فصل: تفسير الآية رقم (87):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: محاسن التأويل



.تفسير الآية رقم (87):

القول في تأويل قوله تعالى: {اللّهُ لا إِلَهَ إِلّا هُوَ لَيجمَعَنّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللّهِ حَدِيثاً} [87].
{اللّهُ لا إِلَهَ إِلّا هُوَ لَيجمَعَنّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} أي: ليبعثنكم من قبوركم ويحشرنكم إلى حساب يوم القيامة في صعيد واحد، فيجازي كل عامل بعمله.
قال الزمخشريّ: القيامة والقيام كالطلابة والطلاب، وهي قيامهم من القبور أو قيامهم للحساب، قال الله تعالى: {يَوْمَ يَقُومُ النّاسُ لِرَبّ الْعَالمينَ} [المطففين: 6].
{لا رَيْبَ فِيهِ} أي: لا شك في يوم القيامة أو في الجمع.
{وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللّهِ حَدِيثاً} إنكار لأن يكون أحد أصدق منه تعالى في حديثه وخبره ووعده ووعيده وبيان لاستحالته لأنه نقص وقبيح، إذْ مَنْ كذب، لم يكذب إلا لأنه محتاج إلى أن يجر منفعة بكذبه أو يدفع مضرة، أو هو جاهل بقبحه، أو هو سفيه لا يفرق بين الصدق والكذب في أخباره، ولا يبالي بأيهما نطق، فظهر استحالة الكذب عليه جل شأنه، والغير، وإن دلت الدلائل على صدقه، فكذبه ممكن إذا لم ينظر إليها.
فوائد:
الأولى: قال الرازيّ: في كيفية النظم وجهان:
أحدهما: إنا بينا أن المقصود من قوله: {وَإِذَا حُيّيتُمْ بِتَحِيّةٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍ فَحَيّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدّوهَا} أن لا يصير الرجل المسلم مقتولاً، ثم إنه تعالى أكد ذلك بالوعيد في قوله: {إِنّ اللّهَ كَانَ عَلَى كُلّ شَيْءٍ حَسِيباً} ثم بالغ في تأكيد ذلك الوعيد بهذه الآية، فبين في هذه الآية أن التوحيد والعدل متلازمان، فقوله: {لا إِلَهَ إِلاّ هُوَ} إشارة إلى التوحيد، وقوله: {لَيجمَعَنّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} إشارة إلى العدل، وهو كقوله: {شَهِدَ اللّهُ أَنّهُ لا إِلَهَ إِلّا هُوَ وَالملائِكَةُ وَأُولُو الْعِلم قَائِماً بِالْقِسْطِ} [آل عِمْرَان: من الآية 18] وكقوله في طه: {إِنّنِي أَنَا اللّهُ لا إِلَهَ إِلّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصّلاةَ لِذِكْرِي} [طه: 14] وهو إشارة إلى التوحيد، ثم قال: {إِنّ السّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلّ نَفْسٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍ بِمَا تَسْعَى} [طه: 15]، وهو إشارة إلى العدل، فكذا في هذه الآية، بين أنه يجب في حكمه وحكمته أن يجمع الأولين والآخرين في عرصة القيامة، فينتصف للمظلومين من الظالمين، ولا شك أنه تهديد شديد.
الوجه الثاني: كأنه تعالى يقول: من سلم عليكم وحياكم فاقبلوا سلامه وأكرموه وعاملوه بناء على الظاهر، فإن البواطن إنما يعرفها الله الذي لا إله إلا هو، إنما تنكشف بواطن الخلق للخلق في يوم القيامة.
الثانية: قوله: {لا إِلَهَ إِلاّ هُوَ} إما خبر للمبتدأ و{ليجمعنكم} إلخ، جواب قسم محذوف، والجملة القسمية مستأنفة لا محل لها، أو خبر ثان، وإما اعتراض، والجملة القسمية خبر.
الثالثة: تعدية {ليجمعنكم} بـ: {إلى} لكونه بمعنى الحشر كما بينا، أو لكون {إلى} بمعنى في كما أثبته أهل العربيّة، وقوله تعالى:

.تفسير الآية رقم (88):

القول في تأويل قوله تعالى: {فَمَا لَكُمْ فِي المنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلّ اللّهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً} [88].
{فَمَا لَكُمْ فِي المنَافِقِينَ} أي: فما لكم تفرقتم في أمر المنافقين.
{فِئَتَيْنِ} أي: فرقتين ولم تتفقوا على التبرؤ منهم، والاستفهام للإنكار، والنفي والخطاب لجميع المؤمنين، لكن ما فيه من معنى التوبيح متوجه إلى بعضهم، وذلك أن فرقة من المؤمنين كانت تميل إليهم وتذب عنهم وتواليهم، وفرقة منهم تباينهم وتعاديهم، فنهوا عن ذلك وأمروا بأن يكونوا على نهج واحد في التباين والتبرؤ منهم، لأن دلائل نفاقهم وكفرهم ظاهرة جلية، فليس لكم أن تختلفوا في شأنهم، وقد قيل: إن المراد بهم هنا عبد الله بن أُبي وأصحابه الذين خذلوا رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم يوم أحد، ورجعوا بعسكرهم، بعد أن خرجوا، كما تقدم في آل عِمْرَان، كما أوضحه الشيخان والإمام أحمد والترمذيّ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ إِلَى أُحُدٍ، فَرَجَعَ ناسٌ خَرَجُوا مَعَهُ، فَكَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِرْقَتَيْنِ، فِرْقَةٌ تَقُولُ: نقَتْلِهِمْ، وَفِرْقَةٌ تَقُولُ: لاَ هم المؤمنون، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ} فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّهَا طَيْبَةُ وَإِنَّهَا تَنْفِي الْخَبَثَ كَمَا يَنْفِي الْكِيرُ خَبَثَ الْحَدِيدِ». هذا لفظ أحمد.
وقد ذكر الإمام محمد بن إسحاق في واقعة أحد: أن عبد الله بن أبيّ بن سلول رجع يومئذ بثلث الجيش: رجع بثلاثمائة وبقي النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم في سبعمائة.
وثمة في نزول الآية رواية أخرى أخرجها الإمام أحمد في مسنده عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ: أَنَّ قَوْماً مِنَ الْعَرَبِ أَتَوْا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ فَأَسْلَمُوا وَأَصَابَهُمْ وَبَاءُ الْمَدِينَةِ حُمَّاهَا، فَأُرْكِسُوا، فَخَرَجُوا مِنَ الْمَدِينَةِ، فَاسْتَقْبَلَهُمْ نَفَرٌ مِنْ أَصْحَابِهِ- يَعْنِي أَصْحَابَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالُوا لَهُمْ: مَا لَكُمْ رَجَعْتُمْ؟ قَالُوا: أَصَابَنَا وَبَاءٌ الْمَدِينَةِ. فَقَالُوا: أَمَا لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حسنة؟ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: نَافَقُوا.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَمْ يُنَافِقُوا. فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ} الآيَةَ.
وهذه الرواية هي الأقرب لنظم الآية كما سنبينه في التنبيه الثاني: {وَاللّهُ أَرْكَسَهُمْ} أي: نكسهم وردهم إلى الكفر.
{بِمَا كَسَبُوا}: أي: بسبب ما كسبوه من لحوقهم بالكفار.
{أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلّ اللّهُ} أي: تعدّوهم من جملة المهتدين.
قال أبو السعود: تجريد للخطاب وتخصيص له بالقائلين بإيمانه من الفئتين، وتوبيخ لهم على زعمهم ذلك وإشعار بأنه يؤدي إلى محاولة المحال الذي هو هداية من أضله الله تعالى، وذلك لأن الحكم بإيمانهم وادعاء اهتدائهم، وهم بمعزل عن ذلك، سعى في هدايتهم وإرادة لها، ووضع الموصول موضع ضمير المنافقين لتشديد الإنكار وتأكيد استحالة الهداية بما ذكر في حيّز الصلة، وتوجيه الإنكار إلى الإرادة لا إلى متعلقها، بأن يقال: أتهدون إلخ للمبالغة في إنكاره بيان أنه مما لا يمكن إرادته، فضلاً عن إمكان نفسه: {وَمَنْ يُضْلِلِ اللّهُ} عن دينه.
{فَلَنْ تَجِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِدَ لَهُ سَبِيلاً} أي: طريقاً إلى الهدى.

.تفسير الآية رقم (89):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَدّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً فَلا تَتّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ فَإِنْ تَوَلّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلا تَتّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيّاً وَلا نَصِيراً} [89].
{وَدّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا} كلام مستأنف مسوق لبيان غلوهم وتماديهم في الكفر وتصديهم لإضلال غيرهم، إثر بيان كفرهم وضلالهم في أنفسهم أي: تمنوا أن تكفروا ككفركم بعد الإيمان.
{فَتَكُونُونَ سَوَاءً} أي: في الكفر والضلال.
{فَلا تَتّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ} في العون والنصرة لئلا يفضي إلى كفركم، وإن أظهروا لكم الإيمان طلباً لموالاتكم.
{حَتّى يُهَاجِرُوا} من دار الكفر: {فِي سَبِيلِ اللّهِ} فتتحققوا إيمانهم.
{فَإِنْ تَوَلّوْا} أي: عن الهجرة، فهم، وإن أظهروا لكم الإسلام مع قدرتهم على الهجرة، فافعلوا بهم ما تفعلون بالكفار، لأنه زال عنهم حكم النفاق بلحوق دار الكفر.
{فَخُذُوهُمْ} أي: اتسروهم: {وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُ وَجَدْتُمُوهُمْ} في الحل والحرم.
{وَلا تَتّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيّاً وَلا نَصِيراً} أي: لا توالوهم ولا تستنصروا بهم على أعداء الله ما داموا كذلك.
تنبيهان:
الأول: قال الرازيّ: دلت الآية على أنه لا يجوز موالاة المشركين والمنافقين والمشتهرين بالزندقة والإلحاد، وهذا متأكد بعموم قوله تعالى: {يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُوا لا تَتّخِذُوا عَدُوّي وَعَدُوّكُمْ أَوْلِيَاءَََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََ} [الممتحنة: من الآية 1]، والسبب فيه أن أعز الأشياء وأعظمها عند جميع الخلق هو الدين، لأن ذلك هو الأمر الذي يتقرب به إلى الله تعالى ويتوسل به إلى طلب السعادة في الآخرة، وإذا كان كذلك، كانت العداوة الحاصلة بسببه أعظم أنواع العداوة، وإذا كان كذلك، امتنع طلب المحبة والولاية في الموضع الذي يكون أعظم موجبات العداوة حاصلاً فيه، والله أعلم.
الثاني: يظهر لي أن الأقرب في سبب نزول هذه الآيات أعني قوله تعالى: {فَمَا لَكُمْ فِي المنَافِقِينَ} الخ، رواية عبد الرحمن بن عوف، كما يدل عليه سير هذه الآيات وتدبرها بصادق النظر والإمعان، وقد اهتدى إلى ذلك الفاضل المهايميّ في تفسيره، فاقتصر على هذا الوجه فقال: وهم الذين استأذنوا رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم في الْخُرُوجَ إِلَى البدو لاجتواء المدينة، فلم يزالوا يرتحلون مرحلة بعد أخرى حتى لحقوا المشركين. انتهى.
وقول السيوطيّ: في إسناد رواية عبد الرحمن بن عوف عند أحمد تدليس وانقطاع، لا يقدح في إصابتها كبد الحقيقة، لأنها وجدت فيها قرينة تلحقها بالمقبول وهو موافقتها لألفاظ الآية بلا تكلف، وحينئذ فقول زيد بن ثابت: فنزلت فيما تقدم بمعنى أنها تشمل ما وقع من المنخزلين عن أُحُد وما جرى من اختلاف المؤمنين في شأنهم، لا أن ما وقع كان سبباً لنزولها، واستعمال النزول بذلك معروف كما بيناه في المقدمة، وإلا لأشكل قوله تعالى: {إلا أن يهاجروا} إذ لم تطلب المهجرة إلا من النائبين عن المدينة، أولئك، أعني الذين انخزلوا عن المسلمين في أحد، كانوا بها، فيحتاج إلى جعل المهاجرة بمعنى خروجهم مع رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم والمؤمنين، صابرين محتسبين مخلصين، كما قاله بعض المفسرين، وهذا المعنى لم يشع في المهاجرة، ولأشكل أيضاً قوله تعالى: {فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدتّمُوهُمْ} فإنه يفيد بأنهم ليسوا من منافقي أهل المدينة، وإنه يتوقع الظفر بهم، وإلا فمنافقوها بين ظهرانيهم ليلاً ونهاراً، فالظاهر في هذا المقام رواية ابن عوف، وفي آخر رواية زيد ما يشعر بها حيث قال: «إنها طيبة وإنها تنفي الخبث»، إشارة إلى أن المدينة نفت هؤلاء الذين نزحوا عنها بعد إسلامهم، والله أعلم، لم استثنى عن أسر المرتدين وقتلهم بقولهم:

.تفسير الآية رقم (90):

القول في تأويل قوله تعالى: {إِلاّ الّذِينَ يَصِلُونَ إِلَىَ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم ميثَاقٌ أَوْ جَاؤوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَن يُقَاتِلُونَكُمْ أَوْ يُقَاتِلُواْ قَوْمَهُمْ وَلَوْ شَاء اللّهُ لَسَلّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلم يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْاْ إِلَيْكُمُ السّلم فَمَا جَعَلَ اللّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً} [90].
{إِلاّ الّذِينَ يَصِلُونَ} يلجئون.
{إِلَىَ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم ميثَاقٌ} أي: عهد بهدنة أو أمان فاجعلوا حكمهم كحكمهم لئلا يفضي إلى قتال من وصلوا إليهم فيفضي إلى نقض الميثاق.
{أَوْ جَاؤوكُمْ} عطف على الصلة أي: والذين جاءوكم.
{حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ} حال بإضمار قد أي: ضاقت وانقبضت نفوسهم.
{أَن يُقَاتِلُونَكُمْ} لإرادتهم المسالمة.
{أَوْ يُقَاتِلُواْ قَوْمَهُمْ} أي: معكم من أجلكم لمكان القرابة منهم، فهم لا لكم ولا عليكم.
قال أبو السعود: استُثْنِي من المأمور بأخذهم وقتلهم فريقان:
أحدهما: من ترك المحاربين ولحق بالمعاهدين.
والآخر: من أتى المؤمنين وكف عن قتال الفريقين.
وقد أخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن الحسن أن سُرَاقَة بن مالك المدلجيّ حدثهم قال: لما ظهر النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم على أهل بدر وأحد، وأسلم من حولهم، قال: بلغني أنه يريد أن يبعث خالد بن الوليد إلى قومي بني مدلج، فأتيته فقلت: أنشدك النعمة، بلغني أنك تريد أن تبعث إلى قومي، وأنا أريد أن توادعهم، فإن أسلم قومك أسلموا ودخلوا في الإسلام، وإن لم يسلموا لم يحسن تغليب قومك عليهم، فأخذ رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم بيد خالد فقال: «اذهب فافعل ما يريد»، فصالحهم خالد على أن لا يعينوا على رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم، وإن أسلمت قريش أسلموا معهم، وأنزل الله: {إِلاّ الّذِينَ يَصِلُونَ إِلَىَ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم ميثَاقٌ} فكان ومن وصل إليهم كان معهم على عهدهم، وفي قوله تعالى: {وَلَوْ شَاء اللّهُ لَسَلّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ} إشعار بقوتهم في أنفسهم، وأن في التعرض لقتلهم إظهاراً لقوتهم الخفية في الجملة جارية مجرى التعليل لاستثنائهم من الأخذ والقتل.
{فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ} أي: تركوكم: {فَلم يُقَاتِلُوكُمْ} مع ما علمتم من تمكنهم من ذلك بمشيئة الله عز وجل.
{وَأَلْقَوْاْ إِلَيْكُمُ السّلم} أي: الانقياد والاستسلام.
{فَمَا جَعَلَ اللّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً} أي: طريقاً بالأسر أو القتل، إذ لا ضرر منهم في الإسلام، وقتالهم يظهر كمال قوتهم.
لطيفة:
قال الخفاجيّ {السَلَم} بفتحتين: الانقياد، وقرئ بسكون اللام مع فتح السين وكسرها، وكان إلقاء السلم استعارة، لأن من سلّم شيئاً ألقاه وطرحه عند المسلّم له، وعدم جعل السبيل مبالغة في عدم التعرض لهم، لأن من لا يمر بشيء كيف يتعرض له؟
تنبيه:
ظاهر النظم الكريم أن الفريقين المستثنيين من الكفار، وحاول أبو مسلم الأصفهاني كونهما من المسلمين حيث قال: إنه تعالى لما أوجب الهجرة على كل من أسلم، استثنى من له عذر، فقال: إلا الذين يصلون، وهم قوم من المؤمنين قصدوا الرسول للهجرة والنصرة، إلا أنهم كان في طريقهم من الكفار ما لم يجدوا طريقاً إليه خوفاً من أولئك الكفار، فصاروا إلى قوم بين المسلمين وبينهم عهد وأقاموا عندهم إلى أن يمكنهم الخلاص، واستثنى بعد ذلك من صار إلى الرسول، ولا يقاتل الرسول ولا أصحابه، لأنه يخاف الله تعالى فيه، ولا يقاتل الكفار أيضاً، لأنهم أقاربه، أو أنه أبقى أولاده وأزواجه بينهم، فيخاف، لو قاتلهم، أن يقتلوا أولادهم وأصحابه، فهذان الفريقان من المسلمين لا يحل قتالهم، إن كان لم يوجد منهم الهجرة ولا مقاتلة الكفار. انتهى.

.تفسير الآية رقم (91):

القول في تأويل قوله تعالى: {سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَن يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُواْ قَوْمَهُمْ كُلّ مَا رُدّوَاْ إِلَى الْفِتْنِةِ أُرْكِسُواْ فِيِهَا فَإِن لم يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُواْ إِلَيْكُمُ السّلم وَيَكُفّوَاْ أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثِقِفْتُمُوهُمْ وَأُوْلَئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَاناً مّبِيناً} [91].
{سَتَجِدُونَ} أقواماً: {آخَرِينَ يُرِيدُونَ} بإظهار الإسلام لكم.
{أَن يَأْمَنُوكُمْ}: أي: على أنفسهم.
{وَيَأْمَنُواْ قَوْمَهُمْ} بإظهار الكفر.
{كُلّ مَا رُدّوَاْ إِلَى الْفِتْنِةِ} أي: دعوا إلى الارتداد والشرك: {أُرْكِسُواْ فِيِهَا} أي: رجعوا إلى منكوسين على رؤوسهم.
{فَإِن لم يَعْتَزِلُوكُمْ} أي: ينتحوا عنكم جانباً، بأن لم يكونوا معكم ولا عليكم.
{وَيُلْقُواْ إِلَيْكُمُ السّلم} أي: ولم يلقوا الانقياد.
{وَيَكُفّوَاْ أَيْدِيَهُمْ} أي: عن قتالكم.
{فَخُذُوهُمْ} أي: اتسروهم.
{وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثِقِفْتُمُوهُمْ} أي: وجدتموهم في داركم أو دارهم.
{وَأُوْلَئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَاناً مّبِيناً} أي: حجة واضحة في الإيقاع بهم قتلاً وسبياً، لظهور عداوتهم وانكشاف حالهم في الكفر والغدر، وإضرارهم بأهل الإسلام، أو تسلطاً ظاهراً، حيث أذنّا لكم في أخذهم وقتلهم.
تنبيهان:
الأول: قال ابن كثير: هؤلاء الآخرون، في الصورة الظاهرة، كمن تقدمهم ولكن نية هؤلاء غير نية أولئك، فإن هؤلاء قوم منافقون يظهرون للنبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم ولأصحابه الإسلام، ليأمنوا بذلك عندهم على دمائهم وأموالهم وذراريهم، ويصانعون الكفار في الباطن، فيعبدون معهم ما يعبدون، ليأمنوا بذلك عندهم، وهم في الباطن مع أولئك، كما قال تعالى: {وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنّا مَعَكُمْ} [البقرة: من الآية 14] الآية.
وحكى ابن جرير عن مجاهد، أنها نزلت في قوم من أهل مكة، كانوا يأتون النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم فيُسلمون رياء، ثم يرجعون إلى قريش فيرتكسون في الأوثان، يبتغون بذلك أن يأمنوا هاهنا وههنا، فأمر بقتلهم إن لم يعتزلوا ويصلحوا.
الثاني: قال الرازيّ: قال الأكثرون: في الآية دلالة على أنهم إذا اعتزلوا قتالنا وطلبوا الصلح منا وكفوا أيديهم عن إيذائنا، لم يجز لنا قتالهم ولا قتلهم، ونظيره قوله تعالى: {لا يَنْهَاكُمُ اللّهُ عَنِ الّذِينَ لم يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدّينِ وَلم يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرّوهُمْ} [الممتحنة: من الآية 8]، وقوله تعالى: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ الّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ} [البقرة: من الآية 190]، فخص الأمر بالقتال لمن يقاتلنا دون من لم يقاتلنا.