فصل: تفسير الآية رقم (46):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: محاسن التأويل



.تفسير الآية رقم (46):

القول في تأويل قوله تعالى: {الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاَقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} [46].
{الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاَقُو رَبِّهِمْ} أي: محشورون إليه يوم القيامة للجزاء. والظن هنا بمعنى اليقين، ومثله: {إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ} [الحاقة: 20].
قال ابن جرير: العرب قد تسمي اليقين ظنّاً، نظير تسميتهم الظلمة سُدْفَةً، والضياء سُدْفَةً، والمغيث صارخاً، والمستغيث صارخاً، وما أشبه ذلك من الأسماء التي يسمى بها الشيء وضده.
والشواهد على ذلك من أشعار العرب أكثر من أن تحصر: {وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} أي: بعد الموت فيجازيهم.

.تفسير الآية رقم (47):

القول في تأويل قوله تعالى: {يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ} [47].
{يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ} كرر التذكير للتأكيد ولربط ما بعده من الوعيد الشديد به: {وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ} عطف على نعمتي، عطف الخاص على العام لكماله. أي: فضلت آباءكم: {عَلَى الْعَالَمِينَ} أي: عالمي زمانهم بإنزال الكتاب عليهم، وإرسال الرسل فيهم وجعلهم ملوكاً، وهم آباؤهم الذين كانوا في عصر موسى عليه السلام، وبعده قبل أن يغيروا، وتفضيل الآباء شرف الأبناء.

.تفسير الآية رقم (48):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَاتَّقُواْ يَوْماً لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ} [48].
{وَاتَّقُواْ يَوْماً} يريد يوم القيامة أي: حسابه أو عذابه: {لاَّ تَجْزِي} فيه: {نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً} أي: لا تقضي عنها شيئاً من الحقوق. فانتصاب: {شيئاًْْ} على المفعولية، أو شيئاً من الجزاء فيكون نصبه على المصدرية، وإيراده منكّراً مع تنكير النفس للتعميم، والإقناط الكلي: {وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلاَ يُؤْخَذُ} لا يقبل: {مِنْهَا عَدْلٌ} أي: فدية: {وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ} يمنعون من عذاب الله. وجُمع لدلالة النفس المنكّرة على النفوس الكثيرة، وذُكّر لمعنى العباد أو الأناسي.
تنبيه:
تمسكت المعتزلة بهذه الآية على أن الشفاعة لا تقبل للعصاة؛ لأنه نفى أن تقضي نفس عن نفس حقاً أخلت به من فعل أوترك، ثم نفى أن يقبل منها شفاعة شفيع، فعلم أنها لا تقبل للعصاة.
والجواب: أنها خاصة بالكفار. ويؤيده أن الخطاب معهم كما قال: {فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} [المدثر: 48]، وكما قال عن أهل النار: {فَمَا لَنَا مِن شَافِعِينَ وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ} [الشعراء: 100، 101] فمعنى الآية أنه تعالى لا يقبل فيمن كفر به فدية ولا شفاعة، ولا يُنفذ أحداً من عذابه منقذ، ولا يخلص منه أحد.
وفي الانتصاف: من جحد الشفاعة فهو جدير أن لا ينالها. وأما من آمن بها وصدقها، وهم أهل السنة والجماعة، فأولئك يرجون رحمة الله، ومعتقدهم أنها تنال العصاة من المؤمنين وإنما ادخرت لهم، وليس في الآية دليل لمنكريها؛ لأن قوله: {يوماً} أخرجه منكّراً، ولا شك أن في القيامة مواطن، ويومها معدود بخمسن ألف سنة، فبعض أوقاتها ليس زماناً للشفاعة، وبعضها هو الوقت الموعود، وفيها المقام المحمود لسيد البشر عليه أفضل الصلاة والسلام، وقد وردت آي كثيرة ترشد إلى تعدد أيامها واختلاف أوقاتها، منها قوله تعالى: {فَلا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ} [المؤمنون: 101]، مع قوله: {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ} [الصافات: 27] فيتعين حمل الآيتين على يومين مختلفين، ووقتين متغايرين: أحدهما محل للتناول، والآخر ليس محلاً له. وكذلك الشفاعة، وأدلة ثبوتها لا تحصى كثرة، رزقنا الله الشفاعة، وحشرنا في زمرة أهل السنة والجماعة.

.تفسير الآية رقم (49):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَإِذْ نَجَّيْنَاكُم مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوَءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءكُمْ وَفِي ذَلِكُم بَلاء مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ} [49].
{وَإِذْ نَجَّيْنَاكُم مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ} تذكير لتفاضيل ما أجمل في قوله تعالى: {نعمتي التي أنعمت عليكم} من فنون النعماء. أي: واذكروا وقت تنجيتنا إياكم، أي: آباءكم، فإن تنجيتهم تنجية لأعقابهم. والمراد بالآل: فرعون وأتباعه، فإن الآل يطلق على الشخص نفسه، وعلى أهله وأتباعه وأوليائه. قاله في القاموس.
ثم بين ما أنجاهم منه بقوله: {يَسُومُونَكُمْ} أي: يبغونكم: {سُوَءَ الْعَذَابِ} أي: أفظعه وأشده: {يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءكُمْ} أي: يتركونهم أحياء: {وَفِي ذَلِكُم بَلاء مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ} البلاء إما المحنة، إن أشير بذلكم إلى صنيع فرعون، أو النعمة، إن أشير به إلى الإنجاء. قال ابن جرير: العرب تسمي الخير بلاء، والشر بلاء.
فائدة:
فرعون لقب لمن ملك مصر كافراً، ككسرى لملك الفرس، وقيصر لملك الروم، وتُبّع لمن ملك اليمن كافراً، والنجاشي لمن ملك الحبشة، وخاقان لملك الترك. ولعتوّه أشتق منه: تفرعن الرجل، إذا عتا وتمرد.
وسبب سَوْمِهِ بني إسرائيل سوء العذاب، من تذبيح أبنائهم- على ما روي في التوراة- خوفه من نموهم وكثرة توالدهم. وكانت أرض مصر امتلأت منهم، فإن يوسف عليه السلام، لما استقدم أباه وإخوته وأهلهم من أرض كنعان إلى مصر، أعطاهم ملكاً في أرض مصر في أفضل الأرض كما أمره ملك مصر، وكان لهم في مصر مقام عظيم بسبب يوسف عليه السلام، فتكاثروا وتناسلوا، ولما توفي يوسف عليه السلام، والملك الذي اتخذه وزيراً عنده، انقطع ذلك الاحترام عن بني إسرائيل، إلى أن قام على مصر أحد ملوكها الفراعنة، فرأى غوّ الإسرائيليين، فقال لقومه: أضحى بنو إسرائيل شعباً أكثر منا وأعظم، فهلمّ نحتال لهم لئلا ينمو، فيكون إذا حدثت حرب أنهم ينضمون إلى أعدائنا ويحاربوننا، ويخرجون من أرضنا. فسلط عليهم رؤساء تسخير لكي يذلوهم بأثقالهم، وكانوا كلما أشتد تعبدهم ازدادوا كثرة وشدة، فشق على المصريين كثرتهم واختشوا منهم، فجعل أهل مصر يستعبدونهم جوراً ويمرّرون عليهم حياتهم بالعمل الشديد بالطين واللَّبِن، وكل فلاحة الأرض، وكل الأفعال التي استعبدوهم بها بالمشقة، وأمر فرعون بذبح أبنائهم كما قصه الله تعالى، ولم يزل الأمر في هذه الشدة عليهم حتى نجاهم سبحانه بإرسال موسى عليه السلام. وقوله جل ذكره.

.تفسير الآية رقم (50):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ} [50].
{وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ} بيان لسبب التنجية، وتصوير لكيفيتها، إثر تذكيرها وبيان عظمها وهولها، وقد بين في تضاعيف ذلك نعمة جليلة أخرى هي الإنجاء من الغرق، أي: واذكروا إذ فلقناه بسلوككم، أو ملتبساً بكم، أو بسبب إنجائكم، وفصلنا بين بعضه وبعض حتى حصلت مسالك. فالباء على الأول استعانة، مثلها في: كتبت بالقلم. وعلى الثاني للمصاحبة، مثلها في: أسندت ظهري بالحائط. وعلى الثالث للسببية. والوجه الأول ضعيف من حيث إن مقتضاه أن تفريق البحر وقع ببني إسرائيل والمنصوص عليه في التنزيل أن البحر إنما انفلق بعصا موسى. قال تعالى: {أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ} [الشعراء: 63] فآلة التفريق العصا لا بنو إسرائيل: {فَأَنجَيْنَاكُمْ} أي: من الغرق بإخراجكم إلى الساحل: {وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ} أريد فرعون وقومه، وإنما اقتصر على ذكرهم للعلم بأنه أولى به منهم: {وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ} أي: إلى ذلك وتشاهدونه لا تشكون فيه؛ ليكون ذلك أشفى لصدوركم، وأبلغ في إهانة عدوكم.
وكانت قصة إغراق آل فرعون المشار لها في هذه الآية، على ما روي، أن الحق تعالى لما شاء إخراج بني إسرائيل من مصر من بيت العبودية، أوقع في نفس فرعون أن يطلقهم من مصر. بعد إباء شديد منه، ورؤية آيات إلهية كادت تُحِل به وبقومه البوارَ. فدعا موسى وهارون وقال: اخرجوا من بين شعبي أنتما وبنو إسرائيل جميعاً، واذهبوا اعبدوا الرب كما تكلمتم. فلما ارتحلوا وأخبر فرعون أن الشعب قد هرب، تغير قلبه عليهم، وقال: ماذا فعلنا حتى أطلقناهم من خدمتنا؟ فشد مركبته وأخذ قومه معه وسعى وراءهم، وأدركهم وهم نازلون عند بحر القلزم، وهو المشهور ببحر السويس فلما رأت بنو إسرائيل عسكر فرعون وراءهم، قالوا: يا موسى أين ما وعدتنا من النصر والظفر؟ فلو بقينا على خدمة المصريين لكان خيراً لنا من أن نهلك في هذه البرية: {قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [الأعراف: 128] وقال: {عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} [الأعراف: 129]. وأوحى الله إلى موسى عليه السلام أن اضرب بعصاك البحر فضربه فانفلق، وأيبس قعره، فدخل بنو إسرائيل فيه، فتبعهم فرعون وجنوده، فخرج موسى وقومه من الجهة الثانية، وانطبق البحر على فرعون ومن معه فغرقوا كلهم. وسيأتي الإشارة إلى هذه القصة في مواضع من التنزيل، ومن أبسطها فيه سورة الشعراء.

.تفسير الآية رقم (51):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِن بَعْدِهِ وَأَنتُمْ ظَالِمُونَ} [51].
{وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى} أي: بعد فراغه من مقاومة آل فرعون وإهلاكهم: {أَرْبَعِينَ لَيْلَةً} أي: لنعطيه عند انقضائها التوراة لتعملوا بها. وقد روي في ترجمة التوراة أنه تعالى قال لموسى: اصعد إلى الجبل وكن هناك فأعطيك ألواحاً من حجارة والشريعة والوصية التي كتبتها لتعلمهم. فصعد موسى إلى الجبل، وبقي هناك أربعين يوماً وأربعين ليلة. وموسى: كلمة عبرانية معناها منشول من الماء: {ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ} أي: إلهاًً ومعبوداً: {مِن بَعْدِهِ} أي: من بعد مضيّه للميقات: {وَأَنتُمْ ظَالِمُونَ} أي: بوضع العبادة في غير موضعها، وهو حال من ضمير اتخذتم، أو اعتراض تذييليّ، أي: وأنتم قوم عادتكم الظلم.

.تفسير الآية رقم (52):

القول في تأويل قوله تعالى: {ثُمَّ عَفَوْنَا عَنكُمِ مِّن بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [52].
{ثُمَّ عَفَوْنَا عَنكُمِ} أي: محونا ذنوبكم: {مِّن بَعْدِ ذَلِكَ} أي: الاتخاذ والظلم القبيح: {لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} لكي تشكروا نعمة العفو وتستمروا بعد ذلك على الطاعة.

.تفسير الآية رقم (53):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [53].
{وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ} يعني الجامع بين كونه كتاباً منزلاً، وفرقاناً يفرق بين الحق والباطل، يعني التوراة، كقولك: رأيت الغيث والليث تريد الرجل الجامع بين الجود والجراءة، ونحوه قوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْراً لِلْمُتَّقِينَ} [الأنبياء: 48] يعني الكتاب الجامع بين كونه فرقاناً وضياء وذكراً، أو التوراة والبرهان الفارق بين الكفر والإيمان من العصا واليد وغيرها من الآيات، أو الشرع الفارق بين الحلال والحرام. وقيل: الفرقان انفراق البحر. وقيل: النصر الذي فرق بينه وبين عدوه، كقوله تعالى: {يَوْمَ الْفُرْقَانِ} [الأنفال: 41] يريد به يوم بدر: {لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} أي: لكي تهتدوا بالعمل فيه من الضلال.

.تفسير الآية رقم (54):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُواْ إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ عِندَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [54].
{وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُواْ إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ عِندَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} هذه الآية بيان لكيفية وقوع العفو المذكور في الآية قبلُ، روى أن موسى عليه السلام لما رجع من الميقات، ورأى ما صنع قومه بعده من عُبَاْدَة العجل، غضب ورمى باللوحين من يده، فكسرهما في أسفل الجبل، ثم أحرق العجل الذي صنعوه، ثم قال: من كان من حزب الرب فليُقبل إليّ. فاجتمع إليه جميع بني لاوى، وقال لهم: هذا ما يقول الرب إله إسرائيل: ليتقلد كل رجل منكم سيفه. فجوزوا في وسط المحلة من باب وارجعوا، وليقتل الرجل منكم أخاه وصاحبه وقريبه. فصنع بنو لاوى كما أمرهم موسى، فقتلوا في ذلك اليوم من الشعب نحو ثلاثة وعشرين ألف رجل، وفي رواية نحو ثلاثة آلاف رجل، وفي غد ذلك اليوم كلم موسى الشعب، وقال لهم: أنتم قد أخطأتم خطيئة عظيمة، وإني الآن أصعد إلى الرب فأتضرع إليه من أجل خطيئتكم. فصعد موسى وتضرع للرب وسأل المغفرة لقومه.
ولاوي: ثالث مولود ليعقوب عليه السلام من أولاده الاثني عشر، معناه في العربية ملتصق أو متصل. والأحبار اللاويّون ينسبون إليه، وقد اختارهم تعالى من بني إسرائيل على لسان موسى عليه السلام للخدمة المقدسة، وجعلهم من المقربين لديه. وبما سقناه يعلم أن قوله تعالى: {فَاقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ} أمر لمن لم يعبد العجل، أعني اللاويين، أن يقتلوا العَبَدَة. لا كما فهمه بعضهم من قتل بعضهم بعضاًَ مطلقاًَ.

.تفسير الآيات (55- 56):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ ثُمَّ بَعَثْنَاكُم مِّن بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [55- 56].
{وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ ثُمَّ بَعَثْنَاكُم مِّن بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} أي: واذكروا نعمتي عليكم في بعثي لكم بعد الصعق؛ إذ سألتم رؤيتي عياناً مما لا يستطاع لكم ولا لأمثالكم في دار الدنيا. وقد ذهب كثير من المفسرين إلى أن القائلين لموسى ذلك هم السبعون المختارون. ويؤيده آية الأعراف: {وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِمِيقَاتِنَا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ} [الأعراف: 155] الآية.
وقد غلط أهل الكتاب في دعواهم أن هؤلاء رأوا الله عز وجل، فإن موسى الكليم عليه السلام قد سأل ذلك، فمنع منه، فكيف يناله هؤلاء السبعون؟ أفاده ابن كثير. وقد رأيت دعواهم المذكورة في الفصل الرابع والعشرين في سفر الخروج، وهذا من المواضع المحقق تحريفها، ويدل عليه ما في الفصل الثالث والثلاثين من السفر المذكور أنه تعالى قال لموسى: لا تقدر أن ترى وجهي لأن الإنسان لا يراني ويعيش.
وجهرةً: في الأصل، مصدر قولك جهرت بالقراءة. استعيرت للمعاينة لما بينهما من الاتحاد، في الوضوح والانكشاف، إلا أن الأول في المسموعات، والثاني في المبصرات، ونصبها على المصدر لأنها نوع من الرؤية، فنصبت بفعلها كما تنصب القرفصاء بفعل الجلوس، أو على الحال من الفاعل أو المفعول.
قال ابن جرير: وأصل الصاعقة كل أمر هائل رآه، أو عاينه، أو أصابه، حتى يصير من هوله وعظيم شأنه إلى هلاك وعطب، وإلى ذهاب عقل وغمور فهم، أو فقد بعض آلات الجسم، صوتاً كان ذلك أو ناراً، أو زلزلة أو رجفاً. قال: ومما يدل على أنه قد يكون مصعوقاً، وهو حيّ غير ميت، قول الله عز وجل: {وَخَرَّ موسَى صَعِقاً} يعني مغشياً عليه. ومنه قول جرير:
وَهَلْ كَانَ الْفَرَزْدَقُ غَيْرَ قِرْدٍ ** أَصَابَتْهُ الصَّوَاعِقُ فَاسْتَدَارَا

فقد علم أن موسى لم يكن، حين غُشي عليه وصعق ميتاً؛ لأن الله، جل وعز، أخبر عنه أنه لما أفاق قال: تبت إليك. ولا شبّه جريرٌ الفرزدقَ، وهو حيّ، بالقرد ميتاً، ولكن معنى ذلك ما وصفناه.
وقوله تعالى: {وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ} أي: إلى تلك الصاعقة. وقوله تعالى: {ثُمَّ بَعَثْنَاكُم مِّن بَعْدِ مَوْتِكُمْ} قال الراغب الأصبهاني في تفسيره: البعث إرسال المبعوث من المكان الذي فيه، لكن فرق بين تفاسيره بحسب اختلاف المعلق به، فقيل: بعثت البعير من مبركه أي: أثرته، وبعثته في السير أي: هيجته، وبعث الله الميت أحياه، وضرب البعث على الجند إذا أمروا بالارتحال. وكل ذلك واحد في الحقيقة، وإنما اختلف لاختلاف صور المبعوثات. ثم قال: والموت حُمِلَ على المعروف، وحُمِلَ أيضاً على الأحوال الشاقة الجارية مجرى الموت، وليس يقتضى قوله: {فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ} أنهم ماتوا، ألا ترى إلى قوله: {وَخَرَّ موسَى صَعِقاً} لكن الآية تحتمل الأمرين، وحقيقة ما كان إنما يعتمد فيها على السمع المُتعري عن الاحتمالات. انتهى.
وقد يؤيد الثاني آية الأعراف المذكرة وهي: {وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِمِيقَاتِنَا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ} [الأعراف: 155]، فالرجفة هي المسماة بالصاعقة هنا، والتنزيل يفسر بعضه بعضاً، والأصل توافق الآي. وقد ذكر ابن إسحاق والسدّي أن الذين أخذتهم الرجفة هم الذين سألوا موسى رؤية الله جهرة، وسيأتي في الأعراف بسط ذلك إن شاء الله.
دلت الآية على أن طلب رؤيته تعالى في الدنيا مستنكر غير جائر، ولذا لم يذكر، سبحانه وتعالى، سؤال الرؤية إلا استعظمه، وذلك في آيات: منها هذه. ومنها قوله تعالى: {يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَاباً مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ} [النساء: 153]. ومنها قوله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوّاً كَبِيراً} [الفرقان: 21] فدلت هذه التهويلات الفظيعة الواردة لطالبيها في الدنيا على امتناعها فيها. وكما أخبر تعالى بأنه لا يرى في الدنيا، فقد وعد الوعد الصادق عز وجل برؤيته في الدار الآخرة في آيات عديدة، كما تواترت الأحاديث الصحيحة بذلك، وهي قطيعة الدلالة، لا ينبغي لمنصفٍ أن يتمسك في مقابلها بتلك القواعد الكلامية التي جاء بها قدماء المعتزلة، وزعموا أن العقل قد حكم بها.