فصل: سئل عن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ‏}‏

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مجموع فتاوى ابن تيمية **


/ ما تقول السادة أئمة المسلمين أئمة الدين ـ رضي الله عنهم أجمعين ـ في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏40‏]‏، فإن كان المخاطب موجودًا، فتحصيل الحاصل محال، وإن كان معدومًا فكيف يتصور خطاب المعدوم‏؟‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ‏}‏ ‏[‏الذاريات‏:‏ 56‏]‏، فإن كانت اللام للصيرورة في عاقبة الأمر فما صار ذلك، وإن كانت اللام للغرض لزم ألا يتخلف أحد من المخلوقين عن عبادته، وليس كذلك، فكيف التخلص من هذا المضيق‏؟‏

وفيما ورد من الأخبار والآيات بالرضاء بقضاء الله تعالى، وفي قوله صلى الله عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏جف القلم بما هو كائن‏)‏، وفي معنى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏60‏]‏، فإن كان الدعاء أيضًا بما هو كائن، فما فائدة الأمر به ولابد من وقوعه‏؟‏ ‏.‏

فأجاب شيخ الإسلام، أبو العباس أحمد بن تيمية ـ رحمه الله ‏:‏

الحمد لله رب العالمين‏.‏

/أما المسألة الأولى فهي مبنية على أصلين‏:‏

أحدهما‏:‏ الفرق بين خطاب التكوين الذي لا يطلب به سبحانه فعلاً من المخاطب، بل هو الذي يكون المخاطب به ويخلقه بدون فعل من المخاطب أو قدرة أو إرادة أو وجود له، وبين خطاب التكليف الذي يطلب به من المأمور فعلاً أو تركًا يفعله بقدرة وإرادة ـ وإن كان ذلك جميعه بحول الله وقوته؛ إذ لا حول ولا قوة إلا بالله ـ وهذا الخطاب قد تنازع فيه الناس، هل يصح أن يخاطب به المعدوم بشرط وجوده أم لا يصح أن يخاطب به إلا بعد وجوده‏؟‏ ولا نزاع بينهم أنه لا يتعلق به حكم الخطاب إلا بعد وجوده‏.‏

وكذلك تنازعوا في الأول، هل هو خطاب حقيقي‏؟‏ أم هو عبارة عن الاقتدار وسرعة التكوين بالقدرة‏؟‏ والأول هو المشهور عند المنتسبين إلى السنة‏.‏

والأصل الثاني‏:‏ أن المعدوم في حال عدمه، هل هو شىء أم لا‏؟‏ فإنه قد ذهب طوائف من متكلمة المعتزلة والشيعة إلى أنه شىء في الخارج، وذات وعين، وزعموا أن الماهيات غير مجعولة ولا مخلوقة، وأن وجودها زائد على حقيقتها، وكذلك ذهب إلى هذا طوائف من المتفلسفة والاتحادية وغيرهم من الملاحدة‏.‏

/والذي عليه جماهير الناس، وهو قول متكلمة أهل الإثبات والمنتسبين إلى السنة والجماعة، أنه في الخارج عن الذهن قبل وجوده ليس بشىء أصلاً ولا ذات ولا عين، وأنه ليس في الخارج شيئان‏:‏ أحدهما حقيقته، والآخر وجوده الزائد على حقيقته، فإن الله أبدع الذوات التي هي الماهيات، فكل ما سواه سبحانه فهو مخلوق ومجعول ومبدع ومبدوء له ـ سبحانه وتعالى ـ لكن في هؤلاء من يقول‏:‏ المعدوم ليس بشىء أصلا، وإنما سمى شيئًا باعتبار ثبوته في العلم فكان مجازًا‏.‏

ومنهم من يقول‏:‏ لا ريب أن له ثبوتًا في العلم، ووجودًا فيه، فهو باعتبار هذا الثبوت والوجود هو شىء وذات، وهؤلاء لا يفرقون بين الوجود والثبوت، كما فرق من قال‏:‏ المعدوم شىء، ولا يفرقون في كون المعدوم ليس بشىء بين الممكن والممتنع، كما فرق أولئك؛ إذ قد اتفقوا على أن الممتنع ليس بشىء، وإنما النزاع في الممكن‏.‏

وعمدة من جعله شيئًا إنما هو لأنه ثابت في العلم، وباعتبار ذلك صح أن يخص بالقصد والخلق والخبر عنه والأمر به والنهي عنه، وغير ذلك قالوا‏:‏ وهذه التخصيصات تمتنع أن تتعلق بالعدم المحض، فإن خص الفرق بين الوجود الذي هو الثبوت العيني وبين الوجود الذي هو الثبوت العلمي زالت الشبهة في هذا الباب‏.‏

/وقوله تعالى‏:‏‏{‏إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏40‏]‏‏.‏ ذلك الشىء هو معلوم قبل إبداعه وقبل توجيه هذا الخطاب إليه،وبذلك كان مقدرًا مقضيًا، فإن الله ـ سبحانه وتعالى ـ يقول ويكتب مما يعلمه ما شاء، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه مسلم في صحيحه عن عبد الله بن عمرو ‏:‏ ‏(‏إن الله قدر مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة‏)‏، وفي صحيح البخاري عن عمران بن حصين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏كان الله ولم يكن شىء معه وكان عرشه على الماء، وكتب في الذكر كل شىء، ثم خلق السموات والأرض‏)‏، وفي سنن أبي داود وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏أول ما خلق الله القلم، فقال له‏:‏ اكتب، فقال‏:‏ ما أكتب‏؟‏ قال‏:‏ ما هو كائن إلى يوم القيامة‏)‏‏.‏

إلى أمثال ذلك من النصوص التي تبين أن المخلوق قبل أن يخلق كان معلومًا مخبرًا عنه مكتوبًا، فهو شىء باعتبار وجوده العلمي الكلامي الكتابي، وإن كانت حقيقته التي هي وجوده العيني ليس ثابتًا في الخارج، بل هو عدم محض، ونفي صرف، وهذه المراتب الأربعة المشهورة للموجودات، وقد ذكرها الله ـ سبحانه وتعالى ـ في أول سورة أنزلها على نبيه في قوله‏:‏ ‏{‏اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ‏.‏ خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ‏.‏ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ‏.‏ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ‏.‏ عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ‏}‏ ‏[‏العلق‏:‏1-5‏]‏، وقد بسطنا الكلام في ذلك في غير هذا الموضع‏.‏

وإذا كان كذلك كان الخطاب موجها إلى من توجهت إليه الإرادة وتعلقت/ به القدرة وخلق وكون، كما قال‏:‏‏{‏إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏40‏]‏، فالذي يقال له‏:‏ كن هو الذي يراد، وهو حين يراد قبل أن يخلق له ثبوت وتميز في العلم والتقدير، ولولا ذلك لما تميز المراد المخلوق من غيره، وبهذا يحصل الجواب عن التقسيم‏.‏

فإن قول السائل‏:‏ إن كان المخاطب موجودًا، فتحصيل الحاصل محال‏.‏

يقال له ‏:‏هذا إذا كان موجودًا في الخارج وجوده الذي هو وجوده، ولا ريب أن المعدوم ليس موجودًا، ولا هو في نفسه ثابت، وأما ما علم وأريد وكان شيئًا في العلم والإرادة والتقدير، فليس وجوده في الخارج محالاً، بل جميع المخلوقات لا توجد إلا بعد وجودها في العلم والإرادة‏.‏

وقول السائل‏:‏ إن كان معدومًا فكيف يتصور خطاب المعدوم‏؟‏‏!‏

يقال له‏:‏ أما إذا قصد أن يخاطب المعدوم في الخطاب بخطاب يفهمه ويمتثله فهذا محال؛ إذ من شرط المخاطب أن يتمكن من الفهم والفعل، والمعدوم لا يتصور أن يفهم ويفعل فيمتنع خطاب التكليف له حال عدمه، بمعنى أنه يطلب منه حين عدمه أن يفهم ويفعل، وكذلك أيضًا يمتنع أن يخاطب المعدوم في الخارج خطاب تكوين، بمعنى أن يعتقد أنه شىء ثابت في الخارج، وأنه يخاطب بأن يكون‏.‏

/وأما الشىء المعلوم المذكور المكتوب إذا كان توجيه خطاب التكوين إليه مثل توجيه الإرادة إليه، فليس ذلك محالاً، بل هو أمر ممكن، بل مثل ذلك يجده الإنسان في نفسه فيقدر أمرا في نفسه يريد أن يفعله ويوجه إرادته وطلبه إلى ذلك المراد المطلوب الذي قدره في نفسه، ويكون حصول المراد المطلوب بحسب قدرته، فإن كان قادرًا على حصوله، حصل مع الإرادة والطلب الجازم، وإن كان عاجزا لم يحصل، وقد يقول الإنسان‏:‏ ليكن كذا ونحو ذلك من صيغ الطلب، فيكون المطلوب بحسب قدرته عليه، والله ـ سبحانه ـ على كل شىء قدير، وما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، فإنما أمره إذا أراد شيئًا أن يقول له كن فيكون‏.‏

 فصــل

وأما المسألة الثانية فقول السائل‏:‏ قوله تعالى ‏:‏‏{‏وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ‏}‏ ‏[‏الذاريات‏:‏56‏]‏ إن كانت هذه اللام للصيرورة في عاقبة الأمر فما صار ذلك‏؟‏ وإن كانت اللام للغرض لزم ألا يتخلف أحد من المخلوقين عن عبادته‏؟‏ وليس الأمر كذلك فما التخلص من هذا المضيق‏؟‏‏!‏

فيقال‏:‏ هذه اللام ليست هي اللام التي يسميها النحاة لام العاقبة والصيرورة ولم يقل ذلك أحد هنا، كما ذكره السائل من أن ذلك لم يصر إلا / على قول من يفسر ‏{‏يَعْبُدُونِ‏}‏ بمعنى يعرفون، يعنى المعرفة التي أمر بها المؤمن والكافر؛ لكن هذا قول ضعيف، وإنما زعم بعض الناس ذلك في قوله‏:‏ ‏{‏وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏119‏]‏ التي في آخر سورة هود، فإن بعض القدرية زعم أن تلك اللام لام العاقبة والصيرورة، أي صارت عاقبتهم إلى الرحمة، وإلى الاختلاف، وإن لم يقصد ذلك الخالق، وجعلوا ذلك كقوله‏:‏ ‏{‏فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏8‏]‏، وقول الشاعر‏:‏

لدوا للموت وابنوا للخراب **

وهذا ـ أيضًا ـ ضعيف هنا؛ لأن لام العقبة إنما تجيء في حق من لا يكون عالمًا بعواقب الأمور ومصايرها، فيفعل الفعل الذي له عاقبة لا يعلمها كآل فرعون، فأما من يكون عالمًا بعواقب الأفعال ومصايرها، فلا يتصور منه أن يفعل فعلا له عاقبة لا يعلم عاقبته، وإذا علم أن فعله له عاقبة فلا يقصد بفعله ما يعلم أنه لا يكون، فإن ذلك تمنٍّ وليس بإرادة‏.‏

وأما اللام فهي اللام المعروفة، وهي لام كي ولام التعليل، التي إذا حذفت انتصب المصدر المجرور بها على المفعول له، وتسمى العلة الغائية، وهي متقدمة في العلم والإرادة، متأخرة في الوجود والحصول، وهذه العلة هي المراد المطلوب المقصود من الفعل، لكن ينبغي أن يعرف أن الإرادة في كتاب الله على نوعين‏:‏

/أحدهما‏:‏ الإرادة الكونية، وهي الإرادة المستلزمة لوقوع المراد، التي يقال فيها‏:‏ ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، وهذه الإرادة في مثل قوله‏:‏ ‏{‏فَمَنْ يُرِدْ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 125‏]‏، وقوله‏:‏‏{‏وَلَا يَنفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏34‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏253‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏39‏]‏، وأمثال ذلك‏.‏ وهذه الإرادة هي مدلول اللام في قوله‏:‏ ‏{‏وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ‏.‏ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏118، 119‏]‏، قال السلف؛ خلق فريقًا للاختلاف، وفريقًا للرحمة، ولما كانت الرحمة هنا الإرادة، وهناك كونية؛ وقع المراد بها، فقوم اختلفوا، وقوم رحموا‏.‏

وأما النوع الثاني‏:‏ فهو الإرادة الدينية الشرعية، وهي محبة المراد ورضاه ومحبة أهله والرضا عنهم وجزاهم بالحسنى، كما قال تعالى ‏:‏‏{‏يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏185‏]‏، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏6‏]‏،وقوله‏:‏ ‏{‏يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ‏.‏ وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا‏.‏ يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنسَانُ ضَعِيفًا‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 26-28‏]‏، فهذه الإرادة لا تستلزم وقوع المراد إلا أن يتعلق به النوع الأول من الإرادة؛ ولهذا كانت الأقسام أربعة‏:‏

/أحدها‏:‏ ما تعلقت به الإرادتان، وهو ما وقع في الوجود من الأعمال الصالحة، فإن الله أراده إرادة دين وشرع؛ فأمر به وأحبه ورضيه، وأراده إرادة كون فوقع، ولولا ذلك لما كان‏.‏

والثاني‏:‏ ما تعلقت به الإرادة الدينية فقط، وهو ما أمر الله به من الأعمال الصالحة فعصى ذلك الأمر الكفار والفجار، فتلك كلها إرادة دين وهو يحبها ويرضاها لو وقعت ولو لم تقع‏.‏

والثالث‏:‏ ما تعلقت به الإرادة الكونية فقط، وهو ما قدره وشاءه من الحوادث التي لم يأمر بها‏:‏ كالمباحات والمعاصي فإنه لم يأمر بها ولم يرضها ولم يحبها؛ إذ هو لا يأمر بالفحشاء ولا يرضى لعباده الكفر، ولولا مشيئته وقدرته وخلقه لها لما كانت ولما وجدت فإنه ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن‏.‏

والرابع‏:‏ مالم تتعلق به هذه الإرادة ولا هذه، فهذا ما لم يكن من أنواع المباحات والمعاصي، وإذا كان كذلك، فمقتضى اللام في قوله‏:‏ ‏:‏‏{‏وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ‏}‏ ‏[‏الذاريات‏:‏56‏]‏، هذه الإرادة الدينية الشرعية، وهذه قد يقع مرادها وقد لا يقع، والمعنى أن الغاية التي يحب لهم ويرضى لهم والتي أمروا بفعلها هي العبادة، فهو العمل الذي خلق العباد له، أي هو الذي يحصل كمالهم وصلاحهم الذي به يكونون مرضيين محبوبين، فمن لم تحصل منه هذه الغاية؛ كان عادمًا لما يحب ويرضى ويراد له الإرادة الدينية التي فيها سعادته ونجاته، وعادمًا /لكماله وصلاحه العدم المستلزم فساده وعذابه، وقول من قال‏:‏ العبادة هي العزيمة أو الفطرية، فقولان ضعيفان فاسدان يظهر فسادهما من وجوه متعددة‏.‏

 فصــل

وأما المسألة الثالثة، فقوله‏:‏ فيما ورد من الأخبار والآيات في الرضا بقضاء الله،فإن كانت المعاصي بغير قضاء الله فهو محال وقدح في التوحيد،وإن كانت بقضاء الله ـ تعالى ـ فكراهتها وبغضها كراهة وبغض لقضاء الله تعالى ‏.‏

فيقال‏:‏ ليس في كتاب الله، ولا في سنة رسول الله آية، ولا حديث يأمر العباد أن يرضوا بكل مقضى مقدر من أفعال العباد حسنها وسيئها؛ فهذا أصل يجب أن يعتني به، ولكن على الناس أن يرضوا بما أمر الله به، فليس لأحد أن يسخط ما أمر الله به، قال تعالى‏:‏ ‏{‏فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏56‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ‏}‏ ‏[‏محمد ‏:‏28‏]‏، وقال ‏:‏‏{‏وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏59‏]‏، وذكر الرسول هنا يبين أن الإيتاء هو الإيتاء الديني الشرعي، لا الكوني القدري، وقال صلى الله عليه وسلم في/ الحديث الصحيح‏:‏ ‏(‏ذاق طعم الإيمان من رضي بالله رباً، وبالإسلام دينًا، وبمحمد نبيًا‏)‏‏.‏

وينبغي للإنسان أن يرضى مما يقدره الله عليه من المصائب التي ليست ذنوبًا مثل أن يبتليه بفقر أو مرض أو ذل وأذى الخلق له، فإن الصبر على المصائب واجب، وأما الرضا بها فهو مشروع، لكن هل هو واجب أو مستحب‏؟‏ على قولين لأصحاب أحمد وغيرهم، أصحهما أنه مستحب ليس بواجب‏.‏

ومن المعلوم أن أوثق عُرَي الإيمان الحب في الله والبغض في الله، وقد أمرنا الله أن نأمر بالمعروف ونحبه ونرضاه ونحب أهله، وننهي عن المنكر ونبغضه ونسخطه ونبغض أهله ونجاهدهم بأيدينا وألسنتنا وقلوبنا، فكيف نتوهم أنه ليس في المخلوقات ما نبغضه ونكرهه‏؟‏‏!‏ وقد قال تعالى لما ذكر ما ذكر من المنهيات ‏:‏‏{‏كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏38‏]‏، فإذا كان الله يكرهها وهو المقدر لها، فكيف لا يكرهها من أمر الله أن يكرهها ويبغضها،وهو القائل‏:‏ ‏{‏وَكَرَّهَ إِلَيْكُمْ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُوْلَئِكَ هُمْ الرَّاشِدُونَ‏}‏ ‏[‏الحجرات‏:‏7‏]‏‏؟‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ‏}‏ ‏[‏محمد‏:‏28‏]‏، وقد قال تعالى‏:‏‏{‏فَلَمَّا آسَفُونَا انتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏55‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ‏}‏ ‏[‏الفتح‏:‏6‏]‏، وقال تعالى‏:‏‏{‏يَسْتَخْفُونَ مِنْ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنْ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنْ الْقَوْلِ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏108‏]‏، فأخبر أن من القول الواقع ما لا يرضاه‏.‏

/وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمْ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ‏}‏ ‏[‏النور‏:‏55‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏وَرَضِيتُ لَكُمْ الْإِسْلَامَ دِينًا‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏3‏]‏، وقال ‏:‏‏{‏وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏7‏]‏، فبين أنه يرضى الدين الذي أمر به، فلو كان يرضى كل شىء لما كان له خصيصة، وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏لا أحد أغير من الله أن يزنى عبده أو تزني أمته‏)‏، وقال‏:‏ ‏"‏‏(‏إن الله يغار والمؤمن يغار، وغيرة الله أن يأتي العبد ما حرم عليه‏)‏، ولابد في الغيرة من كراهة ما يغار منه وبغضه وهذا باب واسع‏.‏

 فصــل

وأما المسألة الرابعة، فقوله‏:‏ ‏(‏إذا جف القلم بما هو كائن‏)‏، فما معنى قولـه‏:‏ ‏{‏ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 60 ‏]‏، وإن كان الدعاء ـ أيضًا ـ مما هو كائن فما فائدة الأمر به ولابد من وقوعه‏؟‏

فيقال‏:‏ الدعاء في اقتضائه الإجابة كسائر الأعمال الصالحة في اقتضائها الإثابة، وكسائر الأسباب في اقتضائها المسببات، ومن قال‏:‏ إن الدعاء علامة ودلالة محضة على حصول المطلوب المسؤول ليس بسبب، أو هو عبادة محضة لا أثر له في حصول المطلوب وجودًا ولا عدمًا، بل ما يحصل بالدعاء يحصل/ بدونه، فهما قولان ضعيفان، فإن الله علق الإجابة به تعليق المسبب بالسبب كقوله‏:‏ ‏{‏وَقَالَ رَبُّكُمْ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏60‏]‏، وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏ما من مسلم يدعو الله بدعوة ليس فيها إثم ولا قطيعة رحم إلا أعطاه بها إحدى خصال ثلاث‏:‏ إما أن يعجل له دعوته، وإما أن يدخر له من الخير مثلها، وإما أن يصرف عنه من الشر مثلها‏)‏ قالوا‏:‏ يارسول الله ‏!‏ إذا نكثر قال‏:‏ ‏(‏الله أكثر‏)‏، فعلق العطايا بالدعاء تعليق الوعد والجزاء بالعمل المأمور به، وقال عمر بن الخطاب‏:‏ إني لا أحمل هم الإجابة، وإنما أحمل هم الدعاء، فإذا ألهمت الدعاء فإن الإجابة معه، وأمثال ذلك كثير‏.‏

وأيضًا، فالواقع المشهود يدل على ذلك ويبينه، كما يدل على ذلك مثله في سائر الأسباب، وقد أخبر ـ سبحانه ـ من ذلك ما أخبر به في مثل قوله‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏75‏]‏، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنْ الظَّالِمِينَ‏.‏ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنْ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏87، 88‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏62‏]‏، وقوله تعالى عن زكريا‏:‏ ‏{‏رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ‏.‏ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏89، 90‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوْا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏56‏]‏، وقال تعالى ‏:‏‏{‏وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ‏.‏ إِنْ يَشَأْ يُسْكِنْ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ‏.‏ أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ‏.‏ وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِنَا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 32-35‏]‏‏.‏

فأخبر أنه إن شاء أوبقهن؛ فاجتمع أخذهم بذنوبهم وعفوه عن كثير منها مع علم المجادلين في آياته أنه ما لهم من محيص؛ لأنه في مثل هذا الحال يعلم المورد للشبهات في الدلائل الدالة على ربوبية الرب وقدرته ومشيئته ورحمته أنه لا مخلص له مما وقع فيه، كقوله في الآية الأخرى‏:‏ ‏{‏وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ‏}‏ ‏[‏الرعد ‏:‏130‏]‏

فإن المعارف التي تحصل في النفس بالأسباب الاضطرارية أثبت وأرسخ من المعارف التي ينتجها مجرد النظر القياسي ـ الذي ينزاح عن النفوس في مثل هذه الحال ـ هل الرب موجب بذاته، فلا يكون هو المحدث للحوادث ابتداء، ولا يمكنه أن يحدث شيئًا ولا يغير العالم حتى يدعي ويسأل‏؟‏ وهل هو عالم بالتفصيل والإجمال، وقادر على تصريف الأحوال، حتى يسأل التحويل من حال إلى حال‏؟‏ أو ليس كذلك كما يزعمه من يزعمه من المتفلسفة وغيرهم من الضلال، فيجتمع مع العقوبة والعفو من ذي الجلال، علم أهل المراء والجدال، أنه لا محيص لهم عما أوقع بمن جادلوا في آياته وهو شديد المحال، وقد تكلمنا على هذا وأشباهه وما يتعلق به من المقالات والديانات في غير هذا الموضع‏.‏

/والمقصود هنا أن يعلم أن الدعاء والسؤال هو سبب لنيل المطلوب المسؤول ليس وجوده كعدمه في ذلك، ولا هو علامة محضة، كما عليه الكتاب والسنة، وإن كان قد نازع في ذلك طوائف من أهل القبلة وغيرهم، مع أن ذلك يقر به جماهير بني آدم من المسلمين واليهود والنصارى والصابئين والمجوس والمشركين، لكن طوائف من المشركين والصابئين من المتفلسفة المشائين أتباع أرسطو ومن تبعه من متفلسفة أهل الملل كالفارابي وابن سينا ومن سلك سبيلهما ـ ممن خلط ذلك بالكلام والتصوف والفقه ـ ونحو هؤلاء يزعمون أن تأثير الدعاء في نيل المطلوب كما يزعمونه في تأثير سائر الممكنات المخلوقات من القوى الفلكية والطبيعية والقوى النفسانية والعقلية، فيجعلون ما يترتب على الدعاء هو من تأثير النفوس البشرية من غير أن يثبتوا للخالق ـ سبحانه ـ بذلك علمًا مفصلا أو قدرة على تغيير العالم، أو أن يثبتوا أنه لو شاء أن يفعل غير ما فعل لأمكنه ذلك، فليس هو عندهم قادرًا على أن يجمع عظام الإنسان ويسوى بنانه، وهو ـ سبحانه ـ هو الخالق لها ولقواها، فلا حول ولا قوة إلا بالله‏.‏

وأما قوله‏:‏ وإن كان الدعاء مما هو كائن، فما فائدة الأمر به ولابد من وقوعه‏؟‏

فيقال ‏:‏الدعاء المأمور به لا يجب كونًا، بل إذا أمر الله العباد بالدعاء فمنهم من يطيعه فيستجاب له دعاؤه، وينال طلبته، ويدل ذلك على أن المعلوم المقدور هو الدعاء والإجابة، ومنهم من يعصيه فلا يدعو فلا يحصل ما علق بالدعاء، فيدل ذلك على أنه ليس في المعلوم المقدور الدعاء ولا الإجابة، فالدعاء الكائن هو /الذي تقدم العلم بأنه كائن‏.‏ والدعاء الذي لا يكون هو الذي تقدم العلم بأنه لا يكون‏.‏

فإن قيل‏:‏ فما فائدة الأمر فيما علم أنه يكون من الدعاء‏؟‏ قيل‏:‏ الأمر هو سبب أيضًا في امتثال المأمور به، كسائر الأسباب، فالدعاء سبب يدفع البلاء، فإذا كان أقوى منه دفعه، وإن كان سبب البلاء أقوي لم يدفعه، لكن يخففه ويضعفه؛ ولهذا أمر عند الكسوف والآيات بالصلاة والدعاء والاستغفار والصدقة والعتق، والله أعلم‏.‏

/ سئل شيخ الإسلام ـ رحمه الله تعالى ـ عن الأقضية، هل هي مقتضية للحكمة أم لا‏؟‏ فإذا كانت مقتضية للحكمة، فهل أراد من الناس ما هم فاعلوه‏؟‏ وإذا كانت الإرادة قد تقدمت‏.‏ فما معنى وجود العذر والحالة هذه‏؟‏ أفتونا مأجورين‏.‏

فأجاب‏:‏

الحمد لله رب العالمين، قد أحاط ربنا ـ سبحانه وتعالى ـ بكل شىء علمًا، وقدرة وحكما، ووسع كل شىء رحمة وعلمًا، فما من ذرة في السموات والأرض، ولا معنى من المعاني إلا وهو شاهد لله تعالى بتمام العلم والرحمة، وكمال القدرة والحكمة، وما خلق الخلق باطلاً، ولا فعل شيئًا عبثًا، بل هو الحكيم في أفعاله وأقواله ـ سبحانه وتعالى ـ ثم من حكمته ما أطلع بعض خلقه عليه، ومنه ما استأثر سبحانه بعلمه‏.‏

وإرادته قسمان‏:‏ إرادة أمر وتشريع، وإرادة قضاء وتقدير‏.‏

فالقسم الأول‏:‏ إنما يتعلق بالطاعات دون المعاصي، سواء وقعت أو لم تقع كما في قوله‏:‏ ‏{‏يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏26‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏185‏]‏

/وأما القسم الثاني‏:‏ وهو إرادة التقدير، فهي شاملة لجميع الكائنات، محيطة بجميع الحادثات، وقد أراد من العالم ما هم فاعلوه بهذا المعنى لا بالمعنى الأول، كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يُرِدْ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏125‏]‏، وفي قوله‏:‏‏{‏وَلَا يَنفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ‏}‏ ‏[‏هود ‏:‏34‏]‏، وفي قول المسلمين‏:‏ ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، ونظائره كثيرة‏.‏

وهذه الإرادة تتناول ما حدث من الطاعات والمعاصي، دون ما لم يحدث، كما أن الأولى تتناول الطاعات حدثت أو لم تحدث، والسعيد من أراد منه تقديرًا ما أراد به تشريعًا، والعبد الشقي من أراد به تقديرا ما لم يرد به تشريعًا، والحكم يجري على وفق هاتين الإرادتين، فمن نظر إلى الأعمال بهاتين العينين كان بصيرًا، ومن نظر إلى القدر دون الشرع أو الشرع دون القدر كان أعور، مثل قريش الذين قالوا‏:‏ ‏{‏لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏148‏]‏، قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏148‏]‏‏.‏

فإن هؤلاء اعتقدوا أن كل ما شاء الله وجوده وكونه ـ وهي الإرادة القدرية ـ فقد أمر به ورضيه دون الإرادة الشرعية، ثم رأوا أن شركهم بغير شرع مما قد شاء الله وجوده قالوا‏:‏ فيكون قد رضيه وأمر به، قال الله ‏:‏‏{‏كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏148‏]‏ بالشرائع من الأمر والنهي‏:‏‏{‏حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا‏}‏ بأن الله شرع الشرك وتحريم ما حرمتموه ‏{‏إِنْ تَتَّبِعُونَ‏}‏ في هذا ‏{‏إِلَّا الظَّنَّ‏}‏ وهو توهمكم أن كل ما قدره فقد شرعه ‏{‏وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ‏}‏أي‏:‏ تكذبون وتفترون بإبطال شريعته، ‏{‏قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏149‏]‏ على خلقه حين أرسل الرسل إليهم فدعوهم إلى توحيده وشريعته، ومع هذا فلو شاء هدى الخلق أجمعين إلى متابعة شريعته، لكنه يمن على من يشاء فيهديه فضلاً منه وإحسانًا، ويحرم من يشاء؛ لأن المتفضل له أن يتفضل، وله ألا يتفضل، فترك تفضله على من حرمه عدل منه وقسط، وله في ذلك حكمة بالغة‏.‏

وهو يعاقب الخلق على مخالفة أمره وإرادته الشرعية، وإن كان ذلك بإرادته القدرية، فإن القدر كما جرى بالمعصية جرى ـ أيضًا ـ بعقابها، كما أنه ـ سبحانه ـ قد يقدر على العبد أمراضًا تعقبة آلامًا، فالمرض بقدره والألم بقدره، فإذا قال العبد‏:‏ قد تقدمت الإرادة بالذنب فلا أعاقب، كان بمنزلة قول المريض‏:‏ قد تقدمت الإرادة بالمرض فلا أتألم، وقد تقدمت الإرادة بأكل الحار فلا يحم مزاجي، أو قد تقدمت بالضرب فلا يتألم المضروب، وهذا مع أنه جهل فإنه لا ينفع صاحبه؛ بل اعتلاله بالقدر ذنب ثان يعاقب عليه أيضًا، وإنما اعتل بالقدر إبليس حيث قال‏:‏ ‏{‏بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏39‏]‏، وأما آدم فقال‏:‏ ‏{‏رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنْ الْخَاسِرِينَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏23‏]‏‏.‏

فمن أراد الله سعادته، ألهمه أن يقول كما قال آدم ـ عليه السلام أو نحوه ـ/ومن أراد شقاوته، اعتل بعلة إبليس أو نحوها، فيكون كالمستجير من الرمضاء بالنار، ومثله مثل رجل طار إلى داره شرارة نار، فقال له العقلاء‏:‏ أطفئها لئلا تحرق المنزل، فأخذ يقول‏:‏ من أين كانت ‏؟‏ هذه ريح ألقتها، وأنا لا ذنب لي في هذه النار فما زال يتعلل بهذه العلل حتى استعرت وانتشرت وأحرقت الدار وما فيها، هذه حال من شرع يحيل الذنوب على المقادير، ولا يردها بالاستغفار والمعاذير، بل حاله أسوأ من ذلك بالذنب الذي فعله، بخلاف الشرارة فإنه لا فعل له فيها، والله سبحانه يوفقنا وإياكم وسائر إخواننا لما يحبه ويرضاه فإنها لا تنال طاعته إلا بمعونته، ولا تترك معصيته إلا بعصمته، والله أعلم‏.‏

/ وسئل ـ قدس الله روحه ـ عن الأقضية، هل هي مقتضية للحكمة أم لا‏؟‏ وإذا كانت مقتضية للحكمة، فهل أراد من الناس ما هم فاعلوه أم لا‏؟‏ وإذا كانت الإرادة قد تقدمت، فما معنى وجود العذر والحالة هذه‏؟‏

فأجاب‏:‏

الحمد لله رب العالمين‏.‏ نعم، لله حكمة بالغة في أقضيته وأقداره، وإن لم يعلمه العباد، فإن الله علم علمًا وعلمه لعباده، أو لمن يشاء منهم، وعلم علما لم يعلِّمه لعباده ‏{‏وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏255‏]‏

وهو ـ سبحانه ـ أراد من العباد ما هم فاعلوه إرادة تكوين، كما اتفق المسلمون على أنه ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، وكما قال‏:‏ ‏{‏فَمَنْ يُرِدْ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏125‏]‏، وكما قال‏:‏ ‏{‏وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ‏.‏ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏118، 119‏]‏، وكما قال‏:‏ ‏{‏وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏253‏]‏، وكما قال‏:‏ ‏{‏يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ‏}‏ ‏[‏إبراهيم ‏:‏27‏]‏‏.‏

ولكن لم يرد المعاصي من أصحابها إرادة أمر وشرع ومحبة ورضى ودين، بل ذلك كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 185‏]‏، وكما قال تعالى‏:‏ ‏{‏يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏26‏]‏، ‏{‏وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا‏.‏ يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنسَانُ ضَعِيفًا‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏27، 28‏]‏، وقال تعالى‏:‏‏{‏مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏6‏]‏، وكما قال تعالى‏:‏‏{‏وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ‏}‏ ‏[‏الذاريات‏:‏56‏]‏‏.‏

وبالتقسيم والتفصيل في المقال، يزول الاشتباه، ويندفع الضلال، وقد بسطت الكلام في ذلك بما يليق به في غير موضع من القواعد، إذ ليس هذا موضع بسط ذلك‏.‏

وأما قول السائل‏:‏ ما معنى وجود العذر‏؟‏ فالمعذور الذي يعرف أنه معذور هو من كان عاجزًا عن الفعل مع إرادته له‏:‏ كالمريض العاجز عن القيام، والصيام، والجهاد، والفقير العاجز عن الإنفاق، ونحو ذلك، وهؤلاء ليسوا مكلفين، ولا معاقبين على ما تركوه، وكذلك العاجز عن السماع والفهم‏:‏ كالصبي والمجنون، ومن لم تبلغه الدعوة‏.‏

/وأما من جعل محبا مختارًا راضيًا بفعل السيئات حتى فعلها، فليس مجبورًا على خلاف مراده، ولا مكرها على ما يرضاه، فكيف يسمى هذا معذورا ‏؟‏‏!‏ بل ينبغي أن يسمى مغرورًا ‏.‏ولكن بسط ذلك يحتاج إلى الحكمة في الخلق والأمر، فهذا مذكور في موضعه، وهذا المكان لا يسعه، والله أعلم وصلى الله على محمد‏.‏