فصل: فَصْـــل القاعدة العظيمة في مسائل الصفات والأفعال

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مجموع فتاوى ابن تيمية **


 فصــل

وأما منكرو النبوات، وقولهم‏:‏ ليس الخلق أهلا أن يرسل الله إليهم رسولاً، كما أن أطراف الناس ليسوا أهلاً أن يرسل السلطان إليهم رسولاً، فهذا جهل واضح في حق المخلوق والخالق؛ فإن من أعظم ما تحمد به الملوك خطابهم بأنفسهم لضعفاء الرعية، فكيف بإرسال رسول إليهم‏.‏

وأما في حق الخالق، فهو ـ سبحانه ـ أرحم بعباده من الوالدة بولدها، وهو قادر مع كمال رحمته، فإذا كان كامل القدرة كامل الرحمة فما المانع أن يرسل إليهم رسولاً رحمة منه‏؟‏ كما قال تعالى‏:‏‏{‏وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏107‏]‏‏.‏

وقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إنما أنا رَحْمَةُ مُهْدَاةُ‏)‏؛ ولأن هذا من جملة إحسانه إلى الخلق بالتعليم والهداية، وبيان ما ينفعهم وما يضرهم، كما قال تعالى‏:‏‏{‏لَقَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 164‏]‏‏.‏ فبين ـ تعالى ـ أن هذا من مِنَنِه على عباده المؤمنين‏.‏

فإن كان المُنْكِر ينكر قدرته على ذلك، فهذا قدح في كمال قدرته، وإن كان ينكر إحسانه بذلك، فهذا قدح في كمال رحمته وإحسانه‏.‏

فعلم أن إرسال الرسول من أعظم الدلالة على كمال قدرته وإحسانه، والقدرة والإحسان من صفات الكمال لا النقص، وأما تعذيب المكذبين فذلك داخل في القَدَر، لما له فيه من الحكمة‏.‏

 فصــل

وأما قول المشركين‏:‏ إن عظمته وجلاله يقتضي ألا يتقرب إليه إلا بواسطة وحجاب، والتقرب بدون ذلك غَضٌّ ‏[‏أي‏:‏ وضعَ ونَقَص‏.‏ انظر‏:‏ مختار الصحاح، مادة‏:‏غضض‏]‏ من جَنابِه الرفيع، فهذا باطل من وجوه‏:‏

منها‏:‏ إن الذي لا يتقرب إليه إلا بوسائط وحجاب، إما أن يكون قادرًا على سماع كلام جنده وقضاء حوائجهم بدون الوسائط والحجاب، وإما ألا يكون قادرًا، فإن لم يكن قادرًا كان هذا نقصًا، والله ـ تعالى ـ موصوف بالكمال، فوجب أن يكون متصفًا بأنه يسمع كلام عباده بلا وسائط، ويجيب دعاءهم، ويحسن إليهم بدون حاجة إلى حجاب، وإن كان الملك قادرًا على فعل أموره بدون الحجاب، وترك الحجاب إحسانًا ورحمة كان ذلك صفة كمال‏.‏

وأيضًا، فقول القائل‏:‏ إن هذا غَضٌّ منه، إنما يكون فيمن يمكن الخلق أن يضروه ويفتقر في نفعه إليهم، فأما مع كمال قدرته واستغنائه عنهم، وأمنه أن يؤذوه، فليس تقربهم إليه غضًا منه، بل إذا كان اثنان‏:‏ أحدهما‏:‏ يقرب إليه الضعفاء إحسانًا إليهم ولا يخاف منهم، والآخر‏:‏ لا يفعل ذلك إما خوفًا وإما كبرًا وإما غير ذلك، كان الأول أكمل من الثاني‏.‏

وأيضًا، فإن هذا لا يقال إذا كان ذلك بأمر المطاع، بل إذا أذن للناس في التقرب منه، ودخول داره، لم يكن ذلك سوء أدب عليه ولا غضًا منه، فهذا إنكار علي من تعبده بغير ما شرع‏.‏

ولهذا قال تعالى‏:‏‏{‏إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 45، 46‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏ أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏21‏]‏‏.‏

 فَصْــل

وأما قول القائل‏:‏ إنه لو قيل لهم‏:‏ أيما أكمل‏:‏ ذات توصف بسائر أنواع الإدراكات من الذوق والشم واللمس‏؟‏ أم ذات لا توصف بها ‏؟‏ لقالوا‏:‏ الأول أكمل، ولم يصفوه بها‏.‏

فتقول مثبتة الصفات لهم‏:‏ في هذه الإدراكات ثلاثة أقوال معروفة‏:‏

أحدها‏:‏ إثبات هذه الإدراكات لله ـ تعالى ـ كما يوصف بالسمع والبصر‏.‏ وهذا قول القاضي أبي بكر وأبي المعالي، وأظنه قول الأشعري نفسه، بل هو قول المعتزلة البصريين الذين يصفونه بالإدراكات‏.‏

وهؤلاء وغيرهم يقولون‏:‏ تتعلق به الإدراكات الخمسة ـ أيضًا ـ كما تتعلق به الرؤية، وقد وافقهم على ذلك القاضي أبو يعلى في ‏[‏المعتمد‏]‏ وغيره‏.‏

والقول الثاني‏:‏ قول من ينفي هذه الثلاثة، كما ينفي ذلك كثير من المثبتة ـ أيضًا ـ من الصفاتية وغيرهم‏.‏ وهذا قول طوائف من الفقهاء من أصحاب الشافعي وأحمد، وكثير من أصحاب الأشعري وغيره‏.‏

والقول الثالث‏:‏ إثبات إدراك اللمس دون إدراك الذوق، لأن الذوق إنما يكون للمطعوم، فلا يتصف به إلا من يأكل، ولا يوصف به إلا ما يؤكل، والله ـ سبحانه ـ منزه عن الأكل بخلاف اللمس، فإنه بمنزلة الرؤية، وأكثر أهل الحديث يصفونه باللمس، وكذلك كثير من أصحاب مالك والشافعي وأحمد وغيرهم، ولا يصفونه بالذوق‏.‏

وذلك أن نفاة الصفات من المعتزلة قالوا للمثبتة‏:‏ إذا قلتم‏:‏ إنه يرى، فقولوا‏:‏ إنه يتعلق به سائر أنواع الحس‏.‏ وإذا قلتم‏:‏ إنه سميع بصير، فصفوه بالإدراكات الخمسة‏.‏

فقال أهل الإثبات قاطبة‏:‏ نحن نصفه بأنه يرى، وأنه يسمع كلامه، كما جاءت بذلك النصوص، وكذلك نصفه بأنه يسمع ويرى‏.‏

وقال جمهور أهل الحديث والسنة‏:‏ نصفه ـ أيضًا ـ بإدراك اللمس؛ لأن ذلك كمال لا نقص فيه‏.‏ وقد دلت عليه النصوص بخلاف إدراك الذوق، فإنه مستلزم للأكل وذلك مستلزم للنقص، كما تقدم‏.‏

وطائفة من نظار المثبتة وصفوة بالأوصاف الخمس من الجانبين‏.‏

ومنهم من قال‏:‏ إنه يمكن أن تتعلق به هذه الأنواع، كما تتعلق به الرؤية؛ لاعتقادهم أن مصحح الرؤية الوجود، ولم يقولوا‏:‏ إنه متصف بها‏.‏

وأكثر مثبتي الرؤية لم يجعلوا مجرد الوجود هو المصحح للرؤية، بل قالوا‏:‏ إن المقتضى أمور وجودية، لا أن كل موجود يصح رؤيته، وبين الأمرين فرق؛ فإن الثاني يستلزم رؤية كل موجود، بخلاف الأول، وإذا كان المصحح للرؤية هي أمور وجودية لا يشترط فيها أمور عدمية، فما كان أحق بالوجود وأبعد عن العدم، كان أحق بأن تجوز رؤيته، ومنهم من نفى ما سوى السمع والبصر من الجانبين‏.‏

 فَصْــل

وأما قول القائل‏:‏ الكمال والنقص من الأمور النسبية، فقد بينا أن الذي يستحقه الرب هو الكمال الذي لا نقص فيه بوجه من الوجوه، وأنه الكمال الممكن للموجود، ومثل هذا لا ينتفي عن الله أصلاً، والكمال النسبي هو المستلزم للنقص، فيكون كمالاً من وجه دون وجه، كالأكل للجائع كمال له، وللشبعان نقص فيه، لأنه ليس بكمال محض بل هو مقرون بالنقص‏.‏

والتعالى والتكبر والثناء على النفس، وأمر الناس بعبادته ودعائه، والرغبة إليه ونحو ذلك مما هو من خصائص الربوبية، هذا كمال محمود من الرب ـ تبارك وتعالى ـ وهو نقص مذموم من المخلوق‏.‏

وهذا كالخبر عما هو من خصائص الربوبية،كقوله‏:‏‏{‏إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا‏}‏ ‏[‏طه‏:‏14‏]‏، وقوله تعالى‏:‏‏{‏ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏60‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللّهُ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏284‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَن يَسْبِقُونَا‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏4‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏42‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏51‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ‏}‏ ‏[‏الطلاق‏:‏ 2، 3‏]‏، وأمثال هذا الكلام الذي يذكر الرب فيه عن نفسه بعض خصائصه، وهو في ذلك صادق في إخباره عن نفسه بما هو من نعوت الكمال، هو ـ أيضًا ـ من كماله، فإن بيانه لعباده وتعريفهم ذلك هو ـ أيضًا ـ من كماله‏.‏ وأما غيره فلو أخبر بمثل ذلك عن نفسه لكان كاذبًا مفتريًا، والكذب من أعظم العيوب والنقائص‏.‏

وأما إذا أخبر المخلوق عن نفسه بما هو صادق فيه، فهذا لا يذم مطلقًا، بل قد يحمد منه إذا كان في ذلك مصلحة، كقول النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏أنا سَيِّدُ وَلَدِ آدم ولا فَخْر‏)‏‏.‏ وأما إذا كان فيه مفسدة راجحة أو مساوية، فيذم لفعله ما هو مفسدة، لا لكذبه، والرب ـ تعالى ـ لا يفعل ما هو مذموم عليه، بل له الحمد على كل حال، فكل ما يفعله هو منه حسن جميل محمود‏.‏

وأما على قول من يقول‏:‏ الظلم منه ممتنع لذاته فظاهر، وأما على قول الجمهور من أهل السنة والقدرية، فإنه إنما يفعل بمقتضى الحكمة والعدل، فأخباره كلها وأقواله وأفعاله كلها حسنة محمودة، واقعة على وجه الكمال الذي يستحق عليه الحمد، وله من الأمور التي يستحق بها الكبرياء والعظمة ما هو من خصائصه ـ تبارك وتعالى‏.‏

فالكبرياء والعظمة له بمنزلة كونه حيًا قيومًا قديمًا واجبًا بنفسه، وأنه بكل شىء عليم وعلى كل شىء قدير، وأنه العزيز الذي لا ينال، وأنه قهار لكل ما سواه‏.‏

فهذه كلها صفات كمال لا يستحقها إلا هو، فما لا يستحقه إلا هو كيف يكون كمالاً من غيره وهو معدوم لغيره‏؟‏ فمن ادعاه كان مفتريًا منازعًا للربوبية في خواصها، كما ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏‏(‏يقول الله تعالى‏:‏ العَظَمَةُ إزاري، والكبرياء رِدَائي، فمن نازعني واحدًا منهما عَذَّبْتُهُ‏)‏‏.‏

وجملة ذلك‏:‏ أن الكمال المختص بالربوبية ليس لغيره فيه نصيب، فهذا تحقيق اتصافه بالكمال الذي لا نصيب لغيره فيه، ومثل هذا الكمال لا يكون لغيره، فادعاؤه منازعة للربوبية، وفِرْيَةٌ على الله‏.‏

ومعلوم أن النبوة كمال للنبي، وإذا ادعاها المفترون ـ كمُسَيْلَمَةَ وأمثاله ـ كان ذلك نقصًا منهم؛ لا لأن النبوة نقص، ولكن دعواها ممن ليست له هو النقص، وكذلك لو ادعى العلم والقدرة والصلاح من ليس متصفًا بذلك، كان مذمومًا ممقوتًا، وهذا يقتضي أن الرب ـ تعالى ـ متصف بكمال لا يصلح للمخلوق، وهذا لا ينافى أن ما كان كمالاً للموجود من حيث هو موجود، فالخالق أحق به، ولكن يفيد أن الكمال الذي يوصف به المخلوق بما هو منه إذا وصف الخالق بما هو منه، فالذي للخالق لا يماثله ما للمخلوق ولا يقاربه‏.‏

وهذا حق، فالرب ـ تعالى ـ مستحق للكمال مختص به على وجه لا يمثاله فيه شىء، فليس له سَمِيٌّ ولا كُفْؤ، سواء كان الكمال مما لا يثبت منه شىء للمخلوق كربوبية العباد والغنى المطلق ونحو ذلك، أو كان مما يثبت منه نوع للمخلوق، فالذي يثبت للخالق منه نوع هو أعظم مما يثبت من ذلك للمخلوق، عظمة هي أعظم من فضل أعلى المخلوقات على أدناها‏.‏

وملخص ذلك‏:‏ أن المخلوق يذم منه الكبرياء والتجبر وتزكية نفسه ـ أحيانًا ـ ونحو ذلك‏.‏

وأما قول السائل‏:‏ فإن قلتم‏:‏ نحن نقطع النظر عن متعلق الصفة وننظر فيها، هل هي كمال أم نقص‏؟‏ وكذلك نحيل الحكم عليها بأحدهما، لأنها قد تكون كمالاً لذات نقصًا لأخرى على ما ذكر‏.‏

فيقال‏:‏ بل نحن نقول‏:‏ الكمال الذي لا نقص فيه للممكن الوجود هو كمال مطلق لكل ما يتصف به‏.‏

وأيضًا، فالكمال الذي هو كمال للموجود ـ من حيث هو موجود ـ يمتنع أن يكون نقصًا في بعض الصور؛ لأن ما كان نقصًا في بعض الصور تامًا في بعض، هو كمال لنوع من الموجودات دون نوع، فلا يكون كمالاً للموجود من حيث هو موجود‏.‏

ومن الطرق التي بها يعرف ذلك‏:‏ أن نقدر موجودين‏:‏ أحدهما متصف بهذا، والآخر بنقيضه، فإنه يظهر من ذلك أيهما أكمل، وإذا قيل‏:‏ هذا أكمل من وجه، وهذا أنقص من وجه، لم يكن كمالاً مطلقًا‏.‏

والله أعلم، والحمد لله رب العالمين، و صلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم‏.‏

وقال‏:‏

 فصـــل

قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُواْ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَآئِهِ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 180‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏قُلِ ادْعُواْ اللّهَ أَوِ ادْعُواْ الرَّحْمَـنَ أَيًّا مَّا تَدْعُواْ فَلَهُ الأَسْمَاء الْحُسْنَى‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 110‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاء الْحُسْنَى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏8‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاء الْحُسْنَى‏}‏ ‏[‏الحشر‏:‏24‏]‏ والحسنى‏:‏ المفضلة على الحسنة، والواحد الأحاسن‏.‏

ثم هنا ثلاثة أقوال‏:‏ إما أن يقال‏:‏ ليس له من الأسماء إلا الأحسن ولا يدعى إلا به، وإما أن يقال‏:‏ لا يدعى إلا بالحسنى، وإن سمى بما يجوز ـ وإن لم يكن من الحسنى ـ وهذان قولان معروفان‏.‏

وإما أن يقال‏:‏ بل يجوز في الدعاء، والخبر، وذلك أن قوله‏:‏ ‏{‏وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا‏}‏، وقال‏:‏ ‏{‏ادْعُواْ اللّهَ أَوِ ادْعُواْ الرَّحْمَـنَ أَيًّا مَّا تَدْعُواْ فَلَهُ الأَسْمَاء الْحُسْنَى‏}‏‏:‏ أثبت له الأسماء الحسنى، وأمر بالدعاء بها‏.‏ فظاهر هذا‏:‏ أن له جميع الأسماء الحسنى‏.‏

وقد يقال‏:‏ جنس الأسماء الحسنى، بحيث لا يجوز نفيها عنه كما فعله الكفار، وأمر بالدعاء بها، وأمر بدعائه مسمى بها، خلاف ما كان عليه المشركون من النهي عن دعائه باسمه ‏[‏الرحمن‏]‏‏.‏ فقد يقال‏:‏ قوله‏:‏ ‏{‏فَادْعُوهُ بِهَا‏}‏‏:‏أمر أن يدعى بالأسماء الحسنى،وألاَّ يدعى بغيرها، كما قال‏:‏ ‏{‏ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏5‏]‏، فهو نهي أن يدعوا لغير آبائهم‏.‏

ويفرق بين دعائه والإخبار عنه، فلا يدعى إلا بالأسماء الحسنى، وأما الإخبار عنه فلا يكون باسم سيئ، لكن قد يكون باسم حسن، أو باسم ليس بسيئ، وإن لم يحكم بحسنه، مثل اسم شىء، وذات، وموجود، إذا أريد به الثابت، وأما إذا أريد به الموجود عند الشدائد فهو من الأسماء الحسنى، وكذلك المريد والمتكلم، فإن الإرادة والكلام تنقسم إلى محمود ومذموم، فليس ذلك من الأسماء الحسنى، بخلاف الحكيم، والرحيم والصادق، ونحو ذلك، فإن ذلك لا يكون إلا محمودًا‏.‏

وهكذا كما في حق الرسول، حيث قال‏:‏ ‏{‏لَا تَجْعَلُوا دُعَاء الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاء بَعْضِكُم بَعْضًا‏}‏ ‏[‏النور‏:‏63‏]‏، فأمرهم أن يقولوا‏:‏ يا رسول الله، يا نبي الله، كما خاطبه الله بقوله‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏1‏]‏، ‏{‏يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏67‏]‏، لا يقول‏:‏ يا محمد، يا أحمد، يا أبا القاسم، وإن كانوا يقولون في الأخبار ـ كالأذان ونحوه ـ‏:‏ أشهد أن محمدًا رسول الله،كما قال تعالى‏:‏‏{‏مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ‏}‏ ‏[‏الفتح‏:‏29‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ‏}‏ ‏[‏الصف‏:‏6‏]‏، وقال‏:‏‏{‏مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏40‏]‏‏.‏

فهو ـ سبحانه ـ لم يخاطب محمدًا إلا بنعت التشريف، كالرسول، والنبي، والمزمل، والمدثر، وخاطب سائر الأنبياء بأسمائهم مع أنه في مقام الإخبار عنه، قد يذكر اسمه‏.‏ فقد فرق ـ سبحانه ـ بين حالتي الخطاب في حق الرسول، وأمرنا بالتفريق بينهما في حقه، وكذلك هو المعتاد في عقول الناس إذا خاطبوا الأكابر من الأمراء، والعلماء، والمشائخ، والرؤساء لم يخاطبوهم، ويدعوهم، إلا باسم حسن، وإن كان في حال الخبر عن أحدهم، يقال‏:‏هو إنسان، وحيوان ناطق وجسم، ومحدث ومخلوق، ومربوب ومصنوع، وابن أنثى، ويأكل الطعام ويشرب الشراب‏.‏

لكن كل ما يذكر من أسمائه وصفاته في حال الإخبار عنه، يدعى به في حال مناجاته، ومخاطبته، وإن كانت أسماء المخلوق فيها ما يدل على نقصه، وحدوثه، وأسماء الله ليس فيها ما يدل على نقص ولا حدوث، بل فيها الأحسن الذي يدل على الكمال، وهي التي يدعى بها، وإن كان إذا أخبر عنه يخبر باسم حسن أو باسم لا ينفي الحسن، و لا يحب أن يكون حسنًا‏.‏

وأما في الأسماء المأثورة، فما من اسم إلا وهو يدل على معنى حسن، فينبغي تدبر هذا للدعاء وللخبر المأثور، وغير المأثور الذي قيل لضرورة حدوث المخالفين ـ للتفريق بين الدعاء والخبر، وبين المأثور الذي يقال ـ أو تعريفهم لما لم يكونوا به عارفين، وحينئذ فليس كل اسم ذكر في مقام يذكر في مقام بل يجب التفريق‏.‏

وقال‏:‏

 فَصْـــل

في القاعدة العظيمة الجليلة في مسائل الصفات، والأفعال، من حيث قدمها ووجوبها، أو جوازها ومشتقاتها، أو وجوب النوع مطلقًا، وجواز الآحاد معينًا‏.‏

فنقول‏:‏ المضافات إلى الله ـ سبحانه ـ في الكتاب والسنة، سواء كانت إضافة اسم إلى اسم، أو نسبة فعل إلى اسم، أو خبر باسم عن اسم، لا تخلو من ثلاثة أقسام‏:‏

أحدها‏:‏ إضافة الصفة إلى الموصوف، كقوله تعالى‏:‏‏{‏وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏255‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ‏}‏ ‏[‏الذاريات‏:‏58‏]‏‏.‏

وفي حديث الاستخارة‏:‏‏(‏ اللهم إني أستخيرك بعلمك، وأستقدرك بقدرتك‏)‏، وفي الحديث الآخر‏:‏ ‏(‏اللهم بعلمك الغيب، وقدرتك على الخلق‏)‏، فهذا في الإضافة الاسمية‏.‏

وأما بصيغة الفعل، فكقوله‏:‏ ‏{‏عَلِمَ اللّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتانُونَ أَنفُسَكُمْ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏187‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏عَلِمَ أَن لَّن تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ‏}‏ ‏[‏المزمل‏:‏ 20‏]‏‏.‏

وأما الخبر الذي هو جملة اسمية، فمثل قوله‏:‏ ‏{‏وَاللّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيم‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏282‏]‏، ‏{‏إِنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏148‏]‏‏.‏

وذلك لأن الكلام الذي توصف به الذوات‏:‏ إما جملة، أو مفرد‏.‏ فالجملة إما اسمية كقوله‏:‏ ‏{‏وَاللّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيم‏}‏، أو فعلية كقوله‏:‏‏{‏عَلِمَ أَن لَّن تُحْصُوهُ‏}‏، أما المفرد فلابد فيه من إضافة الصفة لفظًا أو معنى كقوله‏:‏‏{‏بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ‏}‏، وقوله‏:‏ ‏{‏هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏15‏]‏‏.‏

أو إضافة الموصوف كقوله‏:‏ ‏{‏ذُو الْقُوَّةِ‏}‏‏.‏

والقسم الثاني‏:‏ إضافة المخلوقات كقوله‏:‏‏{‏نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا‏}‏ ‏[‏الشمس‏:‏13‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 26‏]‏، وقوله‏:‏‏{‏رَّسُولُ اللَّهِ‏}‏ ‏[‏الفتح‏:‏29‏]‏ و‏{‏عِبَادَ اللَّهِ‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏40‏]‏،وقوله‏:‏ ‏{‏ذُو الْعَرْشِ‏}‏ ‏[‏البروج‏:‏15‏]‏، وقوله‏:‏‏{‏ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ‏}‏‏.‏

فهذا القسم لا خلاف بين المسلمين في أنه مخلوق، كما أن القسم الأول لم يختلف أهل السنة والجماعة في أنه قديم وغير مخلوق‏.‏

وقد خالفهم بعض أهل الكلام في ثبوت الصفات، لا في أحكامها، وخالفهم بعضهم في قدم العلم، وأثبت بعضهم حدوثه، وليس الغرض هنا تفصيل ذلك‏.‏

الثالث ـ وهو محل الكلام هنا‏:‏ ما فيه معنى الصفة والفعل، مثل قوله‏:‏ ‏{‏وَكَلَّمَ اللّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏164‏]‏، وقوله‏:‏‏{‏إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ‏}‏ ‏[‏يس‏:‏82‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِّكَلِمَاتِ رَبِّي‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏109‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏يُرِيدُونَ أَن يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ‏}‏ ‏[‏الفتح‏:‏15‏]‏، ‏{‏وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلاَمَ اللّهِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏75‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏إِنَّ اللّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏1‏]‏، ‏{‏فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏107، البروج‏:‏16‏]‏‏.‏

وقوله‏:‏‏{‏فَبَآؤُواْ بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏90‏]‏، وقوله‏:‏‏{‏وَغَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏93‏]‏،وقوله‏:‏‏{‏فَلَمَّا آسَفُونَا انتَقَمْنَا مِنْهُمْ‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏55‏]‏، وقوله‏:‏‏{‏ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ‏}‏ ‏[‏محمد‏:‏28‏]‏، وقوله‏:‏‏{‏رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ‏}‏ ‏[‏البينة‏:‏8‏]‏‏.‏

وقوله‏:‏‏{‏وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا‏}‏‏[‏الأعراف‏:‏23‏]‏،‏{‏وَقُل رَّبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏118‏]‏، ‏{‏وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَآ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏286‏]‏‏.‏

وكذلك قوله‏:‏ ‏{‏خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ‏}‏‏[‏التغابن‏:‏3‏]‏، ‏{‏لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ‏}‏ ‏[‏ص‏:‏75‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ‏}‏ ‏[‏السجدة‏:‏4‏]‏، ‏{‏وَجَاء رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا‏}‏ ‏[‏الفجر‏:‏22‏]‏، ‏{‏هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ اللّهُ فِي ظُلَلٍ مِّنَ الْغَمَامِ وَالْمَلآئِكَةُ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏210‏]‏، ‏{‏هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن تَأْتِيهُمُ الْمَلآئِكَةُ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏158‏]‏‏.‏

وفي الأحاديث شىء كثير، كقوله في حديث الشفاعة‏:‏ ‏(‏إن ربي قد غضب اليوم غضبًا لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله‏)‏، وقوله‏:‏ ‏(‏ضحك الله إلى رجلين يقتل أحدهما الآخر، كلاهما يدخل الجنة‏)‏، وقوله‏:‏ ‏(‏ينزل ربنا إلى سماء الدنيا‏)‏، الحديث‏.‏ وأشباه هذا، وهو باب واسع‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏إذا تكلم الله بالوحي سمع أهل السموات‏)‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏[‏بياض بالأصل‏]‏ فالناس فيه على قولين‏:‏

أحدهما‏:‏ وهو قول المعتزلة، والكُلابيّة، والأشعرية، وكثير من الحنبلية، ومن اتبعهم من الفقهاء والصوفية، وغيرهم‏:‏ أن هذا القسم لابد أن يلحق بأحد القسمين قبله، فيكون إما قديمًا قائمًا به عند من يجوز ذلك، وهم الكلابية، وإما مخلوقًا منفصلاً عنه، ويمتنع أن يقوم به نعت أو حال أو فعل، أو شىء ليس بقديم‏.‏ ويسمون هذه المسألة‏:‏ مسألة حلول الحوادث بذاته‏.‏

ويقولون‏:‏ يمتنع أن تحل الحوادث بذاته، كما يسميها قوم آخرون‏:‏ فعل الذات بالذات، أو في الذات، ورأوا أن تجويز ذلك يستلزم حدوثه؛ لأن الدليل الذي دلهم على حدوث الأجسام قيام الحوادث بها، فلو قامت به لزم أحد الأمرين‏:‏ إما حدوثه، أو بطلان العلم بحدوث العالم‏.‏

ومن خالفهم في ذلك قال‏:‏ دليل حدوث العالم امتناع خلوه عن الحوادث، وكونه لا يسبقها، وأما إذا جاز أن يسبقها لم يكن في قيامها به ما يدل على الحدوث‏.‏

ويقول آخرون‏:‏ إنه ليس هذا هو الدليل على حدوث العالم، بل هو ضعيف‏.‏ ولهم مآخذ أخر‏.‏

ثم هم فريقان‏:‏

أحدهما‏:‏ من يرى امتناع قيام الصفات به ـ أيضًا ـ لاعتقاده أن الصفات أعراض، وأن قيام العَرَض به يقتضي حدوثه ـ أيضًا ـ وهؤلاء نفاة الصفات من المعتزلة،فقالوا حينئذ‏:‏ إن القرآن مخلوق، وأنه ليس لله مشيئة قائمة به، ولا حُبٌّ، ولا بُغْضٌ، ونحو ذلك‏.‏

وردوا جميع ما يضاف إلى الله إلى إضافة خلق، أو إضافة وصف، من غير قيام معنى به‏.‏

والثاني‏:‏ مذهب الصفاتية أهل السنة وغيرهم، الذين يرون قيام الصفات به، فيقولون‏:‏ له مشيئة قديمة،وكلام قديم،واختلفوا في حبه وبغضه، ورحمته وأسفه، ورضاه، وسخطه ونحو ذلك، هل هو بمعنى المشيئة، أو صفات أخرى غير المشيئة‏؟‏ على قولين‏.‏ وهذا الاختلاف عند الحنبلية والأشعرية وغيرهم‏.‏ ويقولون‏:‏ إن الخلق ليس هو شيئًا غير المخلوق، وغير الصفات القديمة، من المشيئة والكلام‏.‏

ثم يقولون للمتكلمين في الخلق، هل هو المخلوق‏؟‏ أربعة أقوال‏:‏

أحدها‏:‏ أن الخلق هو المخلوق‏.‏

والثاني‏:‏ أنه قائم بالمخلوق‏.‏

والثالث‏:‏ أنه معنى قائم بنفسه‏.‏

والرابع‏:‏ أنه قائم بالخالق‏.‏

قال القاضي أبو يعلى الصغير‏:‏ من أصحابنا من قال‏:‏ الخلق هو المخلوق، ومنهم من قال‏:‏ الخلق غير المخلوق، فالخلق صفة قائمة بذاته، والمخلوق الموجود المخترع‏.‏ وهذا بناء على أصلنا، وأن الصفات الناشئة عن الأفعال موصوف بها في القدم، وإن كانت المفعولات محدثة‏.‏ قال‏:‏ وهذا هو الصحيح‏.‏

ويقولون في الاستواء والنزول، والمجىء وغير ذلك من أنواع الأفعال، التي هي أنواع جنس الحركة‏:‏ أحد قولين‏:‏

إما أن يجعلوها من باب النسب والإضافات المحضة؛ بمعنى أن الله خلق العرش بصفة التحت، فصار مستويًا عليه، وأنه يكشف الحجب التي بينه وبين خلقه فيصير جائيًا إليهم ونحو ذلك، وأن التكليم إسماع المخاطب فقط‏.‏

وهذا قول أهل السنة من أهل هذا القول، من الحنبلية ومن وافقهم فيه، أو في بعضه من الأشعرية وغيرهم‏.‏

أو يقول‏:‏ إن هذه أفعال محضة في المخلوقات من غير إضافة، ولا نسبة، فهذا اختلاف بينهم، هل تثبت لله هذه النسب والإضافات ‏؟‏‏!‏ مع اتفاق الناس على أنه لابد من حدوث نسب وإضافات لله ـ تعالى ـ كالمعية ونحوها، ويسمى ابن عقيل هذه النسب‏:‏ الأحوال لله، وليست هي الأحوال التي تنازع فيها المتكلمون مثل العالمية، والقادرية، بل هذه النسب والإضافات يسميها الأحوال‏.‏

ويقول‏:‏ إن حدوث هذه الأحوال،ليس هو حدوث الصفات، فإن هذه الأحوال نسب بين الله و بين الخلق، فإن ذلك لا يوجب ثبوت معنى قائم بالمنسوب إليه، كما أن الإنسان يصعد إلى السطح فيصير فوقه، ثم يجلس عليه فيصير تحته، والسطح متصف تارة بالفوقية والعلو، وتارة بالتحتية والسفول، من غير قيام صفة فيه ولا تغير‏.‏

وكذلك إذا ولد للإنسان مولود، فيصير أخوه عما، وأبوه جدًا وابنه أخا، وأخو زوجته خالاً، وتنسب لهم هذه النسب والإضافات من غير تغير فيهم‏.‏

والقول الثاني ـ وهو قول الكرامية، وكثير من الحنبلية، وأكثر أهل الحديث، ومن اتبعهم من الفقهاء والصوفية وجمهور المسلمين، وأكثر كلام السلف ومن حكى مذهبهم حتى الأشعري، يدل على هذا القول ـ إن هذه الصفات الفعلية ونحوها، المضافة إلى الله ‏(‏قسم ثالث‏)‏ ليست من المخلوقات المنفصلة عنه، وليست بمنزلة الذات والصفات القديمة الواجبة، التي لا تتعلق بها مشيئته، لا بأنواعها ولا بأعيانها‏.‏

وقد يقول هؤلاء‏:‏ إنه يتكلم إذا شاء، ويسكت إذا شاء، ولم يزل متكلما، بمعنى أنه لم يزل يتكلم إذا شاء، ويسكت إذا شاء، وكلامه منه ليس مخلوقًا‏.‏

وكذلك يقولون‏:‏ وإن كان له مشيئة قديمة فهو يريد إذا شاء، ويغضب ويمقت‏.‏

ويقر هؤلاء أو أكثرهم ما جاء من النصوص على ظاهره مثل قوله‏:‏ ‏{‏ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ‏}‏ ‏[‏السجدة‏:‏ 4‏]‏ أنه استوى عليه بعد أن لم يكن مستويا عليه، وأنه يدنو إلى عباده ويقرب منهم، وينزل إلى سماء الدنيا ويجىء يوم القيامة، بعد أن لم يكن جائيًا‏.‏

ثم من هؤلاء من قد يقول‏:‏تحل الحوادث بذاته، ومنهم من لا يطلق هذا اللفظ‏:‏ إما لعدم ورود الأثر به، وإما لإيهام معنى فاسد، من أن ذلك كحلول الأعراض بالمخلوقات، كما يمتنع جمهور المتكلمين من تسمية صفاته أعراضا، وإن كانت صفات قائمة بالموصوف كالأعراض‏.‏

وزعم ابن الخطيب أن أكثر الطوائف والعقلاء، يقرّون بهذا القول في الحقيقة، وإن أنكروه بألسنتهم؛ حتى الفلاسفة والمعتزلة والأشعرية‏.‏

أما الفلاسفة، فإن عندهم أن الإضافات موجودة في الأعيان، والله موجود مع كل حادث‏.‏ و‏[‏المعية‏]‏ صفة حادثة في ذاته، وقد صرح أبو البركات البغدادي صاحب ‏[‏المعتبر‏]‏ بحدوث علوم، وإرادات جزئية في ذاته المعينة‏.‏ وقال‏:‏ إنه لا يتصور الاعتراف بكونه إلها لهذا العالم إلا مع القول بذلك‏.‏ ثم قال‏:‏ الإجلال من هذا الإجلال واجب، والتنزيه من هذا التنزيه لازم‏.‏

وأما المعتزلة، فإن البصريين ـ كأبي علي وأبي هاشم ـ يقولون بحدوث المرئي والمسموع، وبه تحدث صفة السمعية والبصرية لله، وأبو الحسين البصري يقول بتجدد علوم في ذاته بتجدد المعلومات، والأشعرية أيضًا يقولون بأن المعدومات لم تكن مسموعة ولا مرئية، ثم صارت مسموعة مرئية بعد وجودها، وليس السمع والبصر عندهم مجرد نسبة، بل هو صفة قائمة بذات السميع البصير، وقد يلزمون بقولهم‏:‏بأن النسخ هو رفع الحكم أو انتهاؤه‏.‏ وقولهم‏:‏ علمه بالجزئيات، وكذلك بانقطاع تعلق القدرة والإرادة منه‏.‏

والتحقيق‏:‏ أن التصريح بالخلاف في هذا الأصل موجود في عامة الطوائف، ليس مخصوصًا بأهل الحديث‏.‏

ثم النفاة، قد يقال‏:‏ إن هذا القول يلزمهم إذا أثبتوا لله نعوتًا غير قديمة، فيصير هذا الأصل متفقًا عليه، وهم قد يعتذرون عن تلك اللوازم، تارة بأعذار صحيحة، فلا يكون لازمًا لهم، وتارة بأعذار غير صحيحة فيكون لازمًا لهم، وهذا لا ريب فيه‏.‏

وأما نصوص الكتاب والسنة، فلا ريب أن ظاهرها موافق لهذا القول، لكن الأولون قد يتأولونها أو يفوضونها، وأما هؤلاء فيقولون‏:‏ إن فيها نصوصًا لا تقبل التأويل، وأن ما قبل التأويل قد انضم إليه من القرائن والضمائم‏.‏ ما يعلم قطعًا أن الله ورسوله أراد ذلك، أو أن هذا مفهوم‏.‏

ويقولون‏:‏ ليس للنفاة دليل معتمد وإنما معهم التقليد لأسلافهم بالشناعة والتهويل على المخاطبين، الذين لم يعرفوا دقيق الكلام، وأن هذا مذهب عامة أهل الملل وخواص عباد الله، وإنما خالف ذلك أهل البدع في الملل، والأولون قد يقولون‏:‏ هذا خلاف الإجماع وهذا كفر، وهذا يستلزم التغير والحدوث، وقد رأيت للناس في هذا الأصل عجائب‏.‏

وقال الإمام أحمد ـ في الجزء الذي فيه الرد على الجهمية والزنادقة ـ‏:‏ وكذلك الله تكلم كيف شاء، من غير أن نقول‏:‏ جوف ولا فم ولا شفتان‏.‏

وقال بعد ذلك‏:‏ بل نقول‏:‏ إن الله لم يزل متكلمًا إذا شاء، ولا نقول‏:‏ إنه كان ولا يتكلم حتى خَلَق‏.‏ وكلامه فيه طول‏.‏

قال‏:‏

 باب ما أنكرت الجهمية من أن الله كلم موسى

فقلنا‏:‏ لم أنكرتم ذلك‏؟‏ قالوا‏:‏ إن الله لم يتكلم ولا يتكلم، إنما كون شيئًا فعبر عن الله، وخلق صوتًا فأسمعه، وزعموا أن الكلام لا يكون إلا من جوف ولسان وشفتين‏.‏

فقلنا‏:‏ هل يجوز أن يكون لمكون غير الله أن يقول‏:‏ يا موسى ‏{‏إِنِّي أَنَا رَبُّكَ‏}‏ ‏[‏طه‏:‏12‏]‏ أو يقول‏:‏ ‏{‏إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي‏}‏ ‏[‏طه‏:‏14‏]‏، فمن زعم أن ذلك غير الله فقد ادعى الربوبية، ولو كان كما زعم الجهمي أن الله كون شيئًا كأن يقول ذلك المكون‏:‏ يا موسى، إن الله رب العالمين ولا يجوز أن يقول‏:‏ إني أنا الله رب العالمين ‏.‏

وقد قال الله جل ثناؤه‏:‏‏{‏وَكَلَّمَ اللّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏164‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏وَلَمَّا جَاء مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏143‏]‏، وقال‏:‏‏{‏قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاَتِي وَبِكَلاَمِي‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏144‏]‏ فهذا منصوص القرآن‏.‏

وأما ما قالوا‏:‏ إن الله لم يتكلم ولا يكلم، فكيف يصنعون بحديث الأعمش عن خَيْثمَةَ، عن عَدِيِّ بن حاتم الطائي، قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏ما منكم من أحد إلا سيُكَلِّمه ربه، ليس بينه وبينه ترجمان‏)‏‏.‏ وأما قولهم‏:‏ إن الكلام لا يكون إلا من جوف وفم، وشفتين ولسان، فنقول‏:‏ أليس الله قال للسموات والأرض‏:‏ ‏{‏اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 11‏]‏ أتراها أنها قالت‏:‏ بجوف وفم وشفتين ولسان‏؟‏

وقال‏:‏ ‏{‏وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏79‏]‏ أتراها أنها يسبحن بجوف وفم ولسان وشفتين‏؟‏ ولكن الله أنطقها كيف شاء، وكذلك الله تكلم كيف شاء، من غير أن نقول‏:‏ جوف ولا فم، ولا شفتان ولا لسان‏.‏

فلما خنقته الحجج قال‏:‏ إن الله كلم موسى، إلا أن كلامه غيره، فقلنا‏:‏ وغيره مخلوق‏؟‏ قال‏:‏ نعم‏.‏ قلنا‏:‏ هذا مثل قولكم الأول، إلا إنكم تدفعون عن أنفسكم الشنعة، وحديث الزهري قال‏:‏ لما سمع موسى كلام ربه قال‏:‏ ‏(‏يارب، هذا الذي سمعته هو كلامك‏؟‏ قال‏:‏ نعم يا موسى هو كلامي، وإنما كلمتك بقوة عشرة آلاف لسان، ولي قوة الألسن كلها، وأنا أقوى من ذلك، وإنما كلمتك على قدر ما يطيق بدنك، ولو كلمتك بأكثر من ذلك لمت‏)‏‏.‏

قال‏:‏ فلما رجع موسى إلى قومه قالوا له‏:‏ صف لنا كلام ربك‏.‏ فقال‏:‏ ‏(‏سبحان الله‏!‏ وهل أستطيع أن أصفه لكم‏؟‏‏!‏‏)‏ قالوا‏:‏ فشبهه‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏سمعتم أصوات الصواعق التي تقبل في أحلى حلاوة سمعتموها فكأنه مثله‏)‏‏.‏

وقلنا للجهمية‏:‏ من القائل يوم القيامة‏:‏ ‏{‏يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَـهَيْنِ مِن دُونِ اللّهِ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏116‏]‏، أليس الله هو القائل‏؟‏ قالوا‏:‏ يُكَوِّنُ الله شيئًا فيعبر عن الله، كما كونه فعبر لموسى‏.‏

قلنا‏:‏ فمن القائل‏:‏‏{‏فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِم بِعِلْمٍ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏6، 7‏]‏ أليس الله هو الذي يسأل ‏؟‏ قالوا‏:‏ هذا كله إنما يكون شيئًا فيعبر عن الله‏.‏

فقلنا‏:‏ قد أعظمتم على الله الفرية، حين زعمتم أنه لا يتكلم، فشبهتموه بالأصنام التي تعبد من دون الله؛ لأن الأصنام لا تتكلم، ولا تتحرك، ولا تزول من مكان إلى مكان‏.‏

فلما ظهرت عليه الحجة قال‏:‏ إن الله قد يتكلم، لكن كلامه مخلوق‏.‏ قلنا‏:‏ قد شبهتم الله بخلقه حين زعمتم أن كلامه مخلوق، ففي مذهبكم قد كان في وقت من الأوقات لا يتكلم؛ وكذلك بنو آدم كانوا لا يتكلمون حتى خلق لهم كلامًا، فقد جمعتم بين كفر وتشبيه، فتعالى الله عن هذه الصفة علوًا كبيرًا‏.‏

بل نقول‏:‏ إن الله لم يزل متكلمًا إذا شاء، ولا نقول‏:‏ إنه كان ولا يتكلم حتى خلق كلامًا، ولا نقول‏:‏ إنه قد كان لا يعلم حتى خلق علمًا، ولا نقول‏:‏ إنه قد كان ولا قدرة حتى خلق لنفسه قدرة، ولا نقول‏:‏ إنه قد كان ولا نور له حتى خلق لنفسه نورا، ولا نقول‏:‏ إنه قد كان ولاعظمة حتى خلق لنفسه عظمة، وذكر كلامًا طويلا في تقرير الصفات وأنها لا تنافى التوحيد‏.‏

ومما يشبه هذا أن الصفات التي هي من جنس الحركة، كالإتيان والمجىء والنزول، هل تتأول بمعنى مجىء قدرته وأمره ‏؟‏ على روايتين‏:‏

إحداهما‏:‏ هي بمعنى مجىء قدرته، وهي رواية حنبل في المحنة‏.‏

والثانية‏:‏ تُمَرُّ كسائر الصفات، وهي ظاهر المذهب المشهور عند أصحابنا‏.‏

ثم منهم من غلَّط حنبل، ومنهم من قال‏:‏ قاله أحمد إلزامًا لهم، ومنهم من جعله رواية خاصة كابن الزاغوني، وعمم ابن عقيل ذلك في سائر الصفات‏.‏

وهذا الأصل يتفرع في أكثر مسائل الصفات، لا سيما مسألة الكلام والإرادة، والصفات المتعلقة بالمشيئة، كالنزول والاستواء، وهو كان سبب وقوع النزاع بين إمام الأئمة محمد بن إسحاق بن خزيمة، وبين طائفة من فضلاء أصحابه‏.‏