فصل: وسئل: عن كتاب فصوص الحكم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مجموع فتاوى ابن تيمية **


/ فصــل

وأما الذي يدعي النبوة، وأنه يبيح الفاحشة اللوطية، ويحرم النكاح، وما ذكر من ذلك‏:‏ فهذا أمر أظهر من أن يقال عنه، فإنه من الكافرين، وأخبث المرتدين، وقتل هذا ومن اتبعه واجب بإجماع المسلمين، والواحد من هؤلاء إما أن يخاطب بالحجة لعل الله أن يتوب عليه ويهديه، وإما أن يقام عليه الحد فيقتل‏.‏ فمن كان قادرًا على أحد الأمرين لزمه ذلك، ومن عجز عن هذا وهذا فلا يكلف الله نفسًا إلا وسعها، لكن عليه أن يعرف المعروف، ويحبه، وينكر المنكر، ويبغضه، ويفعل ما يقدر عليه من الأمرين ـ من الأمر والنهي ـ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح‏:‏ ‏(‏من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وليس وراء ذلك من الإيمان مثقال ذرة‏)‏‏.‏ والله سبحانه وتعالى أعلم ‏.‏

/المسؤول من إحسان شيخ الإسلام مفتى الأنام تقي الدين ـ أثابه الله الجنة ـ أن يفتينا في رجلـين تشاجرا في هذين البيتين المذكورين، وهما قول القائل‏:‏

الرب حق والعبد حــــق ** ياليت شعري من المكلف‏؟‏

إن قلت عبد فذاك ميــت ** أو قلت رب إني يكلف‏؟‏‏!‏

فقال أحد الرجلين‏:‏ هذا القول كفر، فإن القائل جعل الرب والعبد حقًا واحدًا ليس بينهما فرق، وأبطل التكليف‏.‏ فقال له الرجل الثاني‏:‏ ما فهمت المعني، ورميت القائل بما لم يعتقده ويقصده، فإن القائل قال‏:‏ الرب حق، والعبد حق، أي الرب حق في ربوبيته، والعبد حق في عبوديته، فلا الرب عبدًا، ولا العبد ربًا كما زعمت‏.‏

ثم قال‏:‏

ياليت شعري من المكلف‏؟‏ ** مع علمه أن التكليف حق ‏.‏

فحار لمن ينسبه في القيام به، فقال‏:‏ إن قلت‏:‏ عبد فذاك ميت، والميت‏:‏ ليس له من نفسه حركة، بل من غيره يقلبه كما يشاء، وكذلك العبد ـ وإن كان/ حيًا ـ فإنه مع ربه كالميت مع الغاسل ليس له من نفسه فعل بغير الله؛ لأنه سبحانه لو لم يقوِّ العبد على القيام بالتكليف، لما قدر على ذلك‏.‏ فالفعل لله حقيقة، وللعبد مجازا، ودليل ذلك قول‏:‏ لا حول ولا قوة إلا بالله العلى العظيم، أي لا حول عن المعصية، ولا قوة على الطاعة إلا بالله‏.‏

وقد علم أن الرب ليس عليه تكليف؛ لأنه لا مكلف له، والعبد ليس يقوم بما كلف به إلا بالله، والتكليف حق ‏.‏

فتعجب القائل عند شهوده لهذه الحال ‏!‏ وحار في ذلك مع الإقرار به، وأنه على العبد حق، فما ينبغي لعاقل أن يقع فيمن لا يفهم كلامه، بل التقصير من الفهم القصير، فمع أيهما الحق‏؟‏

فأجاب شيخ الإسلام ابن تيمية ـ قدس الله روحه ونور ضريحه ـ فقال‏:‏

الحمد لله، كلام هذا الثاني كلام باطل، وخوض فيما لم يحط بعلمه، ولم يعرف حقيقته، ولا هو عارف بحقيقة قول ابن عربي وأصله، الذي تفرع منه هذا الشعر وغيره، ولا هو أخذ بمقتضى هذا اللفظ ومدلوله‏.‏

فأما أصل ابن عربي فهو أن الوجود واحد‏.‏ وأن الوجود الواجب هو عين الوجود الممكن، والقول بأن المعدوم شيء وأعيان المعدومات ثابتة في العدم، ووجود الحق فاض عليها، فوجود كل شيء عين وجود الحق عنده، وهذا مبسوط في غير هذا الموضع‏.‏

/ولهذا قال‏:‏ ولما كان فرعون في منصب التحكم صاحب الوقت، وأنه الخليفة بالسيف، وإن جار في العرف الناموسي لذلك قال‏{‏أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى‏}‏ ‏[‏النازعات‏:‏ 24‏]‏ أي‏:‏ وإن كان الكل أربابًا بنسبة ما، فأنا الأعلى منهم، بما أعطيته في الظاهر من الحكم فيكم، ولما علمت السحرة صدقه فيما قال لم ينكروه، وأقروا له بذلك‏.‏ فقالوا له‏:‏ ‏{‏فَاقْضِ مَا أَنتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا‏}‏‏[‏طه‏:‏ 72‏]‏، والدولة لك، فصح قول فرعون‏:‏ ‏{‏أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى‏}‏‏.‏ وإن كان عين الحق ‏.‏

قال‏:‏ ومن أسمائه الحسنى العلى؛ على من‏:‏ وما ثم إلا هو‏؟‏ وعن ماذا؛ وما هو إلا هو‏؟‏ إلى قوله‏:‏ ومن عرف ما قررناه في الأعداد، وأن نفيها عين إثباتها، علم أن الحق المنزه هو الخلق المشبه، فالآمر الخالق المخلوق، والأمر المخلوق هو الخالق، كل ذلك من عين واحدة، لا بل هو العين الواحدة‏.‏

وقال‏:‏ ألا ترى أن الحق يظهر بصفات الخلق‏؟‏فكل صفات الحق حق له، كما أن صفات المحدثات حق للخالق ونحو ذلك، مما يكثر في كلامه، وهذا الرجل له ترتيب في سلوكه، من جنس ترتيب الملاحدة، القرامطة‏.‏ فأول ما يظهر اعتقاد معتزلة الكلابية، الذين ينفون الصفات الخبرية، ويثبتون الصفات السبعة أو الثمانية، ثم بعد ذلك اعتقاد الفلاسفة، الذين ينفون الصفات ويثبتون وجودًا واجبا مجردًا، صدرت عنه الممكنات‏.‏

/ ثم بعد هذا يجعل هذا الوجود هو وجود كل موجود، فليس عنده وجودان‏:‏ أحدهما واجب، والآخر ممكن‏.‏ ولا أحدهما خالق، والآخر مخلوق، بل عين الوجود الواجب هو عين الوجود الممكن، مع تعدد المراتب، والمراتب عنده هي الأعيان الثابتة في العدم، على زعم من يقول‏:‏ إن المعدوم شيء، ولا ريب أن من جعل المعدوم شيئا ثابتا في الخارج عن الذهن فقوله باطل‏.‏

لكن أولئك يقولون‏:‏ إن الخالق جعل لهذه الأعيان وجودًا مخلوقًا، وابن عربي يقول‏:‏ بل نفس وجوده فاض عليها، فهي مفتقرة إليه في وجوده، وهو مفتقر إلى ثبوتها، ولهذا قال‏:‏ فيعبدني وأعبده، ويحمدني وأحمده، ولهذا امتنع التكليف عنده، فإن التكليف يكون من مكلِّف لمكلَّف، أحدهما آمرًا والآخر مأمورًا، فامتنع التكليف‏.‏

ولهذا مثل ما يوجد من الكلام والسمع بقول النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إن الله تجاوز لأمتي عما حدثت به أنفسها ما لم تتكلم به، أو تعمل به‏)‏‏.‏ فلما كان المحدث هنا هو المحدث، جعل هذا مثلا لوجود الرب، فعنده كل كلام في الوجود كلامه وهو المتكلم عنده، وهو المستمع‏.‏

ولهذا يقول‏:‏

إن قلت عبد فذاك ميت **

وفي موضع آخر رأيته بخطه‏:‏

/إن قلت عبد فذاك نفى **

لأن العبد ليس له عنده وجود مخلوق، بل وجوده هو الوجود الواجب القديم عنده، وهذا مبسوط في غير هذا الموضع ‏.‏

فإن كلام الرجل يفسر بعضه بعضا، وهذا الأصل ـ وهو القول بوحدة الوجود ـ قوله وقول ابن سبعين، وصاحبه الششتري، والتلمساني، والصدر القونوي، وسعيد الفرغاني، وعبد الله البلياني، وابن الفارض صاحب نظم السلوك، وغير هؤلاء من أهل الإلحاد، القائلين بالوحدة والحلول والاتحاد‏.‏

وأما مدلول هذا الشعر‏:‏ فإن قوله‏:‏

ياليت شعري من المكلف‏؟‏ **

استفهام إنكار للمكلف‏.‏ ثم قال‏:‏

إن قلت عبـــد فـــــذاك ميــــت **

وفي موضع آخر قال‏:‏ فذاك نفى‏.‏ وكلاهما باطل، فإن العبد موجود وثابت ليس بمعدوم منتف، ولكن الله هو الذي جعله موجودًا ثابتا، وهذا هو دين المسلمين، أن كل ما سوى الله مخلوق لله موجود، يجعل الله له وجودًا، فليس لشيء من الأشياء وجود إلا بإيجاد الله له، وهو باعتبار نفسه لا يستحق إلا العدم‏.‏ ‏.‏ ‏.‏

موجودًا حيًا ناطقًا فاعلا مريدًا قادرًا، بل هذا كله‏.‏ ‏.‏ ‏.‏ لا يمنع ثبوت ذواتها، وصفاتها، وأفعالها‏.‏

/ فهو ـ سبحانه ـ هو الذي جعل الحي حيًا، بل هو الذي جعل المسلم مسلما، والمصلى مصليا، كما قال الخليل‏:‏ ‏{‏رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 128‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاَةِ وَمِن ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاء‏}‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏ 40‏]‏‏.‏

وهذه مسألة خلق أفعال العبيد، وهي مذهب أهل السنة والجماعة، مع اتفاقهم على أن العبد مأمور منهي، مثاب معاقب، موعود متوعد، وهو ـ سبحانه ـ الذي جعل الأبيض أبيض، والأسود أسود، والطويل طويلا، والقصير قصيرًا، والمتحرك متحركا، والساكن ساكنًا، والرطب رطبا، واليابس يابسًا، والذكر ذكرًا، والأنثي أنثى، والحلو حلوا، والمر مرًا‏.‏

ومع هذا، فالأعيان تتصف بهذه الصفات، والله تعالى خالق الذوات وصفاتها، فأي عجب من اتصاف الذات المخلوقة بصفاتها‏؟‏ ومن أين يكون الله خالق ذلك كله بالحق‏؟‏ فإذا قال القائل‏:‏ الرب حق والعبد حق‏:‏ فإن أراد به أن هذا الحق هو عين هذا، فهذا هو الاتحاد والإلحاد، وهذا هو الذي ينافي التكليف‏.‏ وإن أراد أن العبد حق مخلوق، خلقه الخالق، فهذا مذهب المسلمين، وذلك لا ينافي أن يكون الخالق مُمكنًا للمخلوق، كما أنه خالق له‏.‏

وقوله‏:‏

إن قلت عبد فذاك ميت‏.‏ كذب، فإن العبد ليس بميت، بل هو حي أحياه الله تعالى، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ‏}‏‏[‏البقرة‏:‏ 28‏]‏، والله لا يكلف الميت، وإنما يكلف الحي، وإذا قيل‏:‏ إنه أراد بقوله‏:‏ ‏[‏ميت‏]‏ أنه باعتبار نفسه لا حياة له‏.‏ قيل‏:‏ تفسير مراده بهذا فاسد لفظًا ومعنى، أما اللفظ فلأن كلامه لا يقتضي ذلك، وأما المعنى فلأنه إذا فسر ذلك لم يناف التكليف‏.‏

/فإذا كان ميتًا ـ لولا إحياء الله ـ وقد أحياه الله، فقد صار حيًا بإحياء الله له، وحينئذ فالله إنما كلف حيًا لم يكلف ميتًا، وأما أقوال إخوان الملاحدة والمحامين عنهم أنه قال‏:‏

ليت شعري من المكلف‏؟‏ **

مع علمه بأن التكليف حق فحار لمن ينسبه في القيام به‏.‏ فقال‏:‏

إن قلت عبد فذاك ميت **

والميت، ليس له من نفسه حركة، بل من غيره يقلبه كما يشاء‏.‏

وكذلك العبد ـ وإن كان حيًا ـ فإنه مع ربه كالميت مع الغاسل، ليس له من نفسه فعل بغير الله‏.‏ فيقال لهم‏:‏ هذا العذر باطل من وجوه‏:‏

أحدها‏:‏ لأنه لا حيرة هنا، بل المكلف هو العبد بلا امتراء ولا حيرة، فإن الله يمتنع أن يكون هو المكلف بالصيام، والطواف، ورمي الجمار، بل هو الآمر بذلك، والعبد هو المأمور بذلك، ومن حار‏:‏ هل المأمور بذلك الله أو العبد‏؟‏ فهو إما يكون فاسد العقل مجنونًا، وإما فاسد الدين ملحدًا زنديقا‏.‏

وكون الله خالقًا للعبد ولفعله، لا يمنع أن يكون العبد هو المأمور المنهي، فإنه لم يقل أحد قط‏:‏ إن الله هو الذي يركع، ويسجد، ويطوف، ويرمي الجمار، ويصوم شهر رمضان، بل جميع الأمة متفقون على أن العبد هو الراكع، الساجد، الصائم، العابد، لا نزاع في ذلك بين أهل السنة والقدرية‏.‏

الثاني‏:‏ أن قوله‏:‏ إن العبد ـ وإن كان حيًا ـ فإنه مع ربه كالميت مع الغاسل ليس بصحيح، فإن الميت ليس له إحساس، ولا إرادة، لما يقوم/ به من الحركة، ولا قدرة على ذلك، ولا يوصف بأنه يحب الفعل، أو يبغضه، أو يريده، أو يكرهه، ولا أنه يركع ويسجد، ويصوم ويحج، ويجاهد العدو

وقول من قال بهذا‏:‏ لا يحمد الميت على فعل الغاسل، ولا يذم ولا يثاب ولا يعاقب، وأما العبد فإن الله جعله حيًا مريدًا، قادرًا فاعلا، وهو يصوم ويصلي، ويحج ويقتل، ويزني باختياره ومشيئته، والله خالق ذاته وصفاته وأفعاله، فله مشيئة والله خالق مشيئته، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏لِمَن شَاء مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ وَمَا تَشَاؤُونَ إِلَّا أَن يَشَاء اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ‏}‏ ‏[‏التكوير‏:‏ 28، 29‏]‏‏.‏

وله قدرة، والله خالق قدرته، وهو مصل صائم، حاج معتمر، والله خالقه وخالق أفعاله، فتمثيله بالميت تمثيل باطل‏.‏

الثالث‏:‏ أن يقال‏:‏ إن كان كالميت مع الغاسل، فيكون الغاسل هو المكلف، فيكون الله هو المكلف، فيلزم أن يكون الرب هو المكلف‏.‏

الرابع‏:‏ أن عقلاء بني آدم متفقون على ما فطرهم الله عليه، من أن العبد الحي يؤمر وينهى، ويحمد ويذم على أفعاله الاختيارية، متفقون على أن من احتج بالقدر على ظلمه وفواحشه، لم يقبل ذلك منه، فلو ظلم ظالم لغيره، لم يقبل أحد منه أن يدفع عن نفسه الملام بالقدر‏.‏ وأما الميت فليس في العقلاء من يذمه، ولا يأمره ولا ينهاه، فكيف يقاس هذا بهذا‏؟‏

وأما قول القائل‏:‏ فإن الله لو لم يُقَوِّ العبد على التكليف لما قدر على ذلك‏:‏ / فكلام صحيح، لكن ليس فيه ما ينافي أن يكون مكلفًا، مأمورًا منهيًا، مصليا صائما، قاتلا زانيا‏.‏

وأما قوله‏:‏ فالفعل لله حقيقة، وللعبد مجازًا، فهذا كلام باطل، بل العبد هو المصلي الصائم، الحاج المعتمر المؤمن، وهو الكافر الفاجر، القاتل الزاني، السارق حقيقة، والله تعالى لا يوصف بشيء من هذه الصفات، بل هو منزه عن ذلك، لكنه هو الذي جعل العبد فاعلا لهذه الأفعال، فهذه مخلوقاته ومفعولاته حقيقة، وهي فعل العبد أيضا حقيقة‏.‏

ولكن طائفة من أهل الكلام ـ المثبتين للقدر ـ ظنوا أن الفعل هو المفعول، والخلق هو المخلوق، فلما اعتقدوا أن أفعال العباد مخلوقة مفعولة لله، قالوا‏:‏ فهي فعله‏.‏ فقيل لهم مع ذلك‏:‏ أهي فعل العبد‏؟‏ فاضطربوا، فمنهم من قال‏:‏ هي كسبه لا فعله، ولم يفرقوا بين الكسب والفعل بفرق محقق‏.‏ ومنهم من قال‏:‏ بل هي فعل بين فاعلين‏.‏ ومنهم من قال‏:‏ بل الرب فعل ذات الفعل، والعبد فعل صفاته‏.‏

والتحقيق ما عليه أئمة السنة، وجمهور الأمة، من الفرق بين الفعل والمفعول، والخلق والمخلوق، فأفعال العباد هي كغيرها من المحدثات مخلوقة، مفعولة لله، كما أن نفس العبد وسائر صفاته مخلوقة، مفعولة لله، وليس ذلك نفس خلقه وفعله، بل هي مخلوقة ومفعولة، وهذه الأفعال هي فعل العبد القائم به، ليست قائمة بالله، ولا يتصف بها فإنه لا يتصف بمخلوقاته ومفعولاته، /وإنما يتصف بخلقه وفعله، كما يتصف بسائر ما يقوم بذاته، والعبد فاعل لهذه الأفعال، وهو المتصف بها، وله عليها قدرة، وهو فاعلها باختياره ومشيئته، وذلك كله مخلوق لله، فهي فعل العبد، وهي مفعولة للرب‏.‏

لكن هذه الصفات لم يخلقها الله بتوسط قدرة العبد، ومشيئته، بخلاف أفعاله الاختيارية، فإنه خلقها بتوسط خلقه لمشيئة العبد وقدرته، كما خلق غير ذلك من المسببات بواسطة أسباب أخر، وهذا مبسوط في غير هذا الموضع، ولكن هذا قدر ما وسعته هذه الورقة، والله أعلم‏.‏

/  ما تقول السادة العلماء ـ أئمة الدين، وهداة المسلمين‏:‏ في كتاب بين أظهر الناس، زعم مصنفه أنه وضعه وأخرجه للناس بإذن النبي صلى الله عليه وسلم، في منام زعم أنه رآه، وأكثر كتابه ضد لما أنزله الله، من كتبه المنزلة، وعكس وضد عن أقوال أنبيائه المرسلة، فمما قال فيه‏:‏ إن آدم ـ عليه السلام ـ إنما سمي إنسانًا؛ لأنه للحق تعالى بمنزلة إنسان العين من العين، الذي يكون به النظر‏.‏

وقال في موضع آخر‏:‏ إن الحق المنزه هو الخلق المشبه‏.‏ وقال في قوم نوح ـ عليه السلام‏:‏ إنهم لو تركوا عبادتهم لوَدٍّ، وسُوَاع، ويَغُوث، ويَعوق، ونَسْر، لجهلوا من الحق بقدر ما تركوا من هؤلاء‏.‏ ثم قال‏:‏ فإن للحق في كل معبود وجهًا، يعرفه من عرفه، ويجهله من جهله‏.‏ فالعالم يعلم من عبد، وفي أي صورة ظهر حتى عبد، وإن التفريق والكثرة كالأعضاء في الصورة المحسوسة‏.‏

ثم قال في قوم هود ـ عليه السلام ـ بأنهم حصلوا في عين القرب، فزال البعد، فزال مسمى جهنم في حقهم، ففازوا بنعيم القرب، من جهة الاستحقاق مما أعطاهم هذا المقام الذوقي اللذيذ، من جهة المنة، فإنما أخذوه بما استحقته حقائقهم من أعمالهم، التي كانوا عليها، وكانوا على صراط الرب المستقيم‏.‏

/ثم إنه أنكر فيه حكم الوعيد، في حق كل من حقت عليه كلمة العذاب من سائر العبيد، فهل يكفر من يصدقه في ذلك أم لا‏؟‏ أو يرضي به منه أم لا‏؟‏ وهل يأثم سامعه إذا كان عاقلًا بالغًا ولم ينكره بلسانه أو بقلبه أم لا‏؟‏ أفتونا بالوضوح والبيان، كما أخذ الميثاق للتبيان، فقد أضر الإهمال بالضعفاء والجهال، وبالله المستعان وعليه الاتكال، أن يعجل بالملحدين النكال، لصلاح الحال، وحسم مادة الضلال‏.‏

فأجاب‏:‏

الحمد لله، هذه الكلمات المذكورة، المنكورة كل كلمة منها هي من الكفر، الذي لا نزاع فيه بين أهل الملل، من المسلمين، واليهود والنصارى، فضلا عن كونه كفرًا في شريعة الإسلام‏.‏

فإن قول القائل‏:‏ إن آدم للحق ـ تعالى ـ بمنزلة إنسان العين من العين، الذي يكون به النظر يقتضى أن آدم جزء من الحق ـ تعالى وتقدس ـ وبعض منه، وأنه أفضل أجزائه وأبعاضه، وهذا هو حقيقة مذهب هؤلاء القوم، وهو معروف من أقوالهم‏.‏

الكلمة الثانية‏:‏ توافق ذلك، وهو قوله‏:‏ إن الحق المنزه، هو الخلق المشبه‏.‏

ولهذا قال في تمام ذلك‏:‏ فالأمر الخالق المخلوق، والأمر المخلوق الخالق، كل ذلك من عين واحدة، لا بل هو العين الواحدة، وهو العيون الكثيرة ‏{‏فّانظٍرً مّاذّا تّرّى‏}‏، ‏{‏يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 102‏]‏، والولد عين أبيه، فما رأى يذبح/سوى نفسه، ففديناه بذبح عظيم، فظهر بصورة كبش، من ظهر بصورة إنسان وظهر بصورة، لا بحكم ولد من هو عين الوالد، ‏{‏وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 1‏]‏، فما نكح سوى نفسه‏.‏

وقال في موضع‏:‏ وهو الباطن عن كل فهم، إلا عن فهم من قال‏:‏ إن العالم صورته وهويته‏.‏

وقال‏:‏ ومن أسمائه الحسنى العلى، على من ‏!‏ وما ثم إلا هو‏؟‏ وعن ماذا ‏!‏ وما هو إلا هو‏؟‏ فعلوه لنفسه، وهو من حيث الوجود عين الموجودات‏.‏ فالمسمى محدثات هي العلية لذاتها، وليست إلا هو‏.‏ إلى أن قال‏:‏ فهو عين ما ظهر، وهو عين ما بطن في حال ظهوره، وما ثم من يراه غيره، وما ثم من ينطق عنه سواه، فهو ظاهر لنفسه باطن عنه ـ وهو المسمى أبو سعيد الخراز ـ وغير ذلك من أسماء المحدثات‏.‏

إلى أن قال‏:‏ فالعلى لنفسه هو الذي يكون له الكمال، الذي يستغرق به جميع الأمور الوجودية، والنسب العدمية، سواء كانت محمودة عرفًا وعقلًا وشرعًا، أو مذمومة عرفًا وعقلًا وشرعًا، وليس ذلك إلا لمسمى اللّه خاصة وقال‏:‏ ألا ترى الحق يظهر بصفات المحدثات‏؟‏ وأخبر بذلك عن نفسه، وبصفات النقص والذم، ألا ترى المخلوق يظهر بصفات الحق ‏؟‏‏!‏ فهي من أولها إلى آخرها صفات له، كما هي صفات المحدثات حق للحق، وأمثال هذا الكلام‏.‏

فإن صاحب هذا الكتاب المذكور الذي هو ‏[‏فصوص الحكم‏]‏ وأمثاله/ مثل صاحبه القونوي، والتلمساني، وابن سبعين، والششتري، وابن الفارض وأتباعهم، مذهبهم الذي هم عليه‏:‏ أن الوجود واحد، ويسمون أهل وحدة الوجود، ويدعون التحقيق والعرفان، وهم يجعلون وجود الخالق عين وجود المخلوقات، فكل ما يتصف به المخلوقات من حسن، وقبيح، ومدح، وذم، إنما المتصف به عندهم عين الخالق، وليس للخالق عندهم وجود مباين لوجود المخلوقات منفصل عنها أصلا، بل عندهم ما ثم غير أصلا للخالق، ولا سواه‏.‏

ومن كلماتهم‏:‏ ليس إلا الله‏.‏ فعباد الأصنام لم يعبدوا غيره عندهم؛ لأنه ما عندهم له غير، ولهذا جعلوا قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 23‏]‏ بمعنى‏:‏ قدر ربك ألا تعبدوا إلا إياه، إذ ليس عندهم غير له تتصور عبادته، فكل عابد صنم إنما عَبَدَ الله‏.‏

ولهذا جعل صاحب هذا الكتاب عُبَّاد العجل مصيبين، وذكر أن موسى أنكر على هارون إنكاره عليهم عبادة العجل‏.‏ وقال‏:‏ كان موسى أعلم بالأمر من هارون؛ لأنه علم ما عبده أصحاب العجل؛ لعلمه بأن الله قد قضى ألا يعبدوا إلا إياه، وما حكم الله بشيء إلا وقع، فكان عتب موسى أخاه هارون، لما وقع الأمر في إنكاره، وعدم اتباعه، فإن العارف من يرى الحق في كل شيء، بل يراه عين كل شيء‏.‏

ولهذا يجعلون فرعون من كبار العارفين، المحققين، وأنه كان مصيبًا في دعواه الربوبية‏.‏ كما قال في هذا الكتاب‏:‏ ولما كان فرعون في منصب التحكم صاحب الوقت، وأنه جار في العرف الناموسي لذلك، قال‏:‏ ‏{‏أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى‏}‏‏[‏النازعات‏:‏ 24‏]‏ /أي‏:‏ وإن كان الكل أربابًا بنسبة ما، فأنا الأعلى منهم، بما أعطيته في الظاهر من الحكم فيهم‏.‏

ولما علمت السحرة صدق فرعون فيما قاله، لم ينكروه، بل أقروا له بذلك وقالوا له‏:‏ ‏{‏فَاقْضِ مَا أَنتَ قَاضٍ‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 72‏]‏، فالدولة لك، فصح قول فرعون‏:‏ ‏{‏أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى‏}‏ وأنه كان عين الحق ‏.‏

ويكفيك معرفة بكفرهم‏:‏ أن من أخف أقوالهم أن فرعون مات مؤمنا، بريا من الذنوب كما قال‏:‏ وكان موسى قرة عين لفرعون بالإيمان، الذي أعطاه الله عند الغرق، فقبضه طاهرًا مطهرًا، ليس فيه شيء من الخبث؛ لأنه قبضه عند إيمانه قبل أن يكتسب شيئا من الآثام، والإسلام يَجُبُّ ما قبله‏.‏

وقد علم بالاضطرار من دين أهل الملل المسلمين، واليهود، والنصارى‏:‏ أن فرعون من أكفر الخلق بالله، بل لم يقص الله في القرآن قصة كافر باسمه الخاص أعظم من قصة فرعون، ولا ذكر عن أحد من الكفار من كفره، وطغيانه وعلوه، أعظم مما ذكر عن فرعون‏.‏

وأخبر عنه وعن قومه أنهم يدخلون أشد العـذاب، فإن لفظ آل فرعــون كلفظ آل إبراهيم، وآل لوط، وآل داود، وآل أبي أوفى، يدخل فيها المضاف باتفاق الناس، فإذا جاؤوا إلى أعظم عدو لله من الإنس، أو من هو من أعظم أعدائه فجعلوه مصيبا، محقًا فيما كفره به الله، علم أن ما قالوه أعظم من كفر اليهود والنصارى، فكيف بسائر مقالاتهم‏؟‏

/وقد اتفق سلف الأمة وأئمتها على أن الخالق تعالى بائن من مخلوقاته، ليس في ذاته شيء من مخلوقاته، ولا في مخلوقاته شيء من ذاته‏.‏

 والسلف والأئمة كفَّروا الجهمية لما قالوا‏:‏ إنه في كل مكان، وكان مما أنكروه عليهم‏:‏ أنه كيف يكون في البطون، والحشوش، والأخلية‏؟‏ تعالى الله عن ذلك‏.‏ فكيف بمن يجعله نفس وجود البطون، والحشوش، والأخلية، والنجاسات، والأقذار‏؟‏

واتفق سلف الأمة وأئمتها‏:‏ أن الله ليس كمثله شيء، لا في ذاته، ولا في صفاته، ولا في أفعاله، وقال من قال من الأئمة‏:‏ من شبه الله بخلقه فقد كفر، ومن جحد ما وصف الله به نفسه فقد كفر، وليس ما وصف الله به نفسه ولا رسوله تشبيها‏.‏

وأين المشبهة المجسمة من هؤلاء‏؟‏ فإن هؤلاء غاية كفرهم أن يجعلوه مثل المخلوقات‏.‏

لكن يقولون‏:‏ هو قديم، وهي محدثة، وهؤلاء جعلوه عين المخلوقات، وجعلوه نفس الأجسام المصنوعات، ووصفوه بجميع النقائص والآفات، التي يوصف بهما كل كافر، وكل فاجر، وكل شيطان، وكل سبع، وكل حية من الحيات، فتعالى الله عن إفكهم وضلالهم، وسبحانه وتعالى عما يقولون علوا كبيرًا‏.‏

والله ـ تعالى ـ ينتقم لنفسه، ولدينه، ولكتابه ولرسوله، ولعباده المؤمنين منهم‏.‏

/وهؤلاء يقولون‏:‏ إن النصارى إنما كفروا لتخصيصهم، حيث قالوا‏:‏ ‏{‏إِنَّ اللّهَ هُوَ الْمَسِيحُ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 17‏]‏ ‏.‏ فكل ما قالته النصارى في المسيح يقولونه في الله، وكٌفْر النصارى جزء من كفر هؤلاء‏.‏

ولما قرؤوا هذا الكتاب المذكور على أفضل متأخرىهم، قال له قائل‏:‏ هذا الكتاب يخالف القرآن‏.‏ فقال‏:‏ القرآن كله شرك‏.‏ وإنما التوحيد في كلامنا هذا‏:‏ يعني أن القرآن يفرق بين الرب والعبد، وحقيقة التوحيد عندهم أن الرب هو العبد، فقال له القائل‏:‏ فأي فرق بين زوجتي وبنتي إذا‏؟‏ قال‏:‏ لا فرق، لكن هؤلاء المحجوبون قالوا‏:‏ حرام، فقلنا‏:‏ حرام عليكم‏.‏

وهؤلاء إذا قيل في مقالتهم‏:‏ إنها كفر، لم يُفْهِم هذا اللفظ حالها، فإن الكفر جنس تحته أنواع متفاوتة، بل كفر كل كافر جزء من كفرهم؛ ولهذا قيل لرئيسهم‏:‏ أنت نصيري‏.‏ فقال‏:‏ نصير جزء مني، وكان عبد الله بن المبارك يقول‏:‏ إنا لنحكي كلام اليهود والنصارى، ولا نستطيع أن نحكي كلام الجهمية، وهؤلاء شر من أولئك الجهمية، فإن أولئك كان غايتهم القول بأن الله في كل مكان، وهؤلاء قولهم‏:‏ إنه وجود كل مكان، ما عندهم موجودان، أحدهما حال والآخر محل، ولهذا قالوا‏:‏ إن آدم من الله بمنزلة إنسان العين من العين، وقد علم المسلمون، واليهود، والنصارى؛ بالاضطرار من دين المرسلين‏:‏ أن من قال عن أحد من البشر‏:‏ إنه جزء من الله فإنه كافر في جميع الملل؛ إذ النصارى لم تقل هذا -/ وإن كان قولها من أعظم الكفر ـ لم يقل أحد‏:‏ إن عين المخلوقات هي جزء الخالق، ولا أن الخالق هو المخلوق، ولا الحق المنزه هو الخلق المشبه‏.‏

وكذلك قوله‏:‏ إن المشركين لو تركوا عبادة الأصنام لجهلوا من الحق بقدر ما تركوا منها، هو من الكفر المعلوم بالاضطرار من جميع الملل، فإن أهل الملل متفقون على أن الرسل جميعهم نهوا عن عبادة الأصنام، وكفروا من يفعل ذلك، وأن المؤمن لا يكون مؤمنا حتى يتبرأ من عبادة الأصنام، وكل معبود سوى الله، كما قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَاء مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاء أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ‏}‏ ‏[‏الممتحنة‏:‏ 4‏]‏‏.‏

وقال الخليل‏:‏ ‏{‏قَالَ أَفَرَأَيْتُم مَّا كُنتُمْ تَعْبُدُونَ أَنتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِّي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ‏}‏‏[‏الشعراء‏:‏ 75‏:‏ 77‏]‏، وقال الخليل لأَبيِهِ وقومه ‏{‏وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاء مِّمَّا تَعْبُدُونَ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 26، 27‏]‏، وقال الخليل ـ وهو إمام الحنفاء الذي جعل الله في ذريته النبوة والكتاب واتفق أهل الملل على تعظيمه لقوله -‏:‏ ‏{‏فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَـذَا رَبِّي هَـذَآ أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 78، 79‏]‏‏.‏

وهذا أكثر وأظهر، عند أهل الملل من اليهود، والنصارى ـ فضلا عن المسلمين ـ من أن يحتاج أن يستشهد عليه بنص خاص، فمن قال‏:‏ إن عباد الأصنام لو تركوهم لجهلوا من الحق بقدر ما تركوا من هؤلاء، فهو أكفر من/ اليهود والنصارى، ومن لم يكفرهم فهو أكفر من اليهود والنصارى، فإن اليهود والنصارى يكفرون عباد الأصنام، فكيف من يجعل تارك عبادة الأصنام جاهلا من الحق بقدر ما ترك منها‏؟‏ مع قوله‏:‏ فإن العالم يعلم من عبد، وفي أي صورة ظهر حتى عبد، وأن التفريق والكثرة كالأعضاء في الصورة المحسوسة، وكالقوى المعنوية في الصورة الروحانية، فما عبد غير الله في كل معبود، بل هو أعظم من كفر عباد الأصنام؛ فإن أولئك اتخذوهم شفعاء، ووسائط، كما قالوا‏:‏‏{‏مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى‏}‏‏[‏الزمر‏:‏3‏]‏، وقال الله تعالى‏:‏ ‏{‏أَمِ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ شُفَعَاء قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلَا يَعْقِلُونَ‏}‏‏[‏الزمر‏:‏43‏]‏

وكانوا مقرين بأن الله خالق السموات والأرض، وخالق الأصنام، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏38‏]‏، وقال تعالى‏:‏‏{‏وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللّهِ إِلاَّ وَهُم مُّشْرِكُونَ‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏106‏]‏‏.‏

قال ابن عباس‏:‏ تسألهم من خلق السموات والأرض فيقولون‏:‏ الله، ثم يعبدون غيره، وكانوا يقولون في تلبيتهم‏:‏ لبيك لا شريك لك، إلا شريك هو لك، تملكه وما ملك؛ ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏ضَرَبَ لَكُم مَّثَلًا مِنْ أَنفُسِكُمْ هَل لَّكُم مِّن مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم مِّن شُرَكَاء فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنتُمْ فِيهِ سَوَاء تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنفُسَكُمْ‏}‏‏[‏الروم‏:‏28‏]‏

وهؤلاء أعظم كفرًا، من جهة أن هؤلاء جعلوا عابد الأصنام عابدًا لله لا عابدًا لغيره، وأن الأصنام من الله بمنزلة أعضاء الإنسان من الإنسان، / وبمنزلة قوى النفس من النفس، وعباد الأصنام اعترفوا بأنها غيره، وأنها مخلوقة، ومن جهة أن عباد الأصنام من العرب كانوا مقرين بأن للسموات والأرض ربًا غيرهما خلقهما، وهؤلاء ليس عندهم للسموات، والأرض، وسائر المخلوقات رب مغاير للسموات والأرض، وسائر المخلوقات، بل المخلوق هو الخالق‏.‏

ولهذا جعل قوم عاد، وغيرهم من الكفار، على صراط مستقيم، وجعلهم في عين القرب، وجعل أهل النار يتمتعون في النار، كما يتمتع أهل الجنة في الجنة‏.‏

وقد علم بالاضطرار من دين الإسلام‏:‏ أن قوم عاد وثمود، وفرعون وقومه، وسائر من قص الله قصته من الكفار أعداء الله، وأنهم معذبون في الآخرة، وأن الله لعنهم وغضب عليهم، فمن أثنى عليهم وجعلهم من المقربين ومن أهل النعيم، فهو أكفر من اليهود والنصارى، من هذا الوجه‏.‏

وهذه الفتوى لا تحتمل بسط كلام هؤلاء، وبيان كفرهم وإلحادهم، فإنهم من جنس القرامطة الباطنية، والإسماعيلية، الذين كانوا أكفر من اليهود والنصارى، وأن قولهم يتضمن الكفر بجميع الكتب والرسل، كما قال الشيخ إبراهيم الجعبري، لما اجتمع بابن عربي ـ صاحب هذا الكتاب ـ فقال‏:‏ رأيته شيخًا نجسًا، يكذب بكل كتاب أنزله الله، وبكل نبي أرسله الله‏.‏

/وقال الفقيه أبو محمد بن عبد السلام ـ لما قدم القاهرة وسألوه عنه ـ قال‏:‏ هو شيخ سوء كذاب مقبوح، يقول بقدم العالم، ولا يحرم فرجا، فقوله‏:‏ يقول بقدم العالم، لأن هذا قوله، وهذا كفر معروف، فكفره الفقيه أبو محمد بذلك، ولم يكن بعد ظهر من قوله‏:‏ إن العالم هو الله، وإن العالم صورة الله، وهوية الله، فإن هذا أعظم من كفر القائلين بقدم العالم، الذين يثبتون واجب الوجود، ويقولون‏:‏ إنه صدر عنه الوجود الممكن‏.‏

وقال عنه من عاينه من الشيوخ‏:‏ إنه كان كذابًا مفتريا، وفي كتبه ـ مثل الفتوحات المكية وأمثالها ـ من الأكاذيب ما لا يخفى على لبيب‏.‏ هذا وهو أقرب إلى الإسلام من ابن سبعين، ومن القونوي، والتلمساني، وأمثاله من أتباعه، فإذا كان الأقرب بهذا الكفر ـ الذي هو أعظم من كفر اليهود والنصارى ـ فكيف بالذين هم أبعد عن الإسلام‏؟‏ ولم أصف عُشْر ما يذكرونه من الكفر‏.‏

ولكن هؤلاء الْتَبَس أمرهم على من لم يعرف حالهم، كما الْتَبَسَ أمر القرامطة الباطنية لما ادعوا أنهم فاطميون، وانتسبوا إلى التشيع، فصار المتبعون مائلين إليهم، غير عالمين بباطن كفرهم

ولهذا كان من مال إليهم أحد رجلين‏:‏ إما زنديقًا منافقًا، وإما جاهلا ضالا‏.‏

وهكذا هؤلاء الاتحادية‏:‏ فرؤوسهم هم أئمة كفر يجب قتلهم، ولا تقبل توبة/ أحد منهم، إذا أخذ قبل التوبة، فإنه من أعظم الزنادقة، الذين يظهرون الإسلام، ويبطنون أعظم الكفر، وهم الذين يفهمون قولهم، ومخالفتهم لدين المسلمين، ويجب عقوبة كل من انتسب إليهم، أو ذب عنهم، أو أثنى عليهم، أو عظم كتبهم، أو عرف بمساعدتهم ومعاونتهم، أو كره الكلام فيهم، أو أخذ يعتذر لهم بأن هذا الكلام لا يدرى ما هو، أو‏:‏ من قال‏:‏ إنه صنف هذا الكتاب، وأمثال هذه المعاذير، التي لا يقولها إلا جاهل، أو منافق، بل تجب عقوبة كل من عرف حالهم، ولم يعاون على القيام عليهم، فإن القيام على هؤلاء من أعظم الواجبات؛ لأنهم أفسدوا العقول والأديان على خلق من المشايخ والعلماء، والملوك والأمراء، وهم يسعون في الأرض فسادًا، ويصدون عن سبيل الله‏.‏

فضررهم في الدين أعظم من ضرر من يفسد على المسلمين دنياهم، ويترك دينهم كقطاع الطريق، وكالتتار الذين يأخذون منهم الأموال ويبقون لهم دينهم، ولا يستهين بهم من لم يعرفهم، فضلالهم وإضلالهم أعظم من أن يوصف، وهم أشبه الناس بالقرامطة الباطنية‏.‏

ولهذا هم يريدون دولة التتار، ويختارون انتصارهم على المسلمين، إلا من كان عاميًا من شيعهم وأتباعهم، فإنه لا يكون عارفًا بحقيقة أمرهم‏.‏

ولهذا يقرون اليهود والنصارى على ما هم عليه، ويجعلونهم على حق، كما يجعلون عباد الأصنام على حق، وكل واحدة من هذه من أعظم الكفر، ومن/ كان محسنا للظن بهم ـ وادعى أنه لم يعرف حالهم ـ عُرِّف حالهم، فإن لم يباينهم ويظهر لهم الإنكار، وإلا ألحق بهم وجعل منهم‏.‏

وأما من قال‏:‏ لكلامهم تأويل يوافق الشريعة، فإنه من رؤوسهم وأئمتهم، فإنه إن كان ذكيا فإنه يعرف كذب نفسه فيما قاله، وإن كان معتقدا لهذا باطنا وظاهرًا فهو أكفر من النصارى، فمن لم يكفر هؤلاء، وجعل لكلامهم تأويلا كان عن تكفير النصارى بالتثليث، والاتحاد أبعد، والله أعلم‏.‏