فصل: تفسير الآية رقم (84):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: محاسن التأويل



.تفسير الآية رقم (84):

القول في تأويل قوله تعالى: {فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ لاَ تُكَلّفُ إِلاّ نَفْسَكَ وَحَرّضِ المؤْمِنِينَ عَسَى اللّهُ أَن يَكُفّ بَأْسَ الّذِينَ كَفَرُواْ وَاللّهُ أَشَدّ بَأْساً وَأَشَدّ تَنكِيلاً} [84].
{فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ} تلوين الخطاب، وتوجيه له إلى رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم بطريق الالتفات وهو جواب شرط محذوف ينساق إليه النظم الكريم، أي: إذا كان الأمر، كما حكى من عدم طاعة المنافقين وكيدهم، فقاتل أنت وحدك غير مكترث بما فعلوا، قاله أبو السعود.
{لاَ تُكَلّفُ إِلاّ نَفْسَكَ} أي: إلا فعل نفسك، بالتقدم إلى الجهاد، فإن الله هو ناصرك، لا الجنود، فإن شاء نصرك وحدك، كما ينصرك وحولك الألوف، أي: ومن نكل، فلا عليك منه ولا تؤاخذ به.
قال الرازيّ: دلت الآية على أنه صَلّى اللهُ عليّه وسلّم كان أشجع الخلق وأعرفهم بكيفية القتال، لأنه تعالى ما كان يأمره بذلك إلا وهو صَلّى اللهُ عليّه وسلّم موصوف بهذه الصفات، ولقد اقتدى به أبو بكر رَضِي اللّهُ عَنْهُ حيث حاول الخروج وحده إلى قتال مانعي الزكاة، ومن علم أن الأمر كله بيد الله، وأنه لا يحصل أمر من الأمور إلا بقضاء الله، سهل ذلك عليه.
وروى ابن أبي حاتم عن أبي إسحاق قال: سألت البراء بن عازب عن الرجل يلقى المائة من العدو فيقاتل، فيكون ممن قال الله فيه: {وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التّهْلُكَةِ}؟ قال: قد قال الله تعالى لنبيه: {فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ لاَ تُكَلّفُ إِلاّ نَفْسَكَ}.
ورواه الإمام أحمد أيضاً عنه قال: قلت للبراء: الرجل يحمل على المشركين، أهو ممن ألقى بيده إلى التهلكة؟ قال: لا، إن الله بعث رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم فقال: {فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ لاَ تُكَلّفُ إِلاّ نَفْسَكَ} إنما ذلك في النفقة.
{وَحَرّضِ المؤْمِنِينَ} أي: على الخروج معك وعلى القتال، ورغبهم فيه وشجعهم عليه، كما قال لهم صَلّى اللهُ عليّه وسلّم، يوم بدر، وهو يسوي الصفوف: قوموا إلى جنة عرضها السماوات والأرض، وقد وردت أحاديث كثيرة في الترغيب في ذلك، منها:
ما رواه البخاريّ عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم: «إِنَّ فِي الْجَنَّةِ مِائَةَ دَرَجَةٍ أَعَدَّهَا اللَّهُ لِلْمُجَاهِدِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، بَيْنَ كل الدَّرَجَتَيْنِ كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ».
{عَسَى اللّهُ أَن يَكُفّ} أي: يمنع: {بَأْسَ} أي: قتال: {الّذِينَ كَفَرُواْ} وهم كفار مكة أي: بتحريضك إياهم على القتال، تبعث هممهم على مناجزة الأعداء ومدافعتهم عن حوزة الإسلام وأهله، ومقاومتهم ومصابرتهم.
قال أبو السعود: وقوله تعالى: {عَسَى} إلخ عِدَةٌ منه سبحانه وتعالى محققة الإنجاز بكف شدة الكفرة ومكروههم، فإن ما صدر بلعل وعسى مقرر الوقوع من جهته عز وجل، وقد كان كذلك، حيث روي في السيرة أن رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم واعد أبا سفيان، بعد حرب أُحُد، موسم بدر الصغرى في ذي القعدة، فلما بلغ الميعاد دعا الناس إلى الخروج، وخرج في شعبان سنة أربع في سبعين راكباً، ووافوا الموعد وألقى الله تعالى في قلوب الذين كفروا الرعب، فرجعوا من مر الظهران. انتهى. بزيادة.
وقال في ذلك عبد الله بن رواحة- وقيل كعب بن مالك-:
وَعَدْنَا أَبَا سُفْيَانَ بَدْراً فَلَمْ نَجِدْ ** لميعاده صِدْقاً وَمَا كَانَ وَافِيَا

فَأُقْسِمُ لَوْ وَافَيْتنَا فَلَقِيتنَا ** لأُبْت ذَمِيماً وَافْتَقَدْت الْمَوَالِيَا

تَرَكْنَا بِهَا أَوْصَالَ عُتْبَةَ وَابْنِه ** وَعَمْراً، أَبَا جَهْلٍ، تَرَكْنَاهُ ثَاوِيَا

عَصَيْتُمْ رَسُولَ اللّهِ أُفّ لِدِينِكُمْ ** وَأَمْرُكُمْ السّيّئُ الّذِي كَانَ غَاوِيَا

فِإنّي وَإِنْ عَنّفْتُمُونِي لَقَائِلٌ ** فِدًى لِرَسُولِ اللّهِ أَهْلِي وَمَالِيَا

أَطَعْنَاه لَمْ نَعْدِلْه فينا بِغَيْرِهِ ** شِهَاباً لَنَا فِي ظُلْمَةِ اللّيْلِ هَادِيَا

{وَاللّهُ أَشَدّ بَأْساً} أي: شدة وقوة من قريش: {وَأَشَدّ تَنكِيلاً} أي: تعذيباً وعقوبة.
قال ابن كثير: أي: هو قادر عليهم في الدنيا والآخرة، كما قال تعالى: {ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللّهُ لانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍٍ} [محمد: من الآية 4]. انتهى.
قال الخفاجي: والقصد التهديد أو التشجيع، ثم أشار تعالى إلى أن التحريض على القتال شفاعة في تكفير الكبائر ورفع الدرجات فقال:

.تفسير الآية رقم (85):

القول في تأويل قوله تعالى: {مّن يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُن لّهُ نَصِيبٌ مّنْهَا وَمَن يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيّئَةً يَكُن لّهُ كِفْلٌ مّنْهَا وَكَانَ اللّهُ عَلَى كُلّ شَيْءٍٍ مّقِيتاً} [85].
{مّن يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً} أي: يتوسط في أمر فيترتب عليه خير من دفع ضر، أو جلب نفع، ابتغاء لوجه الله تعالى، ومنه حمل المؤمنين على قتال الكفار.
{يَكُن لّهُ نَصِيبٌ مّنْهَا} وهو ثواب الشفاعة والتسبب إلى الخير الواقع بها.
{وَمَن يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيّئَةً} وهي ما كانت بخلاف الحسنة، بأن كانت في أمر غير مشروع.
{يَكُن لّهُ كِفْلٌ مّنْهَا} أي: نصيب من وزرها الذي ترتب على سعيه، مساوٍٍ لها في المقدار من غير أن ينقص منه شيء.
فوائد:
الأولى: قال السيوطيّ في الإكليل: في الآية مدح الشفاعة وذم السعاية وهي الشفاعة السيئة، وذكر الناس عند السلطان بالسوء، وهي معدودة من الكبائر.
الثانية: روي في فضل الشفاعة أحاديث كثيرة، منها:
ما أخرجه الشيخان عن أبي موسى الأشعري رَضِي اللّهُ عَنْهُ قال: كان النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم إذا أتاه طالب حاجة أقبل على جلسائه فقال: «اشْفَعُوا تُؤْجَرُوا وَيَقْضِي اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ مَا أحب».
وعن ابن عباس رضي الله عنهما في قصة بَرِيرَةَ وزوجها قال: قال لها النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم: «لَوْ رَاجَعْتِهِ!» قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ تَأْمُرُنِي؟ قال: «إِنَّمَا أَنَا أَشْفَعُ»، قَالَتْ: لاَ حَاجَةَ لِي فِيهِ، رواه البخاريّ.
الثالثة- قال مجاهد والحسن والكلبي وابن زيد: نزلت هذه الآية في شفاعات الناس بعضهم لبعض، فما يجوز في الدين أن يشفع فيه، فهو شفاعة حسنة، وما لا يجوز أن يشفع فيه، فهو شفاعة سيئة.
ثم قال الحسن: من يشفع شفاعة حسنة كان له فيها أجر، وإن لم يشفع، لأن الله يقول: من يشفع، ولم يقل: من يشفع، ويتأيد هذا بقوله عليه الصلاة والسلام: «اشْفَعُوا تُؤْجَرُوْا»، نقله الرازيّ.
الرابعة: قال الزمخشريّ: الشفاعة الحسنة هي التي روعي بها حق مسلم، ودفع بها عنه شر، أو جلب إليه خير، وابتغي بها وجه الله، ولم تؤخذ عليها رشوة، وكانت في أمر جائز، لا في حد من حدود الله، ولا في حق من الحقوق، يعني الواجبة عليه، والسيئة ما كان بخلاف ذلك، وعن مسروق: أنه شفع شفاعة، فأهدى إليه المشفوع جارية فغضب وردها، وقال: لو علمت ما في قلبك لما تكلمت في حاجتك، ولا أتكلم فيما بقي منها. انتهى.
وروى أبو داود: أن رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم قال: «مَنْ شَفَعَ لأَخِيهِ بِشَفَاعَةٍ، فَأَهْدَى لَهُ هَدِيَّةً عَلَيْهَا، فَقَبِلَهَا، فَقَدْ أَتَى بَاباً عَظِيماً مِنْ أَبْوَابِ الرِّبَا».
وهذا الحديث أورده أيضاً المنذري في كتاب الترغيب والترهيب في ترجمة الترغيب في قضاء حوائج المسلمين وإدخال السرور عليهم، وما جاء فيمن شفع فأهدي إليه ثم ساق حديث الشيخين وغيرهما عن ابن عمر أن رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم قال: «الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ، لاَ يَظْلِمُهُ وَلاَ يُسْلِمُهُ، وَمَنْ كَانَ فِي حَاجَةِ أَخِيهِ كَانَ اللَّهُ فِي حَاجَتِهِ، وَمَنْ فَرَّجَ عَنْ مُسْلِمٍ كُرْبَةً فَرَّجَ اللَّهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرُبَ الدُنيَا يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِماً سَتَرَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ».
وروى الطبراني بإسناد جيد عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم: «من ما عبد أنعم الله نعمة فأسبغها عليه، ثم جعل من حوائج الناس إليه فتبرّم، فقد عرّض تلك النعمة للزوال».
وروي نحوه عن عائشة وابن عمر وابن عَمْرو.
وروى الطبراني وابن حبان في صحيحه عن عائشة- رَضِي اللّهُ عَنْهَا- قالت: قال رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم: «من كان وصلة لأخيه المسلم إلى ذي سلطان في مبلغ برٍّ، أو تيسير عسير، أعانه الله إجازة الصراط يوم القيامة عند دحض الأقدام».
وفي رواية للطبراني عن أبي الدرداء: «رفعه الله في الدرجات العلا من الجنة».
وروى الطبراني عن الحسن بن عليّ رضي الله عنهما عن النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم: «إن من موجبات المغفرة إدخالك السرور على أخيك المسلم».
ورواه عن عمر مرفوعاً بلفظ: «أفضل الأعمال إدخال السرور على المؤمن».
ورواه بنحو ذلك أيضاً عن ابن عمر وابن عباس وعائشة وغيرهم، انظر الترغيب.
الخامسة: نكتة اختيار النصيب في الحسنة والكفل في السيئة ما أشرنا إليه، وذلك أن النصيب يشمل الزيادة، لأن جزاء الحسنات يضاعف، وأما الكفل فأصله المركب الصَّعب، ثم استعير للمثل المساوي، فلذا اختير، إشارة إلى لطفه بعباده، إذ لم يضاعف السيئات كالحسنات، ويقال: إنه وإن كان معناه المثل لكنه غلب في الشر وندر في غيره، كقوله تعالى: {يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رّحْمَتِهِ} [الحديد: 28]، فلذا خص به السيئة تطرية وهرباً من التكرار.
ومِنْ بيانية أو ابتدائية، أفاده الخفاجي.
{وَكَانَ اللّهُ عَلَى كُلّ شَيْءٍٍ مّقِيتاً} أي: مقتدراً، من أقات على الشيء إذا اقتدر عليه كما قال:
وذي ضِغْنٍ كففتُ النفس عنه ** وكنتُ على مساءته مُقيتاً

أي رب ذي حقد عليّ كففت السوء عنه مع القدرة عليه، أو شهيداً حافظاً، واشتقاقه من القوت فإنه يقوي البدن ويحفظه، وقوله تعالى:

.تفسير الآية رقم (86):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَإِذَا حُيّيْتُم بِتَحِيّةٍٍ فَحَيّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدّوهَا إِنّ اللّهَ كَانَ عَلَى كُلّ شَيْءٍٍ حَسِيباً} [86].
{وَإِذَا حُيّيْتُم بِتَحِيّةٍٍ} أي: إذا سلم عليكم فدعى لسلامة حياتكم وصفاتكم التي بها كمال الحياة بتحية، فقيل: السلام عليكم.
{فَحَيّواْ} أي: أداءً لحق المسلم عليكم.
{بِأَحْسَنَ مِنْهَا} أي: بتحية أحسن منها، بأن تقولوا: وعليكم السلام ورحمة الله، ولو قالها المسلم، زيد: وبركاته.
قال الراغب: أصل التحية الدعاء بالحياة وطولها، ثم استعملت في كل دعاء، وكانت العرب إذا لقي بعضهم بعضاً، يقول: حياك الله، ثم استعملها الشرع في السلام، وهي تحية الإسلام، قال الله تعالى: {تَحِيّتُهُمْ فِيهَا سَلامٌ} [إبراهيم: من الآية 23]، وقال: {تَحِيّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ} [الأحزاب: من الآية 44] وقال: {فَسَلموا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيّةً مِنْ عِنْدِ اللّهِ} [النور: من الآية 61]، قالوا: في السلام مزية على حياك لما أنه دعاء بالسلامة من الآفات الدينية والدنيوية، وهي مسلتزمة لطول الحياة، وليس في الدعاء بطول الحياة ذلك، ولأن السلام من أسمائه تعالى، فالبداءة بذكره مما لا ريب في فضله ومزيته.
{أَوْ رُدّوهَا} أي: أجيبوها بمثلها، ورد السلام ورجعه: جوابه بمثله، لأن المجيب يرد قول المسلم ويكرره.
{إِنّ اللّهَ كَانَ عَلَى كُلّ شَيْءٍٍ حَسِيباً} أي: فيحاسبكم على كل شيء من أعمالكم التي من جملتها ما أمرتم به من التحية، فحافظوا على مراعاتها حسبما أمرتم به، وفي الآية فوائد شتى:
الأولى: نكتة نظمها مع آيات الجهاد هو التمهيد لمنع المؤمنين من قتل من ألقى إليهم السلام في الحرب الآتي قريباً، ببيان أن لكل مسلم حقاً يؤدى إليه، وذلك لأن السلام نوع من الإكرام، والمكرم يقابل بمثل إكرامه أو أزيد.
قال الرازيّ: إن الرجل في الجهاد كان يلقاه الرجل في دار الحرب أو ما يقاربها فيسلم عليه، فقد لا يلتفت إلى سلامه عليه ويقتله، وربما ظهر أنه كان مسلماً، فمنع الله المؤمنين عنه، وأمرهم أن كل من يسلم عليهم ويكرمهم بنوع من الإكرام يقابلونه بمثل ذلك الإكرام أو أزيد، فإنه إن كان كافراً لا يضر المسلم، إن قابل إكرام ذلك الكافر بنوع من الإكرام، أما إن كان مسلماً، وقتله، ففيه أعظم المصادر والمفاسد.
ولذا قال: {إِنّ اللّهَ كَانَ عَلَى كُلّ شَيْءٍٍ حَسِيباً} أي: هو محاسبكم على كل أعمالكم، وكاف في إيصال جزاء أعمالكم إليكم، فكونوا على حذر من مخالفة هذا التكليف، فهذا يدل على شدة العناية بحفظ الدماء، والمنع من إهدارها.
وقد روى ابن أبي حاتم عن عِكْرِمَة عن ابن عباس قال: من سلم عليك من خلق الله فاردد عليه، وإن كان مجوسياً ذلك بأن الله يقول: {فَحَيّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدّوهَا}.
وقال قتادة: فحيوا بأحسن منها، يعني للمسلمين، أو ردوها، يعني لأهل الذمة، ومن هنا حكى المارودي وجهاً: أنه يقول في الرد على أهل الذمة، إذا ابتدؤوا: وعليكم السلام، ولا يقول: ورحمة الله نقله عنه النووي.
وروى الزمخشريّ عن الحسن أنه يجوز أن يقال للكافر: وعليك السلام، ولا تقل: ورحمة الله، فإنها استغفار.
وعن الشعبي أنه قال لنصراني سلم عليه: وعليك السلام ورحمة الله، فقيل له في ذلك، فقال: أليس في رحمة الله يعيش؟ انتهى.
والظاهر أنه لحظ الأخبار بذلك ولم يرد مضمون التحية، ومع هذا فالثابت في الصحيحين عن أنس مرفوعاً: «إِذَا سَلَّمَ عَلَيْكُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ فَقُولُوا وَعَلَيْكُمْ»، كما يأتي.
قال السيوطيّ في الإكليل: في هذه الآية مشروعية السلام ووجوب رده، واستدل به الجمهور على رد السلام على كل مسلم، مسلماً كان أو كافراً، لكن مختلفان في صيغة الرد.
الثانية: ورد في إفشاء السلام أحاديث كثيرة، منها:
قول البراء بن عازب رضي الله عنهما: أمرنا رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم بِسَبْعٍ، منها: وإفشاء السلام، رواه الشيخان.
وعن أبي هريرة رَضِي اللّهُ عَنْهُ قال: قال رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم: «لاَ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ حَتَّى تُؤْمِنُوا وَلاَ تُؤْمِنُوا حَتَّى تَحَابُّوا، أَلاَ أَدُلُّكُمْ عَلَى شيءٍ إِذَا فَعَلْتُمُوهُ تَحَابَبْتُمْ؟ أَفْشُوا السَّلاَمَ بَيْنَكُمْ» رواه مسلم.
وعن عبد الله بن سلام رَضِي اللّهُ عَنْهُ قال: قال رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم: «أَيُّهَا النَّاسُ! أَفْشُوا السَّلَامَ، وَأَطْعِمُوا الطَّعَامَ، وَصِلُوا الْأَرْحَامَ، وَصَلُّوا بِاللَّيْلِ وَالنَّاسُ نِيَامٌ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ بِسَلَامٍ» قال الترمذيّ: حديث صحيح.
الثالثة: في كيفية السلام، قال الرازيّ: إن شاء قال: سلام عليكم، وإن شاء قال: السلام عليكم، قال تعالى في حق نوح: {يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍٍ مِنّا} [هود: من الآية 48]، وقال عن الخليل: {قَالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبّي} [مريم: من الآية 47]، وقال في قصة لوط: {قَالُوا سَلاماً قَالَ سَلام} [هود: من الآية 69]، وقال عن يحيى: {وَسَلامٌ عَلَيْه} [مريم: من الآية 15]، وقال عن محمد صَلّى اللهُ عليّه وسلّم: {قُلِ الْحَمْدُ لِلّهِ وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الّذِينَ اصْطَفَى} [النمل: من الآية 59] وقال عن الملائكة: {وَالملائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلّ بَابٍٍ} [الرعد: من الآية 23]: {سَلامٌ عَلَيْكُمْ} [الرعد: من الآية 24]، وقال عن نفسه المقدسة: {سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبّ رَحِيمٍٍ} [يس: 58]، وقال: {فَقُلْ سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ} [الأنعام: 54]، وأما بالألف واللام فقوله عن موسى عليه السلام: {فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرائيلَ وَلا تُعَذّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍٍ مِنْ رَبّكَ وَالسّلامُ عَلَى مَنِ اتّبَعَ الْهُدَى} [طه: من الآية 47]، وقال عن عيسى عليه السلام: و{وَالسّلامُ عليّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيّاً} [مريم: 33] فثبت أن الكل جائز. انتهى.
قال الإمام أبو الحسن الواحدي: أنت في تعريف السلام وتنكيره بالخيار. انتهى.
ولكثرة ورود التنكير في القرآن، على ما بيناه، فضله بعضهم على التعريف.
الرابعة: في فضله، روى الإمام أحمد وأبو داود والترمذيّ والدارمي عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ رَضِي اللّهُ عَنْهُ: جَاءَ رَجُل إِلَى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: السَّلاَمُ عَلَيْكُمْ. فَقَالَ النَّبِيُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «عَشْرٌ». ثُمَّ جَاءَ آخَرُ فَقَالَ: السَّلاَمُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «عِشْرُونَ». ثُمَّ جَاءَ آخَرُ فَقَالَ: السَّلاَمُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ثَلاَثُونَ».
قال الترمذيّ: حديث حسن صَحِيحٌ غَرِيبٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ.
وَفِي الْبَابِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ وَعَلِيٍ وَسَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ.
وقال البزار: قد روي هذا عن النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم من وجوه، هذا أحسنها إسناداً.
وفي رواية لأبي داود، من رواية معاذ بن أنس رَضِي اللّهُ عَنْهُ زيادة على هذا، قال: ثم أتى آخر، فَقَالَ: السَّلاَمُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ وَمَغْفِرَتُهُ، قَالَ: «أَرْبَعُونَ»، قَالَ: «هَكَذَا تَكُونُ الْفَضَائِلُ».
وفيه رد على من زعم أنه لا يزاد على وبركاته، لا يقال رواية ومغفرته عند أبي داود، هي من طريق أبي مرحوم واسمه عبد الرحيم بن ميمون عن سهل بن معاذ عن أبيه، وأبو مرحوم ضعفه يحيى.
وقال أبو حاتم: يكتب حديثه ولا يحتج به- لأنا نقول: قد حسّن الترمذيّ روايته عن سهل بن معاذ، وصححها أيضاً هو وابن خزيمة والحاكم وغيرهم.
قال النسائي: لا يترك حديث الرجل حتى يجتمع الجميع على تركه.
عود:
وروى الطبراني عن سهل بن حنيف رَضِي اللّهُ عَنْهُ قال: قال رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم: «من قال: السلام عليكم كتب له عشر حسنات، ومن قال: السلام عليكم ورحمة الله، كتبت عشرون حسنة، ومن قال: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته كتبت له ثلاثون حسنة».
وروى ابن حيان في صحيحه عن أبي هريرة، رَضِي اللّهُ عَنْهُ أن رجلاً مر على رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم وهو في مجلس فقال: سلام عليكم، فقال: «عشر حسنات»، ثم مر آخر فقال: سلام عليكم ورحمة الله فقال: «عشرون حسنة»، ثم مر آخر فقال: سلام عليكم ورحمة الله وبركاته فقال: «ثلاثون حسنة»، فقام رجل من المجلس ولم يسلم، فقال النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم: «ما أوشك ما نسي صاحبكم، إذا جاء أحدكم إلى المجلس فليسلم، فإن بدا له أن يجلس فليجلس، وإن قام فليسلم، فليست الأولى بأحق من الآخرة».
وروى الطبراني بإسناد جيد عن عبد الله بن مُغَفَّل قال: قال رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم: «أبخل الناس من بخل بالسلام». ورواه أيضاً عن أبي هريرة، ولأحمد والبزار نحوه عن جابر.
وروى الطبراني عن حذيفة بن اليمان عن النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم قال: «إن المؤمن إذا لقي المؤمن فسلم عليه وأخذ بيده تناثرت خطاياهما كما تتناثر ورق الشجر».
قال المنذري: ورواته لا أعلم فيهم مجروحاً.
وروى البزار عن عُمَر بن الخطاب قال: قال رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم: «إذا التقى الرجلان المسلمان فسلم أحدهما على صاحبه، فإن أحبهما إلى الله أحسنهما بشراً لصاحبه، فإذا تصافحا نزلت عليهما مائة رحمة: للبادئ منهما تسعون، وللمصافح عشرة».
وروى أبو داود عن أبي أمامة قال: قال رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم: «إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِاللَّهِ مَنْ بَدَأَهُمْ بِالسَّلاَمِ».
الخامسة: في بعض أحكامه المأثورة، روى أبو داود عن علي رَضِي اللّهُ عَنْهُ عن النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم قال: «يُجْزِئُ عَنِ الْجَمَاعَةِ إِذَا مَرُّوا أَنْ يُسَلِّمَ أَحَدُهُمْ، وَيُجْزِئُ عَنِ الْجُلُوسِ أَنْ يَرُدَّ أَحَدُهُمْ».
وفي الموطأ عن زيد بن أسلم أن رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم قال: «إذا سلم واحد من القوم أجزأ عنهم»، قال النووي: هذا مرسل صحيح الإسناد.
وفي الصحيحين عن عائشة- رَضِي اللّهُ عَنْهَا- قالت: قال لي رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم: «يَا عَائِشَةُ هَذَا جِبْرِيلُ يَقْرَأُ عَلَيْكِ السَّلاَمَ» قالت: قلت: وعليه السلام ورحمة الله، ترى ما لا نرى تريد رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم.
قال النووي: ووقع في بعض روايات الصحيحين وبركاته، ولم يقع في بعضها، وزيادة الثقة مقبولة.
وفي سنن أبي داود عن غالب القطان عن رجل قال: حدثني أبي عن جدي قال: بعثني أبي إلى رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم فقال: ائته فأقرئه السلام، فأتيته فقلت: إِنَّ أَبِي يُقْرِئُكَ السَّلاَمَ. فَقَالَ: «عَلَيْكَ وَعَلَى أَبِيكَ السَّلاَمُ».
قال النووي: هذا وإن كان رواية عن مجهول، فأحاديث الفضائل يتسامح فيها عند أهل العلم، فيستفاد منه الرد على المبلغ كالمسلم.
وروى أبو داود عن أبي هريرة عن رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم قال: «إِذَا لَقِي أَحَدُكُمْ أَخَاهُ فَلْيُسَلِّمْ عَلَيْهِ فَإِنْ حَالَتْ بَيْنَهُمَا شَجَرَةٌ أَوْ جِدَارٌ أَوْ حَجَرٌ ثُمَّ لَقِيَهُ فَلْيُسَلِّمْ عَلَيْهِ»، ففيه أن من سلم عليه إنسان، ثم لقيه على قرب، ندب التسليم عليه ثانياً وثالثاً.
وروى الشيخان عن أبي هريرة أن الرسول صَلّى اللهُ عليّه وسلّم قال: «يُسَلِّمُ الرَّاكِبُ عَلَى الْمَاشِي، وَالْمَاشِي عَلَى الْقَاعِدِ، وَالْقَلِيلُ عَلَى الْكَثِيرِ».
وروى الشيخان عن أنس: أنه مَرَّ عَلَى صِبْيَانٍ فَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ، وَقَالَ: كَانَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم يَفْعَلُهُ.
ولفظ أبي داود: أتى رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم على غِلْمَانٍ يَلْعَبُونَ فَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ.
وعند ابن السني فيه، فقال: «السلام عليكم يا صبيان».
وروى أبو داود عن أسماء بنت يزيد قالت: مَرَّ عَلَيْنَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي نِسْوَةٍ فَسَلَّمَ عَلَيْنَا.
وروى الترمذيّ نحوه، وروى الشيخان عن أنس قال: قال رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم: «إِذَا سَلَّمَ عَلَيْكُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ فَقُولُوا وَعَلَيْكُمْ».
ورويا عن أسامة: أن النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم مر على مجلس فيه أَخْلاَطٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُشْرِكِينَ عَبَدَةِ الأَوْثَانِ وَالْيَهُودِ وَالْمُسْلِمِينَ، فَسَلَّمَ عَلَيْهِمُ النبي صلى الله عليه وسلم.
وروى مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم: «لَا تَبْدَءُوا الْيَهُودَ وَلَا النَّصَارَى بِالسَّلَامِ، فَإِذَا لَقِيتُمْ أَحَدَهُمْ فِي طَرِيقٍ فَاضْطَرُّوهُ إِلَى أَضْيَقِهِ».
قال النووي: روينا في موطأ مالك أنه سئل عمن سلم على اليهودي أو النصراني هل يستقبله ذلك؟ فقال: لا، قال أبو سعد المتولي الشافعيّ: لو أراد تحية ذمي، فعلها بغير السلام، بأن يقول: هداك الله أو أنعم الله صباحك.
قال النووي، هذا الذي قاله أبو سعد لا بأس به، إذا احتاج إليه فيقول: صبحت بالخير أو بالسعادة أو بالعافية، أو صبحك الله بالسرور أو بالسعادة والنعمة أو بالمسرة أو ما أشبه ذلك.
السادسة: قال الحسن البصري: السلام تطوع والرد فريضة.
قال ابن كثير: وهذا الذي قاله هو قول العلماء قاطبة: أن الرد واجب على من سلم عليه: فيأثم إن لم يفعل لأنه خالف أمر الله في قوله: {فَحَيّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدّوهَا} انتهى، وفي ترك الرد إهانة وازدراء وهو حرام، ولذا ندب للجمع المسلم عليهم أن يجيبوا كلهم إظهاراً للإكرام ومبالغة فيه، وإن كان الفرض يسقط ببعضهم.