فصل: تفسير الآية رقم (96):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: محاسن التأويل



.تفسير الآية رقم (96):

القول في تأويل قوله تعالى: {دَرَجَاتٍ مّنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللّهُ غَفُوراً رّحِيماً} [96].
{دَرَجَاتٍ مّنْهُ} بدل من أجراً بدل الكل، مبيّن لكمية التفضيل و{مِنْهُ} متعلق بمحذوف وقع صفة لـ: {دَرَجَاتٍ} دالة على فخامتها وجلالة قدرها، قاله أبو السعود.
وقد ثبت في الصحيحين عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم قال: «إن في الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيله، ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض».
وقال الأعمش عن عَمْرو بن مرة عن أبي عبيدة عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم: «من رمى بسهم فله أجره درجة»، فقال رجل: يا رسول الله! وما الدرجة؟ فقال: «أما إنها ليست بعتبة أمك: ما بين الدرجتين مائة عام».
{وَمَغْفِرَةً} أي: لذنوبهم: {وَرَحْمَةً} فوق الأجر ودرجاته.
{وَكَانَ اللّهُ غَفُوراً رّحِيماً} تذييل مقرر لما وعد من المغفرة والرحمة، وههنا فوائد:
الأولى: دلت الآية على أن الجهاد ليس بفرض عين، إذ لو كان فرضاً من فروض الأعيان لم يكن للقاعد فضل، ولكن تفاوت الفضل بينه وبين المجاهد، وقال: وكلاً وعد الله الحسنى.
الثانية: دلت أيضاً على أن الجهاد أفضل من القرب التي يفعلها القاعد، لأنه فضله على القاعد مطلقاً، ويؤيد هذا قوله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم: «الجهاد سنام الدين».
وقد فرّع العلماء على هذا أن رجلاً لو وقف ما له على أحسن وجوه البر، أو أوصى أن يصرف في أحسن وجوه البّر، فإنه يصرف في الجهاد، خلاف ما ذكر أبو عليّ أنه يصرف في طلب العلم، كذا في بعض التفاسير.
الثالثة: قال السيوطيّ في الإكليل: في الآية تفضيل المجاهدين على غيرهم، وأن المعذورين في درجة المجاهدين، واستدل بقوله {بِأَمْوالِهِم} على تفضيل المجاهدين بمال نفسه على المجاهد بمال يعطاه من الديون أو نحوه.
الرابعة: قال الرازيّ: لقائل أن يقول: إنه تعالى قال: {إِنّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ المؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم} فقدم ذكر النفس على المال، وفي الآية التي نحن فيها وهي قوله: {الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ} قدم ذكر المال على النفس، فما السبب؟ وجوابه: أن النفس أشرف من المال، فالمشتري قدم ذكر النفس تنبيهاً على أن الرغبة فيها أشد، والبائع أخر ذكرها تنبيهاً على أن المضايقة فيها أشد، فلا يرضى ببذلها إلا في آخر المراتب.
الخامسة: قال أبو السعود: لعل تكرير التفضيل بطريق العطف المنبئ عن المغايرة، وتقييده تارة بدرجة وأخرى بدرجات، مع اتحاد المفضل والمفضل عليه، حسبما يقتضيه الكلام ويستدعيه حسن النظام- إما لتنزيل الاختلاف العنواني بين التفضيلين وبين الدرجة والدرجات منزلة الاختلاف الذاتي تمهيداً لسلوك طريق الإبهام، ثم التفسير رَوماً لمزيد التحقيق والتقرير، كما في قوله تعالى: {وَلما جَاء أَمْرُنَا نَجّيْنَا هُوداً وَالّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مّنّا وَنَجّيْنَاهُم مّنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ} [هود: 58]، كأنه قيل: فضل المجاهدين على القاعدين درجة لا يقادَرُ قدرها، ولا يبلغ كنهها، وحيث كان تحقيق هذا البون البعيد بينهما موهماً لحرمان القاعدين، قيل: {وَكُلاّ وَعَدَ اللّهُ الْحُسْنَى} ثم أريد تفسير ما أفاده التنكير بطريق الإبهام، بحيث يقطع احتمال كونه للوحدة، فقيل ما قيل، ولله درّ شأن التنزيل، وإما للاختلاف بالذات بين التفضيلين وبين الدرجة والدرجات، على أن المراد بالتفضيل الأول ما خولهم الله تعالى عاجلاً في الدنيا من الغنيمة والظفر والذكر الجميل الحقيق بكونه درجة واحدة، وبالتفضيل الثاني ما أنعم به في الآخرة من الدرجات العالية الفائتة للحصر، كما ينبئ عن تقديم الأول وتأخير الثاني، وتوسيط الوعد بالجنة بينهما، وقد وسط بينهما في الذكر ما هو متوسط بينهما في الوجود، أعني الوعد بالجنة، توضيحاً لحالهما ومسارعة إلى تسلية المفضول، والله سبحانه أعلم.

.تفسير الآية رقم (97):

القول في تأويل قوله تعالى: {إِنّ الّذِينَ تَوَفّاهُمُ الملائكَةُ ظَالمي أَنْفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالْوَاْ أَلم تَكُنْ أَرْضُ اللّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنّمُ وَسَاءتْ مَصِيراً} [97].
{إِنّ الّذِينَ تَوَفّاهُمُ الملائكَةُ ظَالمي أَنْفُسِهِمْ} روى البخاريّ عن ابن عباس أن ناساً من المسلمين كانوا مع المشركين يكثرون سواد المشركين على رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم، يأتي السهم فيُرْمَى به فيصيب أحدهم فيقتله، أو يُضرب فيُقتل، فأنزل الله: {إِنّ الّذِينَ تَوَفّاهُمُ} الآية.
وأخرجه ابن مردويه، وسمى منهم- في روايته- قيس بن الوليد بن المغيرة، وأبا قيس بن الفاكه بن المغيرة، والوليد بن عُتْبَةُ بن ربيعة، وعمرو بن أمية بن سفيان، وعليّ بن أمية بن خلف، وذكر في شأنهم أنهم خرجوا إلى بدر، فلما رأوا قلة المسلمين دخلهم شك وقالوا: غر هؤلاء دينهم فقتلوا ببدر.
وأخرجه ابن أبي حاتم، وزاد: منهم الحارث بن زَمْعَة بن الأسود، والعاص بن منبه بن الحجاج.
وأخرج الطبراني عن ابن عباس قال: كان قوم بمكة قد أسلموا، فلما هاجر رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم كرهوا أن يهاجروا وخافوا، فأنزل الله: {إِنّ الّذِينَ تَوَفّاهُمُ الملائكَةُ ظَالمي أَنْفُسِهِمْ} إلى قوله: {إِلاّ المسْتَضْعَفِينَ}.
وأخرج ابن المنذر وابن جرير عن ابن عباس قال: كان قوم من أهل مكة قد أسلموا، وكانوا يخفون الإسلام، فأخرجهم المشركون معهم يوم بدر، فأصيب بعضهم، فقال المسلمون: هؤلاء كانوا مسلمين، فأكرهوا فاستغفروا لهم، فنزلت: {إِنّ الّذِينَ تَوَفّاهُمُ الملائكَةُ} الآية، فكتبوا بها إلى من بقي منهم، وإنه لا عذر لهم فخرجوا، فلحق بهم المشركون ففتنوهم فرجعوا، فنزلت: {وَمِنَ النّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنّا بِاللّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النّاسِ كَعَذَابِ اللّهِ} [العنكبوت: من الآية 10]، فكتب إليهم المسلمون بذلك فتحزنوا، فنزلت: {ثُمّ إِنّ رَبّكَ لِلّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا} [النحل: من الآية 110] الآية، فكتبوا إليهم بذلك فخرجوا، فلحقوهم، فنجا وقتل من قتل.
وأخرج ابن جرير من طرق كثيرة نحوه، كذا في لباب النقول.
قال المهايميّ: ولما أوهم ما فُهِم مما تقدم، من تساوي القاعدين أولي الضرر والمجاهدين، أن من قعد عن الجهاد لكونه في دار الكفر محسوب منهم، وإن عجز عن إظهار دينه، فإن لم يحسب فلا أقل من أن يحسب من القاعدين غير أولي الضرر، الموعود لهم الحسنى- أزيل ذلك الوهم بأنهم بترك الهجرة من مكان لا يمكنهم فيه إظهار دينهم، مع إمكان الخروج عنه، صاروا ظالمين مستحقين لتوبيخ الملائكة، بل لعذاب جهنم، فقال: {إِنّ الّذِينَ تَوَفّاهُمُ الملائكَةُ ظَالمي أَنْفُسِهِمْ} أي: في حال ظلمهم أنفسهم بترك الهجرة عن مكان لا يمكنهم فيه إظهار دينهم مع القدرة عليها وبموافقة الكفار.
{وتوفاهم} يجوز أن يكون ماضياً كقراءة من قرأ: {توفتهم} ومضارعاً بمعنى تتوفاهم، بمعنى أن الله يوفي الملائكة أنفسهم فيتوفونها، أي: يمكنهم من استيفائها فيستوفونها، كذا في الكشاف.
والظلم قد يراد به الكفر كقوله تعالى: {إِنّ الشّرْكَ لَظُلم عَظِيمٌ} [لقمان: 13] وقد يراد به المعصية كقوله: {فَمِنْهُمْ ظَالم لّنَفْسِهِ} [فاطر: 32]، ويصح إرادة المعنيين هنا كما أشرنا، روى أبو داود عن سَمُرة بن جُنْدب قال: قال رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم: «من جامع المشرك وسكن معه فإنه مثله».
{قَالُواْ} أي: الملائكة للمتوفين، تقريراً بتقصيرهم وتوبيخاً لهم.
{فِيمَ كُنتُمْ} أي: في أي: شيء كنتم من أمور دينكم.
{قَالُواْ كُنّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ} أي: أرض الأعداء، قال الزمخشريّ: كيف صح وقوع قوله: {كُنّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ} جواباً عن قولهم: {فِيمَ كُنتُمْ} وكان حق الجواب: كنا في كذا أو لم نكن في شيء؟
قلت: معنى: {فِيمَ كُنتُمْ} التوبيخ بأنهم لم يكونوا في شيء من الدين حيث قدروا على المهاجرة ولم يهاجروا، فقالوا: كنا مستضعفين اعتذاراً مما وبخوا به، واعتلالاً بالاستضعاف، وأنهم لم يتمكنوا من الهجرة حتى يكونوا في شيء، فبكتتهم الملائكة بقولهم: {قَالْوَاْ أَلم تَكُنْ أَرْضُ اللّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا} أرادوا: إنكم كنتم قادرين على الخروج من مكة إلى بعض البلاد التي لا تمنعون فيها من إظهار دينكم، ومن الهجرة إلى رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم كما فعل المهاجرون إلى أرض الحبشة، وهذا دليل على أن الرجل إذا كان في بلاد لا يتمكن فيه من إقامة أمر دينه كما يجب لبعض الأسباب، والعوائق عن إقامة الدين لا تنحصر، أو علم أنه في غير بلده أقوم بحق الله وأدوم على العبادة- حقت عليه المهاجرة. انتهى.
{فَأُوْلَئِكَ} أي: النفر المذكور: {مَأْوَاهُمْ} أي: مصيرهم.
{جَهَنّمُ} لأنهم الذين ضعفوا أنفسهم إذ لم يلجئهم الأعداء إلى مساكنة ديارهم.
{وَسَاءتْ مَصِيراً} أي: جهنم، بدل المصير إلى دار الهجرة، ثم استثنى سبحانه من أهل الوعيد ما بينه بقوله تعالى:

.تفسير الآية رقم (98):

القول في تأويل قوله تعالى: {إِلاّ المسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرّجَالِ وَالنّسَاء وَالْوِلْدَانِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً} [98].
{إِلاّ المسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرّجَالِ} لعمى أو عرج أو مرض أو هرم أو فقر.
{وَالنّسَاء وَالْوِلْدَانِ} أي: الصبيان فإنهم معذورون في ترك الهجرة لأنهم: {لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً} في الخروج، إذ لا قوة لهم على الخروج ولا نفقة.
{وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً} أي: لا يعرفون طريقاً إلى دار الهجرة.

.تفسير الآية رقم (99):

القول في تأويل قوله تعالى: {فَأُوْلَئِكَ عَسَى اللّهُ أَن يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللّهُ عَفُوّا غَفُوراً} [99].
{فَأُوْلَئِكَ عَسَى اللّهُ أَن يَعْفُوَ عَنْهُمْ} أي: يتجاوز عنهم بترك الهجرة.
قال الرازيّ: هاهنا سؤال، وهو أن القوم لما كانوا عاجزين عن الهجرة، والعاجز عن الشيء غير مكلف به، وإذا لم يكن مكلفاً به لم يكن عليه في تركه عقوبة- فِلَم قال: عسى الله أن يعفو عنهم؟ والعفو لا يتصور إلا مع الذنب، وأيضاً {عسى} كلمة الإطماع، وهذا يقتضي عدم القطع بحصول العفو في حقهم، والجواب عن الأول: أن المستضعف قد يكون قادراً على ذلك الشيء مع ضرب من المشقة، وتمييز الضعيف الذي يحصل عنده الرخصة، عن الحد الذي لا يحصل عنده الرخصة، شاق ومشتبه، فربما ظن الإِنسَاْن بنفسه أنه عاجز عن المهاجرة ولا يكون كذلك، ولاسيما في الهجرة عن الوطن، فإنها شاقة في النفس، وبسبب شدة النفرة قد يظن الإِنسَاْن كونه عاجزاً، مع أنه لا يكون كذلك، فلهذا المعنى كانت الحاجة إلى العفو شديدة في هذا المقام، والجواب عن الثاني: بأن الفائدة في {عسى} الدلالة على أن ترك الهجرة أمر مضيق لا توسعة فيه، حتى إن المضطر البين الاضطرار من حقه أن يقول: عسى الله أن يعفو عني، فكيف الحال في غيره؟ هذا ما ذكره صاحب: الكشاف.
والأولى في الجواب ما قدمناه، وهو أن الإِنسَاْن لشدة نفرته عن مفارقة الوطن، ربما ظن نفسه عاجزاً عنها، مع أنه لا يكون كذلك في الحقيقة، فلهذا المعنى ذكر العفو بكلمة عسى لا بالكلمة الدالة على القطع. انتهى.
وقال أبو السعود: جيء بكلمة الإطماع ولفظ العفو إيذاناً بأن الهجرة من تأكيد الوجوب بحيث ينبغي أن يعد تركها، ممن تحقق عدم وجوبها عليه، ذنباً يجب طلب العفو عنه، رجاء وطمعاً، لا جزماً وقطعاً.
وقال المهايميّ: فيه إشعار بأن ترك الهجرة أمر خطير، حتى إن المضطر حقه أن يترصد الفرصة ويعلق قلبه بها، وإن الصبي إذا قدر فلا محيص له عنه، وإن قوّامهم يجب عليهم أن يهاجروا بهم، ثم أكد الإطماع لئلا ييأسوا فقال: {وَكَانَ اللّهُ عَفُوّا غَفُوراً} وفي إقحام {كان} إشارة إلى اتصافه تعالى بهذه الصفة قبل خلق الخلق، أو أن هذه عادته تعالى، أجراها في حق خلقه، ووعده بالعفو والمغفرة مطلقاً مما يدل على أنه تعالى قد يعفوا عن الذنب قبل التوبة.
تنبيه:
قال السيوطيّ في الإكيل: استدل بالآية على وجوب الهجرة من دار الكفر، إلا على من لم يطقها، وعن مالك: الآية تقتضي أن كل من كان في بلد تُغَيَّرُ فيه السنن، فينبغي أن يخرج منه. انتهى.
وقال بعض مفسري الزيدية: ثمرة الآية وجوب الهجرة من دار الكفر، ولا خلاف أنها كانت واجبة قبل الفتح، ولذلك قال الله تعالى في سورة الأنفال: {وَالّذِينَ آمَنُوا وَلم يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ} [الأنفال: من الآية 72]، قيل: ونسخت بعد الفتح، والصحيح عدم النسخ، وقوله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم: «لا هجرة بعد الفتح»، معناه من مكة.
قال جار الله: وهذا يدل على أن الرجل إذا كان في بلد لا يتمكن فيه من إقامة أمر دينه كما يجب، لبعض الأسباب، وعلم أنه في غير بلده أقوم بحق الله، حقت عليه الهجرة، ثم قال رحمه الله: قال في التهذيب: وعن القاسم بن إبراهيم: إذا ظهر الفسق في دار، ولا يمكنه الأمر بالمعروف، فالهجرة واجبة، وهذا بناء على أن الدور ثلاث: دار إسلام، ودار فسق، ودار حرب، وهذا التقسيم هو مذهب الهادي والقاسم وابن أبي النجم في كتاب الهجرة والدور عن الراضي بالله وجعفر بن مبشر وأبي عليّ.
وذهب الأخوان وعامة الفقهاء وأكثر المعتزلة إلى النفي لدار الفسق، واعلم أن من حُمِل على معصية أو ترك واجب أو طالبه الإمام بذلك فالمذهب وجوب الهجرة مع حصول الشروط المعتبرة، وقد قال الراضيّ بالله: إن من سكن دار الحرب مستحلاً، كَفَرَ، لأن ذلك رد لصريح القرآن، واحتج بهذه.
وقد حكى الفقيه حسام الدين حميد بن أحمد عن القاسم والهادي والراضي بالله: التكفير لمن ساكن الكفار في ديارهم.
وفي مذهب الراضي بالله يكفر إذا جاورهم سنة.
قال الفقيه شرف الدين محمد بن يحيى، حاكياً عن الراضي بالله: إنه يكفر بسكنى دار الحرب وإن لم يستحل؛ لأن ذلك منه إظهار الكفر على نفسه، الحكم بالتكفير محتمل هنا، ثم قال: وإنما استثنى تعالى الولدان، وإن كانوا غير داخلين في التكليف، بياناً لعدم حيلتهم، والهجرة إنما تجب على من له حيلة. انتهى.
وقال الحافظ ابن حجر في الفتح: الهجرة الترك، والهجرة إلى الشيء الانتقال إليه عن غيره، وفي الشرع: ترك ما نهى الله عنه، وقد وقعت في الإسلام على وجهين:
الأولى: الانتقال من دار الخوف إلى دار الأمن، كما في هجرتي الحبشية وابتداء الهجرة من مكة إلى المدينة.
الثاني: الهجرة من دار الكفر إلى دار الإيمان، وذلك بعد أن استقر النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم بالمدينة، وهاجر إليه من أمكنه ذلك من المسلمين، وكانت الهجرة، إذ ذاك، تختص بالانتقال إلى المدينة، إلى أن فتحت مكة فانقطع الاختصاص، وبقي عموم الانتقال من دار الكفر، لمن قدر عليه، باقياً. انتهى.
وقد أفصح ابن عمر بالمراد، فيما، فيما أخرجه الإسماعيلي بلفظ: انقطعت الهجرة بعد الفتح إلى رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم، ولا تنقطع الهجرة ما قوتل الكفار، أي: ما دام في الدنيا دار كفر.
فالهجرة واجبة منها على من أسلم وخشي أن يفتن على دينه، وقد روي في معنى الآية أحاديث كثيرة، أخرجها مجد الدين بن تيمية في منتقى الأخبار في ترجمة باب بقاء الهجرة من دار الحرب إلى دار الإسلام، وأن لا هجرة من دار أسلم أهلها ثم قال: عن سَمُرة بن جُنْدب قال: قال رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم: «مَنْ جَامَعَ الْمُشْرِكَ وَسَكَنَ مَعَهُ فَإِنَّهُ مِثْلُهُ». رواه أبو داود.
وعن جرير بن عبد الله أن رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم بعث سرية إلى خثعم فاعتصم ناس منهم بالسجود، فأسرع فيهم القتل، فبلغ النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم فأمر لهم بنصف العقل، وقال: «أنا بريء من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين»، قالوا: يا رسول الله! لم؟ قال: «لا تراءى ناراهما»، رواه أبو داود والترمذيّ.
وعن معاوية قال: سمعت رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم يقول: «لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة، ولا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها»، رواه أحمد وأبو داود.
وعن عبد الله بن السَّعدِي أن رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم قال: «لا تنقطع الهجرة ما قوتل العدو»، رواه أحمد والنسائي، عن ابن عباس عن النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم قال: «لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية»، رواه الجماعة إلا ابن ماجة.
وعن عائشة، وسئلت عن الهجرة، فقالت: لا هجرة اليوم، كان المؤمن يفر بدينه إلى الله ورسوله مخالفة أن يفتن، فأما اليوم مفقد أظهر الله الإسلام، والمؤمن يعبد ربه حيث شاء، رواه البخاريّ.
وعن مجاشع بن مسعود أنه جاء بأخيه مجالد بن مسعود إلى النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم فقال: هذا مجالد، جاء يبايعك على الهجرة فقال: لا هجرة بعد فتح مكة، ولكن أبايعه على الإسلام والإيمان والجهاد، متفق عليه، ولما تضمنت ترجمة المجد، رحمه الله، شقين، أورد لكلٍ أحاديث، فمن قوله: لا هجرة بعد الفتح.... إلخ، جميعه للشق الثاني، وهو قوله: وأن لا هجرة من دار أسلم أهلها، إشارة للجمع بين هذه الأحاديث، وهو ظاهر، ثم رغب تعالى في المهاجرة بقوله: