريدًا له حتى يفعله مع بغضه له، كما قد يشرب المريض الدواء مع كراهته له، قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏ 15‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا‏}‏ ‏[‏ آل عمران‏:‏ 83‏]‏‏.‏

فكل ما يقع من العباد بإرادتهم ومشيئتهم، فهو الذي جعلهم فاعلين له بمشيئتهم، سواء كانوا مع ذلك فعلوه طوعًا، أو كانوا كارهين له فعلوه كرهاً، وهو سبحانه لا يكرههم على ما لا يريدونه، كما يكره المخلوق المخلوق حيث يكرهه على أمر وإن لم يرده، وليس هو قادرًا أن يجعله مريدًا له فاعلاً له، لا مع الكراهة، ولا مع عدمها، فلهذا يقال للعبد‏:‏ إنه جبر غيره على الفعل، والله أعلى وأجل وأقدر من أن يقال بأنه جبر بهذا المعنى‏.‏

وقد يستعمل لفظ الجبر في أعم من ذلك، بحيث يتناول كل من قهر غيره وقدر عليه فجعله فاعلاً لما يشاء منه، وإن كان هو المحدث لإرادته وقدرته عليه‏.‏

قال محمد بن كعب القرظي ـ في اسم الله الجبار قال ـ‏:‏ هو الذي جبر/ العباد على ما أراد، وكذلك ينقل عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب أنه قال في الدعاء المأثور‏:‏ اللهم داحي المدحوات، وباري المسموكات، جبار القلوب على فطرتها، شقيها وسعيدها‏.‏ والجبر من الله بهذا الاعتبار معناه القهر والقدرة، وأنه يقدر أن يفعل ما يشاء، ويجبر علي ذلك، ويقهرهم عليه، فليس كالمخلوق العاجز الذي يشاء ما لا يكون، ويكون ما لا يشاء، ومن جبره وقهره وقدرته، أن يجعل العباد مريدين لما يشاء منهم، إما مختارين له طوعًا، وإما مريدين له مع كراهتهم له، ويجعلهم فاعلين له، وهذا الجبر الذي هو قهره بقدرته لا يقدرعليه غيره، وليس هو كإجبار غيره، وإكراهه من وجوه‏:‏

منها‏:‏ أن ما سواه عاجز لا يقدر أن يجعل العباد مريدين لما يشاؤه، ولا فاعلين له‏.‏

ومنها‏:‏ أن غيره قد يجبر الغير ويكرهه إكراهًا يكون ظالمًا به، والله تعالى عادل لا يظلم مثقال ذرة‏.‏

ومنها‏:‏ أن غيره قد يكون جاهلا، أو سفيها لا يعلم ما يفعله، وما يجبر عليه، لا يقصد حكمة تكون غير ذلك، والله عليم حكيم، ما خلقه وأمر به له فيه حكمة بالغة صادرة من علمه وحكمته وقدرته‏.‏

/ فصــل

وأما السلف والأئمة، كما أنهم متفقون على الإيمان بالقدر، وأنه ما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، وأنه خالق كل شيء من أفعال العباد، وغيرها، وهم متفقون على إثبات أمره ونهيه، ووعده ووعيده، وأنه لا حجة لأحد على الله في ترك مأمور، ولا فعل محظور، فهم أيضًا متفقون على أن الله حكيم رحيم وأنه أحكم الحاكمين، وأرحم الراحمين‏.‏

وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏الله أرحم بعباده من الوالدة بولدها‏)‏‏.‏ وقد أخبر عن حكمته في خلقه وأمره بما أخبر به في كتابه وسنة رسوله‏.‏

والجهم بن صفوان ومن اتبعه، ينكرون حكمته ورحمته، ويقولون‏:‏ ليس في أفعاله وأوامره لام كي، لا يفعل شيئًا لشيء، ولا يأمر بشيء لشيء‏.‏

وكثير من المتأخرين من المثبتين للقدر من أهل الكلام، ومن وافقهم سلكوا مسلك جهم في كثير من مسائل هذا الباب، وإن خالفوه في بعض / ذلك، إما نزاعًا لفظيًا، وإما نزاعًا لا يعقل، وإما نزاعًا معنويا، وذلك كقول من زعم، أن العبد كاسب ليس بفاعل حقيقة، وجعل الكسب مقدورًا للعبد، وأثبت له قدرة لا تأثير لها في المقدور؛ ولهذا قال جمهور العقلاء‏:‏ إن هذا كلام متناقض غير معقول، فإن القدرة إذا لم يكن لها تأثير أصلا في الفعل كان وجودها كعدمها، ولم تكن قدرة، بل كان اقترانها بالفعل، كاقتران سائر صفات الفاعل في طوله وعرضه ولونه‏.‏

ولما قيل لهؤلاء‏:‏ ما الكسب‏؟‏ قالوا‏:‏ ما وجد بالفاعل، وله عليه قدرة محدثة، أو ما يوجد في محل القدرة المحدثة، فإذا قيل لهم‏:‏ ما القدرة‏؟‏ قالوا‏:‏ ما يحصل به الفرق بين حركة المرتعش، وحركة المختار، فقال لهم جمهور العقلاء‏:‏ حركة المختار حاصلة بإرادته دون حركة المرتعش، وهي حاصلة بقدرته أيضًا، فإن جعلتم الفرق مجرد الإرادة، فالإنسان قد يريد فعل غيره ولا يكون فاعلاً له، وإن أردتم أنه قادر عليه، فقد عاد الأمر إلى معنى القدرة، والمعقول من القدرة معني به يفعل الفاعل، ولا تثبت قدرة لغير فاعل، ولا قدرة يكون وجودها وعدمها بالنسبة إلى الفاعل سواء‏.‏

وهؤلاء المتبعون لجهم يقولون‏:‏ إن العبد ليس بفاعل حقيقة، وإنما هو كاسب حقيقة، ويثبتون مع الكسب قدرة لا تأثير لها في الكسب، بل وجودها وعدمها بالنسبة إليه سواء، ولكن قرنت به من غير تأثير فيه، وزعموا أن كل مافي الوجود من القوى، والطبائع، والأسباب العلوية، والسفلية / كقدرة العبد لا تأثير لشيء منها فيما اقترنت به من الحوادث والأفعال، والمسببات، بل قرن الخالق هذا بهذا لا لسبب، ولا لحكمة أصلا‏.‏

وقالوا‏:‏ إن الطاعات والمعاصي مع الثواب والعقاب كذلك، ليس في الطاعة معنى يناسب الثواب، ولا في المعصية معنى يناسب العقاب، ولا كان في الأمر والنهي حكمة لأجلها أمر ونهي، ولا أراد بإرسال الرسل رحمة العباد ومصلحتهم، بل أراد أن ينعم طائفة ويعذب طائفة لا لحكمة، والسبب هو جعل الأمر والنهي، و الطاعة والمعصية، علامة على ذلك لا لسبب ولا لحكمة، وأنه يجوز أن يأمر بكل شيء حتى بالشرك، وتكذيب الرسل والظلم والفواحش، وينهي عن كل شيء حتى التوحيد والإيمان بالرسل وطاعتهم‏.‏

وكثير من هؤلاء كأبي الحسن وأتباعه ومن وافقهم من متأخري أصحاب مالك والشافعى وأحمد، مثل ابن عقيل وابن الجوزي، وأمثالهما يقولون‏:‏ إن الخلق هو المخلوق، والفعل هو المفعول، وقد جعلوا أفعال العباد فعلاً لله، والفعل عندهم هو المفعول، فامتنع مع هذا أن يكون فعلاً للعبد؛ لئلا يكون فعل واحد له فاعلان‏.‏

وأما الجمهور، فيقولون‏:‏ إنها مخلوقة لله مفعولة له، وهي فعل للعبد قائمة به، وليست فعلاً لله قائمًا به، بل مفعوله غير فعله، والرب / تعالى لا يوصف بما هو مخلوق له، وإنما يوصف بما هو قائم به، فلم يلزم هؤلاء أن يكون الرب ظالمًا، وأما أولئك، فإذا قالوا‏:‏ إنه يوصف بالمخلوق المنفصل عنه، فيسمى عادلاً وخالقًا؛ لوجود مخلوق منفصل عنه خلقه، فإنهم ألزموهم أن يكون ظالمًا لخلقه ظلمًا منفصلا عنه؛ إذ كانوا لا يفرقون فيما انفصل عنه بينما يكون صفة لغيره وفعلاً له، وبين ما لا يكون، إذ الجميع عندهم نسبته واحدة إلى قدرته ومشيئته وخلقه‏.‏

وهؤلاء أطلقوا القول بتكليف ما لا يطلق، وليس في السلف والأئمة من أطلق القول بتكليف ما لا يطاق، كما أنه ليس فيهم من أطلق القول بالجبر، وإطلاق القول بأنه يجبر العباد، كإطلاق القول بأنه يكلفهم ما لا يطيقون، هذا سلب قدرتهم على ما أمروا به، وذلك سلب كونهم فاعلين قادرين‏.‏

ولهذا كان المقتصدون من هؤلاء، كالقاضي أبي بكر بن الباقلاني، وأكثر أصحاب أبي الحسن، وكالجمهور من أصحاب مالك، والشافعي وأحمد بن حنبل، كالقاضي أبي يعلى، وأمثاله يفصلون في القول بتكليف ما لا يطاق، كما تقدم القول في تفصيل الجبر، فيقولون‏:‏ تكليف ما لا يطاق؛ لعجز العبد عنه لا يجوز، وأما ما يقال أنه لا يطاق؛ للاشتغال بضده، فيجوز تكليفه، وهذا؛ لأن الإنسان لا يمكنه في حال واحدة أن يكون قائمًا قاعدًا، ففي حال القيام لا يقدر أن يفعل معه القعود، ويجوز أن يؤمر حال القعود بالقيام، / وهذا متفق علي جوازه بين المسلمين، بل عامة الأمر والنهي هو من هذا النوع، لكن هل يسمى هذا تكليف مالا يطاق‏؟‏ فيه نزاع‏.‏

قيل‏:‏ إن العبد لا يكون قادرًا إلا حين الفعل، وإن القدرة لا تكون إلا مع الفعل، كما يقوله أبو الحسن الأشعري، وكثير من نظار المثبتة للقدر، فعلى قول هؤلاء كل مكلف، فهو حين التكليف قد كلف ما لا يطيقه حينئذ، وإن كان قد يطيقه حين الفعل بقدرة يخلقها الله له وقت الفعل، ولكن هذا لا يطيقه لاشتغاله بضده وعدم القدرة المقارنة للفعل؛ لا لكونه عاجزا عنه‏.‏ وأما العاجز عن الفعل، كالزمن العاجز عن المشي، والأعمي العاجز عن النظر ونحو ذلك، فهؤلاء لم يكلفوا بما يعجزون عنه، ومثل هذا التكليف لم يكن واقعًا في الشريعة باتفاق طوائف المسلمين، إلا شرذمة قليلة من المتأخرين ادعوا وقوع مثل هذا التكليف في الشريعة، ونقلوا ذلك عن الأشعري وأكثر أصحابه، وهو خطأ عليهم‏.‏

وأما جواز هذا التكليف عقلاً، فأكثر الأمة نفت جوازه مطلقًا، وجوزه عقلاً طائفة من المثبتة للقدر من أصحاب أبي الحسن الأشعري، ومن وافقهم من أصحاب مالك، والشافعي، وأحمد، كابن عقيل وابن الجوزي وغيرهما‏.‏وطائفة ثالثة فرقت في الجواز العقلي، بين الممكن لذاته الذي / يتصور وجوده في الخارج، كالطيران، وبين الممتنع عقلاً كالجمع بين النقيضين‏.‏

والذين زعموا وقوع التكليف بالممتنع لذاته ـ كالرازي وغيره ـ احتجوا بأن الله كلف أبا لهب بالإيمان مع علمه بأنه لا يؤمن، وإخباره بأنه لا يؤمن‏.‏ فكلفه بالجمع بين النقيضين بأن يفعل الشيء، وبأن يصدق أنه لا يكون مصدقًا بذلك، وهو صادق في تصديقه إذا لم يكن، واحتجوا بأنه كلف خلاف المعلوم، وخلاف المعلوم محال، فيكون حقيقة التكليف أنه يجعل علم الله جهلاً، وهذا ممتنع لذاته‏.‏

وهؤلاء جعلوا لفظ ما لا يطاق لفظًا عامًا يدخل فيه كل فعل؛ لكون القدرة عندهم لا تكون إلا مع الفعل، ويدخل فيه خلاف المعلوم، ويدخل فيه المعجوز عنه، ويدخل فيه الممتنع لذاته، ثم ذكروا نحو عشر حجج يستدلون بها على جواز هذا الجنس، فإذا فصل الأمر عليهم ثبت أن دعواهم جواز ما لا يطاق للعجز عنه ـ سواء كان ممتنعا لذاته أو ممكنًا ـ باطلة لا دليل عليها، وأما جواز تكليف ما يقدر العبد عليه من العبادة، ويقولون هم‏:‏ أنه لا يكون قادرًا عليه إلا حين الفعل، فهذا مما اتفق الناس على جواز التكليف به، لكن ثم نزاع لفظي ومعنوي في كونه يدخل فيما لا يطاق، فصار ما أدخلوه في هذا الاسم أنواعًا مختلفة‏:‏ منها ما ينازعون في جوازه أو وقوعه‏.‏ و منها‏:‏ ما ينازعون في اسمه وصفته لا في وقوعه‏.‏

/أما تكليف أبي لهب، وغيره بالإيمان، فهذا حق، وهو إذا أمر أن يصدق الرسول في كل ما يقوله، وأخبر مع ذلك أنه لا يصدقه، بل يموت كافرًا، لم يكن هذا متناقضًا، ولا هو مأمور أن يجمع بين النقيضين، فإنه مأمور بتصديق الرسول في كل ما بلغ، وهذا التصديق لا يصدر منه، فإذا قيل له أمرناك بأمر ونحن نعلم أنك لا تفعله لم يكن هذا تكليفًا للجمع بين النقيضين‏.‏

فإن قال‏:‏ تصديقكم في كل ما تقولون يقتضي أن أكون مؤمنًا، إذا صدقتكم وإذا صدقتكم لم أكن مؤمنًا؛ لأنكم أخبرتم أني لا أؤمن بكل ما أخبر به، قيل له‏:‏ لو وقع منك لم يكن فيه هذا الخبر، ولم يكن يخبر أنك لا تؤمن، فأنت قادر على تصديقنا، وبتقدير وجوده لا يحصل هذا الخبر، وإنما وقع؛ لأنك أنت لم تفعل ما قدرت عليه من تصديقنا بهذا الخبر، فوقع بعد تكذيبك وتركك ما كنت قادرًا عليه، لم نقل لك حين أمرناك بالتصديق العام وأنت قادر عليه‏.‏

ولو قيل لك‏:‏ آمن ونحن نعلم أنك لا تؤمن بهذا الخبر، فالذي أمرت أن تؤمن به هو الإخبار بأن محمدًا رسول الله، وهذا أنت قادر عليه ولا تفعله، وإذا صدقتنا في خبرنا أنك لا تؤمن لم يكن هناك تناقض، لكن لا يمكن الجمع بين الإيمان والتصديق، فإنه لم يقع ونحن لم نأمرك بهذا، بل أمرناك بإيمان مطلق تقدر عليه، وأخبرنا مع ذلك أنك لا تفعل ذلك المقدور عليه، ولم نقل لك صدقنا في هذا وهذا في حال واحدة، لكن الواجب عليك هو/ التصديق المطلق، والتصديق بهذا لا يجب عليك حينئذ، ولو وقع منك التصديق المطلق امتنع منا هذا الخبر، بل هذا الخبر إنما وقع لما علمنا أنه لا يقع منك التصديق المطلق‏.‏

وهذا كله لو قدر أن أبا لهب أسمع هذه الآية وأمر بالتصديق بها، وليس الأمر كذلك، لكن لما أنزل الله قوله‏:‏ ‏{‏سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ‏}‏ ‏[‏المسد‏:‏ 3‏]‏، ولم يسلم لهم أن الله أمر نبيه بإسماع هذا الخطاب لأبي لهب، وأمر أبا لهب بتصديقه، بل لا يقدر أحد أن ينقل أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أبا لهب أن يصدق بنزول هذه السورة، فقوله‏:‏ أنه أمر أن يصدق بأنه لا يؤمن قول باطل لم ينقله أحد من علماء المسلمين، فنقله عن النبي صلى الله عليه وسلم قول بلا علم، بل كذب عليه‏.‏

فإن قيل‏:‏ فقد كان الإيمان واجبًا على أبي لهب، ومن الإيمان أن يؤمن بهذا، قيل له‏:‏ لا نسلم أنه بعد نزول هذه السورة وجب على الرسول أن يبلغه إياها، بل ولا غيرها، بل حقت عليه كلمة العذاب، كما حقت على قوم نوح إذ قيل له‏:‏ ‏{‏لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 36‏]‏، وبعد ذلك لا يبقى الرسول مأمور بتبليغهم الرسالة، فإنه قد بلغهم فكفروا حتى حقت عليهم كلمة العذاب بأعيانهم‏.‏

وقد يخبر الله الرسول عن معين أنه لا يؤمن، ولكن لا يأمره أن يعلمه / بذلك، بل هو مأمور بتبليغه وإن كان الرسول يعلم أنه لا يؤمن، كالذين قال الله فيهم‏:‏ ‏{‏إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ‏.‏ وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوْا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 96، 97‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 6‏]‏‏.‏

فهؤلاء قد يعلم بعض الملائكة، وبعض البشر من الأنبياء وغيرهم في معين منهم أنه لا يؤمن، وإن كانوا مأمورين بتبليغه أمر الله ونهيه، وليس في ذلك تكليفه بالجمع بين النقيضين، وذلك خلاف المعلوم، فإن الله يفعل ما يشاء بقدرته وما لا يشاء يعلم أنه لا يفعله وأنه قادرعليه لو شاء لفعله، وعلمه أنه لا يفعله، لا يمنع أن يكون قادرًا عليه‏.‏

والعباد الذين علم الله أنهم يطيعونه بإرادتهم، ومشيئتهم وقدرتهم، وإن كان خالقًا لذلك، فخلقه لذلك أبلغ في علمه به قبل أن يكون، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ‏}‏ ‏[‏الملك‏:‏ 14‏]‏، وما لم يفعلوه فما أمرهم به يعلم أنه لا يكون لعدم إرادتهم له لا لعدم قدرتهم عليه، وليس الأمر به أمرًا بما يعجزون عنه، بل هو أمر بما لو أرادوه لقدروا على فعله، لكنهم لا يفعلونه، لعدم إرادتهم له‏.‏

وجهم ، ومن وافقه من المعتزلة اشتركوا في أن مشيئة الله ومحبته ورضاه بمعنى واحد، ثم قالت المعتزلة‏:‏ وهو لا يحب الكفر والفسوق والعصيان، فلا يشاؤه، فقالوا‏:‏ إنه يكون بلا مشيئة، وقالت الجهمية، بل هو يشاء / ذلك، فهو يحبه ويرضاه، وأبو الحسن وأكثر أصحابه وافقوا هؤلاء، فذكر أبو المعالي الجويني، أن أبا الحسن أول من خالف السلف في هذه المسألة، ولم يفرق بين المشيئة والمحبة والرضا‏.‏

وأما سلف الأمة وأئمتها وأكابر أهل الفقه والحديث والتصوف، وكثير من طوائف النظار، كالكلابية، والكَرَّامية، وغيرهم، فيفرقون بين هذا وهذا، ويقولون‏:‏ إن الله يحب الإيمان والعمل الصالح، ويرضى به، كما لا يأمر ولا يرضى بالكفر والفسوق والعصيان ولا يحبه، كما لا يأمر به وإن كان قد شاءه؛ ولهذا كان حملة الشريعة من الخلف والسلف متفقين على أنه لو حلف ليفعلن واجبًا أو مستحبًا، كقضاء دين يضيق وقته، أو عبادة يضيق وقتها، وقال‏:‏ إن شاء الله، ثم لم يفعله لم يحنث وهذا يبطل قول القدرية، ولو قال‏:‏ إن كان الله يحب ذلك ويرضاه فإنه يحنث، كما لو قال‏:‏ إن كان يندب إلى ذلك، ويرغب فيه أو يأمر به أمر إيجاب أو استحباب، وهذا يرد على الجهمية، ومن اتبعهم، كأبي الحسن الأشعري ومن وافقه من المتأخرين‏.‏ وبسط هذه الأمور له موضع آخر‏.‏

والمقصود هنا جواب هذه المسألة فإن هذه الإشكالات المذكورة إنما ترد على قول جهم، ومن وافقه من المتأخرين من أصحاب أبي الحسن الأشعري، وغيرهم، وطائفة من متأخري أصحاب مالك والشافعي وأحمد‏.‏

/ وأما أئمة أصحاب مالك والشافعي وأحمد وعامة أصحاب أبي حنيفة، فإنهم لا يقولون بقول هؤلاء، بل يقولون بما اتفق عليه السلف من أنه ـ سبحانه ـ ما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، ويثبتون الفرق بين مشيئته، وبين محبته ورضاه فيقولون‏:‏ إن الكفر والفسوق والعصيان ـ وإن وقع بمشيئه ـ فهو لا يحبه ولا يرضاه، بل يسخطه ويبغضه، ويقولون‏:‏ إرادة الله في كتابه نوعان‏:‏

نوع بمعنى المشيئة لما خلق، كقوله‏:‏ ‏{‏فَمَنْ يُرِدْ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 125‏]‏‏.‏

ونوع بمعنى محبته ورضاه لما أمر به، وإن لم يخلقه، كقوله‏:‏ ‏{‏يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 185‏]‏، ‏{‏مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 6‏]‏، ‏{‏يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ‏.‏ وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا‏.‏ يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنسَانُ ضَعِيفًا‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 26-28‏]‏‏.‏

وبهذا يفصل النزاع في مسألة الأمر‏.‏ هل هو مستلزم للإرادة أم لا‏؟‏ فإن القدرية تزعم أنه مستلزم للمشيئة، فيكون قد شاء المأمور به ولم يكن، والجهمية قالوا‏:‏ إنه غير مستلزم لشيء من الإرادة، لا لحبه له، ولا رضاه / به إلا إذا وقع، فإنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، وكذلك عندهم ما أحبه ورضيه كان، وما لم يحبه ولم يرضه لم يكن، وتأولوا قوله‏:‏ ‏{‏وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 7‏]‏، على أن المراد ممن لم يقع منه الكفر، أو لا يرضاه دينا، كما يقولون‏:‏ لم يشأه ممن لم يقع منه، أو لا يشاءه دينًا؛ إذ كانوا موافقين للجهمية والقدرية، في أنه لا فرق بين المحبة والمشيئة، وقد قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 7‏]‏، فأخبر أنه إذا وقع الكفر من عباده لم يرضه لعباده، كما قال‏:‏ ‏{‏إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنْ الْقَوْلِ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 108‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 205‏]‏، مع قوله‏:‏ ‏{‏وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 125‏]‏‏.‏

وفصل الخطاب‏:‏ أن الأمر ليس مستلزمًا لمشيئة أن يخلق الرب الآمر الفعل المأمور به‏.‏ ولا إرادة أن يفعله، بل قد يأمر بما لا يخلقه، وذلك مستلزم لمحبة الرب ورضاه من العبد أن يفعله، بمعنى أنه إذا فعل ذلك أحبه ورضيه، وهو يريده منه إرادة الآمر من المأمور بما أمره به لمصلحته، وإن لم يرد أن يخلقه وأن يعينه عليه؛ لما له في ترك ذلك من الحكمة، فإن له حكمة بالغة فيما خلقه وفيما لم يخلقه‏.‏

وفرق بين أن يريد أن يخلق هو الفعل، ويجعل غيره فاعلاً يحسن إليه، ويتفضل عليه بالإعانة له على مصلحته، وبين أن يأمر غيره بما يصلحه، ويبين له ما ينفعه إذا فعله، وإن كان لا يريد هو ـ نفسه ـ أن يعينه لما في ترك إعانته / من الحكمة؛ لكون الإعانة قد تستلزم ما يناقض حكمته، والمنهي عنه الذي خلقه هو يبغضه ويمقته، كما يمقت ما خلقه من الأعيان الخبيثة، كالشياطين والخبائث، ولكنه خلقها لحكمة يحبها ويرضاها‏.‏

ونحن نعلم أن العبد يريد أن يفعل ما لا يحبه؛ لإفضائه إلى ما يحبه، كما يشرب المريض الدواء الكريه؛ لإفضائه إلى ما يحبه من العافية، ويفعل ما يكرهه من الأعمال لإفضائه إلى مطلوبه المحبوب له، ولا منافاة بين كون الشيء بغيضًا إليه مع كونه مخلوقًا له؛ لحكمة يحبها‏.‏ وكذلك لا منافاة بين أن يحبه إذا كان ولا يفعله؛ لأن فعله قد يستلزم تفويت ما هو أحب إليه منه، أو وجود ما هو أبغض إليه من عدمه‏.‏

 فصــل

إذا عرف هذا فنقول‏:‏

أما قول القائل كيف يكون العبد مختارًا لأفعاله وهو مجبور عليها ‏؟‏ إنما يتوجه على الجهمية الذين يقولون‏:‏ بإطلاق الجبر، ونفي قدرة العبد واختياره، وتأثير قدرته في الفعل، وقد بينا أن إطلاق الجبر مما أنكره أئمة السنة، كالأوزاعي والزبيدي والثوري وعبد الرحمن ابن مهدي، وأحمد بن حنبل / وغيرهم، وما علمت أحدًا من الأئمة أطلقه، بل ما علمت أحدًا من الصحابة والتابعين لهم بإحسان أطلقوه في مسائل القدر والجبر‏.‏

ولا قال أحد من أئمة المسلمين ـ لا الأئمة الأربعة ولا غيرهم، لا مالك، ولا أبو حنيفة، ولا الشافعي، ولا أحمد بن حنبل ولا الأوزاعي، ولا الثوري، ولا الليث، ولا أمثال هؤلاء ـ إن الله يكلف العباد ما لا يطيقونه، ولا قال أحد منهم‏:‏ إن العبد ليس بفاعل لفعله حقيقة، بل هو فاعل مجازًا، ولا قال أحد منهم‏:‏ إن قدرة العبد لا تأثير لها في فعله، أو لا تأثير لها في كسبه، ولا قال أحد منهم‏:‏ إن العبد لا يكون قادرًا إلى حين الفعل، وأن الاستطاعة على الفعل لا تكون إلا معه، وأن العبد لا استطاعة له على الفعل قبل أن يفعله‏.‏

بل نصوصهم مستفيضة بما دل عليه الكتاب والسنة من إثبات استطاعة لغير الفاعل‏.‏ كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 97‏]‏، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا‏}‏ ‏[‏المجادلة‏:‏ 4‏]‏، وقول النبي صلى الله عليه وسلم لعمران بن حصين‏:‏ ‏(‏صل قائمًا، فإن لم تستطع فقاعدًا، فإن لم تستطع فعلى جنب‏)‏‏.‏

واتفقوا على أن العبادات لا تجب إلا على مستطيع، وأن المستطيع يكون مستطيعًا مع معصيته وعدم فعله، كمن استطاع ما أمر به من الصلاة، والزكاة، / والصيام، والحج، ولم يفعله‏.‏ فإنه مستطيع باتفاق سلف الأمة وأئمتها، وهو مستحق للعقاب على ترك المأمور الذي استطاعه ولم يفعله، لا على ترك ما لم يستطعه‏.‏

وصرحوا بما صرح به أبو حنيفة، وأبو العباس بن سريج، وغيرهما من أن الاستطاعة المتقدمة على الفعل تصلح للضدين، وإن كان العبد حين الفعل مستطيعًا أيضًا عندهم‏.‏ فهو مستطيع عندهم قبل الفعل ومع الفعل، وهو حين الفعل لا يمكنه أن يكون فاعلا تاركًا، فلا يقولون‏:‏ إن الاستطاعة لا تكون إلا قبل الفعل‏.‏ كقول المعتزلة، ولا بأنها لا تكون إلا مع الفعل كقول المجبرة، بل يكون مستطيعًا قبل الفعل، وحين الفعل‏.‏

وأما قوله‏:‏ العلماء قد صرحوا بأن العبد يفعلها قسرًا‏.‏ يقال له‏:‏ لم يصرح بهذا أحد من علماء السلف، وأئمة الإسلام المشهورين، ولا أحد من أكابر أتباع الأئمة الأربعة، وإنما يصرح بهذا بعض المتأخرين الذين سلكوا مسلك جهم ومن وافقه وليس هو لأهل علماء السنة، بل ولا جمهورهم ولا أئمتهم، بل هم عند أئمة السلف من أهل البدع المنكرة‏.‏

/ فصــل

 وأما قول الناظم السائل‏:‏

لأنهم قد صرحوا أنه ** على الإرادات لمقسور

فيقال له‏:‏ القسر على الإرادة منه‏.‏ إذا أريد به أنه جعله مريدًا فهذا حق، لكن تسمية مثل هذا قسرًا وإكراها وجبرًا تناقض لفظًا ومعنى، فإن المقسور المكره المجبور لا يكون مريدًا مختارًا محبًا راضيًا، والذي جعل مختارًا محبًا راضيا لا يقال إنه مقسور مكره مجبور‏.‏

وإذا قيل‏:‏ المراد بذلك أنه جعل مريدًا بمشيئة الله وقدرته بدون إرادة منه متقدمة، اختار بها أن يكون مريدًا‏.‏ قيل له‏:‏ هذا المعنى حق سواء سمى قسرًا، أو لم يسم‏.‏ ولكن هذا لا يناقض كونه مختارًا، فإن من جعل مريدًا مختار، قد أثبت له الإرادة والاختيار، والشيء لا يناقض ذاته ولا ملازمه، فلا يجوز أن يقال‏:‏ كيف يكون المختار قد جعل مختارًا، والمريد جعل مريدًا‏؟‏

وإذا قيل‏:‏ يخير على أن يكون مختارًا‏.‏ قيل‏:‏ معنى ذلك أن الله جعله / مختارًا بغير إرادة منه سابقة لأن يكون مختارًا، كما جعله قادرًا، وجعله عالمًا، وجعله حيًا، وجعله أسود وأبيض وطويلا وقصيرًا‏.‏ ومعلوم أن الله إذا جعله موصوفًا بصفة لم يناقض ذلك اتصافه بتلك الصفة، فإن الله إذا جعله على صفة كان كونه على تلك الصفة؛ لأن ما جعل الله له، فإنه ما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، وإذا كان كونه مختارًا وعالمًا وقادرًا أمرًا ملازمًا لمشيئة الله وجعله، والمتلازمان لا يناقض أحدهما الآخر، بل يجامعه، ولا يفارقه، فيكون اختيار العبد مع إطلاق الجبر الذي يعني به أن الله جعله مختارًا أمرين متلازمين، لا أمرين متناقضين، ولا عجب من اجتماع المتلازمين، إنما العجب من تناقضهما‏.‏

 

فصــل

وأما قول السائل‏:‏

لأنهم قد صرحوا أنـه ** على الإرادات لمقســور

ولم يكن فاعل أفعاله ** حقيقة والحكم مشهور

فيقال له‏:‏ المصرح بأنه غير فاعل حقيقة هم الجهمية، أتباع الجهم بن صفوان ومن وافقهم من المتأخرين، ولم يصرح بهذا أحد من الصحابة، والتابعين لهم / بإحسان، ولا أئمة المسلمين، لا الأئمة الأربعة، ولا غيرهم، بل الذين تكلموا بلفظ الحقيقة، والمجاز واتبعوا السلف في هذا الأصل كلهم يقولون‏:‏ إنه فاعل حقيقة كما صرح بذلك أئمة أصحاب الأئمة الأربعة ـ أصحاب أبى حنيفة، ومالك، والشافعي، وأحمد بن حنبل، وغيرهم ـ وكتبهم مشحونة بذلك‏.‏

وأما الذين قالوا‏:‏ إنه فاعل مجازًا، وقالوا‏:‏ إن الفعل لا يقوم بالفاعل، بل الفعل هو المفعول، فهؤلاء يلزمهم ألا يكون لأفعال العباد فاعل لا الرب، ولا العبد‏.‏ أما العبد، فإنها وإن قامت به الأفعال فإنه غير فاعل لها عندهم، وأما الرب فعندهم لم يقم به فعل، لا هذه ولا غيرها، والفاعل المعقول من قام به الفعل، كما أن المتكلم المعقول من قام به الكلام والمريد المعقول من قامت به الإرادة، والحي والعالم والقادر من قامت به الحياة والعلم والقدرة، والمتحرك من قامت به الحركة، فإثبات هؤلاء فاعلا لا يقوم به فعل كإثبات متقدميهم من الجهمية والمعتزلة متكلمًا لا يقوم به كلام، ومريدًا لا يقوم به إرادة، وعالمًا لا يقوم به علم، وقادرًا لا تقوم به قدرة، وهذا كله باطل كما قرروه في مسألة كلام الله، وإثبات صفاته، كما قد بسط في موضعه‏.‏

فإن الأصل الذي وافقوا به أئمة السنة، واحتجوا به على المعتزلة هو، أن المعنى إذا قام بمحل عاد حكمه على ذلك المحل، واشتق لذلك المحل منه اسم، ولم يشتق لغيره منه اسم وعاد حكمه على ذلك المحل، ولم يعد على غيره، كما أن الحركة والسواد والبياض، والحرارة والبرودة إذا قامت بمحل كان هو/ المتحرك الأسود الأبيض الحار البارد، دون غيره‏.‏ قالوا‏:‏ فكذلك الكلام والإرادة، إذا قاما بمحل كان ذلك المحل هو المتكلم المريد، دون غيره، قالوا‏:‏ فلا يكون المتكلم متكلمًا إلا بكلام يقوم به، ولا مريدًا إلا بإرادة تقوم به، وكذلك لا يكون حيًا عالمًا قادرا، إلا بحياة وعلم وقدرة تقوم به، وطرد هذا أنه لا يكون فاعلا، إلا بفعل يقوم به‏.‏

ولهذا استعاذ النبي صلى الله عليه وسلم بصفات الله تعالى، وأفعاله، وذاته، فقال‏:‏ ‏(‏اللهم، إني أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك، وبك منك لا أحصى ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك‏)‏‏.‏ وهذا مما استدل به الأئمة أحمد بن حنبل وغيره على أن كلام الله ليس بمخلوق، قالوا‏:‏ لأنه استعاذ به ولا يستعاذ بمخلوق‏.‏

 فصــل

وأما قول السائل‏:‏

ومن هنا لم يكن للفعل في ** ما يلحق الفاعل تأثير

فإن أراد بذلك، أنه لا تأثير للفعل، فيما يلحق الفاعل من المدح والذم والثواب، والعقاب، فهذا إنما يقوله منكروا الأسباب، كجهم ومن / وافقه‏.‏ وإلا فالسلف والأئمة متفقون على إثبات الأسباب والحكم، خلقًا وأمرًا‏.‏

ففي الأمر، مثل ما يقول الفقهاء‏:‏ الأسباب المثبتة للإرث ‏[‏ثلاثة‏]‏ نسب، و نكاح، وولاء عتق، واختلفوا في المحالفة، والإسلام على يديه وكونهما من أهل الديوان، منهم من يجعل ذلك سببًا للإرث، كأبي حنيفة، ومنهم من لا يجعله سببًا، كمالك والشافعي، وعن أحمد روايتان‏.‏ ومثل ما يقولون‏:‏ ملك النصاب سبب لوجوب الزكاة، والقتل العمد العدوان المحض سبب للقود، والسرقة سبب للقطع‏.‏

ومذهب الفقهاء أن السبب له تأثير في مسببه، ليس علامة محضة، وإنما يقول‏:‏ إنه علامة محضة طائفة من أهل الكلام الذين بنوا على قول جهم، وقد يطلق ما يطلقونه طائفة من الفقهاء، وجمهور من يطلق ذلك من الفقهاء يتناقضون‏.‏ تارة يقولون‏:‏ بقول السلف والأئمة، وتارة يقولون‏:‏ بقول هؤلاء‏.‏

وكذلك الحكمة وشرع الأحكام للحكم مما اتفق عليه الفقهاء مع السلف‏.‏

وكذلك الحكمة في الخلق والقرآن مملوء بذلك في الخلق، والأمر، / ومملوء بأنه يخلق الأشياء بالأسباب، لا كما يقوله أتباع جهم، أنه يفعل عندها لا بها، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَنزَلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 65‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏وَنَزَّلْنَا مِنْ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ ‏.‏ وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ ‏.‏ رِزْقًا لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا‏}‏ ‏[‏ق‏:‏ 9ـ11‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 57‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنْ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 16‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمْ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 14‏]‏، ونحو ذلك‏.‏

وأما دخول لام كي في الخلق والأمر، فكثير جدًا، وهذا مبسوط في موضعه‏.‏

وقد بسط حجج نفاة الحكمة، والتعليل العقلية والشرعية، وبين فسادها كما بين فساد حجج المعتزلة والقدرية‏.‏

وحينئذ فالأفعال سبب للمدح والذم، والثواب والعقاب‏.‏

والفقهاء المثبتون للأسباب والحكم، قسموا خطاب الشرع وأحكامه إلى قسمين‏:‏ خطاب تكليف، وخطاب وضع وإخبار، كجعل الشيء سببًا وشرطًا ومانعًا، فاعترض عليهم نفاة ذلك، بأنكم إن أردتم بكون الشيء / سببًا أن الحكم يوجد إذا وجد فليس هنا حكم آخر، وإن أردتم معنى آخر فهو ممنوع‏.‏

وجوابهم‏:‏ أن المراد أن الأسباب تضمنت صفات مناسبة للحكم، شرع الحكم لأجلها، وشرع لإفضائه إلى الحكمة، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏ 45‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمْ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ‏}‏ الآية‏[‏المائدة‏:‏ 91‏]‏‏.‏

وكذلك ـ أيضًا ـ الذين قالوا لا تأثير لقدرة العبد في أفعاله هم هؤلاء أتباع جهم نفاة الأسباب، وإلا فالذي عليه السلف وأتباعهم وأئمة أهل السنة وجمهور أهل الإسلام المثبتون للقدر المخالفون للمعتزلة إثبات الأسباب، وإن قدرة العبد مع فعله لها تأثير كتأثير سائر الأسباب في مسبباتها، والله تعالى خلق الأسباب والمسببات‏.‏ والأسباب ليست مستقلة بالمسببات، بل لابد لها من أسباب أخر تعاونها، ولها ـ مع ذلك ـ أضداد تمانعها، والمسبب لا يكون حتى يخلق الله جميع أسبابه، ويدفع عنه أضداده المعارضة له، وهو سبحانه يخلق جميع ذلك بمشيئته وقدرته كما يخلق سائر المخلوقات، فقدرة العبد سبب من الأسباب، وفعل العبد لا يكون بها وحدها بل لابد من الإرادة الجازمة مع القدرة‏.‏

وإذا أريد بالقدرة القوة القائمة بالإنسان فلابد من إزالة الموانع، كإزالة /القيد والحبس ونحو ذلك، والصاد عن السبيل كالعدو وغيره‏.‏

 فصــل

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ‏}‏ ‏[‏الإنسان‏:‏ 30، التكوير‏:‏ 29‏]‏، لا يدل على أن العبد ليس بفاعل لفعله الاختياري، ولا أنه ليس بقادر عليه، ولا أنه ليس بمريد، بل يدل على أنه لا يشاؤه إلا أن يشاء الله، وهذه الآية رد على الطائفتين‏:‏ المجبرة الجهمية والمعتزلة القدرية‏.‏ فإنه تعالى قال‏:‏ ‏{‏لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ‏}‏ ‏[‏التكوير‏:‏ 28‏]‏، فأثبت للعبد مشيئة وفعلاً، ثم قال‏:‏ ‏{‏وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ‏}‏ ‏[‏التكوير‏:‏ 29‏]‏، فبين أن مشيئة العبد معلقة بمشيئة الله‏.‏ والأولى رد على الجبرية، وهذه رد على القدرية، الذين يقولون‏:‏ قد يشاء العبد ما لا يشاؤه الله كما يقولون‏:‏ إن الله يشاء ما لا يشاؤون‏.‏

وإذا قالوا‏:‏ المراد بالمشيئة هنا الأمر على أصلهم، والمعنى وما يشاؤون فعل ما أمر الله به إن لم يأمر الله به‏.‏ قيل‏:‏ سياق الآية يبين أنه ليس المراد هذا، بل المراد وما تشاؤون بعد أن أمرتم بالفعل أن تفعلوه إلا أن يشاء الله، فإنه تعالى ذكر الأمر، والنهي، والوعد، والوعيد، ثم قال بعد ذلك‏:‏ ‏{‏إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا ‏.‏ وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ‏}‏ ‏[‏الإنسان‏:‏ 29، 30‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وَمَا تَشَاءُونَ‏}‏ نفي لمشيئتهم في المستقبل‏.‏ وكذلك قوله ‏{‏إلاَّ أّن يّشّاءّ بلَّه‏}‏ / تعليق لها بمشيئة الرب في المستقبل، فإن حرف ‏(‏أن‏)‏ تخلص الفعل المضارع للاستقبال، فالمعنى‏:‏ إلا أن يشاء بعد ذلك، والأمر متقدم على ذلك، وهذا كقول الإنسان‏:‏ لا أفعل هذا إلا أن يشاء الله‏.‏

وقد اتفق السلف، والفقهاء على أن من حلف فقال‏:‏ لأصلين غدًا، إن شاء الله، أو لأقضين ديني غدًا إن شاء الله، ومضى الغد ولم يقضه أنه لا يحنث، ولو كانت المشيئة هي الأمر لحنث، لأن الله أمره بذلك، وهذا مما احتج به على القدرية، وليس لهم عنه جواب، ولهذا خرق بعضهم الإجماع القديم وقال‏:‏ إنه يحنث‏.‏

وأيضًا، فقوله‏:‏ ‏{‏وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ‏}‏ ‏[‏التكوير‏:‏ 29‏]‏ سيق لبيان مدح الرب والثناء عليه ببيان قدرته، وبيان حاجة العباد إليه، ولو كان المراد لا تفعلون إلا أن يأمركم لكان كل أمر بهذه المثابة، فلم يكن ذلك من خصائص الرب التي يمدح بها، وإن أريد أنهم لا يفعلون إلا بأمره كان هذا مدحًا لهم، لا له‏.‏