فصل: تفسير الآية رقم (57):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: محاسن التأويل



.تفسير الآية رقم (57):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [57].
{وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} لما ذكر تعالى ما دفعه عنهم من النقم شرع يذكرهم أيضاً بما أسبغ عليهم من النعم، فمنها تظليل الغمام عليهم، وذلك أنهم كانت تظلهم سحابة إذا ارتحلوا، لئلا تؤذيهم حرارة الشمس، وقد ذكر تفصيل شأنها في توراتهم في الفصل التاسع من سفر العدد، ومنها إنزال المنّ.
وقد روي في التوراة أنهم لما ارتحلوا من إيليم، وأتوا إلى برية سين، التي بين إيليم وسيناء، في منتصف الشهر الثاني بعد خروجهم من مصر، تذمروا على موسى وهارون في البرية، وقالوا لهما: ليتنا متنا في أرض مصر؛ إذ كنا نأكل خبزاً ولحماً، فأخرجتمانا إلى هذه البرية لتُهلكا هذا الجمع بالجوع. فأوحى تعالى لموسى عليه السلام إني أمطر عليكم خبزاً من السماء، فليخرج الشعب، ويلتقطوا حاجة اليوم بيومها طعامهم من أجل أني أمتحنهم، هل يمشون في شريعتي أم لا، وليكونوا في اليوم السادس أنهم يهيؤون ضِعف ما يلتقطونه يوماً فيوماً. لأن اليوم السابع يوم عيد لا يُشخص فيه لأمر المعيشة ولا لطلبة شيء.
فقال لهم موسى: إن الرب تعالى يعطيكم عند المساء لحماً تأكلون، وبالغداة تشبعون خبزاً. فكان في المساء أن السلوى صعدت وغطت المحلة، وبالغداة أيضاً وقع الندى حول المحلة، ولما غطى وجه الأرض تباين في البرية شيء رقيق كأنه مدقوق بالمدقة، يشبه الجليد على الأرض، فلما نظر إليه بنو إسرائيل قالوا: ما هذا؟ لأنهم لم يعرفوه. فقال لهم موسى: هذا هو الخبز الذي أعطاكم الرب لتأكلوا، وقد أمركم أن يلقط كل واحد على قدر ما في بيته، وقدر مأكله. ففعل بنو إسرائيل كذلك، ولقطوا ما بين مكثّر ومقلّل، وقال لهم موسى: لا تبقوا منه شيئاً إلى الغد. فلم يطيعوا موسى، واستفضل منه رجال إلى الغد، فضرب فيه الدود ونتن، فغضب عليهم موسى، وكانوا يلقطون غدوة، كل إنسان يلقط على قدر ما يأكل، فإذا أصابه حر الشمس ذاب. وقد أُعطوا في اليوم السادس خبز يومين ليجلس كل رجل منهم في مكانه في اليوم السابع، راحةً وتقديساً له. وكان إذا خرج بعض الشعب ليلقط، يوم السابع، لا يجد في الأرض منه شيئاً. ودعا آل إسرائيل اسمه المنّ، وكان مثل حب الكُزْبُرة أبيض، وطعمه كرقاق بعسل، وأكل بنو إسرائيل المنّ أربعين سنة حتى أتو إلى الأرض العامرة، ودنوا من تخوم أرض كنعان. وروي في ترجمة التوراة أيضاً أن المنّ كان يشبه لون اللؤلؤ، وكان يطوف الشعب ويلتقطونه ويطحنونه بالرحى. ويدقونه في الهاون ويطبخونه في القدور، ويعملون منه رغفاً طعمها كالخبز المعجون بالدهن. ومتى نزل الندى على المحلة ليلاً كان ينزل المن معه.
هذا ما كان من أمر المن. وأما السلوى فروي أيضاً: أن جماعة ممن صعد مع بني إسرائيل من مصر تاقت أنفسهم للحم، وجلسوا يبكون، ووافقهم بنو إسرائيل على اشتهائه أيضاً، وقالوا: من يطعنا لحماً لنأكل؟ قد تذكرنا السمك الذي كنا نأكله بمصر من غير ثمن، والقثاء والبطيخ والكراث والبصل والثوم، والآن قد يبست نفوسنا ولا تنظر عيوننا إلا المنّ. فلما سمع موسى الشعب يبكون بعشائرهم، وعلم غضب الرب عليهم، لذلك، ابتهل إلى ربه وقال: من أين لي لحم أطعم منه هذا الجمع وهم يبكون عليّ، ويقولون أعطنا لحماً لنأكل؟ فأوحى إليه ربه أن يجمع سبعين رجلاً من شيوخ شعبه وعرفائه، ويقبل بهم إلى خيمة الاجتماع فيكونوا معه، ثم كلمه ربه ووعده أن يعطيه لحماَ يأكلون منه شهراً حتى يأنفوا منه. فأخبر موسى الشعب بذلك، ثم انحاز إلى المحلة هو وشيوخ قومه، فخرجت ريح وحملت السلوى من البحر وألقتها على المحلة مسيرة يوم حول المحلة من كل جانب، وكانت تطير بالجوّ ذراعين على الأرض، وقام الشعب يومهم ذلك كله والليل. وفي غد اليوم الثاني، فجمعوا السلوى أقل من جمع عشرة أكرار، سطحوه سطيحاً ويبسوه حول المحلة. وقبل أن ينقطع اللحم من عندهم غضب الرب تعالى على الشعب، فضربه ضربة عظيمة جدًّا، ودعي اسم ذلك الموضع قبور الشهوة؛ لأنهم هناك دفنوا القوم الذين اشتهوا، ثم خرجوا من قبور الشهوة، وارتحلوا لغيره. انتهى.
وقوله تعالى: {كلوا} على إدارة القول أي: قائلين لهم، أو قيل لهم كلوا. وقوله: {وما ظلمونا} كلام عدل به عن نهج الخطاب السابق للإيذان باقتضاء جنايات المخاطبين للإعراض عنهم وتعداد قبائحهم عند غيرهم على طريق المباثة. معطوف على مضمر قد حذف للإيجاز، والإشعار بأنه أمر محقق غنيّ عن التصريح به، أي: فظلموا بأن أكثروا من التضجر والتذمر على ربهم وشكوى سكناهم في البرية وفراقهم مصر، وما ظلمونا بذلك، ولكن كانوا أنفسهم يظلمون، بالعصيان؛ إذ لا يتخطاهم ضرره، وبذلك حق عليهم العذاب الذي ضربوا به كما ذكرناه.

.تفسير الآيات (58- 59):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُواْ هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُواْ مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً وَادْخُلُواْ الْبَابَ سُجَّداً وَقُولُواْ حِطَّةٌ نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ رِجْزاً مِّنَ السَّمَاء بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ} [58- 59].
{وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُواْ هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُواْ مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً وَادْخُلُواْ الْبَابَ سُجَّداً وَقُولُواْ حِطَّةٌ نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ رِجْزاً مِّنَ السَّمَاء بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ} هذا إشارة إلى ما حلّ ببني إسرائيل لما نكلوا عن الجهاد ودخولهم الأرض المقدسة، أرضَ كنعان، لما قدموا من بلاد مصر صحبة موسى عليه السلام، وإنما أطلق على الأرض المذكورة قرية؛ لأن القرية: كل مكان اتصلت به الأبنية واتخذ قراراً. وتقع على المدن وغيرها. كذا في كفاية المتحفظ ثم إنّ ما قصّ هنا ذكر في سورة المائدة في قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنبِيَاء وَجَعَلَكُم مُّلُوكاً وَآتَاكُم مَّا لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِّن الْعَالَمِينَ يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ وَلاَ تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنقَلِبُوا خَاسِرِينَ قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْماً جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا حَتَّىَ يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِن يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ} [المائدة: 20- 22] الآيات.
وقوله تعالى: {ادْخُلُواْ الْبَابَ سُجَّداً} في التأويلات: يحتمل المراد من الباب حقيقة الباب، وهو باب القرية التي أمروا بالدخول فيها. ويحتمل من الباب القرية نفسها، لا حقيقة الباب كقوله: {وإذ قلنا ادخلوا هذه القرية} ذكر القرية ولم يذكر الباب، وذلك في اللغة جائز. ويقال: فلان دخل في باب كذا. لا يعنون حقيقة الباب، ولكن كونه في أمر هو فيه.
وقوله: {سجداً} يحتمل المراد من السجود: حقيقة السجود. فيُخرّج على وجوه: على التحية لذلك المكان، ويحتمل على الشكر له لما أهلك أعداءهم الجبارين، ويحتمل الكناية عن الصلاة؛ إذ العرب قد تسمّي السجود: صلاة، كأنهم أُمروا بالصلاة فيها، ويحتمل أن الأمر بالسجود لا على حقيقة السجود والصلاة ولكن أمر بالخضوع له، والطاعة والشكر على أياديه والله أعلم.
وقوله تعالى: {وقولوا حطة} خبر محذوف، أي: مسألتنا حطة. والأصل النصب، بمعنى: حطّ عنّا ذنوبنا حطة، وإنما رفعت لتعطي معنى الثبات.
وقوله سبحانه: {فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ} أي: بدّلوا أمر تعالى لهم بدخول الأرض مجاهدين بالإحجام عنه، وتثبيط الناس. ولذا قال أبو مسلم: قوله تعالى: {فبدل} يدلّ على أنهم لم يفعلوا ما أمروا به، لا على أنهم أتوا له ببدل. والدليل عليه: أن تبديل القول قد يستعمل في المخالفة. قال تعالى: {سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انطَلَقْتُمْ} إلى قوله: {يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ} [الفتح: 15] ولم يكن تبديلهم إلاّ الخلاف في الفعل لا في القول. فكذا هنا، فيكون المعنى: إنهم لما أمروا بدخول الأرض، وما ذكر معه، لم يمتثلوا أمر الله، ولم يلتفتوا إليه.
وفي تكرير: {الَّذِينَ ظَلَمُواْ} زيادة في تقبيح أمرهم، وإيذان بأن إنزال الرجز عليهم لظلمهم. والرجز: هو الموت بغتة، كما تقدّم.
قال الراغب: وتخصيص قوله: {رِجْزاً مِّنَ السَّمَاء} هو أنّ العذاب ضربان: ضرب قد يمكن على بعض الوجوه دفاعه، أو يظنّ أنه يمكن فيه ذلك، وهو كلّ عذاب على يد آدميّ، أو من جهة المخلوقات كالهدم والغرق، وضرب لا يمكن ولا يظنّ دفاعه بقوّة آدميّ كالطاعون، والصاعقة، والموت وهو المعنيّ بقوله: {رجزاً من السماء}.

.تفسير الآية رقم (60):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِب بِّعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَّشْرَبَهُمْ كُلُواْ وَاشْرَبُواْ مِن رِّزْقِ اللَّهِ وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ} [60].
هذا تذكير لنعمة أخرى كفروها. وروي في توراتهم أنه ارتحلت كل جماعة بني إسرائيل من برية سينا بأمره تعالى، وحلوا في رقادين، ولم يكن هناك ماء ليشربوا، فخاصموا موسى، وقالوا له أعطنا ماء لنشرب، أخرجتنا من مصر لتقتلنا نحن وأولادنا، ودوابنا بالعطش؟ فابتهل موسى إلى ربه في السقيا، فأوحى إليه أن أمض أمام الشعب، وخذ معك من شيوخ إسرائيل، والعصا التي ضربت بها النهر خذها بيدك، واذهب إلى صخرة حوريب، فاضربها فيخرج منها ماء ليشرب الشعب. ففعل موسى كذلك أمام شيوخ إسرائيل. انتهى.
وقوله تعالى: {اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْناً} أي: عدد أسباط يعقوب الاثني عشر، لكل سبط منهم عين قد عرفوها. قال الراغب: وأنكر ذلك بعض الطبيعيين واستبعده، وهذا المنكر، مع أنه لم يتصور قدرة الله تعالى في تغيير الطبائع والاستحالات الخارجة عن العادات، فقد ترك النظر على طريقته؛ إذ قد تقرر عندهم أن حجر المغناطيس يجر الحديد، وأن الحجر المنفر للنحل ينفره، والحجر الحلاق يحلق الشعر، وذلك كله عندهم من أسرار الطبيعة، وإذا لم يكن مثل ذلك منكراً عندهم، فغير ممتنع أن يخلق الله حجراً يسخره لجذب الماء من تحت الأرض. وقوله: {ولا تعثوا في الأرض مفسدين} أي: لا تمشوا في الأرض بالفساد، وخلاف أمر موسى. قال الراغب: فإن قيل: فما فائدة قوله: {مفسدين} والعثوّ ضرب من الإفساد؟ قيل: قد قال بعض النحويين: إن ذلك حال مؤكدة، وذكر ألفاظاً مما يشبه. وقال بعض المحققين: إن العثو، وإن اقتضى الفساد، فليس بموضوع له، بل هو كالاعتداء، وقد يوجد في الاعتداء ما ليس بفساد، وهو مقابلة المعتدي بفعله نحو: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194]، وهذا الاعتداء ليس بإفساد، بل هو بالاضافة إلى ما قوبل به، عدل. ولولا كونه جزاءً لكان إفساداً. فبين تعالى أن العثو المنهي عنه، هو المقصود به الإفساد. فالإفساد مكروه على الإطلاق، ولهذا قال: {وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا} [الأعراف: 56]، وقد يكون في صورة العثو والتعدي ما هو صلاح وعدل، كما تقدم. وهذا ظاهر.

.تفسير الآية رقم (61):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَن نَّصْبِرَ عَلَىَ طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنبِتُ الأَرْضُ مِن بَقْلِهَا وَقِثَّائهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُواْ مِصْراً فَإِنَّ لَكُم مَّا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاؤوْاْ بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَواْ وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ} [61].
{وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَن نَّصْبِرَ عَلَىَ طَعَامٍ وَاحِدٍ} قال قتادة: لما ملّوا طعامهم وذكروا عيشهم الذي كانوا فيه قبل ذلك، قالوا ذلك. قال الراغب: إن قيل: كيف قال: {لن نصبر على طعام واحد} وكان لهم المن والسلوى، قيل: إن ذلك إشارة إلى مساواته في الأزمنة المختلفة، كقولك: فلان يفعل فعلاً واحداً في كل يوم، وإن كثرت أفعاله، إذا تحرى طريقة واحدة وداوم عليها. وهذا المعنى في إنكار الطعام أبلغ؛ لأنهم لم يكتفوا في إنكاره بقولهم: {لن نصبر على طعام}، حتى أكدوا بقولهم: {واحداً} أو أرادوا بالواحد ما لا يختلف ولا يتبدل.
{فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنبِتُ الأَرْضُ مِن بَقْلِهَا وَقِثَّائهَا وَفُومِهَا} هو الثوم لقراءة ابن مسعود {وثومها} وللتصريح به في التوراة في هذه القصة. وقد ذكر ابن جرير شواهد لإبدال الثاء فاءً لتقارب مخرجيهما كقولهم للأثافي: أثاثي، وقولهم وقعوا في عاثور شر وعافور شر، وللمغافير: مغاثير {وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى} أي: أدون قدراً، وأصل الدنوّ القرب في المكان، فاستعير للخسة، كما استعير البعد للشرف والرفعة، فقيل: بعيد الهمة {بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ} أي: بقابلة ما هو خير، أي: أرفع وأجل، وهو المنّ الذي فيه الحلاوة التي تألفها أغلب الطباع البشرية، والسلوى من أطيب لحوم الطير، وفي مجموعهما غذاء تقوم به البنية. وليس فيما طلبوه ما يساويهما لذة ولا تغذية: {اهْبِطُواْ مِصْراً} هكذا هو منوّن مصروف مكتوب بالألف في المصاحف الأئمة العثمانية، وهو قراءة الجمهور، بالصرف. قال ابن جرير: ولا أستجيز القراءة بغير ذلك. لإجماع المصاحف على ذلك، أي: من الأمصار، أي: انحدروا إليه: {فَإِنَّ لَكُم} فيها: {مَّا سَأَلْتُمْ} أي: فإن الذي سألتم يكون في الأمصار لا في القفار، والمعنى أن هذا الذي سألتم ليس بأمر عزيز، بل هو كثير، في أي: بلد دخلتموها وجدتموه. فليس يساوي مع دناءته، وكثرته في الأمصار أن أسأل الله فيه. ولما حكى الله تعالى إنكار موسى عليه السلام على اليهود استبدالهم الذي هو أدنى بالذي هو خير، بعد تعداد النعم، جاء بحكاية سوء صنيعهم بالأنبياء، وكفرهم، واعتدائهم، وضرب الذلة عليهم لذلك، استطراداً، فقال: {وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ} فمن هنا إلى قوله: {فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} معترض في خلال القصص المتعلقة بحكاية أحوال بني إسرائيل الذين كانوا في عهد موسى، يدل هذا على قوله: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ} فإن قتل الأنبياء إنما كان من فروعهم وذريتهم. والذلة بالكسر الصَغار والهوان والحقارة. والذُّل بالضم ضد العز. والمسكنة مفعلة من السكون، لأن المسكين قليل الحركة والنهوض، لما به من الفقر، والمسكين مفعيل منه كذا في السمين وفي الذلة استعارة بالكناية حيث شبهت بالقبة في الشمول والإحاطة، أو شبهت الذلة بهم بلصوق الطين بالحائط في عدم الانفكاك. وهذا الخبر الذي أخبر الله تعالى به هو معلوم في جميع الأزمنة، فإن اليهود أذل الفرق، وأشدهم مسكنة، وأكثرهم تصاغراً، لم ينتظم لهم جمع، ولا خفقت على رؤوسهم راية، ولا ثبتت له ولاية، بل ما زالوا عبيد العصى في كل زمن، وطروقة كل فحل في كل عصر، ومن تمسك منهم بنصيب من المال، وإن بلغ في الكثرة أي: مبلغ، فهو مرتد بأثواب المسكنة.
{وَبَاؤوْاْ بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ} أي: رجعوا به، أي: صار عليهم، أو صاروا أحقاء به. من قولهم. باء فلان بفلان، أي: صار حقيقاً أن يقتل بمقابلته. فالباء على التقديرين صلة باؤوا، لا للملابسة. وإلا لاحتيج اعتبار المرجوع إليه، ولا دلالة في الكلام عليه: {ذَلِكَ} إشارة إلى ما سلف من ضرب الذلة والمسكنة والبوء بالغضب العظيم: {بِأَنَّهُمْ} بسبب أنهم: {كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ} الباهرة التي ظهرت على يدي عيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام: {وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ} كزكريا ويحيى عليهما السلام. وقتل الأنبياء في بني إسرائيل كان ظاهراً، ولم يذكر قتل رسول من الرسل. وذلك والله أعلم لقوله: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا} [غافر: 51] وقوله: {إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ} [الصافات: 172] وقال قوم: لم يقتل أحد من الرسل، وإنما قتل الأنبياء، أو رسل الرسل، والله أعلم. كذا في التأويلات.
وقوله: {بغير الحق} لم يخرج مخرج التقييد، حتى يقال إنه لا يكون قتل الأنبياء بحق في حال من الأحوال، لمكان العصمة. بل المراد نعي هذا الأمر عليهم، وتعظيمه، وأنه ظلم بحت في نفس الأمر، حملهم عليه اتباع الهوى وحب الدنيا، والغلوّ في العصيان، والاعتداء، كما يفصح عنه قوله تعالى: {ذَلِكَ بِمَا عَصَواْ وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ} أي: جرّهم العصيان والتمادي في العدوان إلى ما ذكر من الكفر، وقتل الأنبياء عليهم السلام. وقيل: كررت الإشارة للدلالة على أن ما لحقهم، كما أنه بسبب الكفر والقتل، فهو بسبب ارتكابهم المعاصي، واعتدائهم حدود الله تعالى. وعليه فيكون ذكر علل إنزال العقوبة بهم في نهاية حسن الترتيب؛ إذ بدئ أولاً بما فعلوه في حق الله تعالى وهو كفرهم بآياته. ثم ثُنّي بما يتلوه في العظم، وهو قتل الأنبياء، ثم بما يكون منهم من المعاصي التي تخصهم، ثم بما يكون منهم من المعاصي المعتدية إلى الغير، مثل الاعتداء. وهذا من لطائف أسلوب التنزيل.
ثم أعلم تعالى بأن باب التوبة مفتوح على الوجه العامّ لليهود وغيرهم. وأن من ارتكب كبائر الذنوب التي تستوجب الغضب الإلهيّ، وضرب الذلة والمسكنة، كما حل باليهود، إذا آمن وتاب فله في الدنيا والآخرة ما للمؤمنين. وعادة التنزيل جارية بأنه متى ذكر وعد أو وعيد، عقب بضده ليكون الكلام تاماً فقيل: