فصل: فصــل‏: ما يشبه الاتحاد

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مجموع فتاوى ابن تيمية **


 وأفعال العباد مفعولة مخلوقة للّه، ليست صفة له ولا فعلًا قائما بذاته‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَـكِنَّ اللّهَ رَمَى‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 17‏]‏، فمعناه‏:‏ وما أوصلت إذ حذفت، ولكن الله أوصل المرمى، فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان قد رمى المشركين بقبضة من تراب، وقال‏:‏ ‏(‏شاهت الوجوه‏)‏ فأوصلها الله إلى وجوه المشركين وعيونهم، وكانت قدرة النبي صلى الله عليه وسلم عاجزة عن إيصالها إليهم، والرمي له مبدأ، وهو الحذف، ومنتهي وهو الوصول، فأثبت الله لنبيه المبدأ بقوله‏:‏ ‏{‏إِذْ رَمَيْتَ‏}‏ ونفى عنه المنتهي، وأثبته لنفسه بقوله‏:‏ ‏{‏وَلَـكِنَّ اللّهَ رَمَى‏}‏ وإلا فلا يجوز أن يكون المثبت عين المنفي، فإن هذا تناقض‏.‏

/ والله تعالى ـ مع أنه هو خالق أفعال العباد ـ فإنه لا يصف نفسه بصفة من قامت به تلك الأفعال، فلا يسمي نفسه مصليا ولا صائما، ولا آكلا ولا شاربا، سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا‏.‏

وقول القائل‏:‏ ما ثم غير إذا أراد به ما يريده أهل الوحدة، أي ما ثم غير موجود سوى الله‏:‏ فهذا كفر صريح‏.‏ ولو لم يكن ثم غير لم يقل‏:‏ ‏{‏قُلْ أَغَيْرَ اللّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 14‏]‏ ولم يقل‏:‏ ‏{‏قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ‏}‏‏[‏الزمر‏:‏ 64‏]‏ فإنهم كانوا يأمرونه بعبادة الأوثان، فلو لم يكن غير الله لم يصح قوله‏:‏ ‏{‏أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ‏}‏ ولم يقل‏:‏ ‏{‏أَفَغَيْرَ اللّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنَزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا َ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 114‏]‏ ولم يقل الخليل‏:‏ ‏{‏قَالَ أَفَرَأَيْتُم مَّا كُنتُمْ تَعْبُدُونَ أَنتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِّي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 75، 77‏]‏ ولم يقل‏:‏ فّطّرّنٌي‏{‏إِنَّنِي بَرَاء مِّمَّا تَعْبُدُونَ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 26، 27‏]‏ فإن إبراهيم لم يعاد ربه، ولم يتبرأ من ربه، فإن لم تكن تلك الآلهة التي كانوا يعبدونها هم وآباؤهم الأقدمون غير الله، لكان إبراهيم قد تبرأ من الله وعادى الله، وحاشا إبراهيم من ذلك‏.‏

وهؤلاء الملاحدة في أول أمرهم ينفون الصفات، ويقولون‏:‏ القرآن هو الله، أو غير الله‏.‏ فإذا قيل لهم‏:‏ غير الله‏.‏ قالوا‏:‏ فغير الله مخلوق‏.‏

وفي آخر أمرهم يقولون‏:‏ ما ثم موجود غير الله، أو يقولون‏:‏ العالم لا هو الله ولا هو غيره‏.‏

ويقولون‏:‏

/وكل كلام في الوجود كلامه ** سواء علينا نثره ونظامــــــه

فينكرون على أهل السنة إذا أثبتوا الصفات، ولم يطلقوا عليها اسم الغير، وهم لا يطلقون على المخلوقات اسم الغير، وقد سمعت هذا التناقض من مشايخهم، فإنهم في ضلال مبين‏.‏

وأما قول الشاعر في شعره‏:‏

أنا من أهوى ومن أهوى أنا‏؟‏ **

وقوله‏:‏

إذا كنت ليلـــى وليلــى أنــا **

فهذا إنما أراد به هذا الشاعر الاتحاد الوضعي، كاتحاد أحد المتحابين بالآخر، الذي يحب أحدهما ما يحب الآخر، ويبغض ما يبغض، ويقول مثل ما يقول، ويفعل مثل ما يفعل، وهو تشابه وتماثل، لا اتحاد العين بالعين، إذ كان قد استغرق في محبوبه حتى فنى به عن رؤية نفسه، كقول الآخر‏:‏

غبت بك عنــــــي ** فظننــــــــــت أنك أني

فإما أن يكون غالطًا مستغرقًا بالفناء، أو يكون عني التماثل والتشابه، واتحاد المطلوب والمرهوب، لا الاتحاد الذاتي‏.‏ فإن أراد الاتحاد الذاتي ـ مع عقله لما يقول ـ فهو كاذب مفتر، مستحق لعقوبة المفترين‏.‏

وأما قول القائل‏:‏ لو رأى الناس الحق لما رأوا عابدًا ولا معبودًا، فهذا من جنس قول الملاحدة الاتحادية، الذين لا يفرقون بين الرب والعبد، / وقد تقدم بيان قول هؤلاء، وهؤلاء يجمعون بين الضلال والغي، بين شهوات الغي في بطونهم وفروجهم، وبين مضلات الفتن‏.‏

وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏إن أخوف ما أخاف عليكم شهوات الغَيِّ في بطونكم وفروجكم‏)‏، حتى يبلغ الأمر بأحدهم إلى أن يهوى المردان، ويزعم أن الرب تعالى تجلى في أحدهم، ويقولون‏:‏ هو الراهب في الصومعة، وهذه مظاهر الجمال، ويقبل أحدهم الأمرد، ويقول‏:‏ أنت الله‏.‏

ويذكر عن بعضهم أنه كان يأتي ابنه، ويدعي أنه الله رب العالمين، أو أنه خلق السموات والأرض، ويقول أحدهم لجليسه‏:‏ أنت خلقت هذا، وأنت هو، وأمثال ذلك‏.‏

فقبح الله طائفة يكون إلهها الذي تعبده هو موطوؤها الذي تفترشه، وعليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله منهم صَرْفا ولا عَدْلا‏.‏

ومن قال‏:‏ إن لقول هؤلاء سرًا خفيًا وباطن حقٍ، وأنه من الحقائق التي لا يطلع عليها إلا خواص خواص الخلق، فهو أحد رجلين‏:‏ إما أن يكون من كبار الزنادقة أهل الإلحاد والمحال، وإما أن يكون من كبار أهل الجهل والضلال‏.‏ فالزنديق يجب قتله، والجاهل يعرَّف حقيقة الأمر، فإن أصرَّ على هذا الاعتقاد الباطل بعد قيام الحجة عليه وجب قتله‏.‏

/ ولكن لقولهم سر خفي وحقيقة باطنة لا يعرفها إلا خواص الخلق‏.‏ وهذا السر هو أشد كفرًا وإلحادا من ظاهره، فإن مذهبهم فيه دقة وغموض وخفاء، قد لا يفهمه كثير من الناس‏.‏

ولهذا تجد كثيرًا من عوام أهل الدين والخير والعبادة ينشد قصيدة ابن الفارض، ويتواجد عليها ويعظمها، ظانا أنها من كلام أهل التوحيد والمعرفة، وهو لا يفهمها ولا يفهم مراد قائلها، وكذلك كلام هؤلاء يسمعه طوائف من المشهورين بالعلم والدين، فلا يفهمون حقيقته، فإما أن يتوقفوا عنه أو يعبروا عن مذهبهم بعبارة من لم يفهم حقيقته، وإما أن ينكروه إنكارًا مجملا من غير معرفة بحقيقته، ونحو ذلك، وهذا حال أكثر الخلق معهم‏.‏

وأئمتهم إذا رأوا من لم يفهم حقيقة قولهم طمعوا فيه، وقالوا‏:‏ هذا من علماء الرسوم، وأهل الظاهر، وأهل القشر، وقالوا‏:‏ علمنا هذا لا يعرف إلا بالكشف والمشاهدة، وهذا يحتاج إلى شروط، وقالوا‏:‏ ليس هذا عشك فادرج عنه، ونحو ذلك مما فيه تعظيم له وتشويق إليه، وتجهيل لمن لم يصل إليه‏.‏

وإن رأوه عارفا بقولهم نسبوه إلى أنه منهم، وقالوا‏:‏ هو من كبار العارفين‏.‏

/ وإذا أظهر الإنكار عليهم والتكفير قالوا‏:‏ هذا قام بوصف الإنكار لتكميل المراتب والمجالي

وهكذا يقولون في الأنبياء ونهيهم عن عبادة الأصنام‏.‏

وهذا كله وأمثاله مما رأيته وسمعته منهم‏.‏

فضَلالُهم عظيم، وإفكُهم كبير، وتلْبيسُهم شديد، والله ـ تعالى ـ يظهر ما أرسل به رسوله من الهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيدًا، والله أعلم‏.‏

/  فصـــل

فيما عليه أهل العلم والإيمان من الأولين والأخرين، مما يشبه الاتحاد والحلول الباطل وهو حق ـ وإن سمي حلولا أو اتحادًا ـ وهو ما عليه أهل الإسلام وأهل السنة والجماعة، وأهل المعرفة واليقين من جميع الطوائف بدلالة الكتاب والسنة‏.‏

أما الحلول‏:‏ فلا ريب أن من علم شيئا فلابد أن يبقى في قلبه منه أثر ونعت، وليس حاله بعد العلم به كحاله قبل العلم به، حتى يكون العلم نسبة محضة بمنزلة العلو والسفول‏.‏ فإن المستعلى إذا نزل زال علوه، والسافل إذا اعتلى زال سفوله، والعلم لا يزول، بل يبقى أثره بكل حال، فإذا كان مع العلم به يحبه أو يرجوه أو يخافه، كان لهذه الأحوال أثر ونعت آخر وراء العلم والشعور، وإن كانا قد يتلازمان‏.‏

فإذا ذكره بلسانه، كانت هذه الآثار أعظم، وإذا خضع له بسائر جوارحه، كان ذلك أعظم وأعظم‏.‏

وهذه المعاني هي في الأصل مشتركة في كل مدرِك ومُدرَك، ومحب ومحبوب، وذاكر ومذكور، وسواء كان على وجه العبادة، كعبادة الله / وحده لا شريك له، أو عبادة الأنداد من الذين اتخذوا من دون الله أندادًا يحبونهم كحب الله، أو على غير وجه العبادة، كمحب الإخوان والولدان، والنسوان والأوطان، وغير ذلك من الأكوان‏.‏

فالمؤمن الذي آمن بالله بقلبه وجوارحه إيمانه يجمع بين علم قلبه وحال قلبه‏:‏ تصديق القلب وخضوع القلب، ويجمع قول لسانه وعمل جوارحه، وإن كان أصل الإيمان هو ما في القلب أو ما في القلب واللسان، فلابد أن يكون في قلبه التصديق بالله والإسلام له، هذا قول قلبه، وهذا عمل قلبه، وهو الإقرار بالله‏.‏

والعلم قبل العمل، والإدراك قبل الحركة، والتصديق قبل الإسلام، والمعرفة قبل المحبة، وإن كانا يتلازمان، لكن علم القلب موجب لعمله، ما لم يوجد معارض راجح، وعمله يستلزم تصديقه؛ إذ لا تكون حركة إرادية ولا محبة إلا عن شعور، لكن قد تكون الحركة والمحبة فيها فساد إذا لم يكن الشعور والإدراك صحيحا‏.‏

قال عمر بن عبد العزيز‏:‏ ‏[‏من عَبَدَ اللهَ بغير علم كان ما يُفْسِد أكثر مما يُصْلح‏]‏، فأما العمل الصالح بالباطن والظاهر فلا يكون إلا عن علم؛ ولهذا أمر الله ورسوله بعبادة الله والإنابة إليه، وإخلاص الدين له ونحو ذلك، فإن هذه الأسماء تنتظم العلم والعمل جميعا‏:‏ علم القلب وحاله، وإن دخل في ذلك قول اللسان وعمل الجوارح أيضا، فإن وجود الفروع الصحيحة مستلزم لوجود الأصول، وهذا ظاهر، ليس الغرض هنا بسطه، وإنما الغرض‏.‏

/  فصــل

وهو أن المؤمن لابد أن يقوم بقلبه من معرفة الله والمحبة له، ما يوجب أن يكون للمعروف المحبوب في قلبه من الآثار ما يشبه الحلول من بعض الوجوه، لا أنه حلول ذات المعروف المحبوب، لكن هو الإيمان به ومعرفة أسمائه وصفاته‏.‏

قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ‏}‏الآية ‏[‏النور‏:‏ 35‏]‏، قال أُبَيّ بن كعب‏:‏ مثل نوره في قلب المؤمن فهذه هي الأنوار التي تحصل في قلوب المؤمنين‏.‏

وقد قيل في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَن يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 5‏]‏ إنه الكفر بذلك، فإن من كفر بالإقرار الذي هو التصديق بالله وملائكته وكتبه ورسله والإسلام له، المتضمن للاعتقاد والانقياد لإيجاب الواجبات، وتحريم المحرمات، وإباحة المباحات، فهو كافر، إذ المقصود لنا من إنزال الكتب وإرسال الرسل هو حصول الإيمان لنا، فمن كفر بهذا فهو كافر بذاك، وهذا قد يسمى المثل والمثال؛ لأنه قد يقال‏:‏ إن العلم مثال المعلوم في العالم، وكذلك الحب يكون فيه تمثيل المحبوب في المحب‏.‏

ثم من الناس من يدعي أن كل علم وكل حب ففيه هذا المثال، كما يقوله قوم من المتفلسفة، ومنهم من ينكر حصول شيء من هذا المثال في شيء من العلم والحب‏.‏

والتحقيق‏:‏ أنه قد يحصل تمثل وتخيل لبعض العالمين والمحبين، حتى/ يتخيل صورة المحبوب، وقد لا يحصل تخيل حسي، وليس هذا المثل من جنس الحقيقة أصلا، وإنما لما كان العلم مطابقا للمعلوم وموافقا له، غير مخالف له، كان بين المطابِق والمطَابَق، والموافِق والموافَق نوع تناسب وتشابه، ونوع ما من أنواع التمثيل، فإن المثل يضرب للشيء لمشاركته إياه من بعض الوجوه، وهنا قطعا اشتراك ما واشتباه ما‏.‏

وقد قيل في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 11‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏ 27‏]‏ أنه هذا، وفي حديث مأثور‏:‏ ‏(‏ما وسعني أرضي ولا سمائي، ووسعني قلب عبدي المؤمن النقي التقي الوادع اللين‏)‏، ويقال‏:‏ القلب بيت الرب، وهذا هو نصيب العباد من ربهم، وحظهم من الإيمان به، كما جاء عن بعض السلف أنه قال‏:‏ إذا أحب أحدكم أن يعلم كيف منزلته عند الله، فلينظر كيف منزلة الله من قلبه، فإن الله ينزل العبد من نفسه حيث أنزله العبد من قلبه‏.‏

وروى مرفوعا من حديث أيوب بن عبد الله بن خالد بن صفوان، عن جابر بن عبد الله، رواه أبو يعلى الموصلي، وابن أبي الدنيا في كتاب الذكر، ولهذا قال أبناء يعقوب‏:‏ ‏{‏نَعْبُدُ إِلَـهَكَ وَإِلَـهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ‏}‏‏[‏البقرة‏:‏ 133‏]‏، فإن ألوهية الله متفاوتة في قلوبهم على درجات عظيمة تزيد وتنقص، ويتفاوتون فيها تفاوتًا لا ينضبط طرفاه، حتى قد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم في حق شخصين‏:‏ ‏(‏هذا خير من ملء الأرض من مثل هذا‏)‏‏.‏ فصار واحد/ من الآدميين خيرًا من ملء الأرض من بني جنسه، وهذا تباين عظيم لا يحصل مثله في سائر الحيوان‏.‏

وإلى هذا المعنى أشار من قال‏:‏ ‏(‏ما سبقكم أبو بكر بفضل صلاة ولا صيام، ولكن بشيء وَقَرَ في قلبه‏)‏، وهو اليقين والإيمان ومنه قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏وزنتُ بالأمة فرجَحْتُ، ثم وزن أبو بكر بالأمة فرجح، ثم وزن عمر بالأمة فرجح، ثم رفع الميزان‏)‏، وقال صلى الله عليه وسلم، فيما رواه عنه الصديق‏:‏ ‏(‏أيها الناس، سلوا الله اليقين والعافية، فلم يعط أحد بعد اليقين خيرًا من العافية‏)‏ رواه الترمذي والنسائي في اليوم والليلة وابن ماجه‏.‏ وقال رقبة بن مصقلة للشعبي‏:‏ رزقك الله اليقين الذي لا تسكن النفوس إلا إليه، ولا يعتمد في الدين إلا عليه‏.‏

وفي كتاب الزهد للإمام أحمد عن ‏[‏سيار، وحدثنا جعفر عن عمران القصير‏]‏ قال‏:‏ قال موسى‏:‏ ‏(‏يارب، أين أجدك‏؟‏ قال‏:‏ يا موسي، عند المُنْكَسِرةِ قلوبُهُم من أجلي، أقترب إليها كل يوم شبرًا، ولولا ذلك لاحترقت قلوبهم‏)‏

وقد يتوسع في العبارة عن هذا المعنى، حتى يقال‏:‏ ما في قلبي إلا الله، ما عندي إلا الله، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح عن الله عز وجل‏:‏ ‏(‏أما علمت أن عبدي فلانا مرض‏؟‏ فلو عُدْتَه لوجدتني عنده‏)‏ ويقال‏:‏

ساكن في القلب يعمره ** لست أنساه فأذكره

ويقال‏:‏

/مثالك في عيني، وذكراك في فمي ** ومثواك في قلبي، فأين تغيـــــب‏؟‏

وهذا القدر يقوى قوة عظيمة، حتى يعبر عنه بالتجلي والكشف ونحو ذلك باتفاق العقلاء، ويحصل معه القرب منه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد‏)‏، وقال الله ـ تعالى ـ في الحديث القدسي‏:‏ ‏(‏من تقرب إلى شبرًا تقربت إليه ذراعا‏)‏

لكن هل في تقرب العبد إلى الله حركة إلى اللّه أو إلى بعض الأماكن‏؟‏ اتفقوا على أنه قد تحصل حركة بدن العبد إلى بعض الأمكنة المشرفة، التي يظهر فيها الإيمان بالله من معرفته وذكره وعبادته، كالحج إلى بيته، والقصد إلى مساجده، ومنه قول إبراهيم‏:‏ ‏{‏وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ‏}‏‏[‏الصافات‏:‏ 99‏]‏‏.‏

وأما حركة روحه إلى مثل السموات وغيرها من الأمكنة، فأقر به جمهور أهل الإسلام، وأنكره الصابئة الفلاسفة المشاؤون ومن وافقهم، وحركة روحه أو بدنه إلى الله أقرَّ بها أهل الفطرة، وأهل السنة والجماعة، وأنكرها كثير من أهل الكلام‏.‏

وأما القرب من الله إلى عبده‏:‏ هل هو تابع لتقرب العبد وتقريبه الذي هو علمه أو عمله، أو هناك قرب آخر من الرب‏؟‏

هذا فيه كلام ليس هذا موضعه‏.‏

/ومن لم يثبت إلا الأول، فهم في قرب الرب على قولين‏:‏

أحدهما‏:‏ أنه تجليه وظهوره له‏.‏

والثاني‏:‏ أنه مع ذلك دنو العبد منه، واقترابه الذي هو بعمله وحركته‏.‏ وللقرب معنى آخر‏:‏ وهو التقارب بمعنى المناسبة، كما يقال‏:‏ هذا يقارب هذا، وليس هذا موضعه‏.‏

 فصــل‏:‏

وأما ما يشبه الاتحاد، فإن الذاتين المتميزتين لا تتحد عين إحداهما بعين الأخرى، ولا عين صفتها بعين صفتها، إلا إذا استحالتا بعد الاتحاد إلى ذات ثالثة، كاتحاد الماء واللبن، فإنهما بعد الاتحاد شيء ثالث، وليس ماء محضًا ولا لبنا محضا‏.‏

وأما اتحادهما وبقاؤهما بعد الاتحاد على ما كانا عليه فمحال، ومن هنا يعلم أن الله لا يمكن أن يتحد بخلقه، فإن استحالته محال، وإنما تتحد الأسباب والأحكام في العين، وتتحد الأسماء والصفات في النوع، مثل المتحابين المتخالين اللذين صار أحدهما يحب عين ما يحبه الآخر، ويبغض ما يبغضه، ويتنعم بما يتنعم به ويتألم بما يتألم به، وهذا فيه مراتب ودرجات لا تنضبط، فأسماؤهما وصفاتهما صارتا من نوع واحد

/وعين الأحكام والأسباب المتعلقة بهما، التي هي ـ مثلا ـ المحبوب والمكروه هو واحد بالعين، كالرسول الذي يحبه كل المؤمنين، فهم متحدون في محبته، بمعنى أن محبوبهم واحد، ومحبة هذا من نوع محبته هذا، لا أنها عينها‏.‏

فهذا في اتحاد الناس بعضهم ببعض، وهي الأخوة والخلة الإيمانية، التي قال فيها النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر‏)‏ أخرجاه في الصحيحين، فجعل المؤمن مع المؤمن بمنزلة العضو مع العضو اللذين تجمعهما نفس واحدة‏.‏

ولهذا سمى الله الأخ المؤمن نفسا لأخيه في غير موضع من الكتاب والسنة قال تعالى‏:‏ ‏{‏فَلَا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ‏}‏ ‏[‏النجم‏:‏ 32‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ‏}‏ ‏[‏التوبـة‏:‏ 128‏]‏، وقـال‏:‏ ‏{‏لَقَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 164‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏فَسَلِّمُوا عَلَى أَنفُسِكُمْ‏}‏‏[‏النور‏:‏ 61‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏فَاقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ‏}‏‏[‏البقرة‏:‏ 54‏]‏

فالعبد المؤمن إذا أناب إلى ربه، وعبده ووافقه، حتى صار يحب ما يحب ربه، ويكره ما يكره ربه، ويأمر بما يأمر به ربه، وينهى عما ينهى عنه ربه، ويرضي بما يرضي ربه، ويغضب لما يغضب له ربه، ويعطي من أعطاه ربه، ويمنع من منع ربه، فهو العبد الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه أبو داود من حديث القاسم عن أبي أمامة‏:‏ ‏(‏من أحب لله، وأبغض / لله، وأعطى لله، ومنع لله، فقد استكمل الإيمان‏)‏ وصار هذا العبد دينه كله لله، وأتى بما خلق له من العبادة‏.‏

فقد اتحدت أحكام هذه الصفات التي له وأسبابها بأحكام صفات الرب وأسبابها‏.‏

وهم في ذلك على درجات، فإن كان نبيا كان له من الموافقة لله ما ليس لغيره، والمرسلون فوق ذلك، وأولو العزم أعظم، ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم له الوسيلة العظمى في كل مقام‏.‏

فهذه الموافقة هي الاتحاد السائغ، سواء كان واجبا أو مستحبا، وفي مثل هذا جاءت نصوص الكتاب والسنة‏.‏ قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ‏}‏ ‏[‏الفتح‏:‏ 10‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏وَاللّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 62‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللّهَ‏}‏‏[‏النساء‏:‏ 80‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 57‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 24‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏قُلِ الأَنفَالُ لِلّهِ وَالرَّسُولِ‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 1‏]‏‏.‏

ومن هذا الباب قول المسيح ـ إن ثبت هذا اللفظ عنه‏:‏ ‏(‏أنا وأبي واحد، من رآني فقد رأى أبي‏)‏ ونحو ذلك، فإنه مثل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّه‏}‏، وقوله‏:‏ ‏{‏مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللّهَ‏}‏ ونحو ذلك من اللفظ الذي فيه تشابه‏.‏

/ فصـــل‏:‏

وجاء في أولياء الله الذين هم المتقون نوع من هذا‏:‏ فروى البخاري في صحيحه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏يقول الله تعالى‏:‏ من عادى لي وليا فقد بارزني بالمحاربة، وما تقرب إلى عبدي بمثل أداء ما افترضت عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه، وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن قبض نفس عبدي المؤمن، يكره الموت وأكره مساءته ولابد له منه‏)‏‏.‏

فأول ما في الحديث قوله‏:‏ ‏(‏من عادى لي وليًا فقد بارزني بالمحاربة‏)‏ فجعل معاداة عبده الولي معاداة له، فعين عدوه عين عدو عبده، وعين معاداة وليه عين معاداته، ليسا هما شيئين متميزين، ولكن ليس الله هو عين عبده، ولا جهة عداوة عبده عين جهة عداوة نفسه، وإنما اتفقا في النوع‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏(‏فإذا أحببته كنت سمعه وبصره ويده ورجله‏)‏ وفي رواية في غير الصحيح‏:‏ ‏(‏فبي يسمع، وبي يبصر، وبي يبطش، وبي يمشي‏)‏ فقوله‏:‏ / ‏(‏بي يسمع وبي يبصر، وبي يبطش، وبي يمشي‏)‏ بين معنى قوله‏:‏ ‏(‏كنت سمعه وبصره ويده ورجله‏)‏ لا أنه يكون نفس الحَدَقَة والشحْمَة والعَصَب والقدم، وإنما يبقى هو المقصود بهذه الأعضاء والقوى وهو بمنزلتها في ذلك، فإن العبد بحسب أعضائه وقواه يكون إدراكه وحركته، فإذا كان إدراكه وحركته بالحق، ليس بمعنى خلق الإدراك والحركة، فإن هذا قدر مشترك فيمن يحبه وفيمن لا يحبه، وإنما للمحبوب الحق من الحق من هذه الإعانة بقدر ما له من المعية والربوبية والإلهية، فإن كل واحدة من هذه الأمور عامة وخاصة‏.‏

وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏يقول الله تعالى‏:‏ عبدي، مرضت فلم تَعُدْنِي، فيقول‏:‏ رب، كيف أعودك وأنت ربُّ العالمين‏؟‏ فيقول‏:‏ أما علمت أن عبدي فلانا مرض‏؟‏ فلو عدته لوجدتني عنده، عبدي، جُعْتُ فلم تُطْعِمْنِي‏.‏ فيقول‏:‏ رب، كيف أطعمك، وأنت رب العالمين‏؟‏ فيقول‏:‏ أما علمت أن عبدي فلانا جاع‏؟‏ فلو أطعمته لوجدت ذلك عندي‏)‏ ففي هذا الحديث ذكر المعنيين الحقين، ونفى المعنيين الباطلين، وفسرهما‏.‏

فقوله‏:‏ ‏(‏جعت ومرضت‏)‏ لفظ اتحاد يثبت الحق‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏لوجدتني عنده، ووجدت ذلك عندي‏)‏ نفى للاتحاد العيني بنفي الباطل، وإثبات لتمييز الرب عن العبد‏.‏

/ وقوله‏:‏ ‏(‏لوجدتني عنده‏)‏ لفظ ظرف، وبكل يثبت المعنى الحق من الحلول الحق، الذي هو بالإيمان لا بالذات‏.‏

ويفسر قوله‏:‏ ‏(‏مرضت فلم تعدني‏)‏ فلو كان الرب عين المريض والجائع، لكان إذا عاده وإذا أطعمه يكون قد وجده إياه، وقد وجده قد أكله‏.‏

وفي قوله في المريض‏:‏ ‏(‏وجدتني عنده‏)‏ وفي الجائع‏:‏ ‏(‏لوجدت ذلك عندي‏)‏ فُرْقَان حسن، فإن المريض الذي تستحب عيادته ويجد الله عنده هو المؤمن بربه، الموافق لإلهه الذي هو وليه، وأما الطاعم فقد يكون فيه عموم لكل جائع يستحب إطعامه، فإن الله يقول‏:‏ ‏{‏مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً‏}‏‏[‏البقرة‏:‏ 245‏]‏‏.‏ فَمَن تصدق بصدقة واجبة أو مستحبة، فقد أقرض الله ـ سبحانه ـ بما أعطاه لعبده‏.‏

وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏من تصدق بعدل تمرة من كسب طيب ـ ولا يقبل الله إلا الطيب ـ فإن الله يأخذها بيمينه فيُرَبِّيها كما يُرَبِّي أحدكم فَلُوَّه، أو فصيله، حتى تكون مثل الجبل العظيم‏)‏، وقال‏:‏ ‏(‏إن الصدقة لتقع بيد الحق قبل أن تقع بيد السائل‏)‏

لكن الأشبه‏:‏ أن هذا العبد المذكور في الجوع هو المذكور في المرض، وهو العبد الولي الذي فيه نوع اتحاد، وإن كان الله يثيب على طعام الفاسق والذمي‏.‏

ونظير القرض النصر، في مثل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ‏}‏ ‏[‏الحديد‏:‏ 25‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ‏}‏‏[‏محمد‏:‏ 7‏]‏ ونحو ذلك، لكن النصر فيه معنى، لكن لا يقال في مثله‏:‏ جعت‏.‏

فقد ذكر الله في القرآن القرض والنصر وجعله له، هذا في الرزق، وهذا في النصر، وجاء في الحديث العيادة، وهذه الثلاثة هي المذكورة في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاء والضَّرَّاء وَحِينَ الْبَأْسِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 177‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَزُلْزِلُواْ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 214‏]‏، وإنما في الحديث أمر البأساء والضراء فقط، لأن ذلك ينفرد به الواحد المخاطب بقوله‏:‏ ‏(‏عبدي، مرضت وجعت‏)‏ فلذلك عاتبه‏.‏

وأما النصر، فيحتاج في العادة إلى عدد، فلا يعتب فيه على أحد معين غالبًا، أو المقصود بالحديث التنبيه، وفي القرآن النصر والرزق، وليس فيه العيادة؛ لأن النصر والقرض فيه عموم لا يختص بشخص دون شخص‏.‏

وأما العيادة، فإنما تكون لمن يجد الحق عنده‏.‏

/  فصــل‏:‏

فهذان المعنيان صحيحان ثابتان، بل هما حقيقة الدين واليقين والإيمان‏.‏

أما الأول ـ وهو كون الله في قلبه بالمعرفة والمحبة‏:‏ فهذا فرض على كل أحد ولابد لكل مؤمن منه، فإن أدى واجبه فهو مقتصد، وإن ترك بعض واجبه فهو ظالم لنفسه، وإن تركه كله فهو كافر بربه‏.‏

وأما الثاني ـ وهو موافقة ربه فيما يحبه ويكرهه، ويرضاه ويسخطه‏:‏ فهذا على الإطلاق إنما هو للسابقين المقربين، الذين تقربوا إلى الله بالنوافل، التي يحبها ولم يفرضها، بعد الفرائض التي يحبها ويفرضها ويعذب تاركها‏.‏

ولهذا كان هؤلاء لما أتوا بمحبوب الحق من الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة المنتظمة للمعارف والأحوال والأعمال، أحبهم الله تعالى‏.‏ فقال‏:‏ ‏(‏ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه‏)‏‏.‏ فعلوا محبوبه فأحبهم، فإن الجزاء من جنس العمل، مناسب له مناسبة المعلول لعلته‏.‏

ولا يتوهم أن المراد بذلك‏:‏ أن يأتي العبد بعين كل حركة يحبها الله، فإن هذا ممتنع‏.‏ وإنما المقصود أن يأتي بما يقدر عليه من الأعمال الباطنة والظاهرة، / والباطنة يمكنه أن يأتي منها بأكثر مما يأتي به من الظاهرة، كما قال بعض السلف‏:‏ قوة المؤمن في قلبه، وضعفه في جسمه، وقوة المنافق في جسمه، وضعفه في قلبه؛ ولهذا قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏المرء مع من أحب‏)‏، وقال‏:‏ ‏(‏إن بالمدينة لرجالا ما سرتم مسيرًا ولا قطعتم واديا إلا كانوا معكم، حبسهم العذر‏)‏، وقال‏:‏ ‏(‏فهما في الأجر سواء‏)‏ في حديث القادر على الإنفاق والعاجز عنه، الذي قال‏:‏ ‏(‏لو أن لي مثل ما لفلان لعملت فيه مثل ما عمل‏)‏ فإنهما لما استويا في عمل القلب وكان أحدهما معذور الجسم استويا في الجزاء، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إذا مرض العبد أو سافر، كتب له من العمل مثل ما كان يعمل وهو صحيح مقيم‏)‏‏.‏