فصل: فصــل قال القاضي‏:‏ قال أحمد في رواية حنبل لم يزل الله متكلما عالما غفورا

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مجموع فتاوى ابن تيمية **


 فصــل

قال القاضي‏:‏ قال أحمد في رواية حنبل‏:‏ لم يزل الله متكلمًا عالمًا غفورًا‏.‏ وقال في رواية عبد الله‏:‏ لم يزل الله متكلمًا إذا شاء، ووجدتها في المحنة رواية حنبل لما سأله عبد الرحمن بن إسحاق قاضي المعتصم فلامه، فقال‏:‏ ما تقول في القرآن‏؟‏ قال‏:‏ فقلت‏:‏ ما تقول في العلم ‏؟‏ فسكت ‏.‏ فقلت لعبد الرحمن‏:‏ القرآن من علم الله، ومن زعم أن علم الله مخلوق فقد كفر بالله، قال‏:‏ فسألت عبد الرحمن فلم يرد على شيئًا، وقال لي عبد الرحمن‏:‏ كان الله ولا قرآن، فقلت‏:‏ كان الله ولا علم‏؟‏ فأمسك ‏.‏ ولو زعم أن الله كان ولا علم لكفر بالله‏.‏

ثم قال أبو عبد الله‏:‏ لم يزل الله عالمًا متكلمًا، يعبد الله بصفاته غير محدودة، ولا معلومة، إلا بما وصف به نفسه، ونرد القرآن إلى عالمه إلى الله فهو أعلم به، منه بدأ وإليه يعود‏.‏

وقال في موضع آخر‏:‏ سمعت أبا عبد الله يقول‏:‏ لم يزل الله متكلمًا، والقرآن كلام الله غير مخلوق، وعلى كل جهة، ولا يوصف الله بشىء أكثر مما وصف به نفسه‏.‏

وقال أبو بكر عبد العزيز ـ في الجزء الأول من ‏[‏كتاب السنة، في المقنع‏]‏ ـ لما سألوه إنكم إذا قلتم‏:‏ لم يزل متكلمًا كان ذلك عبثًا، فقال‏:‏ لأصحابنا قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ لم يزل متكلمًا كالعلم؛ لأن ضد الكلام الخرس، كما أن ضد العلم الجهل‏.‏

قال‏:‏ ومن أصحابنا من قال‏:‏ قد أثبت لنفسه أنه خالق، ولم يجز أن يكون خالقًا في كل حال بل قلنا‏:‏ إنه خلق في وقت إرادته أن يخلق، وإن لم يكن خالقا في كل حال، ولم يبطل أن يكون خالقًا، كذلك وإن لم يكن متكلمًا في كل حال لم يبطل أن يكون متكلمًا، بل هو متكلم خالق وإن لم يكن خالقا في كل حال ولا متكلمًا في كل حال‏.‏

قال القاضي أبو يعلى، في كتاب ‏[‏إيضاح البيان في مسألة القرآن‏]‏ لما أورد عليه هذا السؤال فقال‏:‏ نقول‏:‏ إنه لم يزل متكلمًا، وليس بمكلم ولا مخاطب ولا آمر، ولا ناه، نص عليه أحمد في رواية حنبل، وساق الكلام إلى أن ذكر عن أبي بكر ما حكاه في ‏[‏المقنع‏]‏ ثم قال‏:‏ لعل هذا القائل من أصحابنا يذهب إلى قول أحمد بن حنبل في رواية عبد الله‏:‏ لم يزل متكلمًا إذا شاء‏.‏

قال‏:‏ والقائل بهذا قائل بحدوث القرآن، وقد تأولنا كلام أحمد‏:‏ ‏[‏يتكلم إذا شاء‏]‏ في أول المسألة، ولا يشبه هذا وصفه بالخلق والرزق، لأن تلك الصفات يجب أن تقدر فيها ذلك؛ وذلك لأننا لو قدرنا وجود الفعل فيما لم يزل أفضى إلى قدم العالم، فأما الكلام فهو كالعلم‏.‏

وقال القاضي في أول المسألة‏:‏ قول أحمد‏:‏ ‏[‏لم يزل غفورًا‏]‏ بيان أن جميع الصفات قديمة، سواء كانت مشتقة من فعل كالغفران، والخلق والرزق، أو لم تكن مشتقة‏.‏ وقوله‏:‏ ‏(‏لم يزل متكلمًا إذا شاء‏)‏ معناه‏:‏ إذا شاء أن يسمعه‏.‏

قلت‏:‏ وطريقة القاضي هذه هي طريقة أصحابه وأصحابهم، وغيرهم‏:‏ كابن عقيل وابن الزاغوني‏.‏

وأما أكثر أهل الحديث من أصحاب أحمد وغيرهم، وكثير من أهل الكلام ـ أيضًا ـ فيخالفونه في ذلك، ويقولون في الفعل أحد قولين‏:‏

أحدهما ـ وهو القول الآخر للقاضي، الذي هو الصحيح عند أصحابنا ـ‏:‏ إما أن الفعل قديم والمفعول مخلوق، كما نسلم ذلك لهم في الإرادة، والقول المكون‏:‏ أي الإرادة قديمة، والمراد مُحدَث، وكما أن المنازع يقول‏:‏ التكوين قديم فالمكون مخلوق‏.‏

والثاني‏:‏ أن الفعل نفسه عندهم ـ كالقول كلاهما ـ غير مخلوق، مع أنه يكون في حال دون حال؛ إذ هو قائم بالله، والمخلوق لا يكون إلا منفصلا عن الله‏.‏

ويقولون‏:‏ إن قول أحمد موافق لما قلناه؛ لأنه قال‏:‏ لم يزل متكلمًا إذا شاء ولم يقل‏:‏ لم يزل مكلمًا إذا شاء، والمتعلق بالمشيئة ـ عند من يقول‏:‏ إنه قديم واجب ـ إنما هو التكليم الذي هو فعل جائز لا التكلم‏.‏

فبين ذلك أن أحمد ـ رضي الله عنه ـ قال في الموضع الآخر‏:‏ لم يزل الله متكلمًا عالمًا غفورًا‏.‏ فذكر الصفات الثلاث‏:‏ الصفة التي هي قديمة واجبة وهي العلم، والتي هي جائزة متعلقة بالمشيئة وهي المغفرة ‏.‏ فهذان متفق عليهما‏.‏

وذكر ـ أيضًا ـ التكلم، وهو القسم الثالث، الذي فيه نزاع، وهو يشبه العلم من حيث هو وصف قائم به، لا يتعلق بالمخلوق، ويشبه المغفرة من حيث هو متعلق بمشيئته، كما فسره في الموضع الآخر‏.‏

فعلم أن قدمه عنده‏:‏ أنه لم يزل إذا شاء تكلم، وإذا شاء سكت، لم يتجدد له وصف القدرة على الكلام التي هي صفة كمال، كما لم يتجدد له وصف القدرة على المغفرة، وإن كان الكمال هو أن يتكلم إذا شاء، ويسكت إذا شاء‏.‏

وأما قول القاضي‏:‏ إن هذا قول بحدوثه، فيجيبون عنه بجوابين‏:‏

أحدهما‏:‏ ألا يسمى محدثًا أن يسمى حديثًا، إذ المحدث هو المخلوق المنفصل، وأما الحديث فقد سماه الله حديثًا، وهذا قول الكرامية، وأكثر أهل الحديث، والحنبلية‏.‏

والثاني‏:‏ أنه يسمى محدثًا، كما في قوله‏:‏ ‏{‏مِّن ذِكْرٍ مَّن رَّبِّهِم مُّحْدَثٍ‏}‏‏[‏الأنبياء‏:‏2‏]‏ وليس بمخلوق ‏.‏ وهذا قول كثير من الفقهاء، وأهل الحديث والكلام، كداود بن علي الأصبهاني ـ صاحب المذهب ـ لكن المنقول عن أحمد إنكار ذلك، وقد يحتج به لأحد قولي أصحابنا ‏.‏

قال المروذي‏:‏ قال أبو عبد الله‏:‏ مَنْ داود بن علي الأصبهاني‏؟‏ ـ لا فرج الله عنه ـ جاءني كتاب محمد بن يحيى النيسابوري، أن داود الأصبهاني، قال كذبًا‏:‏ إن القرآن محدث، وذكر أبو بكر الخلال هذه الرواية في ‏[‏كتاب السنة‏]‏، وقال عبد الله بن أحمد‏:‏ استأذن داود على أبي فقال‏:‏ من هذا‏؟‏ داود‏؟‏ لا جبر ود الله قلبه، ودَوَّد الله قبره، فمات مُدوَّدًا‏.‏

والإطلاقات قد توهم خلاف المقصود، فيقال‏:‏ إن أردت بقولك‏:‏ محدث أنه مخلوق منفصل عن الله ـ كما يقوله الجهمية، والمعتزلة، والنجارية ـ فهذا باطل لا نقوله، وإن أردت بقولك‏:‏ إنه كلام تكلم الله به بمشيئته، بعد أن لم يتكلم به بعينه ـ وإن كان قد تكلم بغيره قبل ذلك، مع أنه لم يزل متكلمًا إذا شاء ـ فإنا نقول بذلك‏.‏ وهو الذي دل عليه الكتاب و السنة، وهو قول السلف، وأهل الحديث، وإنما ابتدع القول الآخر الكُلابيَّة والأشعرية، ولكن أهل هذا القول لهم قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنه تكلم بعد أن لم يكن متكلمًا، وإن كان قادرًا على الكلام، كما أنه خلق السموات والأرض، بعد أن لم يكن خلقهما، وإن كان قادرًا على الخلق‏.‏ وهذا قول الكَرَّامية وغيرهم ممن يقول‏:‏ إنه تَحُلُّه الحوادث، بعد أن لم تك تحله، وقول من قال‏:‏ إنه محدث يحتمل هذا القول، وإنكار أحمد يتوجه إليه‏.‏

والثاني‏:‏ أنه لم يزل متكلمًا يتكلم إذا شاء، وهذا هو الذي يقوله من يقوله من أهل الحديث‏.‏

وأصحاب هذا القول قد يقولون‏:‏ إن كلامه قديم، وأنه ليس بحادث ولا مُحدَث، فيريدون نوع الكلام؛ إذ لم يزل يتكلم إذا شاء، وإن كان الكلام العيني يتكلم به إذا شاء، ومن قال‏:‏ ليست تحل ذاته الحوادث، فقد يريد به هذا المعنى، بناء على أنه لم يحدث نوع الكلام في كيفية ذاته‏.‏

وقال أبو عبد الله بن حامد في ‏[‏أصوله‏]‏‏:‏ ومما يجب الإيمان به والتصديق أن الله يتكلم، وأن كلامه قديم وأنه لم يزل متكلمًا في كل أوقاته بذلك موصوفًا، وكلامه قديم غير محدث، كالعلم والقدرة، وقد يجىء على المذهب أن يكون الكلام صفة متكلم لم يزل موصوفًا بذلك، ومتكلمًا كلما شاء وإذا شاء، ولا نقول‏:‏ إنه ساكت في حال ومتكلم في حال، من حين حدوث الكلام‏.‏

والدليل على إثباته متكلمًا على ما وصفناه‏:‏ كتاب الله، وسنة نبيه، وإجماع أهل الحق، إلا طائفة الضلال المعتزلة وغيرهم من المتكلمين، فإنهم أبوا أن يكون الله متكلمًا، وذكر بعض أدلة الكتاب والسنة‏.‏ ثم قال بعد ذلك‏:‏

 فَصْــل

ولا خلاف عن أبي عبد الله، أن الله كان متكلمًا بالقرآن قبل أن يخلق الخلق، وقبل كل الكائنات موجودًا، وأن الله فيما لم يزل متكلمًا كيف شاء وكما شاء، وإذا شاء أنزل كلامه، وإذا شاء لم ينزله‏.‏

وأبى ذلك المعتزلة، فقالوا‏:‏ حادث بعد وجود المخلوقات‏.‏

قلت‏:‏ فقد حكى القولين ابن حامد ـ أيضًا ـ مع أنه يذكر الاتفاق عنه، على أنه لم يزل متكلمًا كيف شاء وكما شاء، لكنه نفى على القولين أن يقال‏:‏ هو ساكت في حال، ومتكلم في حال، فأثبت أن يقال‏:‏هو متكلم كلما شاء، وإذا شاء، ولا يقال‏:‏ إنه ساكت في حال‏.‏

وهكذا تقول الكَرَّامية‏:‏ إنه لا يوصف بالسكوت والنزول فيما لم يزل، لكن بين كلامه وكلامهم فرق، كما سأحكيه‏.‏

قال أبو عبد الله بن حامد في صفات الفعل‏:‏

 فصـــل

ومما يجب على أهل الإيمان التصديق به‏:‏ أن الحق ـ سبحانه ـ ينزل إلى سماء الدنيا في كل ليلة، وينزل يوم عرفة، من غير تكييف ولا مثل، ولا تحديد ولا شبه، وقال‏:‏ هذا نص إمامنا‏.‏

قال يوسف بن موسى‏:‏ قلت لأبي عبد الله‏:‏ ينزل الله إلى سماء الدنيا كيف شاء من غير وصف‏؟‏ قال‏:‏ نعم، وقال في مسألة ‏[‏الاستواء على العرش‏]‏ فيما رواه عنه حنبل‏:‏ ربنا على العرش بلا حد ولا صفة‏.‏

وقال في رواية المروذي‏:‏ قيل له عن ابن المبارك‏:‏ يعرف الله على العرش بحد‏؟‏ قال‏:‏ بلغني ذلك وأعجبه، ثم قال أبوعبد الله‏:‏ ‏{‏هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ اللّهُ فِي ظُلَلٍ مِّنَ الْغَمَامِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏210‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏وَجَاء رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا‏}‏ ‏[‏الفجر‏:‏22‏]‏‏.‏

قال ابن حامد‏:‏ فالمذهب على ما ذكرنا لا يختلف أن ذاته تنزل، ورأيت بعض أصحابنا يروى عن أبي عبد الله في الإتيان أنه قال‏:‏ يأتي بذاته، قال‏:‏ وهذا على حد التوهم من قائله، وخطأ من إضافته إليه، كما قررنا عنه من النص‏.‏

قال ابن حامد‏:‏ فإذا تقرر هذا الأصل في نزول ذاته من غير صفة ولا حد، فإنا نقول‏:‏ إنه بانتقال من مكانه الذي هو فيه، إلا أن طائفة من أصحابنا، قالت‏:‏ ينزل من غير انتقال من مكانه كيف شاء، قال‏:‏ والصحيح ما ذكرنا لا غيره‏.‏

قال‏:‏ وقد أبى أصل ‏[‏هذه المسألة‏]‏ أهل الاعتزال، فقالوا‏:‏ لا نزول له ولا حركة، ولا له من مكانه زوال، وهو بكل مكان على ما كان، قال‏:‏ وهذا منهم جهل قبيح لنص الأخبار‏.‏ وساق بعض الأحاديث المأثورة في ذلك قال‏:‏

 فصــل

ومما يجب التصديق به، والرضا‏:‏ مجيئه إلى الحشر يوم القيامة بمثابة نزوله إلى سمائه، وذلك بقوله‏:‏ ‏{‏وَجَاء رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا‏}‏ ‏[‏الفجر‏:‏22‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاء‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏69‏]‏‏.‏ قال‏:‏ وهذا دليل على أنه إذا جاءهم وجلس على كرسيه أشرقت الأرض كلها بأنواره‏.‏

وعبد العزيز بن يحيى الكناني صاحب ‏[‏الحيدة‏]‏ و‏[‏الرد على الجهمية والقدرية‏]‏ كلامه في الحيدة والرد على الجهمية يحتمل ذلك؛ فإن مضمون الحيدة أنه أبطل احتجاج بشر المريسي بقوله‏:‏ ‏{‏اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ‏}‏ ‏[‏ الرعد‏:‏16، الزمر‏:‏62‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏3‏]‏‏.‏ ثم إنه احتج على المريسي بثلاث حجج‏:‏

الأولى‏:‏ أنه قال‏:‏ إذا كان مخلوقًا فإما أن تقول‏:‏ خلقه في نفسه، أو خلقه في غيره، أو خلقه قائمًا بنفسه وذاته‏.‏

قال‏:‏ فإن قال‏:‏ خلق كلامه في نفسه فهذا محال، ولا تجد السبيل إلى القول به من قياس ولا نظر، ولا معقول ؛ لأن الله لا يكون مكانًا للحوادث، ولا يكون فيه شىء مخلوق، ولا يكون ناقصًا فيزيد فيه شىء إذا خلقه ـ تعالى الله عن ذلك، وجل وتعظم‏.‏

وإن قال‏:‏ خلقه في غيره فيلزمه في النظر والقياس، أن كل كلام خلقه الله في غيره فهو كلام الله، لا يقدر أن يفرق بينهما‏.‏ أفيجعل الشعر كلامًا لله‏؟‏ ويجعل قول القَذَر كلاما لله‏؟‏ ويجعل كلام الفُحْش والكفر كلامًا لله‏؟‏ وكل قول ذمه الله وذم قائله كلامًا لله‏؟‏ وهذا محال لا يجد السبيل إليه، ولا إلى القول به لظهور الشناعة، والفضيحة والكفر على قائله ‏.‏

وإن قال‏:‏ خلقه قائمًا بذاته ونفسه، فهذا هو المحال الباطل الذي لا يجد إلى القول به سبيلاً، في قياس ولا نظر، ولا معقول، لأنه لا يكون الكلام إلا من متكلم، كما لا تكون الإرادة إلا من مريد، ولا العلم إلا من عالم، ولا القدرة إلا من قدير، ولا رؤى ولا يرى قط كلام قط قائم بنفسه يتكلم بذاته‏.‏

فلما استحال من هذه الجهات الثلاث أن يكون مخلوقا، ثبت أنه صفة لله وصفات الله كلها غير مخلوقة‏.‏

والحجة الثانية‏:‏ اتفق هو وبشر على أنه كان الله ولا شىء، وكان ولما يفعل ولم يخلق شيئًا‏.‏

قال له‏:‏ فبأي شىء أحدث الأشياء‏؟‏ قال‏:‏ أحدثها بقدرته التي لم تزل‏.‏

قال عبد العزيز‏:‏ فقلت‏:‏ صدقت أحدثها بقدرته التي لم تزل؛ أفليس تقول‏:‏ إنه لم يزل قادرًا ‏؟‏ قال‏:‏ بلى‏.‏ فقلت له‏:‏ أفتقول‏:‏ إنه لم يزل يفعل‏؟‏ قال‏:‏ لا أقول هذا‏.‏ قلت له‏:‏ فلابد أن يلزمك أن تقول‏:‏ إنه خلق بالفعل الذي كان عن القدرة، وليس الفعل هو القدرة؛ لأن القدرة صفة لله، ولا يقال‏:‏ صفة الله هي الله، ولا هي غير الله‏.‏

قال بشر‏:‏ ويلزمك أنت ـ أيضًا ـ أن تقول‏:‏ إن الله لم يزل يفعل ويخلق‏.‏ فإذا قلت ذلك ثبت أن المخلوق لم يزل مع الله‏.‏

فقلت له‏:‏ ليس لك أن تحكم علي، وتلزمني ما لا يلزمني وتحكى عني ما لم أقل أنه لم يزل الخالق يخلق، ولم يزل الفاعل يفعل فتلزمني ما قلت، وإنما قلت‏:‏ إنه لم يزل الفاعل سيفعل، ولم يزل الخالق سيخلق ؛ لأن الفعل صفة لله يقدر عليه، ولا يمنعه منه مانع‏.‏

قال بشر‏:‏ وأنا أقول‏:‏ إنه أحدث الأشياء بقدرته‏.‏ فقل أنت ما شئت‏.‏

قال عبد العزيز‏:‏ فقلت‏:‏ يا أمير المؤمنين، قد أقر بشر أن الله كان ولا شىء ؛وأنه أحدث الأشياء بعد أن لم تكن شيئًا بقدرته، وقلت‏:‏ إما أنه أحدثها بأمره وقوله عن قدرته، فلا يخلو يا أمير المؤمنين أن يكون أول خلق خلقه الله بقول قاله، أو بإرادة أرادها، أو بقدرة قدرها، وأي ذلك كان فقد ثبت أن هنا إرادة ومريد ومراد، وقول وقائل ومقول له، وقدرة وقادر ومقدور عليه، وذلك كله متقدم قبل الخلق، وما كان قبل الخلق متقدم فليس هو من الخلق‏.‏

قلت‏:‏ قوله‏:‏ قبل الخلق هو المريد القائل القادر، وإرادته وقوله وقدرته، وأما المراد المقدور عليه المقول له‏:‏ فإما أن يريد ثبوته في العلم بقوله له‏:‏ كن أو لم يدخل في اللفظ وهذا الكلام يقتضي أن‏.‏‏.‏‏.‏ ‏[‏سقط من الأصل مقدار ثلاث كلمات‏]‏ وقد قال‏:‏ لم يزل سيفعل، وقد فسره ـ أيضًا ـ بفعله، كما تقدم‏.‏

وذكر أبوعبد الله الحاكم في تاريخ نيسابور في ترجمة الإمام محمد بن إسحاق بن خزيمة قضية طويلة، في الخلاف الذي وقع بينه وبين بعض أصحابه‏:‏ مثل أبى على الثقفي، وأبي بكر أحمد بن إسحاق الضُّبَعِي، وأبى بكر بن أبي عثمان الزاهد، وأبي محمد بن منصور القاضي، فذكر أن طائفة رفعوا إلى الإمام أنه قد نبغ طائفة من أصحابه يخالفونه وهو لا يدري، وإنهم على مذهب الكُلابية، وأبو بكر الإمام شديد على الكلابية‏.‏

قال الحاكم‏:‏ فحدثني أبو بكر أحمد بن يحيى المتكلم، قال‏:‏ اجتمعنا ليلة عند بعض أهل العلم، وجرى ذكر كلام الله، أقديم لم يزل، أو يثبت عند إخباره ـ تعالى ـ أنه تكلم به‏؟‏ فوقع بيننا في ذلك خوض‏.‏ قال جماعة منا‏:‏ إن كلام الباري قديم لم يزل، وقال جماعة‏:‏ إن كلامه قديم غير أنه لا يثبت إلا بإخباره بكلامه‏.‏

فبكرت أنا إلى أبي علي الثقفي وأخبرته بما جري، فقال‏:‏ من أنكر أنه لم يزل، فقد اعتقد أن كلام الله محدث، وانتشرت هذه المسألة في البلد‏.‏ وذهب منصور الطوسي في جماعة معه إلى أبي بكر محمد بن إسحاق، وأخبروه بذلك؛ حتى قال منصور‏:‏ ألم أقل للشيخ‏:‏ إن هؤلاء يعتقدون مذهب الكُلاَّبية وهذا مذهبهم‏؟‏ فجمع أبو بكر أصحابه وقال‏:‏ ألم أنهكم غير مرة عن الخوض في الكلام ولم يزدهم على هذا ذلك اليوم‏.‏

ثم ذكر أنه بعد ذلك خرج على أصحابه، وأنه صنف في الرد عليهم، وأنهم ناقضوه ونسبوه إلى القول بقول جَهْم في أن القرآن مُحْدَث، وجعلهم هو كُلاَّبية‏.‏

قال الحاكم‏:‏ سمعت أبا سعيد عبد الرحمن بن أحمد المقري، يقول‏:‏ سمعت أبا بكر محمد بن إسحاق يقول‏:‏ الذي أقول به‏:‏ أن القرآن كلام الله، ووحيه، وتنزيله غير مخلوق؛ ومن قال‏:‏ إن القرآن أو شيئًا منه وعن وحيه وتنزيله مخلوق ‏.‏ أو يقول‏:‏ إن الله لا يتكلم بعد ما كان تكلم به في الأزل، أو يقول‏:‏ إن أفعال الله مخلوقة، أو يقول‏:‏ إن القرآن محدث، أو يقول‏:‏ إن شيئًا من صفات الله صفات الذات، أو اسما من أسماء الله مخلوق ـ فهو عندي جهمي يستتاب؛ فإن تاب وإلا ضربت عنقه، وألقى على بعض المزابل، هذا مذهبي، ومذهب من رأيت من أهل الأثر في الشرق والغرب، من أهل العلم‏.‏

ومن حكى عني خلاف هذا فهو كاذب باهت، ومن نظر في كتبي المصنفة في العلم ظهر له وبان أن الكُلابيَّة ـ لعنهم الله ـ كذبة فيما يحكون عني مما هو خلاف أصلي وديانتي، قد عرف أهل الشرق والغرب؛ أنه لم يصنف أحد في التوحيد، وفي القدر وفي أصول العلم، مثل تصنيفي ؛ فالحاكي خلاف ما في كتبي المصنفة كذبة فسقة‏.‏

وذكر عن ابن خزيمة أنه قال‏:‏ زعم بعض جهلة هؤلاء الذين نبغوا في سنيننا هذه‏:‏ أن الله لا يكرر الكلام، فلا هم يفهمون كتاب الله؛ أن الله قد أخبر في نص الكتاب في مواضع أنه خلق آدم، وأنه أمر الملائكة بالسجود له، فكرر هذا الذكر في غير موضع، وكرر ذكر كلامه لموسى مرة بعد أخرى،وكرر ذكر عيسى ابن مريم في مواضع،وحمد نفسه في مواضع فقال‏:‏ ‏{‏الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏1‏]‏،‏{‏الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ‏}‏ الآية‏[‏الأنعام‏:‏ 1‏]‏، و‏{‏الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ‏}‏‏[‏سبأ‏:‏1‏]‏،وكرر زيادة على ثلاثين كرة‏:‏‏{‏فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ‏}‏ ‏[‏الرحمن‏:‏13‏]‏،ولم أتوهم أن مسلمًا يتوهم أن الله لا يتكلم بشىء مرتين، وهذا مقالة من زعم أن كلام الله مخلوق، ويتوهم أنه لا يجوز أن يقول‏:‏ خلق الله شيئًا واحدًا مرتين‏.‏

وقال الحاكم‏:‏ سمعت أبا بكر أحمد بن إسحاق يقول‏:‏ لما وقع من أمرنا ما وقع، ووجد بعض المخالفين ـ يعني المعتزلة ـ الفرصة في تقرير مذهبهم بحضرتنا، واغتنم بعض الموافقين السعي في فساد الحال ـ انتصب أبو عمرو الحيرِيّ للتوسط فيما بين الجماعة بلا ميل، وذكر أنهم اجتمعوا بداره‏.‏

وقال أبو علي الثقفي للإمام‏:‏ ما الذي أنكرت من مذاهبنا أيها الإمام حتى نرجع عنه‏؟‏ قال‏:‏ ميلكم إلى مذهب الكُلاَّبية، فقد كان أحمد بن حنبل من أشد الناس على عبد الله بن سعيد، وعلى أصحابه، مثل الحارث وغيره، حتى طال الخطاب بينه وبين أبي علي في هذا الباب‏.‏

فقلت‏:‏ قد جمعت أنا أصول مذاهبنا في طبق، فأخرجت إليه الطبق وقلت‏:‏ تأمل ما جمعته بخطى، وبينته من هذه المسائل، فإن كان فيها شىء تنكره، فبين لنا وجهه حتى نرجع عنه فأخذ مني ذلك الطبق وما زال يتأمله وينظر فيه حتى وقف عليه، ثم رفع رأسه وقال‏:‏ لست أرى شيئًا لا أقول به‏.‏ وكله مذهبي، وعليه رأيت مشائخي‏.‏

وسألته أن يثبت بخطه آخر تلك الأحرف أنه مذهبه؛ ثم قصده أبو فلان وفلان وفلان، وقالوا‏:‏إن الأستاذ لم يتأمل ما كتبه بخطه، وقد غدروا بك وغيروا صورة الحال‏.‏

قال الحاكم‏:‏ و هذه نسخة الخط، يقول أبو بكر أحمد بن إسحاق، ويحيى بن منصور‏:‏ كلام الله صفة من صفات ذاته، ليس شىء من كلام الله خلق ولامخلوق، ولا فعل ولا مفعول، ولا مُحدَث ولا حَدَث ولا أحداث، فمن زعم أن شيئًا منه مخلوق أو محدَث؛ أو زعم أن الكلام من صفة الفعل ؛ فهو جهمي ضال مبتدع‏.‏

وأقول‏:‏ لم يزل الله متكلمًا، ولا يزال متكلمًا،والكلام له صفة ذات، لا مثل لكلامه من كلام خلقه، ولا نفاد لكلامه، لم يزل ربنا بكلامه، وعلمه وقدرته، وصفات ذاته واحدًا، لم يزل ولا يزال‏.‏

كلم ربنا أنبياءه وكلم موسى، والله الذي قال له‏:‏ ‏{‏إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي‏}‏ ‏[‏طه‏:‏14‏]‏، ويكلم أولياءه يوم القيامة،ويحييهم بالسلام، قولاً في دار عدنه، وينادي عباده فيقول‏:‏ ‏{‏مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏65‏]‏، ويقول‏:‏ ‏{‏لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏16‏]‏‏.‏

ويكلم أهل النار بالتوبيخ والعقاب، ويقول لهم‏:‏ ‏{‏اخْسَؤُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏108‏]‏‏.‏

ويخلو الجبار بكل أحد من خلقه فيكلمه، ليس بينه وبين أحد منهم ترجمان، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏ ويكلم ربنا جهنم فيقول لها‏:‏ ‏{‏هَلِ امْتَلَأْتِ‏}‏‏؟‏، وينطقها فتقول‏:‏‏{‏هَلْ مِن مَّزِيدٍ‏}‏‏؟‏ ‏[‏ق‏:‏30‏]‏‏.‏

فمن زعم أن الله لم يتكلم إلا مرة، ولم يتكلم إلا ما تكلم به، ثم انقضى كلامه كفر بالله، بل لم يزل الله متكلمًا، ولا يزال متكلمًا، لا مثل لكلامه؛ لأنه صفة من صفات ذاته، نفى الله المثل عن كلامه كما نفى المثل عن نفسه ونفى النفاد عن كلامه كما نفى الهلاك عن نفسه فقال‏:‏ ‏{‏كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏88‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏109‏]‏‏.‏

كلام الله غير بائن عن الله، ليس هو دونه، ولا غيره ولا هو، بل هو صفة من صفات ذاته كعلمه الذي هو صفة من صفات ذاته، لم يزل ربنا عالمًا ولا يزال عالمًا، ولم يزل متكلمًا ولا يزال يتكلم، فهو الموصوف بالصفات العلى؛ لم يزل بجميع صفاته التي هي صفات ذاته واحدًا، ولا يزال‏:‏ ‏{‏وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ‏}‏ ‏[‏الملك‏:‏14‏]‏‏.‏

كلم موسى فقال له‏:‏ ‏{‏إِنِّي أَنَا رَبُّكَ‏}‏ ‏[‏طه‏:‏12‏]‏ فمن زعم أن غير الله كلمه كفر بالله، فإن الله ينزل كل ليلة إلى سماء الدنيا فيقول‏:‏ ‏(‏هل من داع فأجيبه‏؟‏ هل من تائب فأتوب عليه‏؟‏‏)‏ فمن زعم أن علمه ينزل أو أمره ضل، بل ينزل إلى سماء الدنيا المعبود ـ سبحانه ـ الذي يقال له‏:‏ يا رحمن يا رحيم‏!‏‏!‏

فيكلم عباده بلا كيف ‏{‏الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 5‏]‏، بلا كيف، لا كما قالت الجهمية‏:‏ إنه على الملك احتوى، ولا استولى، بل استوى على عرشه بلا كيف، وهو الله الذي له الأسماء الحسنى، فمن زعم أن اسمًا من أسمائه مخلوق أو مُحْدَث فهو جهمي، والله يخاطب عباده عودًا وبدءًا، ويعيد عليهم قصصه وأمره ونهيه، قرنًا فقرنًا من زعم أن الله لا يخاطب عباده، ولا يعيد عليهم قصصه وأمره ونهيه، عودًا وبدءًا، فهو ضال مبتدع، بل الله بجميع صفات ذاته واحد لم يزل ولا يزال، وما أضيف إلى الله من صفات فعله مما هو غير بائن عن الله فغير مخلوق، وكل شىء أضيف إلى الله بائن عنه دونه مخلوق‏.‏

وأقول‏:‏ أفعال العباد كلها مخلوقة، وأقول‏:‏ الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص، وخير الناس بعد الرسول صلى الله عليه وسلم أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان، ثم عليّ‏.‏

وأقول‏:‏ إن أهل الكبائر في مشيئة الله إذا ماتوا، إن شاء عذبهم، ثم غفر لهم، وإن شاء غفر لهم من غير تعذيب‏.‏

وأخبار الآحاد مقبولة إذا نقلها العدول، وهي توجب العمل، وأخبار التواطؤ توجب العلم والعمل‏.‏

وصورة خط الإمام ابن خزيمة‏:‏ يقول محمد بن إسحاق‏:‏ أقر عندي أبو بكر أحمد ابن إسحاق، وأبو محمد يحيى بن منصور بما تضمن بطن هذا الكتاب، وقد ارتضيت ذلك أجمع، وهو صواب عندي‏.‏

قال الحاكم‏:‏ سمعت أبا الحسن علي بن أحمد البُوشْنَجِيّ الزاهد يقول في ضمن قصة‏:‏ لما انتهى إلينا ما وقع بين مشائخ نيسابور من الخلاف، خرجت من وطني حتى قصدت نيسابور، فاجتمع عليّ جماعة يسألون عن تلك المسائل،فلم أتكلم فيها بقليل ولا كثير‏.‏

ثم كتبت‏:‏ القول ما قاله أبو علي ‏.‏ ودخلت الرَّيَّ على عبد الرحمن بن أبي حاتم‏.‏ فأخبرته بما جرى في نيسابور بين أبي بكر وأصحابه، فقال‏:‏ ما لأبي بكر والكلام‏؟‏ ‏!‏ إنما الأوْلى بنا وبه ألا نتكلم فيما لم نعلمه‏.‏ فخرجت من عنده حتى دخلت على أبي العباس الفلاني، فشرح لي تلك المسائل شرحًا واضحًا، وقال‏:‏ كان بعض القدرية من المتكلمين دفع إلى محمد بن إسحاق، فوقع لكلامه عنده قبول‏.‏

ثم ذكر أنه عرض تلك المسائل على من وجده ببغداد من الفقهاء والمتكلمين، فتابعوا أبا العباس على مقالته، واغتنموا لأبي بكر بن إسحاق فيما أظهره، وأنه بعد ذلك قدم من نيسابور أبو عمرو النجار، فكتب لأبي بكر محمد بن إسحاق إلى جماعة من العلماء في تلك المسائل، وإنهم كانوا يرفعون من خالف أبا بكر بن خزيمة إلى السلطان‏.‏

قال الحاكم‏:‏ سمعت أبا علي محمد بن إسحاق الأبيوردي يقول‏:‏ حضرت قرية فلانة في تسليم لصغير ‏[‏كذا بالأصل رسم هذه الكلمات‏]‏ اتباعها عبد الله بن حمشاد من بني فلان، وحضرها جماعة من أعيان البلد، وكان قد حضرها إسحاق بن أبي الفرد والى نيسابور، فأقرأنا كتاب حمويه ابن علي إليه بأن يمتثل فيهم أمر أبي بكر محمد بن إسحاق بن خزيمة من النفي، والضرب والحبس‏.‏

قال‏:‏ فقام عبد الله بن حمشاد من ذلك المجلس فقال‏:‏ طوباهم إن كان ما يقال مكذوبًا عليهم‏.‏ قال أبو علي‏:‏ ثم قال لي عبد الله بن حمشاد مِنْ غَدِ ذلك اليوم‏:‏ إني رأيت البارحة في المنام كأن أحمد بن السري الزاهد المروزي لكمني برجله، ثم قال‏:‏ كأنك في شك من أمور هؤلاء الكُلاَّبيّة، قال‏:‏ ثم نظر إلى محمد بن إسحاق فقال‏:‏ ‏{‏هَـذَا بَلاَغٌ لِّلنَّاسِ وَلِيُنذَرُواْ بِهِ وَلِيَعْلَمُواْ أَنَّمَا هُوَ إِلَـهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ‏}‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏ 52‏]‏، وذكر الحاكم‏:‏ سمعت أبا محمد الأنماطي العبد الصالح، يقول‏:‏ لما استحكمت تلك الوقعة، وصار لا يجتمع عشرة في البلد إلا وقع بينهم تشاجر فيه، وصار أكثر العوام يتضاربون فيه، خرج أبوعمرو الحِيري إلى الرَّيَّ والأمير الشهيد بها، حتى ينجز كتبًا إلى خليفته‏.‏ كتاب إلى أبي بكر بن إسحاق بأن ينفي من البلد الأربعة الذين خالفوا أبا بكر‏.‏ ثم ذكر أنهم عقدوا لهم مجلسًا‏.‏

وقال شيخ الإسلام أبو إسماعيل عبد الله بن محمد الأنصاري، في اعتقاد أهل السنة وما وقع عليه إجماع أهل الحق من الأمة‏.‏

 باب القول في القرآن

اعلم أن الله متكلم قائل، مادح نفسه بالتكلم، إذ عاب الأصنام والعجل أنها لا تتكلم، وهو متكلم كلما شاء تكلم بكلام لا مانع له ولا مكره، والقرآن كلامه هو تكلم به، وقد تأول ابن عقيل كلام شيخ الإسلام بنحو ما تأول به القاضي كلام أحمد‏.‏

وقال شيخ الإسلام ـ أيضًا في كتاب ‏[‏مناقب الإمام أحمد بن حنبل‏]‏ في باب الإشارة عن طريقته في الأصول، لما ذكر كلامه في مسائل القرآن وترتيب البدع التي ظهرت فيه وأنهم قالوا أولا‏:‏ هو مخلوق، وجرت المحنة العظيمة ثم ظهرت مسألة اللفظية بسبب حسين الكرابيسي وغيره‏.‏

إلى أن قال‏:‏ ثم جاءت طائفة فقالت‏:‏ لا يتكلم بعد ما تكلم، فيكون كلامه حادثًا‏.‏ قال‏:‏ وهذه سَخَارَة ‏[‏أي‏:‏ جهالة‏.‏ انظر‏:‏ القاموس ، مادة ‏:‏ سخر‏]‏ أخرى تقذي في الدين غير عين واحدة، فانتبه لها أبو بكر بن إسحاق اللنجرودي بن خزيمة وكانت ـ حينئذ ـ نيسابور دار الآثار تُمَدُّ إليها الرِّقاب وتُشَدُّ إليها الرِّكاب، ويجْلَب منها العلم‏.‏

وما ظنك بمجالس يحبس عنها الثقفي، والضُّبَعي، مع ما جمعا من الحديث والفقه، والصدق، والورع، واللسان، والتثبيت، والقدر، والمحفل، لا يسرون بالكلام، واشتمام لأهله، فابن خزيمة في بيت، ومحمد بن إسحاق السراج في بيت، وأبو حامد بن الشرقي في بيت‏.‏

قال شيخ الإسلام‏:‏ فطار لتلك الفتنة ذاك الإمام أبو بكر، فلم يزل يصيح بتشويهها، ويصنف في ردها، كأنه منذر جيش، حتى دون في الدفاتر وتمكن في السرائر، ولقن في الكتاتيب ونقش في المحاريب‏:‏ أن الله متكلم إن شاء تكلم وإن شاء سكت، فجزى الله ذلك الإمام، وأولئك النفر الغر ـ عن نصرة دينه، وتوقير نبيه ـ خيرًا‏.‏

قلت‏:‏ في حديث سلمان عن النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏الحلال ما أحل الله في كتابه، والحرام ما حرم الله في كتابه، وما سكت عنه فهو مما عفا عنه‏)‏ رواه أبو داود‏.‏

وفي حديث أبي ثَعْلَبَةَ عن النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إن الله فرض فرائض فلا تُضَيِّعوها، وحدد حدودًا فلا تعتدوها، وحرم محارم فلا تنتهكوها، وسكت عن أشياء رحمة لكم من غير نِسْيَان فلا تسألوا عنها‏)‏‏.‏

ويقول الفقهاء في دلالة المنطوق والمسكوت، وهو ما نطق به الشارع،وهو الله ورسوله، وما سكت عنه‏:‏ تارة تكون دلالة السكوت أولى بالحكم من المنطوق، وهو مفهوم الموافقة، وتارة تخالفه وهو مفهوم المخالفة، وتارة تشبهه وهو القياس المحض‏.‏

فثبت بالسنة والإجماع أن الله يوصف بالسكوت، لكن السكوت يكون تارة عن التكلم، وتارة عن إظهار الكلام وإعلامه، كما قال في الصحيحين‏:‏ عن أبي هريرة‏:‏ يا رسول الله، أرأيتك سكوتك بين التكبير والقراءة ماذا تقول ‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏أقول‏:‏اللهم باعد بيني وبين خَطَاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب‏)‏ إلى آخر الحديث‏.‏

فقد أخبره أنه ساكت، وسأله ماذا تقول ‏؟‏ فأخبره أنه يقول في حال سكوته، أي سكوته عن الجهر والإعلان، لكن هذان المعنيان المعروفان في السكوت لا تصح على قول من يقول‏:‏ إنه متكلم كما أنه عالم، لا يتكلم عند خطاب عباده بشىء، وإنما يخلق لهم إدراكًا ليسمعوا كلامه القديم، سواء قيل‏:‏هو معنى مجرد، أو معنى وحروف، كما هو قول ابن كُلاَّب والأشعري، ومن قال بذلك من الفقهاء وأهل الحديث والصوفية من الحنبلية وغيرهم‏.‏

فهؤلاء إما أن يمنعوا السكوت وهو المشهور من قولهم، أو يطلقوا لفظه ويفسروه بعدم خلق إدراك للخلق يسمعون به الكلام القديم، والنصوص تبهرهم، مثل قوله‏:‏ ‏(‏إذا تكلم الله بالوحي سمع أهل السماء كجَرِّ السلسلة على الصَّفَا‏)‏‏.‏

وقول النبي صلى الله عليه وسلم ـ لما صلى بهم صلاة الصبح بالحديبية ـ‏:‏ ‏(‏أتدرون ماذا قال ربكم الليلة‏؟‏‏)‏‏.‏

وتكليمه لموسى ونداؤه له كما دل عليه الكتاب والسنة، وعلى قولهم يجوز أن يسمع كل أحد الكلام الذي سمعه موسى‏.‏

ثم من تفلسف منهم كالغزالي في ‏[‏مشكاة الأنوار‏]‏ وجدهُ يجوز مثل ذلك لأهل الصفاء، والرياضة، وهو ما يتنزل على قلوبهم من الإلهامات، كقول النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إنه قد كان في الأمم قبلكم مُحَدَّثُون‏)‏‏.‏ وقول أبي الدرداء، وعبادة بن الصامت‏:‏رؤيا المؤمن كلام تكلم به الرب عنده في منامه‏.‏

فيجعلون ‏[‏الإيحاء‏]‏ و‏[‏الإلهام‏]‏ الذي يحصل في اليقظة والمنام، مثل سماع موسى كلام الله سواء، لا فرق بينهما، إلا أن موسى قصد بذلك الخطاب،وغيره سمع ما خوطب به غيره‏.‏

ثم عند التحقيق يرجعون إلى محض الفلسفة، في أنه لا فرق بين موسى وغيره بحال، كما أن هؤلاء المتأولة المتفلسفة يجعلون ‏[‏خلع النعلين‏]‏ إشارة إلى ترك العالمين و‏[‏الطور‏]‏ عبارة عن العقل الفعال، و نحو ذلك من تأويلات الفلاسفة الصابئة، ومن حذا حَذْوَهُمْ من القرامطة والباطنية وأصحاب ‏[‏رسائل إخوان الصفا‏]‏ ونحوهم‏.‏

وقد حكى القولين عن أهل السنة ـ في الإرادة، والسمع والبصر ـ أبو عبد الله الحارث بن أسد المحاسبي في كتاب ‏[‏فهم القرآن‏]‏ فتكلم على قوله‏:‏‏{‏حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ‏}‏ ‏[‏محمد‏:‏31‏]‏ ونحوه، وبين أن علم الله قديم، وإنما يحدث المعلوم‏.‏

إلى أن قال‏:‏ وذلك موجود فينا، و نحن جهال وعلمنا مُحْدَث، قد نعلم أن كل إنسان ميت، فكلما مات إنسان قلنا‏:‏ قد علمنا أنه قد مات، من غير أن نكون من قبل موته جاهلين أنه سيموت، إلا أنا قد يحدث لنا اللحظ من الرؤية وحركة القلب إذا نظرنا إليه ميتًا؛ لأنه ميت، والله لا تحدث فيه الحوادث‏.‏

إلى أن قال‏:‏ وكذلك قوله‏:‏ ‏{‏لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَاء اللَّهُ‏}‏ ‏[‏الفتح‏:‏27‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏16‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ‏}‏ ‏[‏يس‏:‏82‏]‏‏.‏

وليس ذلك منه ببدء الحوادث‏:‏ إرادة حدثت له، ولا أن يستأنف مشيئة لم تكن له، وذلك فعل الجاهل بالعواقب، الذي يريد الشىء وهو لا يعلم العواقب، فلم يزل يريد ما يعلم أنه يكون، لم يستحدث إرادة لم تكن؛ لأن الإرادات إنما تحدث على قدر ما يعلم المريد، وأما من لم يزل يعلم ما يكون وما لا يكون من خير وشر، فقد أراد ما علم على ما علم، لا يحدث له بدُوٌّ؛ إذ كان لا يحدث فيه علم به‏.‏

قال أبو عبد الله الحارث‏:‏ وقد تأول بعض من يدعي السنة، وبعض أهل البدع ذلك على الحوادث‏.‏

فأما من ادعى السنة، فأراد إثبات القدر، فقال‏:‏ إرادة الله‏:‏ أي حدث من تقديره سابق الإرادة، وأما بعض أهل البدع، فزعموا أن الإرادة إنما هي خلق حادث وليست مخلوقة، ولكن بها الله كون المخلوقين، قال‏:‏ فزعمت أن الخلق غير المخلوقين، وأن الخلق هو الإرادة، وأنها ليست بصفة لله من نفسه، وجل أن يكون شىء حدث بغير إرادة منه، وجل عن البدُوّات وتقلب الإرادات، ثم تكلم على أن الحادث هو وقت المراد لا نفس الإرادة، كقولهم‏:‏ متى تريد أن أجيء‏.‏

إلى أن قال‏:‏ وكذلك قوله‏:‏ ‏{‏إِنَّا مَعَكُم مُّسْتَمِعُونَ‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏15‏]‏ ليس معناه‏:‏ أن يحدث لنا سمعًا، ولا تكلف بسمع ما كان من قولهم، قال‏:‏ وقد ذهب قوم من أهل السنة أن لله استماعًا حادثًا في ذاته، فذهب إلى ما يعقل من الخلق أنه يحدث منهم علم سمع؛ لما كان من قول عمن سمعه للقول؛ لأن المخلوق إذا سمع الشىء حدث له عقد فهم عما أدركته أذنه من الصوت‏.‏

قال‏:‏ وكذلك قوله‏:‏ ‏{‏فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏105‏]‏، لا يستحدث بصرًا، ولا لحظًا محدثًا في ذاته، وإنما يحدث الشىء فيراه مكونا كما لم يزل يعلمه قبل كونه، لا يغادر شيئًا ولا يخفى عليه منه خافية‏.‏

وكذلك قال بعضهم‏:‏ إن رؤية تحدث، وقال قوم‏:‏ إنما معنى ‏{‏سَيَرَى‏}‏ و‏{‏إِنَّا مَعَكُم مُّسْتَمِعُونَ‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 15‏]‏ إنما المسموع، والمبصر، لم يخف على عيني، ولا على سمعي، أن أدركه سمعًا وبصرا، لا بالحوادث في الله‏.‏

قال أبو عبد الله‏:‏ومن ذهب إلى أنه يحدث لله استماع مع حدوث المسموع، وإبصار مع حدوث المبصر، فقد زاد على الله ما لم يقل، وإنما على العباد التسليم لما قال الله‏:‏ إنه ‏{‏سَمِيعٌ بَصِيرٌ‏}‏ ‏[‏المجادلة‏:‏1‏]‏، ولا نزيد ما لم يقل، وإنما معنى ذلك كما قال تعالى‏:‏‏{‏حَتَّى نَعْلَمَ‏}‏ ‏[‏محمد‏:‏31‏]‏، حتى يكون المعلوم، وكذلك حتى يكون المبصر والمسموع، فلا يخفى على أنه يعلمه موجودًا ويسمعه موجودا،كما علمه بغير حادث علم في الله ولا بصر،ولا سمع ولا معنى حدث في ذات الله،تعالى عن الحوادث في نفسه‏.‏

وقال محمد بن الهيصم الكرامي في كتاب ‏[‏جمل الكلام في أصول الدين‏]‏ لما ذكر جمل الكلام في القرآن وأنها مبنية على خمسة فصول‏:‏

أحدها‏:‏ أن القرآن كلام الله، فقد حكى عن جهم أن القرآن ليس كلام الله على الحقيقة، وإنما هو كلام خلقه الله فينسب إليه، كما قيل‏:‏ سماء الله وأرضه، وكما قيل‏:‏ بيت الله، وشهر الله‏.‏ وأما المعتزلة فإنهم أطلقوا القول بأنه كلام الله على الحقيقة، ثم وافقوا جهمًا في المعنى، حيث قالوا‏:‏ كلام خلقه بائنا منه‏.‏

قال‏:‏ وقال عامة المسلمين‏:‏ إن القرآن كلام الله على الحقيقة، وأنه تكلم به‏.‏

والفصل الثاني‏:‏ أن القرآن غير قديم، فإن الكُلاَّبية وأصحاب الأشعري زعموا أن الله كان لم يزل يتكلم بالقرآن، وقال أهل الجماعة‏:‏ بل إنه إنما تكلم بالقرآن، حيث خاطب به جبرائيل، وكذلك سائر الكتب‏.‏

والفصل الثالث‏:‏ أن القرآن غير مخلوق؛ فإن الجهمية والنجارية، والمعتزلة، زعموا أنه مخلوق‏.‏

وقال أهل الجماعة‏:‏ إنه غير مخلوق‏.‏

والفصل الرابع‏:‏ أنه غير بائن من الله، فإن الجهمية وأشياعهم من المعتزلة قالوا‏:‏ إن القرآن بائن من الله،وكذلك سائر كلامه،وزعموا أن الله خلق كلامًا في الشجرة فسمعه موسى، وخلق كلامًا في الهواء فسمعه جبرائيل، ولا يصح عندهم أن يوجد من الله كلام يقوم به في الحقيقة‏.‏

وقال أهل الجماعة‏:‏ بل القرآن غير بائن من الله، وإنما هو موجود منه وقائم به‏.‏ وذكر في مسألة الإرادة، والخلق والمخلوق وغير ذلك ما يوافق ما ذكره هنا من الصفات الفعلية القائمة بالله، التي ليست قديمة ولا مخلوقة‏.‏