فصل: فصل في استطاعة العبد هل هي مع فعله أم قبله‏؟‏

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مجموع فتاوى ابن تيمية **


/ قال شيخ الإسلام أحمد بن تيمية ـ رحمه الله تعالى‏:‏

فصــل

قد تكلم الناس من أصحابنا وغيرهم في استطاعة العبد، هل هي مع فعله أم قبله‏؟‏ وجعلوها قولين متناقضين، فقوم جعلوا الاستطاعة مع الفعل فقط، وهذا هو الغالب على مثبتة القدر المتكلمين من أصحاب الأشعري، ومن وافقهم من أصحابنا وغيرهم‏.‏

وقوم جعلوا الاستطاعة قبل الفعل، وهو الغالب علي النفاة من المعتزلة والشيعة، وجعل الأولون القدرة لا تصلح إلا لفعل واحد، إذ هي مقارنة له لا تنفك عنه، وجعل الآخرون الاستطاعة لا تكون إلا صالحة للضدين، ولا تقارن الفعل أبدا، والقدرية أكثر انحرافًا فإنهم يمنعون أن يكون مع الفعل قدرة بحال، فإن عندهم أن المؤثر لابد أن يتقدم على الأثر لا يقارنه بحال، سواء في ذلك القدرة والإرادة والأمر‏.‏

/والصواب الذي دل عليه الكتاب والسنة، أن الاستطاعة متقدمة على الفعل، ومقارنة له أيضًا‏.‏ وتقارنه ـ أيضًا ـ استطاعة أخرى لا تصلح لغيره‏.‏

فالاستطاعة نوعان متقدمة صالحة للضدين، ومقارنة لا تكون إلا مع الفعل، فتلك هي المصححة للفعل المجوزة له، وهذه هي الموجبة للفعل المحققة له‏.‏

قال الله تعالى في الأولى‏:‏ ‏{‏وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 97‏]‏، ولو كانت هذه الاستطاعة لا تكون إلا مع الفعل، لما وجب الحج إلا على من حج، ولما عصى أحد بترك الحج، ولا كان الحج واجبًا علي أحد قبل الإحرام به، بل قبل فراغه‏.‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ‏}‏ ‏[‏التغابن‏:‏ 16‏]‏، فأمر بالتقوى بمقدار الاستطاعة، ولو أراد الاستطاعة المقارنة لما وجب على أحد من التقوي، إلا ما فعل فقط، إذ هو الذي قارنته تلك الاستطاعة، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 286‏]‏ والوسع الموسوع، وهو الذي تسعه وتطيقه، فلو أريد به المقارن لما كلف أحد إلا الفعل الذي أتى به فقط، دون ما تركه من الواجبات‏.‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا‏}‏ ‏[‏المجادلة‏:‏ 4‏]‏، والمراد به الاستطاعة المتقدمة، وإلا كان المعنى، فمن لم يفعل الصيام فإطعام ستين، فيجوز حينئذ الإطعام لكل من لم يصم، ولا يكون الصوم واجبًا على أحد حتى يفعله، وقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم‏)‏‏.‏ ولو أريد به المقارنة فقط لكان المعنى‏:‏ فأتوا منه ما فعلتم، / فلا يكونون مأمورين إلا بما فعلوه، وكذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم لعمران بن حصين‏:‏ ‏(‏صل قائمًا، فإن لم تستطع فقاعدًا، فإن لم تستطع، فعلي جنب‏)‏‏.‏ ولو أريد المقارنة لكان المعني، فإن لم تفعل فتكون مخيرًا، ونظائر هذا متعددة فإن كل أمر علق في الكتاب والسنة وجوبه بالاستطاعة وعدمه بعدمها لم يرد به المقارنة وإلا لما كان الله قد أوجب الواجبات إلا على من فعلها، وقد أسقطها عمن لم يفعلها فلا يأثم أحد بترك الواجب المذكور‏.‏

وأما الاستطاعة المقارنة الموجبة، فمثل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 20‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكَانُوا لَا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 101‏]‏، فهذه الاستطاعة هي المقارنة الموجبة، إذ الأخرى لابد منها في التكليف‏.‏

فالأولى‏:‏ هي الشرعية التي هي مناط الأمر والنهي، والثواب والعقاب، وعليها يتكلم الفقهاء وهي الغالبة في عرف الناس ‏.‏

والثانية‏:‏ هي الكونية التي هي مناط القضاء والقدر، وبها يتحقق وجود الفعل، فالأولى للكلمات الأمريات الشرعيات، والثانية للكلمات الخلقيات الكونيات‏.‏ كما قال‏:‏ ‏{‏وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ‏}‏ ‏[‏التحريم‏:‏ 12‏]‏‏.‏

وقد اختلف الناس في قدرة العبد على خلاف معلوم الحق أو مراده، /والتحقيق أنه قد يكون قادرًا بالقدرة الأولى الشرعية المتقدمة على الفعل‏.‏ فإن الله قادر أيضا على خلاف المعلوم والمراد، وإلا لم يكن قادرا إلا على ما فعله‏.‏وليس العبد قادرًا على ذلك بالقدرة المقارنة للفعل، فإنه لا يكون إلا ما علم الله كونه وأراد كونه، فإنه ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، وكذلك قول الحواريين‏:‏ ‏{‏هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنْ السَّمَاءِ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 112‏]‏، وإنما استفهموا عن هذه القدرة، وكذلك ظن يونس أن لن نقدر عليه أي فسر بالقدرة، كما يقال للرجل هل تقدر أن تفعل كذا‏؟‏ أي هل تفعله‏؟‏ وهو مشهور في كلام الناس‏.‏

ولما اعتقدت القدرية أن الأولى كافية في حصول الفعل، وأن العبد يحدث مشيئته جعله مستغنيًا عن الله حين الفعل، كما أن الجبرية لما اعتقدت أن الثانية موجبة للفعل، وهي من غيره ـ رأوه مجبورًا على الفعل، وكلاهما خطأ قبيح، فإن العبد له مشيئة، وهي تابعة لمشيئة الله كما ذكر الله ذلك في عدة مواضع من كتابه‏:‏ ‏{‏فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ ‏.‏ وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ‏}‏ ‏[‏المدثر‏:‏ 55، 56‏]‏، ‏{‏فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا ‏.‏ وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ‏}‏ ‏[‏الإنسان‏:‏ 29، 30‏]‏، ‏{‏لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ ‏.‏ وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ‏}‏ ‏[‏التكوير‏:‏ 28، 29‏]‏‏.‏

فإذا كان الله قد جعل العبد مريدًا مختارًا شائيًا، امتنع أن يقال هو مجبور مقهور مع كونه قد جعل مريدًا‏.‏ وامتنع أن يكون هو الذي ابتدع لنفسه المشيئة‏.‏ فإذا قيل هو مجبور على أن يختار مضطرًا إلى أن يشاء، فهذا لا نظير له/ وليس هو المفهوم من الجبر بالاضطرار ولا يقدر على ذلك إلا الله‏.‏

ولهذا افترق القدرية والجبرية على طرفي نقيض‏.‏ وكلاهما مصيب فيما أثبته دون ما نفاه، فأبو الحسين البصري، ومن وافقه من القدرية يزعمون، أن العلم بأن العبد يحدث أفعاله وتصرفاته، علم ضروري وإن جحد ذلك سفسطة‏.‏

وابن الخطيب ونحوه من الجبرية يزعمون أن العلم بافتقار رجحان فعل العبد على تركه إلى مرجح من غير العبد ضروري؛ لأن الممكن المتساوى الطرفين لا يترجح أحد طرفيه على الآخر إلا بمرجح، وكلا القولين صحيح، لكن دعوي استلزام أحدهما نفي الآخر ليس بصحيح، فإن العبد محدث لأفعاله كاسب لها، وهذا الإحداث مفتقر إلى محدث، فالعبد فاعل صانع محدث، وكونه فاعلا صانعًا محدثًا، بعد أن لم يكن، لابد له من فاعل كما قال‏:‏ ‏{‏لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ‏}‏، فإذا شاء الاستقامة صار مستقيمًا، ثم قال‏:‏ ‏{‏وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ‏}‏ ‏.‏

فما علم بالاضطرار وما دلت عليه الأدلة السمعية والعقلية كله حق؛ ولهذا كان لا حول ولا قوة إلا بالله، والعبد فقير إلى الله فقرًا ذاتىًا له في ذاته وصفاته وأفعاله، مع أن له ذاتًا وصفاتًا وأفعالاً، فنفى أفعاله كنفي صفاته وذاته وهو جحد للحق شبيه بغلو غالية الصوفية الذين يجعلونه هو الحق، أو جعل شىء منه مستغنيا عن الله أو كائنًا بدونه جحد للحق شبيه بغلو الذي قال‏:‏ / ‏{‏أَنَا رَبُّكُمْ الْأَعْلَى‏}‏ ‏[‏ النازعات‏:‏ 24 ‏]‏، وقال‏:‏ إنه خلق نفسه، وإنما الحق ما عليه أهل السنة والجماعة‏.‏

وإنما الغلط في اعتقاد تناقضه بطريق التلازم، وإن ثبوت أحدهما مستلزم لنفي الآخر، فهذا ليس بحق، وسببه كون العقل يزيد على المعلوم المدلول عليه ما ليس كذلك، وتلك الزيادة تناقض ما علم ودل عليه‏.‏

/ وقال الشيخ ـ قدس الله روحه‏:‏

فصــل

وأما السؤال‏:‏ عن تعليل أفعال الله ‏.‏

فالذي عليه جمهور المسلمين ـ من السلف والخلف ـ أن الله تعالى يخلق لحكمة، ويأمر لحكمة، وهذا مذهب أئمة الفقه والعلم، ووافقهم على ذلك أكثر أهل الكلام، من المعتزلة والكرامية وغيرهم‏.‏

وذهب طائفة من أهل الكلام، ونفاة القياس، إلى نفي التعليل في خلقه وأمره، وهو قول الأشعري، ومن وافقه وقالوا‏:‏ ليس في القرآن لام تعليل في فعل الله وأمره، ولا يأمر الله بشىء لحصول مصلحة، ولا دفع مفسدة، بل ما يحصل من مصالح العباد ومفاسدهم بسبب من الأسباب، فإنما خلق ذلك عندها، لا أنه يخلق هذا لهذا، ولا هذا لهذا، واعتقدوا أن التعليل يستلزم الحاجة والاستكمال بالغير، وأنه يفضي إلى التسلسل‏.‏

والمعتزلة، أثبتت التعليل، لكن علي أصولهم الفاسدة في التعليل، والتجويز، / و أما أهل الفقه والعلم، وجمهور المسلمين‏.‏ الذين يثبتون التعليل، فلا يثبتونه على قاعدة القدرية، ولا ينفونه نفي الجهمية، وقد بسطت الكلام على هذه المسألة في مواضع‏.‏

لكن قول الجمهور‏:‏ هو الذي يدل عليه الكتاب والسنة، والمعقول الصريح، وبه يثبت أن الله حكيم، فإنه من لم يفعل شيئًا لحكمة لم يكن حكيمًا، والكلام في هذا يبني على أصول‏.‏

أحدها‏:‏ إثبات محبة الله ورضاه، وأنه يستحق أن يعبد لذاته، ويحب لذاته، وليس شىء سواه يستحق أن يحب إلا هو، وكل محبة لغيره فهي فاسدة، وهذا من معاني الإلهية فإن الإله هو المألوه الذي يستحق من يؤله فيعبد، والعباد تجمع غاية الذل، وغاية الحب، وهذا لا يستحقه إلا هو، وهو ـ سبحانه ـ يحمد نفسه، ويثنى على نفسه، ويمجد نفسه، ويفرح بتوبة التائبين، ويرضى عن عباده المؤمنين‏.‏

والحمد‏:‏ هو الإخبار بمحاسن المحمود مع المحبة لها‏.‏ فلو أخبر مخبر بمحاسن غيره من غير محبة لها لم يكن حامدًا ولو أحبها ولم يخبر بها لم يكن حامدا‏.‏ والرب ـ سبحانه وتعالى ـ إذا حمد نفسه، فذكر أسماءه الحسنى وصفاته العلى، وأفعاله الجميلة، وأحب نفسه المقدسة، فكان هو الحامد والمحمود، والمثني والمثنى عليه، والممجد والممجد، والمحب والمحبوب، كان هذا غاية/ الكمال، الذي لا يستحقه غيره، ولا يوصف به إلا هو ‏.‏

وهو ـ سبحانه ـ رب كل شىء، فلا يكون شىء إلا به، وهو الإله الذي لا إله إلا هو، ولا يجوز أن نعبد إلا هو، فما لا يكون به لا يكون، ومالا يكون له لا ينفع ولا يدوم، وكل عمل لم يرد به وجهه فهو باطل، ‏{‏إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ‏}‏ ‏[‏فاطر‏:‏ 10‏]‏‏.‏

وهو الذي جعل المسلم مسلمًا، والمصلي مصليًا، والتائب تائبًا، والحامد حامدًا، فإذا يسر عبده لليسرى، فتاب إليه وفرح الله بتوبته، وشكره فرضي بشكره وعمل صالحًا فأحبه، لم يكن المخلوق هو الذي جعل الخالق راضيًا محبًا فرحًا بتوبته، بل الرب هو الذي جعل المخلوق فاعلا لما يفرحه ويرضيه ويحبه، وكل ذلك حاصل بمشيئته وقدرته لا شريك له في إحداث شىء من المحدثات، ولا هو مفتقر إلى غيره بوجه من الوجوه، بل هو الغني عن كل ما سواه من كل وجه، وكل ما سواه فقير إليه من كل وجه، فإذا خلق شيئًا لحكمة يحبها ويرضاها لم يجز أن يقال‏:‏ هو مفتقر إلى غيره، إلا إذا كان هناك خالق غيره يفعل ما يحبه ويرضاه، وهذا يجىء على قول القدرية، الذين يزعمون أنه لم يخلق أفعال العباد، وإن الطاعات وجدت بدون قدرته وخلقه، فإذا قيل‏:‏ إنه يحبها ويرضاها، لزم أن يكون المخلوق جعله كذلك‏.‏

وأما على قول أهل السنة الذين يقولون‏:‏ إنه خالق كل شىء من/ أفعال العباد وغيرها، فلم يوجد إلا ما خلقه هو، وله في ذلك من الحكمة البالغة ما يعلمه هو علي وجه التفصيل، وقد يعلم بعض عباده من ذلك ما يعلمه إياه إذ لا يحيطون بشىء من علمه إلا بما شاء‏.‏

وأما كون ذلك يستلزم قيام الأمور الاختيارية بذاته، فهذا قول السلف، وأئمة الحديث والسنة، وكثير من أهل الكلام‏.‏

وأما كون ذلك يستلزم التسلسل في المستقبل، فإنه إذا خلق شيئًا لحكمة توجد بعد وجوده، وتلك الحكمة لحكمة أخري لزم التسلسل في المستقبل، فهذا جائز عند المسلمين وغيرهم ممن يقول بدوام نعيم أهل الجنة، وإنما يخالف في ذلك من شك، كالجهم بن صفوان الذي يقول بفناء الجنة والنار، وكأبي الهذيل الذي يقول بانقطاع حركات أهل الجنة والنار‏.‏ فإن هذين ادعيا امتناع وجود ما لا يتناهى في الماضي والمستقبل‏.‏ وخالفهم جماهير المسلمين‏.‏

والجواب الثاني‏:‏ أن يقال‏:‏ التسلسل نوعان‏:‏

أحدهما‏:‏ في الفاعلين وهو أن يكون لكل فاعل فاعل‏.‏ فهذا باطل بصريح العقل، واتفاق العقلاء‏.‏

والثاني‏:‏ التسلسل في الآثار، مثل أن يقال‏:‏ إن الله لم يزل متكلمًا إذا شاء، ويقال‏:‏ إن كلمات الله لا نهاية لها‏.‏ فهذا التسلسل يجوزه أئمة أهل/ الملل، وأئمة الفلاسفة، ولكن الفلاسفة يدعون قدم الأفلاك، وأن حركات الفلك لا بداية لها، ولا نهاية لها‏.‏ هذا كفر مخالف لدين الرسل‏.‏ وهو باطل في صريح المعقول‏.‏

وكذلك القول‏:‏ بأن الرب لم يكن يمكنه أن يتكلم ولا يفعل بمشيئته، ثم صار يمكنه الكلام، والفعل بمشيئته كما يقول ذلك الجهمية والقدرية، ومن وافقهم من أهل الكلام قول باطل‏.‏ وهو الذي أوقع الاضطراب بين ملاحدة المتفلسفة ومبتدعة أهل الكلام‏.‏ في هذا الباب، والكلام علي هذه الأمور مبسوط في موضعه وهذه مطالب غالية، إنما يعرف قدرها من عرف مقالات الناس والإشكالات اللازمة علي كل قول حتى أوقعت كثيرًا من فحول النظار في بحور الشك والارتياب، وهي مبسوطة في غير هذا الموضع‏.‏

/قال شيخ الإسلام ـ رحمه الله‏:‏

 فصــل

حدثني بعض ثقات أصحابنا، أن شيخنا أبا عبد الله محمد بن عبد الوهاب، عاد شيخنا أبا زكريا بن الصرمي وعنده جماعة فسألوه الدعاء‏.‏

فقال في دعائه‏:‏ اللهم بقدرتك التي قدرت بها أن تقول بها للسموات والأرض ائتيا طوعًا أو كرهًا، قالتا أتينا طائعين‏.‏ افعل كذا وكذا‏.‏ قال أبو عبد الوهاب‏:‏ ولم أخاطبه فيه بحضرة الناس حتى خلوت به وقلت له‏:‏ هذا لا يقال لو قلت‏:‏ قدرت بها علي خلقك جاز، فأما قدرت بها أن تقول، فلا يجوز؛ لأن هذا يقتضي أن يكون قوله مقدورًا له مخلوقًا، وذكر لي الحاكي ـ وهو من فضلاء أصحاب الشافعي ـ أنه بلغ الإمام أبا زكريا النواوي فلم يتفطن لوجه الإنكار في هذا الدعاء حتي تبين له فعرف ذلك‏.‏

قلت‏:‏ هذه المسألة مثل مسألة المشيئة، وهو قولنا‏:‏ يتكلم إذا شاء، فإن/ ما تعلقت به المشيئة تعلقت به القدرة، فإن ما شاء الله كان ولا يكون شىء إلا بقدرته، وما تعلقت به القدرة من الموجودات تعلقت به المشيئة، فإنه لا يكون شىء إلا بقدرته ومشيئته، وما جاز أن تتعلق به القدرة جاز أن تتعلق به المشيئة، وكذلك بالعكس، وما لا فلا؛ ولهذا قال‏:‏ ‏{‏إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 20‏]‏، والشىء في الأصل مصدر شاء يشاء شيئًا كنال ينال نيلاً، ثم وضعوا المصدر موضع المفعول فسموا المشىء شيئًا، كما يسمى المنيل نيلاً، فقالوا‏:‏ نيل المعدن، وكما يسمى المقدور قدرة، والمخلوق خلقا، فقوله‏:‏ ‏{‏عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ‏}‏ أي على كل ما يشاء، فمنه ما قد شىء فوجد، ومنه ما لم يشأ لكنه شىء في العلم بمعنى أنه قابل لأن يشاء وقوله‏:‏ ‏{‏عَلَى كُلِّ شَيْءٍ‏}‏، يتناول ما كان شيئًا في الخارج والعلم، أو ما كان شيئًا في العلم فقط، بخلاف مالا يجوز أن تتناوله المشيئة وهو الحق تعالى وصفاته، أو الممتنع لنفسه، فإنه غير داخل في العموم؛ ولهذا اتفق الناس على أن الممتنع لنفسه ليس بشىء، وتنازعوا في المعدوم الممكن‏:‏

فذهب فريق من أهل الكلام من المعتزلة والرافضة، وبعض من وافقهم من ضلال الصوفية، إلي أنه شىء في الخارج لتعلق الإرادة والقدرة به وهذا غلط، وإنما هو معلوم لله ومراد له إن كان مما يوجد، وليس له في نفسه لا موت ولا وجود ولا حقيقة أصلا، بل وجوده وثبوته وحصوله شىء واحد، وماهيته وحقيقته في الخارج هي نفس وجوده، وحصوله وثبوته ليس في/ الخارج شيئان، وإن كان العقل يميز الماهية المطلقة عن الوجود المطلق‏.‏

إذا عرف ذلك فهذه المسألة مبنية على مسألة كلام الله، ونحو ذلك من صفاته، هل هي قديمة لازمة لذاته لا يتعلق شىء منها بفعله وبمشيئته ولا قدرته‏؟‏ أو يقال‏:‏ إنه يتكلم إذا شاء ويسكت إذا شاء، وإنها مع ذلك صفات فعليه‏؟‏ وهذا فيه قولان لأصحابنا وغيرهم من أهل السنة‏.‏ قلت‏:‏ وهذا الدعاء الذي دعا به الشيخ أبو زكريا مأثور عن الإمام أحمد، ومن هناك حفظه الشيخ، والله أعلم‏.‏ فإنه كان كثير المحبة لأحمد وآثاره، والنظر في مناقبه وأخباره وقد ذكروه في مناقبه‏.‏ ورواه الحافظ البيهقي في مناقب أحمد وهي رواية الشيخ أبي زكريا عن الحافظ عبد القادر الرهاوي إجازة، و قد سمعوها عليه عنه إجازة، قال البيهقي‏:‏ وفيما أنبأني أبو عبد الله الحافظ إجازة‏.‏ حدثني أبو بكر محمد بن إسماعيل بن العباس، حدثني أبو محمد عبد الله بن إسحاق بن إبراهيم البغوي، حدثنا أبو جعفر محمد ابن يعقوب الصفار قال‏:‏ كنا عند أحمد بن حنبل فقلنا‏:‏ ادع الله لنا، فقال‏:‏ اللهم إنك تعلم أنا نعلم أنك لنا على أكثر ما نحب، فاجعلنا نحن لك علي ما تحب، قال‏:‏ ثم جلست ساعة، فقيل له‏:‏ يا أبا عبد الله زدنا، فقال‏:‏ اللهم إنا نسألك بالقدرة التي قلت للسموات والأرض ائتيا طوعًا أو كرهًا قالتا أتينا طائعين، اللهم وفقنا لمرضاتك، اللهم إنا نعوذ بك من الفقر إلا إليك، ونعوذ بك من الذل إلا لك، اللهم لا تكثر فنطغى، ولا تقل علينا فننسى، وهب /لنا من رحمتك، وسعة من رزقك تكون بلاغًا في دنياك وغنى من فضلك‏.‏ قلت‏:‏ هذا على المعنى المتقدم موافق لقوله‏:‏ يتكلم إذا شاء، فجعله معلقًا بالقدرة والمشيئة‏.‏ وإن جعل القول هنا عبارة عن سرعة التكوين بلا قول حقيقي، فهذا خلاف ما احتج به أحمد في كتاب الرد على الجهمية في هذه، فإنه احتج بهذه الآية على أن الكلام لا يقف على لسان وأدوات ‏.‏

/ ما قول أهل الإسلام الراسخين في جذر الكلام، الباسقين في فن الأحكام، حياكم العلام في صدور دار السلام وحباكم القيام بتوضيح ما استبهم على الأفهام في معتقد أهل السنة والجماعة نضر الله أرواح السلف، وكثر أعداد الخلف وأمدهم بأنواع اللطف، بأن الأفعال الاختيارية من العباد تحصل بخلق الله ـ تعالى ـ وبخلق العبد، فحقيقة كسب العبد ما هي ‏؟‏ وبعد هذا هل هو مؤثر في وجود الفعل‏؟‏ أم غير مؤثر‏؟‏ فإن كان فيصير العبد مشاركًا للخالق في خلق الفعل، فلا يكون العبد كاسبًا بل شريكًا خالقًا ـ وأهل السنة بررة برآء من هذا القول ـ وإن لم يكن مؤثرًا في وجود الفعل فقد وجد الفعل بكماله بالحق سبحانه وتعالى، وليس للعبد في ذلك شىء، فلزم الجبر الذي يطوي بساط الشرع، وأهل السنة الغراء والمحجة البيضاء فارون من هذه الكلمة الشنعاء والعقيدة العوراء، ولم ينسب إلى العبد الطاعة والعصيان والكفر والإيمان، حتى يستحق الغضب والرضوان، فكيف السلوك أيها الهداة الأدلاء على اللحب المستقيم والمنهج القويم ‏؟‏ وطرفي قصد الأمور ذميم‏.‏

فبينوا بيانًا يطلق العقول من هذا العقال، ويشفى القلوب من هذا الداء العضال‏.‏ أيدكم بروح القدس من له صفات الكمال‏.‏

/فأجاب الشيخ الإمام العالم الرباني، المقذوف في قلبه النور الإلهي، الجامع أشتات الفضائل، مفتى المسلمين، تقي الدين أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن أبي القاسم بن محمد بن تيمية ـ رحمه الله تعالى ـ قال ـ رضي الله عنه‏:‏

تلخيص الجواب‏:‏ إن الكسب هو الفعل الذي يعود على فاعله بنفع أو ضر، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 286‏]‏، فبين سبحانه أن كسب النفس لها أو عليها، والناس يقولون‏:‏ فلان كسب مالا أو حمدًا أو شرفًا كما أنه ينتفع بذلك، ولما كان العباد يكملون بأفعالهم ويصلحون بها، إذ كانوا في أول الخلق خلقوا ناقصين صح إثبات السبب، إذ كمالهم وصلاحهم عن أفعالهم، والله ـ سبحانه وتعالى ـ فعله وصنعه عن كماله وجلاله، فأفعاله عن أسمائه وصفاته ومشتقة منها، كما قال سبحانه وتعالى‏:‏ ‏(‏أنا الرحمن، خلقت الرحم، وشققت لها من اسمي‏)‏، والعبد أسماؤه وصفاته عن أفعاله فيحدث له اسم العالم والكامل بعد حدوث العلم والكمال فيه‏.‏

ومن هنا ضلت القدرية حيث شبهوا أفعاله ـ سبحانه وتعالى عما يقولون علوًا كبيرًا ـ بأفعال العباد، وكانوا هم المشبهة في الأفعال، فاعتقدوا إن ما حسن منهم حسن منه مطلقًا، وما قبح منهم قبح منه مطلقًا بقدر علمهم وعقلهم، أو ما علموا أنها إنما حسنت منهم لإفضائها إلى ما فيه صلاحهم /وفلاحهم، وقبحت لإفضائها إلى ما فيه فسادهم، والله سبحانه متعال عن أن يلحقه مالا يليق به سبحانه‏.‏

وأما قوله‏:‏ هل هو مؤثر في وجود الفعل أو غير مؤثر‏؟‏

فالكلام في مقامين‏:‏

أحدهما‏:‏ أن هذا سؤال فاسد، إن أخذ على ظاهره؛ لأن كسب العبد هو نفس فعله وصنعه، فكيف يقال‏:‏ هل يؤثر كسبه في فعله، أو هل يكون الشىء مؤثرًا في نفسه‏؟‏ وإن حسب حاسب أن الكسب هو التعاطي والمباشرة وقصد الشىء ومحاولته، فهذه كلها أفعال يقال فيها ما يقال في أفعال البدن من قيام وقعود‏.‏

وأظن السائل فهم هذا وتشبث بقول من يقول‏:‏ إن فعل العبد يحصل بخلق الله ـ عز وجل ـ وكسب العبد‏.‏

وتحقيق الكلام أن يقال‏:‏ فعل العبد خلق لله ـ عز وجل ـ وكسب للعبد، إلا أن يراد أن أفعال بدنه تحصل بكسبه، أي بقصده وتآخيه، وكأنه قال‏:‏ أفعاله الظاهرة تحصل بأفعاله الباطنة، وغير مستنكر عدم تجديد هذا السؤال، فإنه مزلة أقدام، ومضلة إفهام، وحسن المسألة نصف العلم ‏.‏ إذا كان السائل قد تصور السؤال ‏.‏ وإنما يطلب إثبات الشىء أو نفيه، ولو حصل التصور التام لعلم أحد الطرفين‏.‏

/والمقام الثاني ـ في تحرير السؤال وجوابه ـ‏:‏ وهو أن يقال‏:‏ هل قدرة العبد المخلوقة مؤثرة في وجود فعله‏؟‏ فإن كانت مؤثرة لزم الشرك، وإلا لزم الجبر، والمقام مقام معروف، وقف فيه خلق من الفاحصين والباحثين والبصراء والمكاشفين، وعامتهم فهموا صحيحًا ولكن قل منهم من عبر فصيحًا‏.‏

فنقول‏:‏ التأثير اسم مشترك قد يراد بالتأثير الانفراد بالابتداع والتوحيد بالاختراع، فإن أريد بتأثير قدرة العبد هذه القدرة، فحاشا لله لم يقله سنى، وإنما هو المعزو إلى أهل الضلال‏.‏

وإن أريد بالتأثير نوع معاونة إما في صفة من صفات الفعل، أو في وجه من وجوهه كما قاله كثير من متكلمي أهل الإثبات‏.‏ فهو أيضًا باطل بما به بطل التأثير في ذات الفعل، إذ لا فرق بين إضافة الانفراد بالتأثير إلى غير الله سبحانه في ذرة أو فيل‏.‏ وهل هو إلا شرك دون شرك وإن كان قائل هذه المقالة ما نحا إلا نحو الحق‏.‏

وإن أريد بالتأثير أن خروج الفعل من العدم إلى الوجود كان بتوسط القدرة المحدثة‏.‏ بمعنى أن القدرة المخلوقة هي سبب وواسطة في خلق الله ـ سبحانه وتعالى ـ الفعل بهذه القدرة ‏.‏ كما خلق النبات بالماء، وكما خلق الغيث بالسحاب، وكما خلق جميع المسببات والمخلوقات بوسائط وأسباب، فهذا حق/ وهذا شأن جميع الأسباب والمسببات‏.‏ وليس إضافة التأثير بهذا التفسير إلى قدرة العبد شركا، وإلا فيكون إثبات جميع الأسباب شركًا‏.‏وقد قال الحكيم الخبير‏:‏ ‏{‏فَأَنزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 57‏]‏ ‏{‏فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏ 60‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمْ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 14‏]‏‏.‏

فبين أنه المعذب، وأن أيدينا أسباب وآلات وأوساط وأدوات في وصول العذاب إليهم، وقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لا يموتن أحد منكم إلا آذنتموني حتى أصلي عليه، فإن الله جاعل بصلاتي عليه بركة ورحمة‏)‏‏.‏ فالله ـ سبحانه ـ هو الذي يجعل الرحمة، وذلك إنما يجعله بصلاة نبينا صلى الله عليه وسلم، وعلى هذا التحرير فنقول‏:‏

خلق الله ـ سبحانه ـ أعمال الأبدان بأعمال القلوب، ويكون لأحد الكسبين تأثير في الكسب الآخر بهذا الاعتبار، ويكون ذلك الكسب من جملة القدرة المعتبرة في الكسب الثاني، فإن القدرة هنا ليست إلا عبارة عما يكون الفعل به لا محالة، من قصد وإرادة وسلامة الأعضاء والقوى المخلوقة في الجوارح وغير ذلك، ولهذا وجب أن تكون مقارنة للفعل، وامتنع تقديمها على الفعل بالزمان‏.‏

وأما القدرة التي هي مناط الأمر والنهي، فذاك حديث آخر ليس هذا موضعه‏.‏

/وبالتمييز بين هاتين القدرتين يظهر لك قول من قال‏:‏ القدرة مع الفعل، ومن قال‏:‏ قبله، ومن قال‏:‏ الأفعال كلها تكليف ما لا يطاق، ومن منع ذلك، وتقف على أسرار المقالات‏.‏ وإذا أشكل عليك هذا البيان فخذ مثلاً من نفسك، أنت إذا كتبت بالقلم وضربت بالعصا ونجرت بالقدوم‏.‏ هل يكون القلم شريكك أو يضاف إليه شىء من نفس الفعل وصفاته ‏؟‏ أم هل يصلح أن تلغي أثره وتقطع خبره وتجعل وجوده كعدمه‏؟‏ أم يقال‏:‏ به فعل وبه صنع ـ ولله المثل الأعلى ـ فإن الأسباب بيد العبد ليست من فعله وهو محتاج إليها لا يتمكن إلا بها، والله ـ سبحانه ـ خلق الأسباب ومسبباتها، وجعل خلق البعض شرطًا وسببًا في خلق غيره، وهو مع ذلك غني عن الاشتراط والتسبب، ونظم بعضها ببعض، لكن لحكمة تتعلق بالأسباب، وتعود إليها والله عزيز حكيم‏.‏

وأما قوله‏:‏ إذا نفينا التأثير لزم انفراد الله ـ سبحانه ـ بالفعل، ولزم الجبر، وطي بساط الشرع الأمر والنهي‏.‏

فنقول‏:‏ إن أردت بالتأثير المنفي، التأثيرعلى سبيل الانفراد في نفس الفعل، أو في شىء من صفاته، فلقد قلت الحق، وإن كان بعض أهل الاستنان يخالفك في القسم الثاني‏.‏

وإن أردت به أن القدرة وجودها كعدمها، وإن الفعل لم يكن بها /ولم يصنع بها، فهذا باطل كما تقدم بيانه، وحينئذ لا يلزم الجبر بل ينبسط بساط الشرع، وينشر علم الأمر والنهي، ويكون لله الحجة البالغة‏.‏

فقد بان لك أن إطلاق القول، بإثبات التأثير أو نفيه دون الاستفصال، وبيان معنى التأثير ركوب جهالات واعتقاد ضلالات، ولقد صدق القائل أكثر اختلاف العقلاء من جهة اشتراك الأسماء وبان لك ارتباط الفعل المخلوق بالقدرة المخلوقة، ارتباط الأسباب بمسبباتها، ويدخل في عموم ذلك جميع ما خلقه الله ـ تعالى ـ في السموات والأرض والدنيا والآخرة، فإن اعتقاد تأثير الأسباب على الاستقلال، دخول في الضلال، واعتقاد نفي أثرها وإلغاؤه ركوب المحال، وإن كان لقدرة الإنسان شأن ليس لغيرها كما سنومئ إليه إن شاء الله تعالى‏.‏

فلعلك أن تقول بعد هذا البيان‏:‏ أنا لا أفهم الأسباب، ولا أخرج عن دائرة التقسيم والمطالبة بأحد القسمين، وما أنت إن قلت هذا إلا مسبوق بخلق من الضلال‏:‏ ‏{‏كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 113‏]‏، وموقفك هذا مفرق طرق، إما إلى الجنة وإما إلى النار، فيعاد عليك البيان بأن لها تأثيرًا من حيث هي سبب، كتأثير القلم وليس لها تأثير من حيث الابتداع والاختراع، ونضرب لك الأمثال، لعلك تفهم صورة الحال، ويبين لك أن إثبات الأسباب مبتدعات هو الإشراك، وإثباتها أسبابًا موصولات هو عين تحقيق التوحيد‏.‏عسي الله أن يقذف بقلبك نورًا ترى هذا / البيان ‏{‏وَمَنْ لَمْ يَجْعَلْ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 40‏]‏‏.‏

فإن قلت‏:‏ إثبات القدرة سبب نفي للتأثير في الحقيقة، فما بال الفعل يضاف إلى العبد‏؟‏ وما باله يؤمر وينهى ‏؟‏ ويثاب ويعاقب وهل هذا إلا محض الجبر‏؟‏ وإذا كنت مشبهًا لقدرة الإنسان بقلم الكاتب، وعصا الضارب، فهل رأيت القلم يثاب أو العصا تعاقب‏؟‏ وأقول لك الآن إن شاء الله وجب هداك بمعونة مولاك، وإن لم تطلع من أسرار القدر إلا على مثل ضرب الأثر وألق السمع وأنت شهيد، عسى الله أن يمدك بالتأييد‏.‏

اعلم أن العبد فاعل على الحقيقة وله مشيئة ثابتة، وله إرادة جازمة وقوة صالحة، وقد نطق القرآن بإثبات مشيئة العباد في غير ما آية كقوله‏:‏ ‏{‏لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ ‏.‏ وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ‏}‏ ‏[‏التكوير‏:‏ 28، 29‏]‏ ‏{‏فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا‏}‏ ‏[‏الإنسان‏:‏ 29‏]‏‏.‏ ‏{‏فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ ‏.‏ وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ‏}‏ ‏[‏المدثر‏:‏ 55، 56‏]‏‏.‏

ونطق بإثبات فعله في عامة آيات القرآن يعملون، يفعلون، يؤمنون، يكفرون، يتفكرون، يحافظون، يتقون‏.‏

وكما أنا فارقنا مجوس الأمة بإثبات أنه تعالى خالق، فارقنا الجبرية بإثبات أن العبد كاسب فاعل صانع عامل، والجبر والمعقول الذي أنكره سلف الأمة وعلماء السنة هو أن يكون الفعل صادرًا علي الشىء، من غير إرادة ولا مشيئة /ولا اختيار، مثل حركة الأشجار بهبوب الرياح، وحركة‏.‏‏.‏‏.‏ بإطباق الأيدي ‏.‏ ومثله في الأناسي حركة المحموم والمفلوج والمرتعش فإن كل عاقل يجد تفرقة بديهية بين قيام الإنسان وقعوده وصلاته وجهاده، وزناه وسرقته وبين انتعاش المفلوج وانتفاض المحموم، ونعلم أن الأول قادر على الفعل مريد له مختار‏.‏ وأن الثاني غير قادر عليه ولا مريد له ولا مختار‏.‏

والمحكي عن جهم وشيعته الجبرية أنهم زعموا، أن جميع أفاعيل العباد قسم واحد، وهو قول ظاهر الفساد، وبما بين القسمين من الفرقان انقسمت الأفعال، إلى اختياري، واضطراري، واختص المختار منها بإثبات الأمر والنهي عليه، ولم يجئ في الشرائع ولا في كلام حكيم أمر الأعمى بنقط المصحف، والمقعد بالاشتداد أو المحموم بالسكون، وشبه ذلك، وإن اختلفوا في تجويزه عقلاً أو سمعا فإنما منع وقوعه بإجماع العقلاء أولى العقل من جميع الأصناف‏.‏

فإن قيل‏:‏ هب أن فعلي الذي أردته واخترته هو واقع بمشيئتي وإرادتي أليست تلك الإرادة وتلك المشيئة من خلق الله تعالى ‏؟‏ وإذا خلق الأمر الموجب للفعل‏.‏ فهل يتأتى ترك الفعل معه‏؟‏ أقصى ما في الباب أن الأول جبر بغير توسط الإرادة من العبد، وهذا جبر بتوسط الإرادة‏.‏

/فنقول‏:‏ الجبر المنفي هو الأول كما فسرناه، وأما إثبات القسم الثاني، فلا ريب فيه عند أهل الاستنان والآثار، و أولى الألباب والأبصار، لكن لا يطلق عليه اسم الجبر خشية الالتباس بالقسم الأول، وفرارًا من تبادر الأفهام إليه، وربما سمى جبرًا إذا أمن من اللبس وعلم القصد، قال علي ـ رضي الله عنه ـ في الدعاء المشهور عنه في الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ اللهم داحي المدحوات، وباري المسموكات، جبار القلوب على فطراتها شقاها أو سعدها‏.‏

فبين أنه ـ سبحانه ـ جبر القلوب على ما فطرها عليه، من شقاوة أو سعادة وهذه الفطرة الثانية ليست الفطرة الأولى، وبكلا الفطرتين، فسر قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏كل مولود يولد على الفطرة‏.‏ وتفسيره بالأولى واضح قاله محمد بن كعب القُرظِيّ ـ وهو من أفاضل تابعي أهل المدينة وأعيانهم، وربما فضل على أكثرهم ـ في قوله‏:‏ الجبار، قال‏:‏ جبر العباد على ما أراد، وروى ذلك عن غيره، وشهادة القرآن والأحاديث، ورؤية أهل البصائر والاستدلال التام لتقليب الله ـ سبحانه وتعالى ـ قلوب العباد، وتصريفه إياها وإلهامه فجورها وتقواها، وتنزيل القضاء النافذ من عند العزيز الحكيم، في أدنى من لمح البصر على قلوب العالمين، حتى تتحرك الجوارح بما قضي لها وعليها بين غاية البيان، إلا لمن أعمى الله بصره وقلبه‏.‏

فإن قلت‏:‏ أنا أسألك علي هذا التقدير بعد خروجي عن تقدير الجبر الذي نفوه وأبطلوه وثباتي على ما قالوه وبينوه كيف انبنى الثواب والعقاب /على فعله، وصح تسميته فاعلا على حقيقته وانبنى فعله على قدرته‏؟‏

فأقول ـ والله الهادي إلى سواء الصراط ـ‏:‏ اعلم أن الله ـ تعالى ـ خلق فعل العبد سببًا مقتضيًا لآثار محمودة أو مذمومة، والعمل الصالح مثل صلاة أقبل عليها بقلبه ووجهه وأخلص فيها وراقب، وفقه ما بنيت عليه من الكلمات الطيبات، والأعمال الصالحات، يعقبه في عاجل الأمر نور في قلبه، وانشراح في صدره، وطمأنينة في نفسه ومزيد في علمه، وتثبيت في يقينه، وقوة في عقله إلي غير ذلك من قوة بدنه، وبهاء وجهه، وانتهائه عن الفحشاء والمنكر، وإلقاء المحبة له في قلوب الخلق، ودفع البلاء عنه وغير ذلك مما يعلمه ولا نعلمه‏.‏

ثم هذه الآثار التي حصلت له من النور والعلم واليقين وغير ذلك أسباب مفضية إلى آثار أخر من جنسها ومن غير جنسها أرفع منها وهلم جرا، ولهذا قيل‏:‏ إن من ثواب الحسنة الحسنة بعدها، وإن من عقوبة السيئة السيئة بعدها، وكذلك العمل السيئ مثل الكذب ـ مثلاً ـ يعاقب صاحبه في الحال بظلمة في القلب وقسوة وضيق في صدره، ونفاق واضطراب ونسيان ما تعلمه، وانسداد باب علم كان يطلبه، ونقص في يقينه وعقله، واسوداد وجهه وبغضه في قلوب الخلق، واجترائه على ذنب آخر من جنسه أو غير جنسه، وهلم جرا، إلا أن يتداركه الله برحمته‏.‏

/فهذه الآثار هي التي تورثها الأعمال، هي الثواب والعقاب، وإفضاء العمل إليها واقتضاؤه إياها، كإفضاء جميع الأسباب التي جعلها الله ـ سبحانه وتعالى ـ أسبابًا إلى مسبباتها، والإنسان إذا أكل أو شرب حصل له الري والشبع، وقد ربط الله ـ سبحانه وتعالى ـ الري والشبع بالشرب والأكل ربطًا محكمًا، ولو شاء ألا يشبعه ويرويه مع وجود الأكل والشرب فعل‏.‏ أما ألا يجعل في الطعام قوة، أو يجعل في المحل قوة مانعة، أو بما يشاء ـ سبحانه وتعالى ـ ولو شاء أن يشبعه ويرويه بلا أكل ولا شرب أو بأكل شيء غير معتاد فعل‏.‏

كذلك في الأعمال‏:‏ المثوبات والعقوبات حذو القذة بالقذة، فإنه إنما سمى الثواب ثوابًا؛ لأنه يثوب إلى العامل من عمله، أي يرجع‏.‏ والعقاب عقابًا؛ لأنه يعقب العمل، أي يكون بعده، ولو شاء الله ألا يثيبه على ذلك العمل، إما بألا يجعل في العمل خاصة تفضي إلى الثواب، أو لوجود أسباب تنفي ذلك الثواب، أو غير ذلك لفعل ـ سبحانه وتعالى ـ وكذلك في العقوبات‏.‏

وبيان ذلك‏:‏ أن نفس الأكل والشرب باختيار العبد ومشيئته‏.‏ التي هي من فعل الله ـ سبحانه وتعالى ـ أيضًا، وحصول الشبع عقب الأكل ليس للعبد فيه صنع البتة، حتى لو أراد دفع الشبع بعد تعاطي الأسباب الموجبة له لم يطق، وكذلك نفس العمل هو بإرادته واختياره، فلو شاء أن يدفع أثر ذلك العمل وثوابه بعد وجود موجبه لم يقدر‏.‏

/فهذه حكمة الله ـ تعالى ـ ومشيئته في جميع الأسباب في الدنيا والآخرة، لكن العلم بالأعمال النافعة في الدار الآخرة، والأعمال الضارة أكثره غيب عن عقول الخلق، وكذلك مصير العباد ومنقلبهم بعد فراق هذه الدار، فبعث الله ـ سبحانه وتعالى ـ رسله، وأنزل كتبه مبشرين ومنذرين؛ لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل، وحكمته في ذلك تضارع حكمته في جميع خلق الأسباب والمسببات‏.‏

وما ذاك إلا أن علمه الأزلي ومشيئته النافذة وقدرته القاهرة اقتضت ما اقتضته، وأوجبت ما أوجبته من مصير أقوام إلى الجنة، بأعمال موجبة لذلك منهم‏.‏ وخلق أعمالهم وساقهم بتلك الأعمال إلى رضوانه، وكذلك أهل النار كما قال‏:‏ الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم لما قيل له‏:‏ ألا ندع العمل ونتكل على الكتاب ‏؟‏ فقال‏:‏ ‏(‏لا، اعملوا فكل ميسر لما خلق له‏.‏ أما من كان من أهل السعادة، فييسر لعمل أهل السعادة، وأما من كان من أهل الشقاوة، فييسر لعمل أهل الشقاوة‏)‏‏.‏

فبين صلى الله عليه وسلم أن السعيد قد ييسر للعمل الذي يسوقه الله ـ تعالى ـ به إلى السعادة، وكذلك الشقي، وتيسيره له هو نفس إلهامه ذلك العمل وتهيئة أسبابه، وهذا هو تفسير خلق أفعال العباد، فنفس خلق ذلك العمل هو السبب المفضي إلى السعادة أو الشقاوة، ولو شاء لفعله بلا عمل بل هو فاعله‏.‏ فإنه ينشئ للجنة خلقًا لما يبقى فيها من الفضل‏.‏

يبقى أن يقال‏:‏ فالحكمة الكلية التي اقتضت ما اقتضته من الأسباب الأول/ وحقائق ما الأمر صائر إليه في العواقب، والتخصيصات والتمييزات الواقعة في الأشخاص والأعيان، إلي غير ذلك من كليات القدر، التي لا تختص بمسألة خلق أفعال العباد‏.‏ وليس هذا الاستفتاء معقودًا لها، وتفسير جمل ذلك لا يليق بهذا الموضع، فضلا عن بعض تفصيله‏.‏

ويكفي العاقل أن يعلم أن الله ـ عز وجل ـ عليم حكيم رحيم، بهرت الألباب حكمته ووسعت كل شيء رحمته، وأحاط بكل شيء علمه، وأحصاه لوحه وقلمه وإن لله ـ تعالى ـ في قدره سرًا مصونًا، وعلمًا مخزونًا احترز به دون جميع خلقه، واستأثر به على جميع بريته، وإنما يصل به أهل العلم وأرباب ولايته إلى جمل من ذلك، وقد لا يؤذن لهم في ذكر ما، وربما كلم الناس في ذلك على قدر عقولهم، وقد سأل موسى وعيسى وعزير ربنا ـ تبارك وتعالى ـ عن شيء من سر القدر، و أنه لو شاء أن يطاع لأطيع وأنه مع ذلك يعصى، فأخبرهم ـ سبحانه وتعالى ـ أن هذا سره‏.‏

وفي هذا المقام، تاهت عقول كثير من الخلائق، وفيه ضل القائلون بقدم العالم، وأن صانعه موجب بذاته، ومقتضى بنفسه اقتضاء العلة للمعلول، وأنه ليس في الإمكان أبدع مما صنع، ودب بعض هذا الداء إلى بعض أهل الكتاب وأتباع الرسل، فقد قرروا انحصار الممكن في الموجود وكل ذلك طلبًا للاستراحة من مؤمنة تعليل الأفعال الإلهية، ووجود الأسباب الحادثة للأمور الحادثة، وعلله أهل القدر بعللهم العائلة في التعديل والتجويز ووجوب رعاية الصالح، أو /الأصلح، ولم يستقم لواحد من الفريقين أصلهم، ولم يطرد لهم‏.‏

ومن هنا ذهب أهل التثنية والتمجس إلى الأصلين، والقول بقدم النور والظلمة، وسلم بعض السلامة ـ وإن كان فيه نوع من ظن السوء بالله وضرب من الجفاء ـ أكثر متكلي أهل الإثبات حيث ردوا الأمر إلى محض المشيئة، وصرف الإرادة، وإن إنشاءها جميع الجائزات واقتضاءها كل الممكنات على نحو واحد ووتيرة واحدة وإنها بذاتها تخصص وتميز‏.‏

ولو خلط بهذا الكلام ضرب من وجوه الرحمة، وأنواع الحكمة ـ علمناها أو جهلناها ـ لكان أقرب إلى القبول‏.‏

وبكل حال فلام التعليل في فعله ـ سبحانه وتعالى ـ ليست على ما يعقله أكثر الخلق من لام التعليل في أفعالهم، ووراء ما يعلمه هؤلاء ويقولون‏:‏ مما أنار الله ـ سبحانه وتعالى ـ به قلوب أوليائه، وقذف في أفئدة أصفيائه، ممن استمسك فيما يظهر من الكلام بسبيل أهل الآثار، واعتصم فيما يبطن عن الإفهام، بحبل أهل الإبصار‏.‏

وفي هذا المقام تعرف أولو الألباب سر قوله‏:‏ ‏(‏سبقت رحمتي غضبي‏)‏، وقوله‏:‏ ‏(‏الشر ليس إليك‏)‏، وقوله‏:‏ ‏{‏بِيَدِكَ الْخَيْرُ‏}‏ ‏[‏ آل عمران‏:‏ 26 ‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ‏}‏ ‏[‏الفلق‏:‏ 2‏]‏‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 80‏]‏، ‏{‏وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا‏}‏ ‏[‏الجن‏:‏ 10‏]‏، وما شاكل ذلك من أن الشر إما أن يحذف فاعله، أو يضاف إلى الأسباب، أو يندرج في العموم، وأما إفراده بالذكر مضافًا إلى خالق كل شيء، فلا يقتضيه كلام حكيم، لما توجبه الحقيقة المقتضية للأدب المؤسس لا لمحض‏.‏‏.‏ ‏.‏ متميز‏.‏

وهنا يعرف سبب دخول خلق كثير الجنة بلا عمل‏.‏ وإنشاء خلق لها، وأما النار فلا تدخل إلا بعمل، ولن يدخلها إلا أهل الدنيا، ويعرف حقيقة‏:‏ ‏{‏وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 79‏]‏، ‏{‏وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 30‏]‏، مع أن السيئة من القدر، وقول الصديق وغيره من الصحابة‏:‏ إن يكن صوابا فمن الله، وإن يكن خطئًا فمنى ومن الشيطان، إلى غير ذلك مما فيه ما قد لحظ كل ناظر منه شعبة من الحق، وتعلق بسبب من الصواب وما يتبع وجوه الحق، ويؤمن بالكتاب كله، إلا أولو الألباب وقليل ما هم، فهذه إشارة يسيرة إلى كلي التقدير‏.‏

وأما كون قدرة العبد، وكسبه له شأن من بين سائر الأسباب، فإن الله ـ عز وجل ـ خص الإنسان بأن علمه يورثه في الدنيا أخلاقًا وأحوالاً وآثارًا‏.‏ وفي الآخرة أيضًا أمورًا أخر لم يحصل هذا لغيره من مخلوقاته، والوجوه التي خص/ بها الإنسان في ذاته وصفاته وأسمائه وأفعاله شخصًا ونوعًا أكثر من أن تحصى، وما من عاقل إلا وعنده منها طرف؛ ولهذا حسن توجيه الأمر والنهي إليه، وصح إضافة الفعل إليه حقيقة وكسبًا، مع أنه خلق الله تعالى، فإن الله ـ تعالي ـ خلق العبد وعمله وجعل هذا العمل له عملاً قام به وصدر عنه، وحدث بقدرته الحادثة‏.‏

وأدنى أحوال الفعل، أن يكون بمنزلة الصفات، والأخلاق المخلوقة في العبد، إذا جعلت مفضية إلى أمور أخر، فهل يصح تجريد العبد عنها‏؟‏ كلا ولما‏.‏

وأما الأمر، فإنه في حق المطيعين من الأسباب التي بها يكون الفعل منهم، فإنه يبعث داعيتهم، ثم أنه يوجب لهم الطاعة ومحض الانقياد والاستسلام فهو من جملة القدر السابق لهم إلي السعادة، وفي حق العاصين هو السبب الذي يستحقون به العصيان، إذ لولا هو لما تميز مطيع من عاص‏.‏

وأيضًا، في حقهم من القدر السابق لهم إلى المعصية؛ ليضل به كثيرًا ويهدي به كثيرا، عن إدخال الأمر والنهي في جملة المقادير‏.‏‏.‏ ‏.‏ ، يحل عقدة كثيرة هذا‏.‏‏.‏ ‏.‏ سبحانه وتعالى؛ لعلمه بالعواقب، وأما أمر العباد فظاهر العدم‏.‏‏.‏ ‏.‏ من المعاصي في علمهم وإن قصدهم نفس صدور الفعل من الجميع فهو‏.‏‏.‏ ‏.‏ في ظاهر الأمر الشرعي على لسان المرسلين بالكتب المنزلة والله/ كله‏.‏‏.‏ ‏.‏ مظهر أمر وحكم يمضيه، فالإرادة والأمر كل منهما منقسم‏.‏‏.‏ ‏.‏ عام الوقوع جامع للقسمين، وإلى شرع وبما بعد وربما وقف‏.‏‏.‏ ‏.‏ القدر له والخير كل الخير في نفوذه، وهو خاص الوقوع بفرق إلى القسمين، واضع الأشياء في مراتبها‏.‏

وإذا صح نسبة الطاعة والمعصية إلى من خلقت فيه، ولو أنه بخلق الصفات‏.‏ أفيحسن بالإنسان أن يقول‏:‏ أسود وأحمر وطويل، وقصير، وذكي، وبليد، وعربي، وعجمي، فيضيف إليه جميع الصفات التي ليس للإنسان فيها إرادة أصلا البتة لقيامها به‏.‏ وتأثيرها فيه، تارة بما يلائمه وتارة بما ينافره، ثم يستبعد أن يضاف إليه ما خلق فيه من الفعل بواسطة قصده وإرادته المخلوقين أيضًا‏؟‏ ثم يقول‏:‏ ليس للعبد في السيئ شيء، فهل الجميع إلا له‏؟‏ بل ليست لأحد غيره، لكن الله ـ سبحانه وتعالى ـ خلقها له، وإضافة الفعل إلى خالقه ومبدعه لا تنافى إضافته إلى صاحبه، ومحله الذي هو فاعله وكاسبه وقد بينا الجبر المذموم ما هو‏.‏

ونختم الكلام بكلام وجيز في سبب الفرق بين الخلق والكسب‏.‏ فنقول‏:‏

الخلق يجمع معنيين‏:‏ أحدهما‏:‏ الإبداع والبرء، والثاني‏:‏ التقدير والتصوير‏.‏

/فإذا قيل‏:‏ خلق، فلا بد أن يكون أبدع إبداعًا مقدرًا، ولما كان سبحانه وتعالى أبدع جميع الأشياء من العدم وجعل لكل شيء قدرًا، صح إضافة الخلق إليه بالقول المطلق‏.‏ والتقدير في المخلوق لازم، إذ هو عبارة عن تحديده والإحاطة به وهذا لازم لجميع الكائنات، لا كما زعم، من حسب أن الخلق في‏.‏‏.‏ ‏.‏ ذوات المساحة وهي الأجسام مفرقًا بين الخلق والأمر بذلك، فإنه قول باطل مبتدع والأمر هو كلامه كما فسره الأولون، والخلق مفسر‏.‏‏.‏ ‏.‏ يجعل الخلق بإزاء إبداع الصور الذهنية وتقديرها ومنه تسمية‏.‏‏.‏ ‏.‏ اختلافًا إذ هو صور ذهنية ليس لها حقيقة خارجة عن الذهن و‏.‏‏.‏ ‏.‏ جعل الخلق بمعنى التقدير فقط مقطوعًا عنه النظر إلى الإبداع بما قال‏.‏‏.‏ ‏.‏ سدى ما خلقت، وكما قال على في تمثال صنعه‏:‏ أنا خلقته والفرق‏.‏‏.‏ ‏.‏ الأولى، من حيث أن تلك الصورة مبتدعة، لكان قولا‏.‏‏.‏ ‏.‏ يكون إلا الله ـ سبحانه وتعالى ـ صح وصفه سبحانه، بأنه خالق كل شيء‏.‏

وأما الكسب فقد ذكرنا أنه إنما ينظر فيه إلى تأثيره في محله، ولو لم يكن له عليه قدرة حتى يقال‏:‏ الثوب قد اكتسب من ريح المسك، والمسجد قد اكتسب الحرمة من أفعال العابدين، والجلد قد اكتسب الحرمة لمجاورة المصحف، والثمرة قد اكتسبت لونًا وريحًا وطعمًا، فكل محل تأثر عن شيء مؤثر، وملائمًا، ومنافرًا صح وصفه بالاكتساب بناء على تأثره، وتغيره، وتحوله /من حال إلى حال، والإنسان يتأثر عن الأفعال الاختيارية، ولا يتأثر عن الأفعال الاضطرارية، فتورثه أخلاقًا وأحوالاً على أي حال كان، حتى على رأى من يطلق اسم الجبر على مجموع أفعاله، فإنه يستيقن تأثير الأفعال الاختيارية في نفسه، بخلاف الاضطرارية، اللهم إلا من حيث قد توجب الأفعال الاضطرارية أمرًا في نفسه، فيكون ذلك اختيارًا‏.‏

ثم اعلم أن الاضطرار، إنما يكون في بدنه دون قلبه، إما بفعل الله ـ تعالي ـ كالأمراض والأسقام، وإما بفعل العباد كالقيد والحبس، وإما أفعال روحه المنفوخة فيه، إذا حركت يديه فهي كلها اختيارية، ومن وجه قد بيناه كلها اضطرارية، فاضطرارها هو عين‏.‏‏.‏ ‏.‏ ، واختيارها إنما هو بالاضطرار، وحقيقة الاضطرار هو أن اضطرار‏.‏‏.‏ ‏.‏ وربما أحبت من وجه وكرهت من وجه آخر، وهذا كله لا يمنع ورود التكليف، واقتضاء الثواب والعقاب‏.‏

هذا الذي تيسر كتابته في الحال‏:‏ ‏{‏وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ‏}‏ ‏[‏ الأحزاب‏:‏ 4 ‏]‏، والحمد لله وحده‏.‏