فصل: تفسير الآية رقم (142):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: محاسن التأويل



.تفسير الآية رقم (142):

القول في تأويل قوله تعالى: {إِنّ المنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُواْ إِلَى الصّلاَةِ قَامُواْ كُسَالَى يُرَاؤونَ النّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ اللّهَ إِلاّ قَلِيلاً} [142].
{إِنّ المنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ} أي: يفعلون ما يفعل المخادع من إظهار الإيمان، وإبطان الكفر، والله يفعل بهم ما يفعل الغالب في الخداع، حيث تركهم معصومي الدماء والأموال في الدنيا، وأعد لهم الدرك الأسفل من النار في الآخرة.
{وَإِذَا قَامُواْ إِلَى الصّلاَةِ} أي: أتوها: {قَامُواْ كُسَالَى} أي: متثاقلين كالمكر على الفعل، قال ابن كثير: هَذِهِ صِفَة الْمُنَافِقِينَ فِي أَشْرَف الْأَعْمَال وَأَفْضَلهَا وَخَيْرهَا وَهِيَ الصَّلَاة، إِذَا قَامُوا إِلَيْهَا قَامُوا وَهُمْ كُسَالَى عَنْهَا لِأَنَّهُمْ لَا نِيَّة لَهُمْ فِيهَا، وَلَا إِيمَان لَهُمْ بِهَا، وَلَا خَشْيَة وَلَا يَعْقِلُونَ مَعْنَاهَا.
كَمَا رَوَى اِبْن مَرْدَوَيْهِ عَنْ عَطَاء بْن أَبِي رَبَاح عَنْ اِبْن عَبَّاس قَالَ: يُكْرَه أَنْ يَقُوم الرَّجُل إِلَى الصَّلَاة وَهُوَ كَسْلَان، وَلَكِنْ يَقُوم إِلَيْهَا طَلْق الْوَجْه، عَظِيم الرَّغْبَة، شَدِيد الْفَرَح، فَإِنَّهُ يُنَاجِي اللَّه، وَإِنَّ اللَّه تُجَاهه يَغْفِر لَهُ، وَيُجِيبهُ إِذَا دَعَاهُ، ثُمَّ يَتْلُو هَذِهِ الْآيَة: {وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاة قَامُوا كُسَالَى}. انتهى.
قال الحاكم: وفي الآية دلالة على أن من علامات المنافق الكسل في الصلاة، والكسل: التثاقل عن الشيء لمشقته، فهذه الآية في صفة ظواهرهم كما قال: {وَلاَ يَأْتُونَ الصّلاَةَ إِلاّ وَهُمْ كُسَالَى} [التوبة: 54] ثم ذكر تعالى صفة بواطنهم الفاسدة: {يُرَاؤونَ النّاسَ} أي: يقصدون بصلاتهم الرياء والسمعة ليحسبوهم مؤمنين، لا لإخلاصه ومطاوعة أمر الله، ولهذا يتخلفون كثيراً عن الصلاة التي لا يرون فيها غالباً، كصلاة العشاء في وقت العتمة وصلاة الصبح في وقت الغلس، كما ثبت في الصحيحين أن رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم قال: «إن أَثْقَلُ الصَّلاَةِ عَلَى الْمُنَافِقِينَ الْعِشَاءُ وَالْفَجْرُ، وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِيهِما، لَأَتَوْهُمَا وَلَوْ حَبْواً، وَلَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ آمُرَ بِالصَّلَاةِ فَتُقَامَ، ثُمَّ آمُرَ رَجُلاً فَيُصَلِّيَ بِالنَّاسِ، ثُمَّ أَنْطَلِقَ مَعِي بِرِجَالٍٍ مَعَهُمْ حُزَمٌ مِنْ حَطَبٍٍ، إِلَى قَوْمٍٍ لَا يَشْهَدُونَ الصَّلَاةَ، فَأُحَرِّقَ عَلَيْهِمْ بُيُوتَهُمْ بِالنَّارِ».
وفي رواية: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ يَعْلَمُ أَحَدُهُمْ أَنَّهُ يَجِدُ عَرْقاً سَمِيناً أَوْ مِرْمَاتَيْنِ حَسَنَتَيْنِ لَشَهِدَ الْعِشَاءَ، وَلَوْلَا مَا فِي الْبُيُوت مِنْ النِّسَاء وَالذُّرِّيَّة لَحَرَّقْت عَلَيْهِمْ بُيُوتهمْ بِالنَّارِ».
وروى الْحَافِظ أَبُو يَعْلَى: عَنْ عَبْد اللَّه قَالَ: قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ أَحْسَن الصَّلَاة حَيْثُ يَرَاهُ النَّاس، وَأَسَاءَهَا حَيْثُ يَخْلُو، فَتِلْكَ اِسْتِهَانَة، اِسْتَهَانَ بِهَا رَبّه عَزَّ وَجَلَّ».
وقوله: {وَلاَ يَذْكُرُونَ اللّهَ إِلاّ قَلِيلاً} فيه وجوه:
الأول: معناه ولا يصلون إلا قليلاً لأنهم إنما يصلون رياءً ما دام من يرقبهم، فإذا خلوا بأنفسهم لم يصلوا وتأويل الذكر بالصلاة، روي في غير ما آيةٍٍ عن السلف.
الثاني: ولا يذكرون الله في صلاتهم إلا قليلاً، لأنهم لا يخشعون ولا يدرون ما يقولون، بل هم في صلاتهم ساهون لاهون، وقد روى الإمام مَالِكٍٍ عَنِ الْعَلاَءِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَن أَنَسِ بْنِ مَالِكٍٍ قَالَ: قَالَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «تِلْكَ صَلَاة الْمُنَافِق، تِلْكَ صَلَاة الْمُنَافِق، تِلْكَ صَلَاة الْمُنَافِق: يَجْلِس يَرْقُب الشَّمْس حَتَّى إِذَا كَانَتْ بَيْن قَرْنَيْ الشَّيْطَان، قَامَ فَنَقَرَ أَرْبَعاً لَا يَذْكُر اللَّه فِيهَا إِلَّا قَلِيلاً». وكذا رَوَاهُ مُسْلِم وَالتِّرْمِذِيّ وَالنَّسَائِيّ.
الثالث: معناه: ولا يذكرون الله بالتهليل والتسبيح إلا ذكراً قليلاً في الندرة، على أن الذكر بمعناه المتبادر منه، وعليه، فمن علامات النفاق استغراق الأوقات بحديث الدنيا، وقلة ذكره تعالى بتحميد أو تهليل أو تسبيح، كما أن من صفات المؤمنين ذكر الله تعالى كثيراً.

.تفسير الآية رقم (143):

القول في تأويل قوله تعالى: {مّذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لاَ إِلَى هَؤُلاء وَلاَ إِلَى هَؤُلاء وَمَن يُضْلِلِ اللّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً} [143].
{مّذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ} حال من فاعل {يراؤن} أو منصوب على الذم و{ذلك} إشارة إلى الإيمان والكفر، المدلول عليهما بمعونة المقام، أو إلى المؤمنين والكافرين، فيكون ما بعده تفسيراً له، أي: مرددين بينهما متحيرين قد ذبذبهم الشيطان والهوى، وحقيقة المذبذب الذي يُذب عن كلا الجانبين، أي: يذاد ويدفع، فلا يقر في جانب واحد، إلا أن الذبذبة فيها تكرير ليس في الذب، كأن المعنى كلما مال إلى جانب ذُبّ عنه.
{لاَ إِلَى هَؤُلاء وَلاَ إِلَى هَؤُلاء} أي: لا منضمين إلى المؤمنين ولا إلى الكافرين، ليسوا بمؤمنين مخلصين ولا مشركين مصرحين، وقال مجاهد: {لاَ إِلَى هَؤُلاء} يعني أصحاب محمد صَلّى اللهُ عليّه وسلّم: {وَلاَ إِلَى هَؤُلاء} يعني اليهود.
{وَمَن يُضْلِلِ اللّهُ} عن دينه وحجته: {فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً} أي: طريقاً إلى الصواب والهدى، روى الشيخان عَنْ اِبْن عُمَر عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَثَل الْمُنَافِق كَمَثَلِ الشَّاة الْعَائِرَة بَيْن الْغَنَمَيْنِ، تُعِير إِلَى هَذِهِ مَرَّة، وَإِلَى هَذِهِ مَرَّة».
والعائرة المتحيرة المترددة لا تدري لأي الغنمين تتبع.

.تفسير الآية رقم (144):

القول في تأويل قوله تعالى: {يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتّخِذُواْ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ المؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَن تَجْعَلُواْ لِلّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً مّبِيناً} [144].
{يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتّخِذُواْ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ المؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَن تَجْعَلُواْ لِلّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً مّبِيناً} هذا نهي عن موالاة الكفرة، يعني مصاحبتهم، ومصادقتهم، ومناصحتهم، وإسرار العودة إليهم، وإفشاء أحوال المؤمنين الباطنة إليهم، كما قال تعالى: {لاّ يَتّخِذِ المؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُوْنِ المؤْمِنِينَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللّهِ فِي شَيْءٍٍ إِلاّ أَن تَتّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ} [آل عِمْرَان: 28]، أي: يحذركم عقوبته في ارتكابكم نهيه، ولهذا قال ههنا: {أَتُرِيدُونَ أَن تَجْعَلُواْ لِلّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً مّبِيناً} أي: حجة عليكم في عقابكم بموالاتكم إياهم، وقد دلت الآية على تحريم موالاة المؤمنين للكافرين.
قال الحاكم: وهي الموالاة في الدين والنصرة فيه، لا المخالفة والإحسان.
قال الزمخشري: وعن صعصعة بن صوحان أنه قال لابن أخ له: خالص المؤمن وخالق الكافر والفاجر، فإن الفاجر يرضى منك بالخلق الحسن، وأنه يحق عليك أن تخالص المؤمن.
قال أبو السعود: وتوجيه توجيه الإنكار إلى الإرادة دون متعلقها بأن يقال: أتجعلون.... إلخ، للمبالغة في إنكار ذلك، وتهويل أمره ببيان أنه مما لا يصدر على العاقل إرادته، فضلاً عن صدور نفسه، كما في قوله عز وجل: {أَمْ تُرِيدُونَ أَن تَسْأَلُواْ رَسُولَكُمْ} [البقرة: 108].
لطيفة:
اِبْن أَبِي حَاتِم عَنْ اِبْن عَبَّاس قَالَ: كُلّ سُلْطَان فِي الْقُرْآن حُجَّة، وكذا قال غيره من أئمة التابعين.
قال محمد بن يزيد: هو من السليط، وهو دهن الزيت لإضاءته، أي: فإن الحجة من شأنها أن تكون نيرة، وفي البصائر إنما سمي الحجة سلطاناً لما يلحق من الهجوم على القلوب، لكن أكثر تسلطه على أهل العلم والحكمة.

.تفسير الآية رقم (145):

القول في تأويل قوله تعالى: {إِنّ المنَافِقِينَ فِي الدّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النّارِ وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً} [145].
{إِنّ المنَافِقِينَ فِي الدّرْكِ} قرئ بسكون الراء وفتحها: {الأَسْفَلِ مِنَ النّارِ} أي: الطبق الذي في قعر جهنم، والدرك كالدرج، إلا أنه يقال باعتبار الهبوط، والدرج باعتبار الصعود، وإنما عوقبوا بذلك لأنهم أخبث الكفرة، إذ ضموا إلى الكفر استهزاءً بالإسلام وخداعاً للمسلمين.
قال الرازي: وبسبب أنهم لمَّا كانوا يظهرون الإسلام، يمكنهم الاطلاع على أسرار المسلمين ثم يخبرون الكفار بذلك، فكانت تتضاعف المحنة من هؤلاء المنافقين، فلهذه الأسباب عوقبوا بذلك.
ونقل عن ابن الأنباريّ أنه قال: إنه تعالى أخبر عن آل فرعون بقوله: {أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدّ الْعَذَابِ} [غافر: 46]، وعن المنافقين بما في هذه الآية، فأيهما أشد عذاباً؟
فأجاب: بأنه يحتمل أن أشد العذاب إنما يكون في الدرك الأسفل، وقد اجتمع فيه الفريقان، والله أعلم.
روى الترمذيّ عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: قَالَ عُتْبَةُ بْنُ غَزْوَانَ عَلَى مِنْبَرِ الْبَصْرَةِ، إِنّ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ الصَّخْرَةَ الْعَظِيمَةَ لَتُلْقَى مِنْ شَفِيرِ جَهَنَّمَ فَتَهْوِى فِيهَا سَبْعِينَ عَاماً، وَمَا تُفْضِي إِلَى قَرَارِهَا».
وَكَانَ عُمَرُ رضي الله عنه يَقُولُ: أَكْثِرُوا ذِكْرَ النَّارِ، فَإِنَّ حَرَّهَا شَدِيدٌ، وَإِنَّ قَعْرَهَا بَعِيدٌ، وَإِنَّ مَقَامِعَهَا حَدِيدٌ.
وروى الترمذيّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَيْلٌ وَادٍٍ في جَهَنَّمَ يَهْوِي فِيهِ الْكَافِرُ أَرْبَعِينَ خَرِيفاً قَبْلَ أَنْ يَبْلُغَ قَعْرَهُ».
{وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً}: أي: ينقذهم مما هم فيه ويخرجهم من أليم العذاب.

.تفسير الآية رقم (146):

القول في تأويل قوله تعالى: {إِلاّ الّذِينَ تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ وَاعْتَصَمُواْ بِاللّهِ وَأَخْلَصُواْ دِينَهُمْ لِلّهِ فَأُوْلَئِكَ مَعَ المؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللّهُ المؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً} [146].
{إِلاّ الّذِينَ تَابُواْ} أي: عن النفاق: {وَأَصْلَحُواْ} أي: أعمالهم.
{وَاعْتَصَمُواْ بِاللّهِ} أي: وثقوا به بترك موالاة الكفار: {وَأَخْلَصُواْ دِينَهُمْ لِلّهِ} فلم يبق لهم فيه تردد، ولم يريدوا بطاعتهم إلا وجهه سبحانه، لا رياء الناس كما كانوا قبل.
{فَأُوْلَئِكَ مَعَ المؤْمِنِينَ} إشارة إلى الموصول باعتبار اتصافه بما في حيّز الصلة، وما فيه من معنى البعد، للإيذان ببعد المنزلة وعلو الطبقة، أي: لعلو رتبتهم بهذه الأمور لا يكونون في درك من النار فضلاً عن الأسفل، بل مع المؤمنين المستمرين على الإيمان بلا نفاق، أي: معهم في درجات الجنان، وقد بيّن ذلك بقوله سبحانه: {وَسَوْفَ يُؤْتِ اللّهُ المؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً} ثواباً وافراً في الجنة، فيشاركونهم فيه ويساهمونهم، وحذفت الياء في الخط هنا اتباعاً للفّظ، لسكونها وسكون اللام بعدها، ومثله: {يَوْمَ يَدْعُ الدّاعِ} [القمر: 6]، و{سَنَدْعُ الزّبَانِيَةَ} [العلق: 18]، و{يَوْمَ يُنَادِ المنَادِ} [ق: 41] ونحوها، فإن الحذف في الجميع لالتقاء الساكنين، فجاء الرسم تابعاً للفظ، والقراء يقفون عليه دون ياء، اتباعاً للخط الكريم، إلا يعقوب والكسائيّ وحمزة، فإنهم يقفون بالياء نظراً إلى الأصل، كذا في الفتح.
تنبيه:
قال الزمخشري: فإن قلت: من المنافق؟
قلت: هو في الشريعة من أظهر الإيمان وأبطن الكفر، وأما تسميته من ارتكب ما يفسق به بـ المنافق فللتغليظ، كقوله: من ترك الصلاة متعمداً فقد كفر جهاراً، ومنه قوله عليه الصلاة والسلام: «ثلاث من كن فيه فهو منافق، وإن صام وإن صلى وزعم أنه مسلم: من إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان».
وقيل لحذيفة رَضِي اللّهُ عَنْهُ: من المنافق؟ فقال: الذي يصف الإسلام ولا يعمل به.
وقيل لابن عمر: ندخل على السلطان ونتكلم بكلام فإذا خرجنا تكلمنا بخلافه، فقال: كنا نعده من النفاق. انتهى كلامه.
أقول: قول الزمخشري فللتغليظ يوجد مثله لثّلة من شراح الحديث وغيرهم، وقد بحث فيه بعض محققي مشايخنا بقوله: هذا الجواب لا يرتضيه من عرف قدر النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم، وكأنهم غفلوا عما يستلزمه هذا الجواب مما لا يرتضيه أدنى عالم أن ينسب إليه، وهو الإخبار بخلاف الواقع لأجل الزجر. انتهى.
وقال بعض المحققين: عليك أن تقر الأحاديث كما وردت، لتنجوا من معرة الخطر، وقوله تعالى:

.تفسير الآية رقم (147):

القول في تأويل قوله تعالى: {مّا يَفْعَلُ اللّهُ بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَآمَنتُمْ وَكَانَ اللّهُ شَاكِراً عَلِيماً} [147].
{مّا يَفْعَلُ اللّهُ بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَآمَنتُمْ} قال أبو السعود: هو استئناف مسوق لبيان أن مدار تعذيبهم، وجوداً وعدماً، إنما هو كفرهم، لا شيء آخر، فيكون مقرراً لما قبله من إثابتهم عند توبتهم.
و{ما} استفهامية مفيدة للنفي على أبلغ وجه وآكده، أي: أي: شيء يفعل الله سبحانه بتعذيبكم؟ أيتشفى به من الغيظ؟ أم يدرك به الثار؟ أم يستجلب به نفعاً؟ أم يستدفع به ضرراً؟ كما هو شأن الملوك، وهو الغني المتعالي عن أمثال ذلك، وإنما هو أمر يقتضيه كفركم، فإذا زال ذلك بالإيمان والشكر، انتفى التعذيب لا محالة، وتقديم الشكر على الإيمان لما أنه طريق موصل إليه، فإن الناظر يدرك أولاً ما عليه من النعم الأنفسية والآفاقية فيشكر شكراً مبهماً، ثم يترقى إلى معرفة المنعم فيؤمن به، وجواب الشرط محذوف لدلالة ما قبله عليه.
{وَكَانَ اللّهُ شَاكِراً عَلِيماً} الشكر منه تعالى المجازاة والثناء الجميل، كما في القاموس ويرحم الله ابن القيم حيث يقول في الكافية الشافية:
وهو الشكور، فلن يضيع سعيهم ** لكن يضاعفه بلا حِسْبان

ما للعباد عليه حق واجب ** هو أوجب الأجر العظيم الشان

كلا ولا عملٌ لديه ضائع ** إن كان بالإخلاص والإحسان

إن عذّبوا فبعدله أو نعِّموا ** فبفضله، والحمدُ للرحمن

.تفسير الآية رقم (148):

القول في تأويل قوله تعالى: {لاّ يُحِبّ اللّهُ الْجَهْرَ بِالسّوَءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاّ مَن ظُلم وَكَانَ اللّهُ سَميعاً عَلِيماً} [148].
{لاّ يُحِبّ اللّهُ الْجَهْرَ بِالسّوَءِ مِنَ الْقَوْلِ} أي: لا يحب الله تعالى أن يجهر أحد بالقبيح من القول.
{إِلاّ مَن ظُلم} إلا جهر المظلوم بأن يدعو على ظالمه، أو يتظلم منه ويذكره بما فيه من السوء، فإن ذلك غير مسخوط عنده سبحانه، حتى إنه يجيب دعاءه، ومعلوم أن أنواع الظلم كثيرة.
فما نقل عن السلف هنا من ذكر نوع منه، فليس المراد حصر معنى الآية فيه، بل القصد تنبيه المستمع على النوع، فمن ذلك ما رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس في الآية، يقول: لا يحب الله أن يدعو أحد على أحد إلا أن يكون مظلوماً، فإنه قد أرخص له أن يدعو على من ظلمه، وذلك قوله: {إِلاّ مَن ظُلم} وإن صبر فهو خير له.
ومن ذلك ما رواه عبد الرزاق وابن إسحاق وهنّاد بن السري عن مجاهد قال: هي في رجل أضاف رجلاً فأساء قِراه، فتحول عنه، فجعل يثني عليه بما أولاه، فرخص له أن يثني عليه بما أولاه.
وفي رواية عنه: وهو الرجل ينزل بالرجل فلا يحسن ضيافته فيخرج فيقول: أساء ضيافتي ولم يحسن.
وفي رواية: هو الضيف المحول رحله، فإنه يجهر لصاحبه بالسوء من القول.
قال ابن كثير: وقد روى الجماعة- سوى النسائي والترمذيّ- عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍٍ رضي الله عنه قَالَ: قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنَّكَ تَبْعَثُنَا فَنَنْزِلُ بِقَوْمٍٍ فَلاَ يَقْرُونَنَا فَمَا تَرَى؟ فَقَالَ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنْ نَزَلْتُمْ بِقَوْمٍٍ فَأَمَرُوا لَكُمْ بِمَا يَنْبَغِي لِلضَّيْفِ فَاقْبَلُوا، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلُوا فَخُذُوا مِنْهُمْ حَقَّ الضَّيْفِ الَّذِي يَنْبَغِي لَهُمْ».
وروى الإمام أحمد عَنِ الْمِقْدَامِ أَبِي كَرِيمَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قَالَ: «أَيُّمَا مُسْلِمٍٍ ضَافَ قَوْماً فَأَصْبَحَ الضَّيْفُ مَحْرُوماً، فَإِنَّ حَقّاً عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍٍ نَصْرُهُ حَتَّى يَأْخُذَ بِقِرَى لَيْلَتِهِ مِنْ زَرْعِهِ وَمَالِهِ».
وروى هو وأبو داود عنه أيضاً، سمع رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم يقول: «لَلَيْلَةُ الضَّيْفِ وَاجِبَةٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍٍ، فَإِنْ أَصْبَحَ بِفِنَائِهِ مَحْرُوماً كَانَ دَيْناً عَلَيْهِ، فإِنْ شَاءَ اقْتَضَاه، وَإِنْ شَاءَ تَرَكَه».
ومن هذا القبيل الحديث الذي رواه الحافظ أبو بَكْر الْبَزَّار عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَجُلاً أَتَى النَّبِي صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: إِنَّ لِي جَاراً يُؤْذِينِي، فَقَالَ لَهُ: «أَخْرِج مَتَاعَكَ فَضَعْهُ عَلَى الطَّرِيقِ».
فَأَخَذَ الرَّجُل مَتَاعه فَطَرَحَهُ عَلَى الطَّرِيق، فَكُلّ مَنْ مَرَّ بِهِ قَالَ: مَا لَك؟ قَالَ: جَارِي يُؤْذِينِي، فَيَقُول: اللَّهُمَّ! اِلْعَنْهُ، اللَّهُمَّ! أَخْزِهِ.
قَالَ: فَقَالَ الرَّجُل: اِرْجِعْ إِلَى مَنْزِلك، وَاَللَّه! لَا أُوذِيك أَبَداً.
وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي كِتَاب الْأَدَب.
وقال عبد الكريم بن مالك الجزريّ، في هذه الآية، هو الرجل يشتمك فتشتمه، ولكن إن افترى عليك فلا تفتر عليه، لقوله تعالى: {وَلمنِ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلمهِ فَأُوْلَئِكَ مَا عَلَيْهِم مّن سَبِيلٍٍ} [الشورى: 41].
وقال قطرب: معنى الآية: إلا من أكره على أنه يجهر بسوء من القول، من كفر أو نحوه، فهو مباح له، وسئل المرتضى عنها فقال: لا يحب الله ذلك ولا يجيزه لفاعله، إلا من ظلم وذلك مثل ما كان من مردة قريش وفعله بأصحاب رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم، من العقاب والضرب، ليشتموا رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم ويتبرؤا منه، ففعل ذلك عمار، فخلوه وصلبوا صاحبه، فأطلق لمن فعل به هكذا أن يتكلم بما ليس في قلبه، وفي عمار وصاحبه نزل قول الله في سورة النحل: {مَن كَفَرَ بِاللّهِ مِن بَعْدِ إيمَانِهِ إِلاّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنّ بِالإِيمَانِ وَلَكِنْ مّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مّنَ اللّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النحل: 106]، فكانت هذه الآية مبينة لما في قلب عمار من شحنة بالإيمان. انتهى.
وكل هذا مما تشمله الآية بعمومها، وما نقله السمرقندي وغيره عن الفراء في قوله تعالى: {إِلاّ مَن ظُلم} أن: {إِلاّ} بمعنى لا يعني: ولا من ظلم- فهذا من تحريف الكلم عن مواضعه: فإن الآية صريحة في أنه في أنه يجوز للمظلوم أن يتكلم بالكلام الذي هو من السوء في جانب من ظلمه، ويؤيده الحديث الذي رواه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجد والحاكم، عن الرشيد بن سويد عن رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم أنه قال: لي الواجد يحل عرضه وعقوبته، وأما من لم يظلم فجهره بالسوء داخل في الغيبة المحظورة.
فوائد:
قال بعض مفسري الزيدية: أفادت الآية جواز الجهر بالدعاء على الظالم والجهر بمساويه، ودلت على أن من جهر بكلمة الكفر مكرها، لم يكفر، لأنه مظلوم، وإذا ثبت بطلان حكم لفظ الكفر مع الظلم، فكذا يلزم في سائر الأحكام من البيع والعتاق والطلاق والإقرار، ثم قال: والمحبة هاهنا بمعنى الإباحة، لا أن ذلك يريده الله تعالى.
أقول: هذه نزعة اعتزالية.
ثم قال: وتسميته سوءاً، لكونه يسوء المقول فيه، وإلا فليس بقبيح في هذه الحال.
ثم قال: وقول من قال إلا هنا بمعنى الواو أي: ومن ظلم، مثل:
وكلُّ أَخٍٍ مُفَارِقُهُ أَخوهُ ** لعَمْرُ أَبِيكَ إِلا الفَرْقَدَانِ

فخلاف الظاهر. انتهى.
وقد نقل في معنى هذه الآية حكم ونوادر بديعة، قال الشعبيّ: يعجبني الرجل إذا سيم هوناً، دعته الأنفة إلى المكافأة، وجزاء سيئة سيئة مثلها، فيلغ كلامه الحجاج فقال: لله دره! أي: رجل بين جنبيه! وتمثل:
ولا خير في عرض امرئ لا يصونه ** ولا خير في حلم امرئ ذل جانبه

وقال أعرابي لابن عباس رضي الله عنهما: أتخاف عليّ جناحاً إن ظلمني رجل فظلمته؟ فقال له: العفو أقرب للتقوى، فقال: {وَلمنِ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلمهِ فَأُوْلَئِكَ مَا عَلَيْهِم مّن سَبِيلٍٍ}.
وقال المتنبي:
مِنَ الحِلم أن تستعمل الجهل دُونهُ ** إذا اتَّسَعَتْ في الحِلمِ طُرْقُ المَظَالِمِ

لطيفة:
الاستثناء في قوله تعالى: {إِلاّ مَن ظُلم} إما متصل أو منقطع، فعلى الأول فيه وجهان:
الأول: قول أبي عبيدة: هذا من باب حذف المضاف، أي: إلا جهر من ظلم، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه.
والثاني: قول الزجاج: المصدر هاهنا بمعنى الفاعل، أي: لا يحب الله المجاهر بالسوء إلا من ظلم، وعلى أنه منقطع، فالمعنى لكن المظلوم له أن يجهر بظلامته.
وقوله تعالى: {وَكَانَ اللّهُ سَميعاً عَلِيماً} فيه وعد للمظلوم بأنه تعالى يسمع شكواه ودعاءه ويعلم ظلم ظالمه، كما قال تعالى: {وَلاَ تَحْسَبَنّ اللّهَ غَافِلاً عَمّا يَعْمَلُ الظّالمونَ} [إبراهيم: 42]، ووعيد له أيضاً بأن يتعدى في الجهر المأذون فيه، بل ليقل الحق ولا يقذف بريئاً بسوء فإنه يصير عاصياً لله بذلك، ثم حث سبحانه على العفو بعد ما جوّز الجهر بالسوء وجعله محبوباً، حثاً على الأحب إليه والأفضل عنده، وإلا دخل في الكرم والتخشع والعبودية، فقال سبحانه: