فصل: تفسير الآية رقم (33):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: محاسن التأويل



.تفسير الآية رقم (33):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَلِكُلّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ وَالّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنّ اللّهَ كَانَ عَلَى كُلّ شَيْءٍ شَهِيداً} [33].
{وَلِكُلّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ} أي: ولكل شيء مما ترك الوالدان والأقربون من المال جعلنا ورثة وعصبة يلونه ويحرزونه، وهم يرثونه، دون سائر الناس.
كما ثبت في الصحيحين عن ابن عباس أن رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم قال: «أَلْحِقُوا الْفَرَائِضَ بِأَهْلِهَا، فَمَا بَقِىَ فَهْوَ لأَوْلَى رَجُلٍ ذَكَرٍ»، أي: اقسموا الميراث على أصحاب الفرائض الذين ذكرهم الله في آيتي الفرائض، فما بقي بعد ذلك فأعطوه للعصبة، فـ: فما تبيين كل.
قال ابن جرير: والعرب تسمي ابن العم مولى، كما قال الفضل بن العباس:
مهلاً بني عمنا مهلاً موالينا ** لا يظهرن بيننا ما كان مدفونا

وفي القاموس وشرحه تاج العروس: والمولى: القريب كابن العم ونحوه.
قال ابن الأعرابي: ابن العم مولى، وابن الأخت مولى، وقول الشاعر:
هَمُ المَوْلى، وإنْ جَنَفُوا عَلَيْنا ** وإنّا مِنْ لِقائِهِمُ لَزُورُ

قال أَبو عبيدة: يعني المَوالي، أي: بني العَمّ، وقال اللّهبيّ يخاطب بني أمية:
مهلاً بني عمنا مهلاً موالينا ** امشوا رويداً كما كنتم تكونونا

وقوله تعالى: {وَالّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ} مبتدأ ضمن معنى الشرط فوقع خبره مع الفاء وهو قوله: {فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ} ويقرأ {عاقدت} بالألف، والمفعول محذوف أي: عاقدتهم، ويقرأ بغير ألف والمفعول محذوف أيضاً هو والعائد، تقديره عقدت حلفهم أيمانكم، والعقد الشد والربط والتوكيد والتغليظ، ومنه: عقد العهد يعقده: شده.
والأيمان: جمع يمين، إما بمعنى اليد اليمنى لوضعهم الأيدي في العهود، أو بمعنى القسم وهو الأظهر، لأن العقد خلاف النقض، وقد جاء مقروناً بالحلف في قوله تعالى: {وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا} [النحل: من الآية 91]، وفي قوله: {لا يُؤَاخِذُكُمُ اللّهُ بِاللّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقّدْتُمُ الْأَيْمَانَ} [المائدة: من الآية 89]، وفي هذه الآية محامل كثيرة ووجوه للسلف والخلف، أظهرها السلف المفسرين رضوان الله عليهم، وهو أن المعنيّ بالموصول، الحلفاء، وهو المروي عن ابن عباس في البخاريّ كما سيأتي: قال ابن أبي حاتم: وروي عن سعيد بن جبير ومجاهد وعطاء والحسن وابن المسيب وأبي صالح وسليمان بن يسار والشعبي وعكرمة والسدي والضحاك وقتادة ومقاتل بن حيان، أنهم قالوا: هم الحلفاء. انتهى.
ويزاد أيضاً: عليّ بن أبي طلحة.
وكان الحلفاء يرثون السدس من محالفيهم، وروى الطبري من طريق قتادة: كان الرجل يعاقد الرجل في الجاهلية فيقول: دمي دمك، وترثني وأرثك، وتطلب بي وأطلب بك، فلما جاء الإسلام بقي منهم ناس، فأمروا بأن يؤتوهم نصيبهم من الميراث وهو السدس، ثم نسخ ذلك بالميراث، فقال: {وَأُوْلُواْ الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ}.
ولذا قال سعيد بن جبير: فآتوهم نصيبهم من الميراث، قال: وعاقد أبو بكر مولى فورثه.
قال الزمخشري: والمراد، بـ: {الذين عاقدت أيمانكم} موالي الموالاة، كان الرجل يعاقد الرجل فيقول: دمي دمك، وهدمي هدمك، وثأري ثأرك، وحربي حربك، وسلمي سلمك، وترثني وأرثك، وتطلب بي وأطلب بك، وتعقل عني وأعقل عنك، فيكون للحليف السدس من ميراث الحليف. انتهى.
وعلى هذا، فمعنى الآية: والذين عاقدتموهم على المؤاخاة والموالاة وتحالفتم بالأيمان المؤكدة أنتم وهم على النصر والإرث، قبل نزول هذه الآية، فآتوهم نصيبهم من الميراث وفاء بالعقود والعهود، إذ وعدتموهم ذلك في الأيمان المغلظة.
وروى ابن أبي حاتم: كان الرجل قبل الإسلام يعاقد الرجل ويقول، وترثني أرثك، وكان الأحياء يتحالفون، فقال رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم: «كُلّ حِلْفٍ فِي الْجَاهِلِيّةِ، أو عقد أدركه الإسلام، فَلا يَزِيدْهُ الإِسْلاَمَ إِلاّ شِدّةً، ولا عقد وَلاَ حِلْفَ فِي الإِسْلاَمِ».
وروى الإمام أحمد ومسلم والنسائي عن جبير بن مطعم عن أبيه قال: قال رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم: «لاَ حِلْفَ فِي الإِسْلاَمِ، وأيما حِلْفٍ كَانَ فِي الْجَاهِلِيّةِ لَمْ يَزِدْهُ الإِسْلاَمُ إِلاّ شِدّةً».
وروى الإمام أحمد عَنْ قَيْسِ بْنِ عَاصِمٍ أَنّهُ سَأَلَ النّبِيّ صَلّى اللهُ عليّه وسلّم عَنِ الْحِلْفِ؟ فَقَالَ: «مَا كَانَ مِنْ حِلْفٍ فِي الْجَاهِلِيّةِ فَتَمَسّكُوا بِهِ، وَلاَ حِلْفَ فِي الإِسْلاَمِ».
ورواه أيضاً عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدّهِ قَالَ: لَمّا دَخَلَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللهُ عليّه وسلّم مَكّةَ عَامَ الْفَتْحِ قَامَ خَطِيباً فِي النّاسِ، فَقَالَ: «يَا أَيّهَا النّاسُ، مَا كَانَ مِنْ حِلْفٍ فِي الْجَاهِلِيّةِ، لَمْ يَزِدْهُ الإِسْلاَمَ إِلاّ شِدّةً، وَلاَ حِلْفَ فِي الإِسْلاَمِ».
قال ابن الأثير: الحلف في الأصل المُعاقَدةُ والمعاهدة على التّعاضُد والتّساعُد والاتّفاق، فما كان منه في الجاهلية على الفِتَن والقتال والغاراتِ فذلك الذي ورد النّهْي عنه في الإسلام بقوله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم: «لا حِلْفَ في الإسلام».
وما كان منه في الجاهلية على نَصْر المَظْلوم وصلة الأرحام كحلْف المُطَيّبين وما جرى مَجْراه، فذلك الذي قال فيه صَلّى اللهُ عليّه وسلّم: «وأَيّمَا حِلفٍ كان في الجاهلية لم يَزِدْه الإسلام إلا شدة».
يريد من المُعاقدة على الخير ونُصْرَة الحق، وبذلك يجتمع الحديثان، وهذا هو الحِلْف الذي يَقْتَضِيه الإسلام، والمَمْنُوع منه ما خالف حُكْم الإسلام. انتهى.
قال الحافظ ابن كثير: كان هذا، أي: التوارث بالحلف، في ابتداء الإسلام، ثم نسخ بعد ذلك وأمروا أن يوفوا لمن عاقدوا ولا ينشئوا بعد هذه الآية معاقدة.
روى ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله تعالى: {وَالّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ} فكان الرجل قبل الإسلام يعاقد الرجل ويقول: وترثني وأرثك، كان الأحياء يتحالفون فقال رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم: «كُلّ حِلْفٍ فِي الْجَاهِلِيّةِ، أو عقد أدركه الإسلام، فَلا يَزِيدْهُ إِلاّ شِدّةً، ولا عقد وَلاَ حِلْفَ فِي الإِسْلاَمِ». فنسختها هذه الآية: {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللّهِ} [الأنفال: 75].
وروى أبو داود عن ابن عباس في هذه الآية: كَانَ الرّجُلُ يُحَالِفُ الرّجُلَ وَلَيْسَ بَيْنَهُمَا نَسَبٌ، فَيَرِثُ أَحَدُهُمَا الآخَرَ، فَنَسَخَ ذَلِكَ الأَنْفَالُ فَقَالَ: {وَأُولُو الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ} الآية.
وروى ابن جرير عن عليّ بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: كان الرجل يعاقد الرجل أيهما مات ورثه الآخر، فأنزل الله تعالى: {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفاً} يقول: إلا أن توصوا لأوليائهم الذين عاقدوا، وصية، فهو لهم جائز من ثلث مال الميت، ذلك هو المعروف.
وهكذا نص غير واحد من السلف أنها منسوخة بقول: {وَأُوْلُواْ الأَرْحَامِ} الآية.
أقول: على ما ذكر، تكون الآية محكمة في صدر الإسلام، منسوخة بعده، وثمة وجه آخر فيها، وهو أنها ناسخة لميراث الحليف بتأويل آخر.
وهو ما رواه البخاريّ عن سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ- رضى الله عنهما- قال: {وَلِكُلّ جَعَلْنَا مَوَالِىَ} وَرَثَةً {وَالّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ} كَانَ الْمُهَاجِرُون لَمّا قَدِمُوا الْمَدِينَةَ يَرِثُ الْمُهَاجِرُي الأَنْصَارِيّ دُونَ ذَوِى رَحِمِهِ لِلأُخُوّةِ الّتِي آخَى النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم بَيْنَهُمْ، فَلَمّا نَزَلَتْ: {وَلِكُلّ جَعَلْنَا مَوَالِىَ} نَسَخَتْ، ثُمّ قَالَ: {وَالّذِينَ عَاقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ} من النّصْرَ وَالرّفَادَةَ وَالنّصِيحَةَ، وَقَدْ ذَهَبَ الْمِيرَاثُ وَيُوصِى لَهُ.
وقد فهم بعضهم من هذا الأثر أن هذه الآية نسخت الحلف في المستقبل، وحكم الحلف الماضي أيضاً، وأنه لا توارث به، والصحيح ما أسلفناه من ثبوت التوارث بالحلف السابق على نزول الآية في ابتداء الإسلام، كما حكاه غير واحد من السلف، وكما قال ابن عباس: كان المهاجري يرث الأنصاري دون ذوي رحمه حتى نسخ ذلك.
وقد حاول الحافظ ابن حجر في فتح الباري الجمع بين الروايات المتقدمة ورواية البخاريّ باحتمال أن يكون النسخ وقع مرتين:
الأولى: حيث كان المعاقد يرث وحده دون العصبة، فنزلت: {وَلِكُلّ جَعَلْنَا} فصاروا جميعاً يرثون، ثم نسخ ذلك آية الأحزاب وخص الميراث بالعصبة وبقي للمعاقد النصر والإرفاد ونحوهما، والله أعلم.
هذا وثمة روايات أخر في سبب نزولها:
منها: ما روى أبو داود وابن أبي حاتم عَنْ دَاوُدَ بْنِ الْحُصَيْنِ قَالَ: كُنْتُ أَقْرَأُ عَلَى أُمّ سَعْدٍ بِنْتِ الرّبِيعِ، وَكَانَتْ يَتِيمَةً فِي حِجْرِ أَبِي بَكْرٍ الصديق رَضِي اللّهُ عَنْهُ، فَقَرَأْتُ: {وَالّذِينَ عَاقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ} فَقَالَتْ: لاَ تَقْرَأْ هكذا وَلَكِنْ: {وَالّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ} إِنّمَا نَزَلَتْ فِي أَبِي بَكْرٍ وَابْنِهِ عَبْدِ الرّحْمَنِ رضي الله عنهما حِينَ أَبَى الإِسْلاَمَ، فَحَلَفَ أَبُو بَكْرٍ أَلاّ يُوَرّثَهُ، فَلَمّا أَسْلَمَ أَمَرَه اللّهُ تَعَالَى أَنْ يُورثهُ نَصِيبَهُ.
ومنها ما روى ابن جرير عن الزهريّ عَن ابْن الْمُسَيّب قَال: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَة فِي الّذِينَ كَانُوا يَتَبَنّوْنَ رِجَالاً غَيْر أَبْنَائِهِمْ وَيُوَرّثُونَهُمْ، فَأَنْزَلَ اللّه فِيهِمْ، فَجَعَلَ لَهُمْ نَصِيباً فِي الْوَصِيّة، وَرَدّ الْمِيرَاث إِلَى الْمَوَالِي فِي ذَوِي الرّحِم وَالْعَصَبَة، وَأَبَى اللّه أن يكون لِلْمُدّعِينَ مِيرَاثاً مِمّنْ اِدّعَاهُمْ وَتَبَنّاهُمْ، وَلَكِنّ جَعَلَ لَهُمْ نَصِيباً فِي الْوَصِيّة.
واعلم أن هذه الوجوه السلفية المروية في نزول الآية، كلها مما تصدق عليها الآية وتشملها وينطبق حكمها عليها: ولا تنافي بينها، لما أسلفناه في مقدمة التفسير، فراجعها ولا تغفل عنها.
هذا ولأبي عليّ الجبائي تأويل آخر في الآية، قال: تقدير الآية: ولكن شيء مما ترك الوالدان والأقربون والذين عاقدت أيمانكم موالي، ورثة {فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ} أي: فآتوا الموالي والورثة نصيبهم، فقوله: {وَالّذِينَ عَاقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ} معطوف على قوله: {الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ} والمعنى: إن ما ترك الذين عاقدت أيمانكم فله وارث هو أولى به، وسمى الله تعالى الوارث مولى، والمعنى: لا تدفعوا المال إلى الحليف بل إلى المولى والوارث.
وقال أبو مسلم الأصفهاني: المراد بـ: {وَالّذِينَ عَاقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ} الزوج والزوجة، والنكاح يسمى عقداً، قال تعالى: {وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النّكَاحِ} [البقرة: 235]، فذكر تعالى الوالدين والأقربين وذكر معهم الزوج والزوجة، ونظيره آية المواريث، في أنه لما بين ميراث الولد والوالدين، ذكر معهم ميراث الزوج والزوجة.
أقول: هذا التأويل المذكور وما قبله طريقة من لا يقف مع الآثار السلفية في التفسير، ويرى مزاحمتهم في الاجتهاد في ذلك، ذهاباً إلى أن ما لم يتواتر في معنى الآية من خبر أو إجماع، فلا حجة في المروي منه آحاداً، مرفوعاً أو موقوفاً، وإن صح، وهذه الطريقة سبيل طائفة قصّرت في علم السمع وأقلت البحث عنه، فنشأ من ذلك النقص من الدين والزيادة فيه بالرأي المحض.
ومذهبنا: أن لا غنى عن الرجوع إلى تفسير الصحابة رضي الله عنهم، لما ثبت من الثناء عليهم في الكتاب والسنة، ولأن القرآن أنزل على لغتهم، فالغلط أبعد عنهم من غيرهم، لاسيما تفسير حبر الأمة وبحرها عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، فمتى صح الإسناد إليه كان تفسيره من أصح التفاسير، مقدماً على كثير من الأئمة الجماهير، لوجوه متعددة: منها: أنه رَضِي اللّهُ عَنْهُ ثبت عنه أنه كان لا يستحل التأويل بالرأي، روي عنه أنه قال: من قال في القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار، وفي رواية «بغير علم» رواه أبو داود في العلم، والنسائي والترمذيّ.
فإذا جزم رَضِي اللّهُ عَنْهُ بأمر كان دليلاً على رفعه، كما أسلفنا في المقدمة.
{إِنّ اللّهَ عَلَى كُلّ شَيْءٍ} من الأشياء التي من جملتها الإيتاء والمنع.
{شَهِيداً} أي: عالماً، ففيه وعد ووعيد.

.تفسير الآية رقم (34):

القول في تأويل قوله تعالى: {الرّجَالُ قَوّامُونَ عَلَى النّسَاء بِمَا فَضّلَ اللّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُواْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لّلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللّهُ وَاللاّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنّ فَعِظُوهُنّ وَاهْجُرُوهُنّ فِي المضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلاَ تَبْغُواْ عَلَيْهِنّ سَبِيلاً إِنّ اللّهَ كَانَ عَلِيّا كَبِيراً} [34].
{الرّجَالُ قَوّامُونَ عَلَى النّسَاء} جمع قوام، وهو القائم بالمصالح والتدبير والتأديب، أي: مسلطون على أدب النساء يقومون عليهن، آمرين ناهين، قيام الولاة على الرعية، وذلك لأمرين: وهبيّ وكسبيّ.
أشار للأول بقوله تعالى: {بِمَا فَضّلَ اللّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} والضمير للرجال والنساء جميعاً، يعني إنما كانوا مسيطرين عليهن بسبب تفضيل الله بعضهم، وهم الرجال، على بعض، وهم النساء، وقد ذكروا، في فضل الرجال، العقل والحزم والعزم والقوة والفروسية والرمي، وإن منهم الأنبياء وفيهم الإمامة الكبرى والصغرى والجهاد والأذان والخطبة والشهادة في مجامع القضايا والولاية في النكاح والطلاق والرجعة وعدد الأزواج وزيادة السهم والتعصيب، وهم أصحاب اللحى والعمائم، والكامل بنفسه له حق الولاية على الناقص.
وأشار للثاني بقوله سبحانه: {وَبِمَا أَنفَقُواْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ} في مهورهن ونفقاتهن فصرن كالأرقاء، ولكون القوامين في معنى السادات وجبت عليهن طاعتهم، كما يجب على العبيد طاعة السادات.
وروى ابن مردويه عن علي رَضِي اللّهُ عَنْهُ قال: أتى رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم رجل من الأنصار بامرأة، فقالت: يا رسول الله! إن زوجها فلان بن فلان الأنصاري، وإنه ضربها فأثر في وجهها، فقال رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم: «ليس له ذلك».
فأنزل الله تعالى: {الرّجَالُ قَوّامُونَ عَلَى النّسَاء} في الأدب، فقال رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم: «أردت أمراً وأراد الله غيره»، ورواه ابن جرير وابن أبي حاتم مرسلاً من طرق.
قال السيوطيّ: وشواهده يقوي بعضها بعضاً، وقال عليّ بن أبي طلحة في هذه الآية عن ابن عباس: يعني أمراء عليهن، أي: تطيعه فيما أمرها الله به من طاعة، وطاعته أن تكون محسنة لأهله حافظة لماله.
وروى الترمذيّ عن أبي هريرة أن رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم قال: «لَوْ كُنْتُ آمِراً أَحَداً أَنْ يَسْجُدَ لأَحَدٍ لأَمَرْتُ الْمَرْأَةَ أَنْ تَسْجُدَ لِزَوْجِهَا».
{فَالصّالِحَاتُ} أي: من النساء.
{قَانِتَاتٌ} أي: مطيعات لله في أزواجهن.
{حَافِظَاتٌ لّلْغَيْبِ} قال الزمخشري: الغيب خلاف الشهادة، أي: حافظات لمواجب الغيب، إذا كان الأزواج غير شاهدين لهن، حفظن ما يجب عليهن حفظه في حال الغيبة، من الفروج والأموال والبيوت.
{بِمَا حَفِظَ اللّهُ} أي: بحفظ الله إياهن وعصمتهن بالتوفيق لحفظ الغيب، فالمحفوظ من حفظه الله، أي: لا يتيسر لهن حفظ إلا بتوفيق الله، أو المعنى: بما حفظ الله لهن من إيجاب حقوقهن على الرجال، أي: عليهن أن يحفظن حقوق الزوج في مقابلة ما حفظ الله حقوقهن على أزواجهن، حيث أمرهم بالعدل عليهن وإمساكهن بالمعروف وإعطائهن أجورهن، فقوله: بما حفظ الله، يجري مجرى ما يقال: هذا بذاك، أي: في مقابلته.
وجعل المهايمي الباء للاستعانة حيث قال: مستعينات بحفظه مخافة أن يغلب عليهن نفوسهن، وإن بلغن من الصلاح ما بلغن. انتهى.
وروى ابن أبي حاتم عن أبي هريرة مرفوعاً: «خير النساء امرأة إذا نظرت إليها سرتك، وإذا أمرتها أطاعتك، وإذا غبت حفظتك في نفسها ومالك، قال: ثم قرأ رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم هذه الآية: {الرّجَالُ قَوّامُونَ عَلَى النّسَاء} إلى آخرها».
وروى الإمام أحمد عَنْ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللهُ عليّه وسلّم:
«إِذَا صَلّتِ الْمَرْأَةُ خَمْسَهَا وَصَامَتْ شَهْرَهَا وَحَفِظَتْ فَرْجَهَا وَأَطَاعَتْ زَوْجَهَا قِيلَ لَهَا: ادْخُلِي الْجَنّةَ مِنْ أي: الأَبْوَابِ شِئْتِ».
تنبيه:
قال السيوطيّ في الإكليل: في قوله تعالى: {الرّجَالُ قَوّامُونَ عَلَى النّسَاء}: إن الزوج يقوم بتربية زوجته وتأديبها ومنعها من الخروج وإن عليها طاعته إلا في معصية، وإن ذلك لأجل ما يجب لها عليه من النفقة، ففهم العلماء من هذا أنه متى عجز عن نفقتها لم يكن قواماً عليها، وسقط ما له من منعها من الخروج.
واستدل بذلك من أجاز لها الفسخ حينئذ، ولأنه إذا خرج من كونه قواماً عليها فقد خرج عن الغرض المقصود بالنكاح.
واستدل بالآية من جعل للزوج الحجر على زوجته في نفسها ومالها، فلا تتصرف فيه إلا بإذنه، لأنه جعله قواماً بصيغة المبالغة، وهو الناظر في الشيء الحافظ له.
واستدل بها على أن المرأة لا تجوز أن تلي القضاء كالإمامة العظمى، لأنه جعل الرجال قوامين عليهن، فلم يجز أن يقمن على الرجال. انتهى.
{وَاللاّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنّ} أي: عصيانهن وسوء عشرتهن وترفعهن عن مطاوعتكم، من النشز وهو ما ارتفع من الأرض يقال: نشزت المرأة بزوجها وعلى زوجها: استعصت عليه، وارتفعت عليه وأبغضته، وخرجت عن طاعته.
{فَعِظُوهُنّ} أي: خوفوهن بالقول، كاتقي الله، واعلمي أن طاعتك لي فرض عليك، واحذري عقاب الله في عصياني، وذلك لأن الله قد أوجب حق الزوج عليها وطاعته، وحرم عليها معصيته، لما له عليها من الفضل والإفضال، وقد قال رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم: «لَوْ كُنْتُ آمِراً أَحَداً أَنْ يَسْجُدَ لأَحَدٍ لأَمَرْتُ الْمَرْأَةَ أَنْ تَسْجُدَ لِزَوْجِهَا». رواه الترمذيّ، عن أبي هريرة والإمام أحمد عن معاذ، والحاكم عن بريدة.
وروى البخاريّ عن أبي هريرة رَضِي اللّهُ عَنْهُ قال: قال رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم: «إِذَا دَعَا الرّجُلُ امْرَأَتَهُ إِلَى فِرَاشِهِ فَأَبَتْ، فَبَاتَ غَضْبَانَ عَلَيْهَا، لَعَنَتْهَا الْمَلاَئِكَةُ حَتّى تُصْبِحَ»، ورواه مسلم، ولفظه: «إِذَا بَاتَتْ الْمَرْأَةُ هَاجِرَةً فِرَاشَ زَوْجِهَا، لَعَنَتْهَا الْمَلَائِكَةُ حَتّى تُصْبِحَ».
{وَاهْجُرُوهُنّ} بعد ذلك إن لم ينفع الوعظ والنصيحة.
{فِي المضَاجِعِ} أي: المراقد فلا تدخلوهن تحت اللحف ولا تباشروهن، فيكون كناية عن الجماع.
قال حماد بن سلمة البصري: يعني النكاح، وقال عليّ بن أبي طلحة عن ابن عباس: الهجر هو أن لا يجامعها، ويضاجعها على فراشها، ويوليها ظهره، وكذا قال غير واحد.
وزاد آخرون منهم السدي والضحاك وعكرمة وابن عباس في رواية: ولا يكلمها مع ذلك ولا يحدثها، وقيل: المضاجع المبايت، أي: لا تبايتوهن.
وفي السنن والمسند عن معاوية بن حيدة القشيري أنه قال: يا رسول الله: ما حق زوجة أحدنا عليه؟ قال: أن تطعمها إذا طمعتَ، وتكسوها إذا اكتسيت، ولا تضرب الوجه، ولا تقبح، ولا تهجر إلا في البيت.
{وَاضْرِبُوهُنّ} إن لم ينجع ما فعلتم من العظمة والهجران، ضرباً غير مبرح أي: شديد ولا شاق، كما ثبت في صحيح مسلم عن جابر عن النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم أنه قال في حجة الوداع: «واتقوا الله في النساء، فإنهن عوانٍ عندكم، وَلَكُمْ عَلَيْهِنّ أَنْ لَا يُوطِئْنَ فُرُشَكُمْ أَحَداً تَكْرَهُونَهُ. فَإِنْ فَعَلْنَ فَاضْرِبُوهُنّ ضَرْباً غَيْرَ مُبَرّحٍ».
قال الفقهاء: هو أن لا يجرحها، ولا يكسر لها عظماً، ولا يؤثر شيناً، ويجتنب الوجه لأنه مجمع المحاسن، ويكون مفرّقاً على بدنها، ولا يوالي به في موضع واحد لئلا يعظم ضرره، ومنهم من قال: ينبغي أن يكون الضرب بمنديل ملفوف، أو بيده! لا بسوط ولا عصا، قال عطاء: ضرب بالسواك.
قال الرازي: وبالجملة، فالتخفيف مراعى في هذا الباب على أبلغ الوجوه، والذي يدل عليه أنه تعالى ابتدأ بالوعظ، ثم ترقى منه إلى الهجران في المضاجع، ثم ترقى منه إلى الضرب، وذلك تنبيه يجري مجرى التصريح في أنه مهما حصل الغرض بالطريق الأخف، وجب الاكتفاء به، ولم يجز الإقدام على الطريق الأشق، وهذه طريقة من قال: حكم هذه الآية مشروع على الترتيب، فإن ظاهر اللفظ، وإن دل على الجمع، إلا أن فحوى الآية يدل على الترتيب.
قال عليّ بن أبي طلحة عن ابن عباس: يهجرها في المضجع، فإن أقبلت وإلا فقد أذن الله لك أن تضربها ضرباً غير مبرح، ولا تكسر لها عظماً، فإن أقبلت وإلا فقد أحل الله لك منها الفدية.
وقال آخرون: هذا الترتيب مراعى عند خوف النشوز، أما عند تحققه فلا بأس بالجمع بين الكل.
وعن النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم: «علقوا السوط حيث يراه أهل البيت، فإنه أدب لهم». رواه عبد بن حميد والطبراني عن ابن عباس، وأبو نعيم في الحلية عن ابن عمر.
{فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلاَ تَبْغُواْ عَلَيْهِنّ سَبِيلاً} أي: إذا رجعن عن النشوز عند هذا التأديب إلى الطاعة في جميع ما يراد منهن مما أباحه الله منهن، فلا سبيل للرجال عليهن بعد ذلك بالتوبيخ والأذية بالضرب والهجران.
{إِنّ اللّهَ كَانَ عَلِيّا كَبِيراً} فاحذروه، تهديد للأزواج على ظلم النسوان من غير سبب، فإنهن، وإن ضعفن عن دفع ظلمكم، وعجزن عن الانتصاف منكم، فالله سبحانه عليّ قاهر كبير قادر، ينتقم ممن ظلمهن وبغى عليهن، فلا تغتروا بكونكم أعلى يداً منهم وأكبر درجة منهن، فإن الله أعلى منكم وأقدر منكم عليهن، فَخَتْمُ الآية بهذين الاسمين، فيه تمام المناسبة، ولما ذكر تعالى حكم النفور والنشوز من الزوجة، ذكر ما إذا كان النفور من الزوجين بقوله: