فصل: تفسير الآية رقم (158):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: محاسن التأويل



.تفسير الآية رقم (158):

القول في تأويل قوله تعالى: {بَل رّفَعَهُ اللّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللّهُ عَزِيزاً حَكِيماً} [158].
{بَل رّفَعَهُ اللّهُ إِلَيْهِ} ردٌّ وإنكار لقتله، وإثبات لرفعه، أي: اليقين إنما هو في رفعه إليه.
{وَكَانَ اللّهُ عَزِيزاً حَكِيماً} أي: لا يبعد رفعه على الله، لأنه عزيز لا يغلب على ما يريده، وحكيم اقتضت حكمته رفعه، فلابد أن يرفعه، وهي حفظه لتقوية دين محمد صَلّى اللهُ عليّه وسلّم، حين انتهائه إلى غاية الضعف بظهور الدجال، فيقتله، أفاده المهايمي.
تنبيه:
لا خفاء في أن هذه الآية الكريمة لتكذيب اليهود في دعوى الصلب التي تابعهم عليها أكثر النصارى، ولتبرئة ساحة مقام عيسى عليه السلام مما توهموه في ذلك، ولما كانت هذه الآية من مباحث الأمتين، ومعارك الفرقتين- أردت بسط الكلام في هذا المقام، انتهاجاً للحق، وأخذاً بناصر الصدق، ورد أباطيل المكذبين، وتزييف أقوال الملحدين، نورد أولاً ما زعموه ورَوَوْه، مما نفاه التنزيل الكريم، ثم بطلان المرويّ عندهم وتهافته بالحجج الدامغة، ثم ما رواه أئمة سلفنا رضي الله عنهم في هذه القصة، ثم رد زعمهم أن إلقاء الشبه سفسطة، ثم سقوط دعواهم التواتر في الصلب، ثم تزييف تفسير بعض النصارى لهذه الآية، وأنها مطابقة لمعتقدهم على زعمه، مع ذكر من رفض عقيدة المسلمين، ويطابق هذه الآية، ونختم هذه المباحث بما قاله شيخ الإسلام تقي الدين ابن تيمية رَضِي اللّهُ عَنْهُ في هذه الآية، وأبدع، على عادته قدس سره، فهذا المطالب ينبغي معرفتها لكل طالب، إذ تفرعت إلى مباحث فائقة، وفوائد شائقة، فنقول وبالله التوفيق:
ذكر ما زعموه ورووه مما نفاه التنزيل الكريم:
جاء في الفصل الثاني والعشرين من إنجيل لوقا ما نصه:
2- كان رؤساء الكهنة والكتبة يلتمسون كيف يقتلون يسوع لكنهم كانوا يخافون من الشعب.
38- أي: لأن الشعب كلهم كانوا يبكرون إليه في الهيكل- وهو الكنيسة- ليستمعوه.
إنجيل لوقا الإصحاح الحادي والعشرون.
(37) وكان في النهار يعلم في الهيكل وفي الليل يخرج ويبيت في الجبل الذي يدعى جبل الزيتون.
(38) وكان كل الشعب يبكرون إليه في الهيكل ليسمعوه.
37- وكان في النهار يعلم في الهيكل وفي الليل يخرج ويبيت في الجبل المسمى جبل الزيتون، كما ذكر لوقا قبل الفصل.
3- فدخل الشيطان في يهوذا الملقب بالأسخريوطيّ وهو أحد الاثني عشر.
4- فمضى وفاوض رؤساء الكهنة والولاة كيف يُسْلمه إليهم.
5- ففرحوا وعاهدوه أن يعطوه فضة.
6- فواعدهم وكان يطلب فرصة ليسلمه إليهم بمعزل عن الجميع.
7- وبلغ يومُ الفطير الذي كان ينبغي أن يذبح فيه الفِصح.
8- فأرسل بطرس ويوحنا قائلاً: امضيا فأَعِدَّا لنا الفِصح لنأكل.
9- فقالا له: أين تريد أن نعِِدَّ.
10- فقال لهما: إذا دخلتما المدينة يلقاكما رجل حامل جرة ماء، فاتبعاه إلى البيت الذي يدخله.
الإصحاح الثاني والعشرون:
1- وقرب عيد الفطير الذي يقال له: الفصح.
2- وكان رؤساء الكهنة والكتبة يطلبون كيف يقتلونه، لأنهم خافوا الشعب.
3- فدخل الشيطان في يهوذا الذي يدعى الإسخريوطي وهو من جملة الاثني عشر.
4- فمضى وتكلم مع رؤساء الكهنة وقواد الجند كيف يسلمه إليهم.
5- ففرحوا وعاهدوه أن يعطوه فضة.
6- فواعدهم، وكان يطلب فرصة ليسلمه إليه خِلْواً من جمع.
7- وجاء يوم الفطير الذي كان ينبغي أن يذبح فيه الفصح.
8- فأرسل بطرس ويوحنا قائلاً: اذهبا وأعدّا لنا الفصح لنأكل.
9- فقالا له: أين تريد أن نُعِدّ.
10- فقال لهما إذا دخلتما المدينة يستقبلكما إنسان حامل جَرّة ماء، اتبعاه إلى البيت حيث يدخل.
11- وقولا لرب البيت: المعلم يقول لك أين المنزل الذي آكل فيه الفِصح مع تلاميذي.
12- فهو يريكما غرفة كبيرة مفروشة، فأعِدَّا هناك.
13- فانطلقا فوجدا كما قال لهما وأعدا الفِصح.
14- ولما كانت الساعة اتكأ هو والرسل الاثنا عشر معه.
15- فقال لهم: لقد اشتهيتُ شهوة أن آكل هذا الفصح معكم قبل أن أتألم.
16- فإني أقول لكم: إني لا آكله بعد حتى يتم في ملكوت الله.
17- ثم تناول كأساً وشكر وقال: خذوا فاقتسموا بينكم.
18- فإني أقول لكم: إني لا أشرب من عصير الكرمة حتى يأتي ملكوت الله.
19- وأخذ خبزاً وشكر وكسر وأعطاهم قائلاً: هذا هو جسدي الذي يُبْذَل لأجلهم، اصنعوا هذا لذكري.
20- وكذلك الكاس من بعد العشاء قائلاً: هذه هي الكأس العهد الجديد بدمي الذي يسفك من أجلكم.
21- ومع ذلك فها إن يَدَ الذي يُسلمني معي على المائدة.
22- وابن البشر ماضٍٍ كما هو محدود ولكن الويل لذلك الرجل الذي يسلمه.
23- فطفقوا يسألون بعضهم بعضاً: من كان منهم مزمعاً أن يفعل ذلك.
24- ووقعت بينهم مجادلة في أيهم يُحسب الأكبر.
25- فقال لهم: إن ملوك الأمم يسودونهم والمسلطين عليهم يدعون محسنين.
26- وأما أنتم فلستم كذلك، ولكن ليكن الأكبر فيكم كالأصغر، والذي يتقدم كالذي يَخْدُم.
27- وأنتم الذي ثبتُّم معي في تجاربي.
28- فأنا أُعِدُّ لكم الملكوت كما أعده لي أبي.
29- لتأكلوا وتشربوا على مائدتي في ملكوتي وتجلسوا على كراسي تدينون أسباط بني إسرائيل الاثني عشر.
30- وقال يسوع: سمعان سمعانُ هو ذا الشيطان سأل أن يُغربلكم مثل الحنطة.
31- لكني صليت من أجلك لئلا ينقص إيمانك وأنت متى رجعت فَثَبِّتْ إخوتك.
32- فقال له: أنا مستعد أن أمضي معك إلى السجن وإلى الموت.
33- قال: إني أقول لك يا بطرس إنه لا يصيح الديك اليوم حتى تنكر ثلاث مرات أنك تعرفني.
34- ثم خرج ومضى على عادته إلى جبل الزيتون وتبعه التلاميذ.
35- فلما انتهى إلى المكان قال لهم: صلوا لئلا تدخلوا في تجربة.
36- ثم فصل عنهم نحو رمية حجر وخر على ركبتيه وصلى.
37- قائلاً: يا رب إن شئت فأجِزْ عني هذه الكأس لكي لا تكن مشيئتي بل مشيئتك.
38- وتراءى له ملاك من السماء يشدّده.
39- ولما أخذ في النزاع أطال في الصلاة وصار عرقه كقطرات دم نازلة على الأرض.
40- ثم قام من الصلاة وجاء إلى تلاميذه فوجده نياماً من الحزن.
41- فقال لهم: ما بالكم نائمين، قوموا فصلوا لئلا تدخلوا في تجربة.
42- وفيما هو يتكلم إذ بجمع يتقدمهم المسمى يهوذا أحد الاثني عشر فدنا من يسوع ليقبله.
43- فقال له يسوع: يا يهوذاً أبقبلةٍٍ تُسلم ابن البشر.
44- فما رأى حوله ما سيحدث قالوا له: أنضرب بالسيف.
45- وضرب أحدهم عبدَ رئيس الكهنة فقط أذنه اليمنى.
46- فأجاب يسوع وقال: قفوا لا تزيدوا، ثم لمس أذنه فأبرأه.
47- ثم قال يسوع للذين جاؤوا إليه من رؤساء الكهنة وولاة الهيكل والشيوخ: كأنما خرجتم إلى لص بسيوف وعصي.
48- إني كل يوم كنت معكم في الهيكل ولم تمدوا عليّ أيديكم ولكن هذه ساعتكم وهذا سلطان الظلمة.
حينئذ تركه تلاميذه وهربوا.
49- فارتموا على يسوع قبضوا عليه وقادوه إلى بيت رئيس الكهنة.
وكان الكتبة والرؤساء مجتمعين، وهناك أعطى يهوذا الحواري الثلاثين درهماً التي أخذها رشوة على تسليم المسيح.
وكان بطرس يتبعه من بعيد...
50- وأضرموا ناراً في وسط الدار وجلسوا حولها فجلس بطرس بينهم.
51- فرأته جارية جالساً عند الضوء فتفرست فيه ثم قالت: إن هذا أيضاً كان معه.
52- فكفر أمام الجميع وأنكره قائلاً: إني لست أعرفه.
53- وبعد قليل رآه آخر فقال: أنت أيضاً منهم، فأخذ بطرس يحلف لا أعرف هذا الرجل ولست منهم.
54- وبعد نحو ساعة أكد عليه آخر قائلاً: في الحقيقة هذا أيضاً كان معه فإني جليلي.
55- فقال بطرس: يا رجل لا أدري ما تقول.
قال مفسروهم: إن خطأ بطرس هذا كان ثقيلاً: لأن المسيح قال: من ينكرني أمام الناس أنكره أمام أبي الذي في السماوات.
60- وفي الحال بينما هو يتكلم صاح الديك.
61- فالتفت يسوع ونظر إلى بطرس فتذكر كلامه إذ قال: إنك قبل أن يصيح الديك، تنكرني ثلاث مرات.
62- فخرج بطرس وبكى بكاءً مراً.
63- وكان الرجال الذين قبضوا عليه يهزؤون به ويضربونه.
64- وغطوه وطفقوا يلطمونه ويسألونه قائلين: تنبأ من الذي ضربك.
65- وأشياء آخر كانوا يقولونها عليه مجدفين.
66- ولما كان النهار اجتمع شيوخ الشعب ورؤساء الكهنة عليه ليميتوه وأحضروا إلى محفلهم.
67- وقالوا: إن كنت أنت المسيح فقل لنا، فقال لهم: إن قلت لكم لا تؤمنون.
68- وإن سألتكم لا تجيبوني ولا تطلقوني.
69- ولكن من الآن يكون ابن البشر جالساً عن يمين قدرة الله.
70- فقال الجميع: أفأنت ابن الله، فقال لهم: أنتم تقولون إني أنا هو.
71- فقالوا ما حاجتنا إلى شهادة إنا قد سمعنا من فمه.
فأوثقوه، وأما يهوذا الأسخريوطي الدافع، لما رأى يسود قد دِينَ ندم ومضى فأعاد الثلاثين الفضة إلى رؤساء الكهنة قائلاً: لقد أخطأت بتسليم دماً زكياً، فقالوا له: ما علينا أنت أخبر، فطرح الفضة في الهيكل وذهب فخنق نفسه، وأما رؤساء الكهنة فأخذوا الفضة وقالوا لا يحل لنا أن نضعها في بيت التقدمة لأنها ثمن دم.
1- ثم ذهب جميع جمهورهم ومضوا بيسوع إلى بيلاطُسَ.
2- وطفقوا يشكونه قائلين: إنا وجدنا هذا يفسد أمتنا ويمنع من أداء الجزية لقيصر ويدعي أنه هو المسيح الملك.
3- فسأله بيلاطُس قائلاً: هل أنت ملك اليهود؟ فأجابه قائلاً: أنت قلت.
4- فقال بيلاطس لرؤساء الكهنة وللجموع: إني لم أجد على هذا الرجل علة.
5- فلجّوا وقالوا: إنه يهيج الشعب إذ يعلم في اليهودية كلها مبتدئاً من الجليل إلى هنا.
6- فلما سمع ببلاطس ذكر الجليل سأل: هل الرجل جليلي.
7- ولما علم أنه من إيالة هيرؤدس أرسله إلى هيرؤدس وكان في تلك الأيام في أورشليم.
8- فلما رأى هيرؤدس يسوع فرح جدًّا لأنه من زمان طويل كان يشتهي أن يراه لسماعه عنه أشياء كثيرة ويرجو أن يعاين آية يصنعها.
9- فسأله بكلام كثير فلم يجبه بشيء.
10- وكان رؤساء الكهنة والكتبة واقفين يشكونه بلجاجة.
11- فازدراه هيرؤدس مع جنوده وهزأ به وألبسه ثوباً لامعاً وردّه إلى بيلاطيس.
12- وتصادق هيردؤس وبيلاطُس في ذلك اليوم، وقد كانا من قبل متعاديين.
13- فدعا بيلاطس رؤساء الكهنة والعظماء والشعب.
14- وقال لهم: قد قدمتم إليّ هذا الرجل كأنه يفتن الشعب، وها أنا قد فحصته أمامكم فلم أجد على هذا الرجل علة مما تشكونه به.
15- ولا هيرؤدس أيضاً لأني أرسلتكم إليه وهو ذا لم يُصنع به شيء من حكم الموت.
16- فأنا أؤدبه وأطلقه.
17- وكان لابد له أن يطلق لهم في كل عيد رجلاً.
18- فصاحوا كلهم جملة قائلين: ارفع هذا وأطلق لنا بَرْأبّا.
19- كان ذاك قد ألقي في السجن لأجل فتنة حدثت في المدينة وقتلٍٍ.
20- فنادم بيلاطس مرة أخرى وهو يريد أن يطلق يسوع.
21- فصرخوا قائلين: اصلبه، اصلبه.
22- فقال لهم مرة ثالثة: وأي شر صنع هذا؟ إني لم أجد عليه علة للموت فأنا أؤدبه وأطلقه.
23- فألحوا عليه بأصوات عالية طالبين أن يصلب واشتدت أصواتهم.
24- فحكم بيلاطس أن يُجْرَي مطلبهم.
25- فأطلق لهم الذي طلبوه ذاك الذي ألقي في السجن لأجل فتنة وجلد يسوع بالسياط وأسلمه ليصلب.
قال مفسروهم: ولذا يظهر أن اللصين اللذين صلبا معه جلدا أيضاً، والجلادون كانوا ستين نفراً، وأرشاهم اليهود ليميتوه بالجلد خشية أن يطلقه بيلاطس ونزعوا ثيابه وألبسوه لباساً قرمزياً وضفروا إكليلاً من شوك العوسج، ووضعوه على رأسه، وأنشبوا في رأسه عنفاً أشواكه الحادة، ومن هنا أخذت الكنيسة العادة على إبقاء إكليلاً من شعر في رأس الكهنة تذكاراً لإكليل المسيح الشوكي، ثم جثوا على ركبهم مستهزئين به وقائلين: السلام يا ملك اليهود وتناولوا قصبة يضربون بها رأسه، ولما هزؤا به نزعوا ذلك اللباس وألبسوه ثيابه واستقاوه ليصلب، وكان يتقدمه مُبَوّق يدعو الشعب إلى هذا المنظر بحسب عادة اليهود، وخشبة الصلب على منكبيه.
32- وانطلق معه بآخرين مجرمين ليُقتلا.
ولما بلغوا إلى المكان المسمى الجمجمة صلبوه هناك هو والمجرمين، أحدهما عن اليمين والآخر عن اليسار.....
وناولوه خلّاً بمرارة أو خمراً ممزوجاً بعلقم بعد أن طلب الماء فذاقه ولم يشرب.
ولما صلبوه بالمسامير وبالحبال معها، وكانت المسامر في راحة اليدين والرجلين، ضربوا جنبه بالحرية فنفذت من صدره، وفي الصليب محل يسند إليه رجليه، واقتسموا ثيابه بالقرعة وهي ثلاثة: القميص والرداء والجبة، ولم يكن يلبس السروال كعادة تلك البلاد، وجلسوا هناك يحرسون لئلا يسرقه أحد.
وكان الشعب واقفين ينظرون، والرؤساء يسخرون منه معهم قائلين: قد خلص آخرين فليخلص نفسه إن كان هو مسيح الله المختار.
36- وكان الجند أيضاً يهزؤون به.
37- وقائلين: إن كنت أنت ملك اليهود فخلص نفسك.
38- وكان عنوان فوقه مكتوباً بالحروف اليونانية واللاتينة والعبرانية: هذا هو ملك اليهود.
44- ولما كان نحو الساعة السادسة حدثت ظلمة على الأرض كلها إلى الساعة التاسعة.
45- وأظلمت الشمس وانشق حجاب الهيكل من وسطه.
46- ونادى يسوع بصوت عظيم قائلاً: إيل إيل لِمَ شبقتني؟ أي: إلهي إلهي لم ذا تركتني؟ فكان أناس من القائمين يقولون: دعوا ننظر هل يإتي إيليا فيخلصه، ثم صرخ أيضاً بصوت عالٍٍ وأسلم الروح.
47- فلما رأى قائد المئة ما حدث مجد الله قائلاً: في الحقيقة كان هذا الرجل صديقاً.
48- وكل الجموع الذين كانوا مجتمعين على هذا المنظر، لما عاينوا ما حدث، رجعوا وهم يقرعون صدروهم.
49- وكان جميع معارفه والنساء اللواتي تبعنه من الجليل واقفين من بعيد ينظرون ذلك.
50- وإذا برجل اسمه يوسف وهو صالح صديق.
51- ولم يكن موافقاً لرأيهم وعملهم.
52- فدنا إلى بيلاطس وسأله جسد يسوع فأعطاه إياه.
53- فأنزله ولفه في كتان ووضعه في قرب منحوت لم يكن وضع فيه أحد.
54- وكان يوم التهيئة أي: الجمعة وقد أخذ السبت يلوح.....
وفي يوم السبت اجتمع عظماء الكهنة عند بيلاطس قائلين له: قد تذكرنا أن ذاك المضل كان يقول وهو حيّ: إني أقوم بعد ثلاثة أيام، فمر أن يحرسوا القبور حتى اليوم الثالث، لئلا يأتي تلاميذه فيسرقوه ليلاً ويقولوا للشعب: إنه قام من بين الأموات، فتكون الضلالة الأخيرة شراً من الأولى، فأمر لهم بجنود يحرسونه وحصنوا القبر وختموا الحجر مع الجنود، وفي عشية السبت المسفر صباحه عن الأحد أتت مريم المجدلية ومريم الأخرى لتنظر القبر.
قال مفسروهم: إن هذه الآية أتعبت العلماء في تفسيرها والتوفيق بين أجزائها وبين أقوال باقي الإنجيلين. انتهى.
وإذا بزلزلة عظيمة قد ضارت لأن ملك الرب انحدر من السماء، وكان الملك جبريل ظهر بهيئة شاب وجاء فدحرج الحجر عن باب القبر وجلس فوقه، وكان منظره كالبرق ولباسه أبيض كالثلج، ومن الخوف منه اضطرب الحراس وصاروا كالأموات.
فقال للنسوة: لا تخفن، فقد عرفت أنكن تطلبن يسوع المصلوب، إنه ليس ههنا، فإنه قد قام.
وقال لوقا:
55- كانت النساء اللواتي أتين معه من الجليل، يتبعن، فأبصرن القبر وكيف وضع فيه جسده.
56- ثم رجعن وأعددن حنوطاً وأطياباً، وفي السبت قررن على حسب الوصية.
1- وفي أول الأسبوع باكراً جدًّا أتين إلى القبر وهن يحملن الحنوط الذي أعددناه.
2- فوجدن الحجر قد دحرج عن القبر.
3- فدخلن فلم يجدن جسد يسوع.
4- وبينما هن متحيرات في ذلك إذا برجلين قد وقفا عندهن بلباس برّاق.
5- وإذ كن خائفات ونكسن وجوههن إلى الأرض قالا لهن: لماذا تطلبن الحي بين الأموات.
6- إنه ليس هاهنا لكنه قام، اذكرن كيف كلمكن وهو في الجليل.
7- إذ قال إنه ينبغي لابن البشر أن يُسلم إلى أيدي أناس خطأة ويصلب ويقوم في اليوم الثالث.
فذكرن كلامه.
ورجعن من القبر وأخبرن الأحد عشر وجميع الباقين بهذا كله.
وقلن لهم: قد أخذوا يسوع من القبر ولا نعلم أين وضعوه.
10- ومريم المجدلية وحنة ومريم أم يعقوب وأخر معهن هن اللواتي أخبرن الرسل بهذا.
فكان عندهم عند الكلام كالهذيان ولم يصدقوهن.
12- فقام بطرس وأسرع إلى القبر وتطلع فرأى الأكفان موضوعة على حدة فانصرف متعجباً في نفسه مما كان.
13- وإن اثنين منهم كانا سائرين في ذلك اليوم إلى قرية اسمها عِمّاوْسُ بعيدة عن أورشليم ستين غلوة.
14- وكانا يتحادثان عن تلك الحوادث كلها.
15- وفيما هما يتحادثان ويتساءلان دنا منهما يسوع نفسه وكان يسير معهما.
16- ولكن أمسكت أعينهما عن معرفته.
17- فقال لهما: ما هذا الكلام الذي تتحاوران فيه وأنتما سائران مكتئبين.
18- فأجاب أحدهما: أفأنت غريب في أورشليم ولم تعلم ما حدث بها في هذه الأيام.
19- فقال لهما: وما هو؟ قالا له: ما يخص يسوع الناصري الذي كان رجلاً نبياً ذا قوة في العمل والقول أما الله والشعب كله.
20- وكيف أسلمه رؤساء الكهنة وحكامنا لقضاء الموت وصلبوه.
21- واليوم هو اليوم الثالث لحدوث ذلك.
22- إلا أن نساء منا أدهشننا لأنهن بكرن إلى القبر.
23- فلم يجدن جسده فأتين وقلن: إنهن رأين مظهر ملائكة قالوا إنه حي.
24- فمضى قوم من الذين معنا إلى القبر فوجدوا كما قالت النساء لكنهم لم يروه.
25- فقال لهما: يا قليلي الفهم وبطيئي القلب في الإيمان بكل ما نطقت به الأنبياء.
26- أما كان ينبغي للمسيح أن يتألم هذه الآلام ثم يدخل إلى مجده.
27- ثم أخذ يفسر لهما، من موسى ومن جميع الأنبياء، ما يختص به في الأسفار كلها.
28- فلما اقتربوا من القرية التي كانا يقصدانها تظاهر بأنه منطلق إلى مكان أبعد.
29- فألزماه قائلين: امكث معنا لأن المساء مقبل وقد مال النهار، فدخل ليمكث معهما.
30- ولما اتكأ معهما أخذ خبزاً وبارك وكسر وناولهما.
31- فانفتحت أعينهما وعرفاه فغاب عنهما.
32- فقال أحدهما للآخر: أما كانت قلوبنا مضطرمة فينا حين كان يخاطبنا في الطريق ويشرح لنا الكتب.
34- وقاما في تلك الساعة ورجعا إلى أورشليم فوجدا الأحد عشر والذين معهم مجتمعين.
وهم يقولون: لقد قام يسوع في الحقيقة وتراءى لسِمعان.
35- فأخذا يخبران بما حدث في الطريق وكيف عرفاه عند كسر الخبز.
36- وبينما هم يتحدون بهذه وقف يسوع في وسطهم وقال لهم: السلام لكم، أنا هو لا تخافوا.
37- فاضطربوا وخافوا وظنوا أنهم يرون روحاً.
38- فقال لهم: ما بالكم مرتعدين ولماذا ثارت الأوهام في قلوبكم.
39- انظروا يديّ ورجليّ إني أنا هو جسُّوني وانظروا فإن الروح لا لحم له ولا عظام كما ترون لي.
40- ثم أراهم يديه ورجليه.
41- وإذ كانوا غير مصدقين بعدُ من الفرح ومتعجبين قال: أعندكم هاهنا طعام.
42- فأعطوه قطعة من سمك مشوي وشهد عسل.
43- فأخذ وأكل أمامهم.
ثم أخذ الباقي وأعطاهم.
وبعد مفاوضته معهم.
50- خرج بهم إلى بيت عَنْيَا ورفع يديه وباركهم.
51- وفيما هو يباركهم انفرد عنهم وصعد إلى السماء.
هذا ما جاء في إنجيل لوقا ممزوجاً ببعض تفاسيرهم، وإنما آثرت النقل عنه لزعمهم أن كلامه أصح وأفصح، وأشد انسجاماً من كلام باقي مؤلفي العهد الجديد، كما في ذخيرة الألباب من كتبهم.
فصل:
في بطلان ما رووه وتهافته بالحجج الدامغة:
اعلم أن في كتبهم الموجودة من التضارب في هذه القفصة ما يقضي بالعجب ويبرهن على عدم الوثوق بها، كما قال تعالى: {مَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلم إِلاّ اتّبَاعَ الظّنّ} [النساء: 157].
قال البرهان البقاعي رحمه الله في تفسيره بعد أن ساق أزيد مما سقناه عن أناجيلهم، وقال: أحسن ما رُدّ على الإِنسَاْن بما يعتقده ما نصه: فقد بان لك أن أناجيلهم كلها أتفقت على أن علمهم في أمره انتهى إلى واحد، وهو الأسخريوطي، وأما غيره من الأعداء فلم يكن يعرفه، وإنه إنما وضع يده عليه ولم يقل بلسانه إنه هو، وأن الوقت كان ليلاً، وأن عيسى نفسه قال لأصحابه: كلكم تشكون فيّ هذه الليلة، وأن تلاميذه كلهم هربوا فلم يكن لهم علم بعد ذلك بما اتفق في أمره، وإن بطرس إنما تبعه من بعيد، وإن الذي دل عليه خنق نفسه، وإن الناقل لأن الملك قال إنه قام من الأموات، إنما هو نسوة كن عند القبر في مدى بعيد، وما يدري النسوة الملك من غيره، ونحو ذلك من الأمور التي لا تفيد غير الظن، وأما الآيات التي وقعت على تقدير تسليمها لا يضرنا التصديق بها.... وتكون لجراءتهم على الله بصلب من يظنونه المسيح، وهذا كله يصادق القرآن في أنهم في شك منه، ويدل على أن المصلوب، إن صح أنهم صلبوه، من ظنوه إياه، هو الذي دل عليه.
قال بعض العلماء، إنه ألقى شبهه عليه، ويؤيد ذلك قولهم إنه خنق نفسه، فالظاهر أنهم لما لم يروه بعد ذلك ظنوا أنه خنق نفسه: فجزموا به، والله أعلم. انتهى.
وقال العلامة خير الدين الآلوسي في الجواب الفسيح: اعلم أن ما ذكره هذا النصراني من أن المسيح عليه السلام مات بجسده، وأقام على الصليب إلى وقت الغروب من يوم الجمعة، ثم أنزل ودفن، وأقام في القبر إلى صبيحة يوم الأحد، ثم انبعث حياً بلاهوته وتراءى للنسوة اللاتي جئن إلى قبره زائرات، وظهر بعد لحواربيه.... إلى آخر ما قاله- هو ما أجمع عليه النصارى، ويرد ذلك العقل والنقل، وإن صدقتهم اليهود في قتله، فاستمع من المنقول ما يتلى عليك بأذن واعية، وخذ ما يأتيك من المعقول بالدلائل الهادية، على أن المقتول هو الشبه، وأن الحال عند صالبيه اشتبه، وأن المسيح رفعه الله تعالى، قبل القتل، إليه، لشرفه عنده ومكانته لديه، قال الله تعالى في بيان حال اليهود: {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ} الآية، وفي الإنجيل أن رئيس الكهنة أقسم على المأخوذ بالله أءنت المسيح بن الله؟ فقال له: أنت قلت، ولم يجبه بأنه المسيح، فلو كان المقسم عليه هو المسيح لقال له: نعم، ولم يُوَرّ ولم يتلعثم، وهو محلف بالله، لاسيما وهو بزعمهم الإله، الذي نزل لخلاص عباده بإفداء نفسه ودخول الجحيم ولأواه.
وقال لوقا في الفصل التاسع من إنجيله.
28- إن المسيح صعد قبل الصليب إلى جبل الخليل ومعه بطرس ويعقوب ويوحنا.
29- فبينما هو يصلي إذ تغير منظر وجهه عما كان عليه وابيضت ثيابه وصارت تلمع كالبرق.
30- وإذا موسى بن عِمْرَان وإيليا.
31- قد ظهرا له وجاءت سحابة فأظلتهم.
32- وأما الذين كانوا مع المسيح فوقع عليهم النوم فناموا.
وهذا من أوضح الدلالة على رفعه وحصول الشبه الذي نقول به، إذ لا معنى لظهور موسى وإيليا ووقوع النوم على أصحابه إلا رفعه، ألا ترى أن اليهود كانوا يسمعون منه، عليه السلام، أن إيليا يأتي، فلما رفعوه على الخشبة، كما في الأناجيل، قالوا: دعوه حتى نرى أن إيليا يأتي فيخلصه، فصاروا في شك يريدون تحقيقه، فإن أتى إيليا فما رفعوه هو المسيح، وإن لم يأت فهو غيره كما في ظنهم، فلما لم يأت ازدادوا ريبة في أمره، ومن رآه الحواريون بعد يقظتهم، يجوز أن يكون طوراً من أطوار روحه، لأنه عليه السلام لا يبعد أن يكون له قوة التطور، وتشكل الروح بعد الموت أمر ممكن، لاسيما وقد صدرت على يديه معجزات أعظم من ذلك، كإحياء الموتى وكثرة الخبز والحيتان وإبراء الأكمه والأبرص.
وقال يوحنا التلميذ:
1- كان يسوع مع تلاميذه بالبستان فجاء اليهودي في طلبه.
4- فخرج إليهم يسوع وقال لهم: من تريدون؟
قالوا: يسوع وقد خفي شخصه عنهم، قال: أنا يسوع، وفعل ذلك مرتين وقد أنكروا صورته.
فانظر أيها العاقل كيف اعترف هنا أنه يسوع لما علم أن الله تعالى تولى حراسته منهم، وأنهم لا يقدرون أن ينالوه بسوء، وكيف لم يعترف بأنه المسيح لما سأله رئيس الكهنة عن نفسه، فعدم اعترافه هناك واعترافه هنا دليل واضح أيضاً على ما قاله الله سبحانه في القرآن العظيم هو الحق.
ثم من الأدلة على عدم قتله ما اشتملت عليه الأناجيل من اختلاف المباني والمعاني والمقاصد والاضطراب في حكاية هذه الواقعة والتناقض في ألفاظها، كدعواهم الألوهية مع قوله عليه الصلاة والسلام عند صلبه بزعمهم: إلهي! إلهي! لم تركتني، وقوله كما في الفصل السادس والعشرين من نجيل متى:
يا أبتاه إن كان لا يمكنك أن تفوتني هذه الكأس أي: الموت ولابد لي أن أشربها فلتكن مشيئتك، وقام يصلي، وقوله لرئيس الكهنة: إنكم من الآن لا ترون ابن الإِنسَاْن حتى ترونه جالساً عن يمين القوة وآتياً في سحاب السماء، يريد بالقوة البارئ تعالى شأنه، وفي الفصل السابع من إنجيل يوحنا: إن المريسيين ورؤساء الكهنة أرسلوا شرطاً ليقبضوا على المسيح- يعني ليقتلوه كما قال مفسروهم- قال: أنا ماكث أيضاً معكم زماناً، ثم انطلق إلى من أرسلني وتطلبوني فلا تجدونني، وحيثما أكن فلا تستطيعون إليه سبيلاً، قال اليهود في ذواتهم: فإلى أين؟ هذا عتيد أن ينطلق حتى لا نجده نحن، قال مفسروهم أي: يصعد إلى السماء، وغير ذلك مما لو أردنا ذكره والتنقير عنه لطال البحث.
ثم نقل خير الدين نحواً مما أسلفناه عن أناجيلهم وقال بعض ذلك: فَأجِل في تناقضها قداح فكرك، وفي تهافتها خيول ذهنك، لترى في هذه القصة ما يدلك على وقوع الشبه ونجاة المسيح عقلاً ونقلاً، كما قال تعالى: {وَلَكِن شُبّهَ لَهُمْ} وليتبين لك عبوديته ورسالته عليه السلام، فإن ذلك ظاهر من العبارات، ولنزدك في البيان وضوحاً بما ننبهك عليه بكلمات يسيرة مقدوحاً ومشروحاً.
منها: قولهم إنه صلب قبل غروب يوم الجمعة ودفن مساءها، ولما جاءت النسوة عشية السبت المفسر صباحه عن الأحد، وجدنه فارغاً، وقد قام منه المدفون، مع أن النصارى يزعمون كما في أناجيلهم، أنه يبقى في قبره ثلاثة أيام، كما بقي يونان، أي: يونس في بطن الحوت ثلاثة أيام بليالهيا، فما هذا إلا دليل على الاختلاف والتهافت في الأمر.
ومنها: سؤالة اليهود مرتين من تطلبون؟ وهم يقولون: يسوع الناصري، فلم يعرفوه وهو يقول لهم: أنا.
ومنها: أن يهوذا ارتشى ليدلهم عليه، وجعل العلامة على تعيينه لهم تقبيل يده، فلو كان معلوماً لهم لعرفوه بلا دلالة وبلا سؤال، مع أنه كان بين أظهرهم وفي غالب الأيام في هيكلهم.
ومنها: أنه لما أقسم عليه رئيس الكهنة أنه هو المسيح لم يقل له: أنا المسيح، بل قال له: أنت قلت.
ومنها: إنكار بطرس له وهو من أعظم رسله، وإنكاره كفر.
ومنها: أنه لما سأله الوالي: أنت هو؟ لم يردّ له جواباً، فلو كان هو لاعترف وأقرّ.
ومنها: أنه لما كان أخذه ليلاً، وقد شوهت صورته وتغيرت محاسنه بالضرب والنكال، فهي حالة توجب اللبس بين الشيء وخلافه، فكيف بين الشيء وشبهه؟ فمن أين يحصل القطع بأنه هو؟ لاسيما والنصارى قد حكموا أن المسيح عليه السلام قد أعطي قوة التحول من صورة إلى صورة، ويحتمل أن المسيح ذهب من الجماعة الذين أطلقهم الأعوان، وكان المتكلم معهم تلميذ أراد أن يبيع نفسه من الله تعالى وقاية للمسيح، فألقى الله تعالى عليه الشبه، واتباع الأنبياء يفدون أنفسهم لأنبيائهم، وهذا فدى نفسه لإلهه، بزعم النصارى.
ومنها: أنه يحتمل أن الأعوان ارتشوا على إطلاقه كما ارتشى يهوذا على الدلالة عليه، وأخذوا غيره ممن يريد أن يفدي نفسه للمسيح، والدليل عليه عدم اعترافه بأنه المسيح.
ومنها: قوله عليه السلام الذي تقدم آنفاً: أنا ماكث معكم زماناً، ثم أنطلق إلى من أرسلني، فتطلبوني فلا تجدوني، وحيثما أكن فلا تستطيعون إلي سبيلاً، فهذا صريح في الثاني عشر من إنجيل يوحنا ما لفظه: قال له الجموع: نحن سمعنا من الناموس أن المسيح يمكث إلى الأبد، فكيف تقول أنت أن ابن البشر سوف يرتفع من هو هذا ابن البشر؟ قال لهم يسوع: إن النور معكم زماناً آخر يسيراً، امشوا ما دام لكم النور، لئلا يدرككم الظلام، ومن يمش في الظلام فلا يدري أين يذهب، آمنوا بالنور ما دام لكم النور، قال يسوع هذا وذهب متوارياً عنهم. انتهى.
ففي هذا الكلام أدلة كثيرة مؤيدة لقوله تعالى: {بَل رّفَعَهُ اللّهُ إِلَيْهِ} [النساء: 158].
منها: أن اليهود قالوا لعيسى: إن المسيح المذكور في العهد القديم يمكث إلى الأبد.
أي: فإن كنت أنت المسيح فأنت لا تموت في هذا الزمان، بل تبقى إلى قيام الساعة، ولم يكذبهم في نقلهم ذلك، والمسلمون يقولون: إنه رفع حياً إلى السماء وهو الآن حي فيها، وسينزل آخر الزمان عند قرب الساعة، ويقتل الدجال ويحكم بالشريعة المحمدية، ويتوفى ويدفن عند النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم فهو حي إلى الأبد، يعني إلى قرب قيام الساعة ونزوله وموته من أمارات الساعة الكبرى، وفي هذا القول دلالات ظاهرات أيضاً على أنه ليس بإله:
أحدها: أنه قال: ابن البشر، يعني لا تظنوا أني أدعي الألوهية وإن أحييت الموتى، لأن ذلك معجزة خلقها الله تعالى على يديه للإيمان بنبوته.
ثانيها: لو كان إلهاً لما توارى منهم خائفاً من قتلهم له، لأن الإله هو خالق لهم ولعملهم، وعالم بزمن قدرتهم عليه، فكيف يفر وهو يعلم وقت موته؟ وهو خالق الموت والحياة؟ ثم إنه يحتمل أن الله تعالى ألقى شبهه على شيطان أو مارد من مردة الجن ليخلص نبيه ورسوله من أيدي أعدائه، ويرفعه إليه محفوظاً مكرماً، كما أجري عليه يديه إحياء الموتى، وخلقه من غير أب، وأبرأ الأكمه والأبرص، لاسيما وهو بزعمهم إنه العالم وخالق الإنس والجن وبني آدم، فأي ضرورة تدعو لإثبات أنواع الإهانة والعذاب، على ما زعموا، لرب الأرباب، مع وجود التناقض فيما نقلته أناجيلهم في هذا الفصل والباب.
عجباً للمسيح بين النصارى ** وإلى أي: والد نسبوه

أسلموه إلى اليهود وقالوا ** إنهم بعد ضربه صلبوه

فإذا كان ما يقولون حقاً ** وصحيحاً، فأين كان أبوه؟

حين خلى ابنه رهين الأعادي ** أتراهم أرضوه أم أغضبوه؟

فلئن كان راضياً بأذاهم ** فاحمدوهم لأنهم عذبوه

ولئن كان ساخطاً فاتركوه ** واعبدوهم لأنهم غلبوه

وفي كتاب الفاصل بين الحق والباطل ما نصه: وفي الذي اتخذتموه شهيداً على صلبه من كلام عاموص النبي، أن الله تعالى قال على لسانه: ثلاثة ذنوب أقبل لبني إسرائيل، والرابعة لا أقبلها، بيعهم الرجل الصالح- حجة عليكم لا لكم، لأنه لم يقل بيعهم إياي، ولا قال بيعهم إلها متساوياً معي.
ويجري تأويل ذلك على وجهين: إما أن يكون عنى بالمبيع عيسى كما تزعمون فقولوا حينئذ إنه الرجل الصالح كما قال عاموص، وليس بالإله المعبود، وإما أن يريد بالمبيع غيره وهو الذي شبه لليهود فابتاعوه وصلبوه، ويلزمكم وقتئذ إنكار صلوبية عيسى عليه السلام، كيف لا ونصوص الإنجيل والكتب النصرانية متضافرة دالة على عدم الصلب لعيسى عليه السلام، ووقوع الشبه على غيره، وذلك من وجوه:
أحدها: يوجد في الإنجيل أن عيسى عليه السلام صعد إلى جبل الجليل ومعه بطرس ويعقوب ويوحنا، فبينما هو يصلي إذ تغير منظر وجهه عما كان عليه وابيضت ثيابه فصارت تلمع كالبرق، وإذا بموسى بن عِمْرَان وإيليا قد ظهرا له وجاءت سحابة فأظلتهم، فوقع النوم على الذين معه، فأي مانع يمنع من أن يكون ذلك قد وقع في اليوم الذي طلبته فيه اليهود، وإنما قد اختلفتم في نقلها كما اختلفتم وتناقضتم في غير ذلك، وغيرتم الكلم عن مواضعه، وظهور الأنبياء عليه السلام وتظليل السحابة، ووقوع النوم على التلاميذ، يكون حينئذ دليلاً ظاهراً على الرفع إلى السماء وعدم الصلب، وإلا فلا معنى لظهور هذه الآيات.
وثانيها: ما في الإنجيل أيضاً أن المصلوب قد استسقى اليهود فأعطوه خلاً مضافاً بمر، فذاقه ولم يشربه، فنادى: إلهي إلهي لم خذلتني؟ والأناجيل كلها مصرحة بأنه عليه السلام كان يطوي أربعين يوماً وأربعين ليلة، ويقول للتلاميذ: إني لي طعاماً لستم تعرفونه، ومن يصبر على العطش والجوع أربعين يوماً وليلة كيف يظهر الحاجة والمذلة لأعدائه بسبب عطش يوم واحد؟ هذا لا يفعله أدنى الناس فكيف بخواص الأنبياء؟ أو كيف بالرب على ما تدعونه؟ فيكون حينئذ المدعي للعطش غيره، وهو الذي شبه لكم.
وثالثها: قوله: إلهي إلهي لم خذلتني وتركتني؟ هو كلام يقتضي عدم الرضا بالقضاء، وعدم التسليم لأمر الله تعالى، وعيسى عليه السلام منزه عن ذلك، فيكون المصلوب غيره، لاسيما وأنتم تقولون: إن المسيح عليه السلام إنما نزل ليؤثر العالم على نفسه، ويخلّصه من الشيطان ورجسه، فكيف تروون عنه ما يؤدي إلى خلاف ذلك، مع روايتكم في توراتكم أن إبراهيم وإسحاق ويعقوب وموسى وهارون، عليهم السلام، لما حضرهم الموت كانوا مستبشرين بلقاء ربهم، فرحين بانقلابهم إلى سعيهم، لم يجزعوا من الموت ولم يستقيلوا منه، ولم يهابوا مذاقه، مع أنهم عبيده، والمسيح بزعمكم وَلَدٌ وَرَبٌّ، فكان ينبغي أن يكون أثبت منهم، ولما لم يكن كذلك دل على أن المصلوب غيره، وهو الذي شبه لكم.
فصل:
فيما روي عن سلفنا الكرام رضي الله عنهم في تفسير هذه الآية.
قال الإمام الحافظ ابن كثير الدمشقي رحمه الله تعالى في تفسيره هنا ما نصه: وَكَانَ مِنْ خَبَر الْيَهُود عَلَيْهِمْ لَعَائِن اللَّه وَسَخَطه وَغَضَبه وَعِقَابه، أَنَّهُ لَمَّا بَعَثَ اللَّه عِيسَى اِبْن مَرْيَم بِالْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى، حَسَدُوهُ عَلَى مَا آتَاهُ اللَّه تَعَالَى مِنْ النُّبُوَّة وَالْمُعْجِزَات الْبَاهِرَات، الَّتِي كَانَ يُبْرِئ بِهَا الْأَكْمَه وَالْأَبْرَص وَيُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّه، وَيُصَوِّر مِنْ الطِّين طَائِراً ثُمَّ يَنْفُخ فِيهِ فَيَكُون طَائِراً يُشَاهِد طَيَرَانه بِإِذْنِ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ إِلَى غَيْر ذَلِكَ مِنْ الْمُعْجِزَات الَّتِي أَكْرَمَهُ اللَّه بِهَا وَأَجْرَاهَا عَلَى يَدَيْهِ، وَمَعَ هَذَا كَذَّبُوهُ وَخَالَفُوهُ وَسَعَوْا فِي أَذَاهُ بِكُلِّ مَا أَمْكَنَهُمْ حَتَّى جَعَلَ نَبِيّ اللَّه عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام لَا يُسَاكِنهُمْ فِي بَلْدَة بَلْ يُكْثِر السِّيَاحَة هُوَ وَأُمّه عَلَيْهِمَا السَّلَام، ثُمَّ لَمْ يُقْنِعهُمْ ذَلِكَ حَتَّى سَعَوْا إِلَى مَلِك دِمَشْق فِي ذَلِكَ الزَّمَان، وَكَانَ رَجُلاً مُشْرِكاً مِنْ عَبَدَة الْكَوَاكِب وَكَانَ يُقَال لِأَهْلِ مِلَّته الْيُونَان، وَأَنْهَوْا إِلَيْهِ أَنَّ فِي بَيْت الْمَقْدِس رَجُلاً يَفْتِن النَّاس وَيُضِلّهُمْ وَيُفْسِد عَلَى الْمَلِك رَعَايَاهُ فَغَضِبَ الْمَلِك مِنْ هَذَا وَكَتَبَ إِلَى نَائِبه بِالْقُدْسِ أَنْ يَحْتَاط عَلَى هَذَا الْمَذْكُور، وَأَنْ يَصْلُبهُ وَيَضَع الشَّوْك عَلَى رَأْسه، وَيَكُفّ أَذَاهُ عَنْ النَّاس، فَلَمَّا وَصَلَ الْكِتَاب اِمْتَثَلَ وَالِي بَيْت الْمَقْدِس ذَلِكَ، وَذَهَبَ هُوَ وَطَائِفَة مِنْ الْيَهُود إِلَى الْمَنْزِل الَّذِي فِيهِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام، وَهُوَ فِي جَمَاعَة مِنْ أَصْحَابه اِثْنَيْ عَشَر أَوْ ثَلَاثَة عَشَر وَقَيلَ سَبْعَة عَشَر نَفَراً.
وَكَانَ ذَلِكَ يَوْم الْجُمُعَة بَعْد الْعَصْر لَيْلَة السَّبْت فَحَصَرُوهُ هُنَالِكَ. فَلَمَّا أَحَسَّ بِهِمْ، وَأَنَّهُ لَا مَحَالَة مِنْ دُخُولهمْ عَلَيْهِ، أَوْ خُرُوجه إِلَيْهِمْ، قَالَ لِأَصْحَابِهِ: أَيّكُمْ يُلْقَى عَلَيْهِ شَبَهِي وَهُوَ رَفِيقِي فِي الْجَنَّة؟ فَانْتُدِبَ لِذَلِكَ شَابّ مِنْهُمْ، فَكَأَنَّهُ اِسْتَصْغَرَهُ عَنْ ذَلِكَ، فَأَعَادَهَا ثَانِيَة وَثَالِثَة، وَكُلّ ذَلِكَ لَا يُنْتَدَب إِلَّا ذَلِكَ الشَّابّ، فَقَالَ: أَنْتَ هُوَ، وَأَلْقَى اللَّه عَلَيْهِ شَبَه عِيسَى حَتَّى كَأَنَّهُ هُوَ، وَفُتِحَتْ رَوْزَنَة مِنْ سَقْف الْبَيْت، وَأَخَذَتْ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام سِنَةٌ مِنْ النَّوْم فَرُفِعَ إِلَى السَّمَاء، وَهُوَ كَذَلِكَ كَمَا قَالَ اللَّه تَعَالَى: {إِذْ قَالَ اللَّه يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيك وَرَافِعك إِلَيَّ} الْآيَة.
فَلَمَّا رُفِعَ خَرَجَ أُولَئِكَ النَّفَر، فَلَمَّا رَأَى أُولَئِكَ ذَلِكَ الشَّابّ ظَنُّوا أَنَّهُ عِيسَى فَأَخَذُوهُ فِي اللَّيْل وَصَلَبُوهُ وَوَضَعُوا الشَّوْك عَلَى رَأْسه، وَأَظْهَرَ الْيَهُود أَنَّهُمْ سَعَوْا فِي صَلْبه وَتَبَجَّحُوا بِذَلِكَ وَسَلَّمَ لَهُمْ طَوَائِف مِنْ النَّصَارَى ذَلِكَ لِجَهْلِهِمْ وَقِلَّة عَقْلهمْ، مَا عَدَا مَنْ كَانَ فِي الْبَيْت مَعَ الْمَسِيح فَإِنَّهُمْ شَاهَدُوا رَفْعه.
وَأَمَّا الْبَاقُونَ فَإِنَّهُمْ ظَنُّوا كَمَا ظَنَّ الْيَهُود أَنَّ الْمَصْلُوب هُوَ الْمَسِيح اِبْن مَرْيَم حَتَّى ذَكَرُوا أَنَّ مَرْيَم جَلَسَتْ تَحْت ذَلِكَ الْمَصْلُوب وَبَكَتْ، وَيُقَال إِنَّهُ خَاطَبَهَا وَاَللَّه أَعْلَم.
وَهَذَا كُلّه مِنْ اِمْتِحَان اللَّه عِبَاده لِمَا لَهُ فِي ذَلِكَ مِنْ الْحِكْمَة الْبَالِغَة، وَقَدْ أَوْضَحَ اللَّه الْأَمْر وَجَلَّاهُ وَبَيَّنَهُ وَأَظْهَرَهُ فِي الْقُرْآن الْعَظِيم الَّذِي أَنْزَلَهُ عَلَى رَسُوله الْكَرِيم، الْمُؤَيَّد بِالْمُعْجِزَاتِ وَالْبَيِّنَات، وَالدَّلَائِل الْوَاضِحَات، فَقَالَ تَعَالَى وَهُوَ أَصْدَق الْقَائِلِينَ، وَرَبّ الْعَالَمِينَ الْمُطَّلِع عَلَى السَّرَائِر وَالضَّمَائِر، الَّذِي يَعْلَم السِّرّ فِي السَّمَوَات وَالْأَرْض، الْعَالِم بِمَا كَانَ وَمَا يَكُون، وَمَا لَمْ يَكُنْ لَوْ كَانَ كَيْف يَكُون: {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ} أي: رَأَوْا شَبَهه فَظَنُّوهُ إِيَّاهُ وَلِهَذَا قَالَ: {وَإِنَّ الَّذِينَ اِخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْم إِلَّا اِتِّبَاع الظَّنّ} يَعْنِي بِذَلِكَ مَنْ اِدَّعَى أَنَّهُ قَتَلَهُ مِنْ الْيَهُود وَمَنْ سَلَّمَهُ إِلَيْهِمْ مِنْ جُهَّال النَّصَارَى، كُلّهمْ فِي شَكّ مِنْ ذَلِكَ وَحَيْرَة وَضَلَال وَسُعُر وَلِهَذَا قَالَ: {وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً} أي: وَمَا قَتَلُوهُ مُتَيَقِّنِينَ أَنَّهُ هُوَ بَلْ شَاكِّينَ مُتَوَهِّمِينَ.
{بَلْ رَفَعَهُ اللَّه إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّه عَزِيزاً} أي: مَنِيع الْجَنَاب لَا يُرَام جَنَابه، وَلَا يُضَام مَنْ لَاذَ بِبَابِهِ {حَكِيماً} أي: فِي جَمِيع مَا يُقَدِّرهُ وَيَقْضِيه مِنْ الْأُمُور الَّتِي يَخْلُقهَا، وَلَهُ الْحِكْمَة الْبَالِغَة وَالْحُجَّة الدَّامِغَة وَالسُّلْطَان الْعَظِيم وَالْأَمْر الْقَدِيم.
قَالَ اِبْن أَبِي حَاتِم: حَدَّثَنَا أَحْمَد بْن سِنَان حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَة عَنْ الْأَعْمَش عَنْ الْمِنْهَال بْن عَمْرو عَنْ سَعِيد بْن جُبَيْر عَنْ اِبْن عَبَّاس قَالَ: لَمَّا أَرَادَ اللَّه أَنْ يَرْفَع عِيسَى إِلَى السَّمَاء خَرَجَ عَلَى أَصْحَابه، وَفِي الْبَيْت اِثْنَا عَشَر رَجُلاً مِنْ الْحَوَارِيِّينَ، يَعْنِي فَخَرَجَ عَلَيْهِمْ مِنْ عَيْن فِي الْبَيْت وَرَأْسه يَقْطُر مَاء، فَقَالَ: إِنَّ مِنْكُمْ مَنْ يَكْفُر بِي اِثْنَيْ عَشْر مَرَّة بَعْد أَنْ آمَنَ بِي، قَالَ: ثُمَّ قَالَ: أَيّكُمْ يُلْقَى عَلَيْهِ شَبَهِي فَيُقْتَل مَكَانِي وَيَكُون مَعِي فِي دَرَجَتِي؟ فَقَامَ شَابّ مِنْ أَحْدَثهمْ سِنّاً فَقَالَ لَهُ: اِجْلِسْ. ثُمَّ أَعَادَ عَلَيْهِمْ فَقَامَ ذَلِكَ الشَّابّ فَقَالَ: اِجْلِسْ. ثُمَّ أَعَادَ عَلَيْهِمْ فَقَامَ الشَّابّ فَقَالَ: أَنَا فَقَالَ: هُوَ أَنْتَ ذَاكَ، فَأُلْقِيَ عَلَيْهِ شَبَه عِيسَى، وَرُفِعَ عِيسَى مِنْ رَوْزَنَة فِي الْبَيْت إِلَى السَّمَاء.
قَالَ: وَجَاءَ الطَّلَب مِنْ الْيَهُود فَأَخَذُوا الشَّبَه فَقَتَلُوهُ ثُمَّ صَلَبُوهُ، فَكَفَرَ بِهِ بَعْضهمْ اِثْنَتَيْ اثني عَشْرَة مَرَّة بَعْد أَنْ آمَنَ بِهِ، وَافْتَرَقُوا ثَلَاث فِرَق:
فَقَالَتْ فِرْقَة: كَانَ اللَّه فِينَا مَا شَاءَ، ثُمَّ صَعِدَ إِلَى السَّمَاء وَهَؤُلَاءِ الْيَعْقُوبِيَّة.
وَقَالَتْ فِرْقَة: كَانَ فِينَا اِبْن اللَّه مَا شَاء ثُمَّ رَفَعَهُ اللَّه إِلَيْهِ، وَهَؤُلَاءِ النَّسْطُورِيَّة.
وَقَالَتْ فِرْقَة: كَانَ فِينَا عَبْد اللَّه وَرَسُوله مَا شَاءَ اللَّه ثُمَّ رَفَعَهُ اللَّه إِلَيْهِ، وَهَؤُلَاءِ الْمُسْلِمُونَ.
فَتَظَاهَرَتْ الْكَافِرَتَانِ عَلَى الْمُسْلِمَة فَقَتَلُوهَا، فَلَمْ يَزَلْ الْإِسْلَام طَامِساً حَتَّى بَعَثَ اللَّه مُحَمَّداً صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَهَذَا إِسْنَاد صَحِيح إِلَى اِبْن عَبَّاس، وَرَوَاهُ النَّسَائِيّ عَنْ أَبِي كُرَيْب عَنْ أَبِي مُعَاوِيَة ِنَحْوِهِ.
وَكَذَا ذَكَرَهُ غَيْر وَاحِد مِنْ السَّلَف أَنَّهُ قَالَ لَهُمْ: أَيّكُمْ يُلْقَى عَلَيْهِ شَبَهِي فَيُقْتَل مَكَانِي وَهُوَ رَفِيقِي فِي الْجَنَّة؟.
وَقَالَ اِبْن جَرِير: حَدَّثَنَا اِبْن حُمَيْد حَدَّثَنَا يَعْقُوب الْقُمِّيّ عَنْ هَارُون بْن عَنْتَرَة عَنْ وَهْب بْن مُنَبِّه قَالَ: أَتَى عِيسَى وَمَعَهُ سَبْعَة عَشَر مِنْ الْحَوَارِيِّينَ فِي بَيْت، فَأَحَاطُوا بِهِمْ، فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ صَوَّرَهُمْ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ كُلّهمْ عَلَى صُورَة عِيسَى، فَقَالُوا لَهُمْ: سَحَرْتُمُونَا، لَتَبْرُزَن لَنَا عِيسَى أَوْ لنقْتُلَنكُمْ جَمِيعاً، فَقَالَ عِيسَى لِأَصْحَابِهِ: مَنْ يَشْرِي نَفْسه مِنْكُمْ الْيَوْم بِالْجَنَّةِ؟ فَقَالَ رَجُل مِنْهُمْ: أَنَا، فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ، وَقَالَ: أَنَا عِيسَى، وَقَدْ صَوَّرَهُ اللَّه عَلَى صُورَة عِيسَى، فَأَخَذُوهُ فَقَتَلُوهُ وَصَلَبُوهُ، فَمِنْ ثَمَّ شُبِّهَ لَهُمْ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ قَتَلُوا عِيسَى، وَظَنَّتْ النَّصَارَى مِثْل ذَلِكَ أَنَّهُ عِيسَى، وَرَفَعَ اللَّه عِيسَى مِنْ يَوْمه ذَلِكَ.
قال ابن كثير: وَهَذَا سِيَاق غَرِيب جدًّا.
ثَم قَالَ اِبْن جَرِير: وَقَدْ رُوِيَ عَنْ وَهْب نَحْو هَذَا الْقَوْل وَهُوَ مَا حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، حدثنا إسحاق حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيل عَنْ عَبْد الْكَرِيم حَدَّثَنِي عَبْد الصَّمَد بْن مَعْقِل أَنَّهُ سَمِعَ وَهْباً يَقُول: إِنَّ عِيسَى اِبْن مَرْيَم لَمَّا أَعْلَمَهُ اللَّه أَنَّهُ خَارِج مِنْ الدُّنْيَا جَزِعَ مِنْ الْمَوْت، وَشَقَّ عَلَيْهِ، فَدَعَا الْحَوَارِيِّينَ فَصَنَعَ لَهُمْ طَعَاماً فَقَالَ: اُحْضُرُونِي اللَّيْلَة فَإِنَّ لِي إِلَيْكُمْ حَاجَة، فَلَمَّا اِجْتَمَعُوا إِلَيْهِ مِنْ اللَّيْل عَشَّاهُمْ وَقَامَ يَخْدُمهُمْ، فَلَمَّا فَرَغُوا مِنْ الطَّعَام أَخَذَ يَغْسِل أَيْدِيهمْ وَيُوَضِّئهُمْ بِيَدِهِ وَيَمْسَح أَيْدِيهمْ بِثِيَابِهِ فَتَعَاظَمُوا ذَلِكَ وَتَكَارَهُوهُ.
فَقَالَ: أَلَا مَنْ رَدَّ عَلَيَّ اللَّيْلَة شَيْئاً مِمَّا أَصْنَع فَلَيْسَ مِنِّي، وَلَا أَنَا مِنْهُ، فَأَقَرُّوهُ حَتَّى إِذَا فَرَغَ مِنْ ذَلِكَ قَالَ: أَمَّا مَا صَنَعْت بِكُمْ اللَّيْلَة مِمَّا خَدَمْتُكُمْ عَلَى الطَّعَام وَغَسَلْت أَيْدِيكُمْ بِيَدِي، فَلْيَكُنْ لَكُمْ بِي أُسْوَة، فَإِنَّكُمْ تَرَوْنَ أَنِّي خَيْركُمْ فَلَا يَتَعَاظَم بَعْضكُمْ عَلَى بَعْض، وَلْيَبْذُلْ بَعْضكُمْ لِبَعْضٍٍ نَفْسه كَمَا بَذَلْت نَفْسِي لَكُمْ، وَأَمَّا حَاجَتِي اللَّيْلَة الَّتِي اِسْتَعَنْتُكُمْ عَلَيْهَا، فَتَدْعُونَ اللَّه لِي، وَتَجْتَهِدُونَ فِي الدُّعَاء أَنْ يُؤَخِّر أَجَلِي، فَلَمَّا نَصَبُوا أَنْفُسهمْ لِلدُّعَاءِ، وَأَرَادُوا أَنْ يَجْتَهِدُوا، أَخَذَهُمْ النَّوْم حَتَّى لَمْ يَسْتَطِيعُوا دُعَاء، فَجَعَلَ يُوقِظهُمْ وَيَقُول: سُبْحَان اللَّه! أَمَا تَصْبِرُونَ لِي لَيْلَة وَاحِدَة تُعِينُونَي فِيهَا، فَقَالُوا: وَاَللَّه مَا نَدْرِي مَا لَنَا، لَقَدْ كُنَّا نَسْمُر فَنُكْثِر السَّمَر، وَمَا نُطِيق اللَّيْلَة سَمَراً، وَمَا نُرِيد دُعَاء إِلَّا حِيلَ بَيْننَا وَبَيْنه، فَقَالَ: يَذْهَب بالرَّاعِي وَتتُفَرَّق الْغَنَم، وَجَعَلَ يَأْتِي بِكَلَامٍٍ نَحْو هَذَا يَنْعِي بِهِ نَفْسه.
ثُمَّ قَالَ: الْحَقّ، لَيَكْفُرَن بِي أَحَدكُمْ قَبْل أَنْ يَصِيح الدِّيك ثَلَاث مَرَّات، وَلَيَبِيعَنِّي أَحَدكُمْ بِدَرَاهِم يَسِيرَة وَلَيَأْكُلَن ثَمَنِي، فَخَرَجُوا فَتَفَرَّقُوا، وَكَانَتْ الْيَهُود تَطْلُبهُ، وَأَخَذُوا شَمْعُونَ أَحَد الْحَوَارِيِّينَ وَقَالُوا: هَذَا مِنْ أَصْحَابه فَجَحَدَ وَقَالَ: مَا أَنَا بِصَاحِبِهِ، فَتَرَكُوهُ. ثُمَّ أَخَذَهُ آخَرُونَ فَجَحَدَ كَذَلِكَ، ثُمَّ سَمِعَ صَوْت دِيك فَبَكَى وَأَحْزَنَهُ، فَلَمَّا أَصْبَحَ أَتَى أَحَد الْحَوَارِيِّينَ إِلَى الْيَهُود، فَقَالَ: مَا تَجْعَلُونَ لِي إِنْ دَلَلْتُكُمْ عَلَى الْمَسِيح؟ فَجَعَلُوا لَهُ ثَلَاثِينَ دِرْهَماً، فَأَخَذَهَا وَدَلَّهُمْ عَلَيْهِ، وَكَانَ شُبِّهَ عَلَيْهِمْ قَبْل ذَلِكَ، فَأَخَذُوهُ فَاسْتَوْثَقُوا مِنْهُ، وَرَبَطُوهُ بِالْحَبْلِ، وَجَعَلُوا يَقُودُونَهُ وَيَقُولُونَ لَهُ: أَنْتَ كُنْت تُحْيِي الْمَوْتَى وَتَنْتهَر الشَّيْطَان، وَتُبْرِئ الْمَجْنُون، أَفَلَا تُنْجِي نَفْسك مِنْ هَذَا الْحَبْل؟ وَيَبْصُقُونَ عَلَيْهِ وَيُلْقُونَ عَلَيْهِ الشَّوْك، حَتَّى أَتَوْا بِهِ الْخَشَبَة الَّتِي أَرَادُوا أَنْ يَصْلُبُوهُ عَلَيْهَا، فَرَفَعَهُ اللَّه إِلَيْهِ وَصَلَبُوا مَا شُبِّهَ لَهُمْ فَمَكَثَ سَبْعاً، ثُمَّ إِنَّ أُمّه وَالْمَرْأَة الَّتِي كَانَ يُدَاوِيهَا عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام فَأَبْرَأهَا اللَّه مِنْ الْجُنُون، جَاءَتَا تَبْكِيَانِ حَيْثُ الْمَصْلُوب فَجَاءَهُمَا عِيسَى فَقَالَ: عَلامَا تَبْكِيَانِ؟ فَقَالَتَا عَلَيْك، فَقَالَ: إِنِّي قَدْ رَفَعَنِي اللَّه إِلَيْهِ، وَلَمْ يُصِبْنِي إِلَّا خَيْراً، وَإِنَّ هَذَا شَيء شُبِّهَ لَهُمْ، فَأْمُرِا الْحَوَارِيِّينَ أن يَلْقَوْنِي إِلَى مَكَان كَذَا وَكَذَا، فَلَقُوهُ إِلَى ذَلِكَ الْمَكَان أَحَد عَشَر، وَفَقَدُوا الَّذِي كَانَ بَاعَهُ وَدَلَّ عَلَيْهِ الْيَهُود فَسَأَلَ عَنْهُ أَصْحَابه، فَقَالَوَا: إِنَّهُ نَدِمَ عَلَى مَا صَنَعَ، فَاخْتَنَقَ وَقَتَلَ نَفْسه، فَقَالَ: لَوْ تَابَ لَتَابَ اللَّه عَلَيْهِ. ثُمَّ سَأَلَهُمْ عَنْ غُلَام يتَبِعَهُمْ يُقَال لَهُ يُحَنَّى، فَقَالَ: هُوَ مَعَكُمْ فَانْطَلِقُوا فَإِنَّهُ َيُصْبِحُ كُلّ إِنْسَان يُحَدِّث بِلُغَةِ قَوْمه، فَلْيُنْذِرهُمْ وَلْيَدْعُهُمْ.
قال ابن كثير: سِيَاق غَرِيب جدًّا.
وقال ابن جريج عن مجاهد: صلبوا رجلاً شبه بعيسى، ورفع الله عز وجل عيسى إلى السماء حياً.
فصل:
في رد زعم النصارى أن إلقاء الشبه يفضي إلى السفسطة:
قال خير الدين في الجواب الفسيح قال النصارى: القول بإلقاء الشبه على عيسى عليه السلام قول يفضي إلى السفسطة، والدخول في الجهالات، وما لا يليق بالعقلاء، لأنا إذا جوزنا ذلك فينبغي إذا رأى الإِنسَاْن ولده أو زوجته لم يثق بأنه ولده أو زوجته، وكذلك سائر المعارف، لا يثق الإِنسَاْن بأحد منهم ولا يسكن إليه، ونحن نعلم بالضرورة أن الإِنسَاْن يقطع بأن ولده هو ولده، وإن كل واحد من معارفه هو، من غير شك ولا ريبة، بل القول بالشبه يمنع من الوثوق بمدينة الإِنسَاْن ووطنه إذا دخله، ولعله مكان آخر ألقي عليه الشبه، بل إذا غمض الإِنسَاْن عينيه عن صديقه بين يديه لحظة، ثم فتحها، ينبغي أن لا يقطع بأنه صديقه، لجواز إلقاء الشبه على غيره، وكل ذلك خلاف الضرورة، فالقول بإلقاء الشبه على غير عيسى خلاف الضرورة، كالقول بأن الواحد نصف العشرة مثلاً، فلا يسمع.
والجواب عنه من وجوه:
أحدهما: أن هذا تهويل ليس عليه تعويل، بل البراهين القاطعة، والأدلة لساطعة قائمة على أن الله تعالى خلق الإِنسَاْن وجملة أجزاء العالم، وإن حكم الشيء حكم مثله: فما من شيء خلقه الله تعالى في العالم إلا هو قادر على خلق مثله، لتعذر خلقه في نفسه، فيلزم أن يكون خلق الإِنسَاْن مستحيلاً، بل جملة العالم، وهو محال بالضرورة، وإذا ثبت أن الله تعالى قادر على خلق مثل لكل شيء في العالم، فجميع صفات جسد عيسى عليه السلام لها أمثال في حيز الإمكان في العدم، يمكن خلقها في محل آخر غير جسد المسيح، فيحصل الشبه قطعاً، فالقول بالشبه قول بأمر ممكن، لا بما هو خلاف الضرورة، ويؤنس ذلك أن التوراة مصرحة بأن الله تعالى خلق جميع ما للحية في عصا موسى عليه السلام، وهو أعظم من الشبه، فإن جَعْلَ حيوان يشبه حيواناً، وإنسان يشبه إنساناً- أقرب من جعل نبات يشبه حيواناً، وقلب العصا مما أجمع عليه اليهود والنصارى، كما أجمعوا على قلب النار برداً وسلاماً، وعلى قلب لون يد موسى عليه السلام، وعلى انقلاب الماء خمراً وزيتاً للأنبياء عليهم السلام، وإذا جوزوا مثل هذا فيجوز إلقاء الشبه من غير استحالة، على أن عيسى عليه السلام قد خولفت عادة الله تعالى الأغلبية في خلقه من ماءٍٍ واحدٍٍ، ونفخ جبريل في جيب مريم، فجعلُ شبهه على غيره ليس بأبعد من العادة، من خلقه، على أن إحياءه للموتى، وإبراءَه للأبرص والأكمه أعظم من إلقاء شبهه على غيره، على أن عروجه إلى السماء بناسوته وخرق السماء والتئامها، ليس بأهون من ذلك، على أن رد الشمس ليوشع بن نون، ومشي عيسى وحواريّه على الماء، وسائر معجزات أنبياء بني إسرائيل، ليس بأهون مما هنالك، وإذا صح عند النصارى انقالب الخبز إلى جسد المسيح، والخمر إلى دمه في العشاء السرّي، لِمَ لا يمكن أن يوقع شبهه على أحدهم؟ كما لا يخفى.
وثانيها: أن الإنجيل ناطق بأن المسيح عليه السلام نشأ بين ظهراني اليهود، وحضر مراراً عديدة في مواسمهم وأعيادهم وهياكلهم، يعظهم ويعلمهم ويناظرهم، ويتعجبون من براعته وكثرة تحصيله، حتى إنهم- كما في الإنجيل- يقولون: أليس هذا ابن يوسف؟ أليست أمه مريم؟ أليس إخوته عندنا؟ فمن أين له هذه الحكمة؟ وإذاً، كان في غاية الشهرة والمعرفة عندهم.
وقد نص الإنجيل على أنهم عند إرادة الصلب لم يحققوه، حتى دفعوا لتلميذه ثلاثين درهماً ليدلهم عليه، فما حاجتهم حينئذ أن يكتروا رجلاً من تلاميذه ليعرفهم شخصه؟ لولا وقوع الشبه الذي نقول به.
وثالثها: أنه كما تقدم في الأناجيل، أخذ في حندس من الليل المظلم في حالة شُوِّهت صورته وغُيّرت محاسنه وهيئته، بالضرب والسحب وأنواع النكال الموجبة لتغير الحال، ومثل ذلك يوجب اللبس بين الشيء وخلافه، فكيف بين الشيء وشبهه؟ حتى إن رئيس الكهنة عند إحضاره أقسم عليه هل هو يسوع المسيح ابن الله؟ فلم يجبه، ولو كان هو لأجابه، فمن أين للنصارى واليهود القطع بأن المصلوب هو عين عيسى عليه السلام دون شبهه؟ بل إنما يحصل الظن والتخمين كما قال تعالى في كتابه المبين: {وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً بَل رّفَعَهُ اللّهُ إِلَيْهِ}.
رابعها: قد تقدم في الأناجيل أنه لما جاء اليهود إلى محله خرج إليهم وقال: من تريدون؟ قالوا: يسوع، وقد خفي شخصه عليهم، ففعل ذلك مرتين وهم ينكرون صورته، وهذا دليل الشبه، ورفع عيسى عليه السلام، ولاسيما وقد نقل غير واحد من العلماء عن بعض النصارى القول بأن المسيح عليه السلام كان قد أعطي قوة التحول من صورة إلى صورة.
خامسها: قول متى في الفصل الخامس والعشرين من إنجيله ما لفظه: حينئذ قال لهم يسوع كلكم تشكون فيّ هذه الليلة، لأنه مكتوب أني أضرب الراعي فتتبدد خراف الرعية، ولكن بعد قيامي أسبقكم إلى الجليل، فأجاب بطرس وقال له: وإن شك فيك الجميع فأنا لا أشك أبداً، قال له يسوع: الحق أقول لك، إنك هذه الليلة، قبل أن يصيح الديك تنكرني ثلاث مرات. انتهى.
فقد شهد عليهم بالشك، بل خيّرهم بطرس الذي هو خليفة عليهم، شك فقد انخرمت الثقة بأقوالهم، وصح قوله تعالى: {وَإِنّ الّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِيهِ لَفِي شَكّ مّنْهُ مَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلم إِلاّ اتّبَاعَ الظّنّ}.
سادسها: إن في الفصل السابع والعشرين من إنجيل متى ما لفظه: حينئذ لما رأى يهوذا الذي أسلمه أنه قد دِينَ، ندم ورد الثلاثين من الفضة إلى رؤساء الكهنة والشيوخ، قائلاً: قد أخطأت إذ سلمت دماً بريئاً، فقالوا: ما علمنا، أنت أبصر، فطرح الفضة في الهيكل وانصرف، ثم مضى وخنق نفسه. انتهى.
فهذه الأناجيل ليست قاطعة في صلبه، بل فيها اختلافات، فيحتمل أن يهوذا كذب عليهم في قوله: هو هذا. ويدل على وقوع ذلك، ويقربه ظهور ندمه بعد هذا، ولاسيما وهو من جملة الاثني عشر الذين شهد لهم المسيح بالسعادة الأبدية، والسعيد لا يتم منه مثل هذا الفساد العظيم، فيلزم إما أن يهوذا ما دل عليه، أو كون المسيح ما شهد لهم بالسعادة الدائمة، أو أن أناجيلهم محرفة مبدلة، ويحتمل أن أحد أتباع المسيح باع نفسه من الله تعالى وقاية للمسيح عليه السلام، وادعى أنه هو، ومثل هذا كثير في أتباع الأنبياء، حيث يريدون أن يفدوا أنفسهم بدل أنبيائه، ويحتمل أن الأعوان أخذوا عليه رشوة وأطلقوه، وأخذوا بدله، كما أن يهوذا، مع أنه صديقه ورسوله، أخذ رشوة ودلهم عليه، ويحتمل أن الله تعالى أرسل شيطاناً على صورته وصلبوه، ويحتمل أن الملك الذي نزل عليه ليقويه، كما تقدم في إنجيل لوقا بزعمهم، صار فداء له، ويحتمل أن هذا الذي نزل إنما نزل لرفعه، لأنه لو كان نازلاً لتقويته لقواه، فلما لم نر أنه قواه فيقتضي أنه رفعه إلى السماء، أو فدى نفسه له.
وقال بعض الأفاضل: ومن الأدلة على رفعه وصلب شبهه ما في الفصل التاسع من إنجيل لوقا ما لفظه: أن المسيح صعد إلى جبل ليصلي، وأخذ بطرس ويوحنا ويعقوب معه، وفيما هو يصلي صارت هيئته ووجه متغيرة، ولباسه مضيئاً لامعاً.... إلخ.
فهذا فيه دلالة على رفعه وحصول الشبه الذي نقول به، إذ لا معنى لظهور موسى وإيلياء، ووقوع النوم على أصحابه، وتغير وجهه وإضاءة لباسه، إلا رفعه....
ورؤيتهم له بعد ذلك، إنما هو من تطور روحه، لأنه عليه السلام كان له قوة التطور: وهذا من أحكام الروح والنفس.
ولئن قلنا إنه لا يدل على الرفع بالوجه التام، غير أنا نتنزل ونقول: ما دام في هذه المرة تغيرت هيئته ووجه ولباسه، واجتمع بالأنبياء وسمع من الغمامة هذا الصوت، فلا أقل من أن يكون ذلك مقدمة لرفعه ومقياساً، ومبدأ لتقويته وإيناساً، واليهود لم يتحققوا من أنفسهم أنه هو المسيح، بل اعتمدوا على قول يهوذا كما تقدم لك، ويهوذا قوله قول فرد، وغير صالح للاحتجاج، للاحتمالات والأدلة التي ذكرناها لك، فلم يبق في قول الفرقتين حجة أن المصلوب هو المسيح عليه السلام، لا شبهه، وأناجيلهم حالها معلوم لديك، وبيان اشتباههم المحكي لك في القرآن، لا يخفى عليك. انتهى.
وهنا سؤال يورده بعض النصارى وهو: أن عيسى عليه السلام إذا كان لم يصلب حقيقة، وإنما صلب رجل ألقي عليه شبهه، ورفع هو إلى السماء، فلم لم يخبر الحواريين بذلك قبل رفعه أو بعده؟
والجواب: أن عيسى عليه السلام لم يخبر بذلك لعلمه بأن أناساً سيفترون عليه ويقولون بألوهيتيه، فأبهم الأمر ليكون ذلك أدل على كونه عبداً من عبيد الله، لا يقر على جلب نفع ولا دفع ضر، بخلاف ما لو أخبر بأنه لا يصلب، أو لم يصلب، وأن المصلوب شبهه، فإنه ربما كان ذلك مقوياً لشبهة أولئك الجماعة، ولعدم كون هذه المسألة من المسائل الاعتقادية في الأصل، إذ لو اعتقد أحدٌ، قبل إرسال نبينا عليه الصلاة والسلام، بصلب عيسى، لم يضره ذلك، لكن لما ورد نبينا الذي لا ينطق عن الهوى، أَبَان خطأ النصارى في الوجهين:
أحدهما: اعتقاد أن عيسى إله.
والآخر: اعتقاد أنه قد قتل وصلب.
وأبان أنه عبد من عبيد الله تعالى تولاه بالرسالة، واصطفاه وحفظه من أيدي أعدائه وحماه، كذا في منية الأذكياء في قصص الأنبياء.
فصل:
في سقوط دعواهم التواتر في أمر الصلب:
قال القرافي: اعلم أن النصارى قالوا: إنهم واليهود أمتان عظيمتان طبقوا مشارق الأرض ومغاربها، وكلهم يخبر أن المسيح عليه السلام صلب، وهم عدد يستحيل تواطؤهم على الكذب، والإنجيل أيضاً مخبر عن الصلب، فإن جوزتم كذبهم، وكذب ما يدعي أنه الإنجيل، وإن مثل هؤلاء ممكن تواطؤهم على الكذب- لزم المحال من وجوه:
أحدها: أنه يتعذر عليكم أيها المسلمون، جعل القرآن متواتراً.
وثانيها: أن قاعدة التواتر تبطل بالكلية.
فإن غاية خبر التواتر يصل إلى مثل هذا.
وثالثها: أن إنكار الأمور المتواترة، جحد للضرورة فلا يسمع، فلو قال إنسان: الخبر عن وجود بغداد ودمشق كذب، لم يسمع ذلك منه، وعدّ خارجاً عن دائرة العقلاء، وحينئذ يتعين أن القول بالصلب حق، وأن إخبار المسلمين والقرآن عن عدم ذلك، مشكل.
والجواب من وجوه:
أحدها: أن جميع النصارى واليهود يوردون هذا السؤال ولا يعلمون حقيقة التواتر ولا شروطه، وإنما فهم ذلك وغيره هذه الأمة المحمدية والملة الإسلامية لعلو قدرها وشرفها واختصاصها بمعاقد العلوم وأزمتها، دون غيرها، كما هو مسلم عند كل دريّ كذا مصنف، وها نحن نوضح ذلك إن شاء الله تعالى فنقول: إن التواتر له شروط:
الشرط الأول: أن يكون المخبر عنه أمراً محسوساً، ويدل على اعتبار هذا الشرط، أن الأمة العظيمة قد تخبر عن القضايا الجسيمة وهي باطلة، كإخبار المعطلة عن عدم الصانع والفلاسفة عن قدم العالم، مع بطلان ذلك عند أمم كثيرة، وسببه أن مجال النظر يكثر فيه وقوع الخطأ، فلا يثق الإِنسَاْن بالخير عن العقليات، حتى ينظر فيجد البرهان العقلي يعضد ذلك الخبر، فحينئذ يقطع بصحة ذلك الخبر، أما الأمور المحسوسة، مثل المبصرات ونحوها فشديدة البعد على الخطأ، وإنما يقع الخلل من التواطؤ على الكذب، فإذا كان المخبرون يستحيل تواطئهم على الكذب حصل القطع بصحة الخبر.
الشرط الثاني: استواء الطرفين والواسطة، وتحرير هذا الشرط أن المخبرين لنا، إذا كانوا يستحيل تواطؤهم على الكذب وكانوا هم المباشرين لذلك الأمر المحسوس، المخبر عنه، حصل العلم بخبرهم، وإن لم يكن المخبر لنا هو المباشر لذلك الأمور المحسوس، بل ينقلون عن غيرهم أنه أخبرهم بذلك، فلابد أن يكون الغير المباشر عدداً يستحيل تواطؤهم على الكذب، فإنه إن جاز الكذب عليه، وهو أصل هؤلاء المخبرين لنا، فإذا لم يبق الأصل لم يبق المفرع عليه، فلا يلزم من كون المخبر لنا يستحيل تواطؤهم على الكذب حصول العلم بخبرهم، لجواز فساد أصلهم المعتمدين عليه، فيتعين أن يكون الأصل عدداً يستحيل تواطؤهم على الكذب، فهذا معنى قولنا: استواء الطرفين. في كونهما عدداً يستحيل تواطؤهما على يستحيل تواطؤهم على الكذب، وأصلهم الذي ينقلون عنه كذلك، لكن أصلهم لم يباشر ذلك الأمر المحسوس، بل ينقل عن غيره أيضاً، فأصل ذلك الأصل يجب أن يكون عدداً يستحيل تواطؤهم على الكذب أيضاً، لما تقدم، وفي هذه الصورة حمل طرفان وواسطة، فالطرفان المخبر لنا، والمباشر الأول الواسطة الذي بينهما، فيجب استواء الطرفين والواسطة، والوسائط تكثرت في كونهم عدداً يستحيل تواطؤهم على الكذب، فينقسم، بهذا التحرير، التواتر إلى طرف فقط، وإلى طرفين بلا وساطة، وإلى طرفين وواسطة، والثلاثة أقسام مشتركة في هذا الشرط، فإذا تقرر حقيقة التواتر فنقول: الحس إنما يتعلق بأن هذا مصلوب على هذه الخشبة، وأما أنه عيسى عليه السلام نفسه أو غيره، فهذا لا يفيده الحس البتة، بل إنما يعلم بقرائن الأحوال إن وجدت، أو بأخبار الأنبياء عليهم السلام عن الله تعالى الذي أحاط بكل شيء علماً، وأحصى كل شيء عدداً، والذي يدل على أن الحس لا يفرق بين المتماثلات، أنا لو وضعنا في إناء رطلاً من الماء مثلاً، وأريناه لإنسان، ثم رفعنا ذلك الماء ووضعنا فيه رطلاً آخر من ذلك الماء ثم أريناه ذلك الإِنسَاْن، وقلنا له: هذا الماء هو عين الماء الأول أو مثله؟ فإنه إذا أنصف يقول: الذي أدركه بحسي أن هذا ماء بالضرورة، أما أنه عين الأول أو غيره مماثلاً له، فلا أعلم، لكونه الحس لا يحيط بذلك، هذا في المائعات، وكذلك كف من تراب أو أوراق الأشجار أو أنواع الحبوب، كالحنطة مثلاً، إذا أخص منها حفنتان ونحو ذلك، وكذلك الحيوانات الوحشية والطيور شديدة الالتباس على الحس، إذا اتحد النوع في اللون والسن والغلظ، وإنما كثرت الفروق في الحيوانات الإنسية كالفرس ونحوها.
مطلب:
وسر ذلك أن أسباب النشأة في الوحشية مشتركة بالمياه والمراعي والبراري، والحيوان الإنسي يختلف ذلك فيه، بحسب مقتنيه، اختلافاً كثيراً، فينشأ بحسب دواعي بني آدم في السعة والضيق، وإيثار نوع من العلف على غيره، ومكان مخصوص على غيره، وإلزام الحيوان أنواعاً من الأعمال والرياضة دون غيرها، فيختلف الحيوان الإنسي بحسب ذلك، ثم يتصل ذلك بالنُّطف في التوليد، مضافاً إلى ما يحصل للولد من داعية مريبة فيعظم الاختلاف، والحيوان الوحشي سلم عن جميع ذلك، فتشابهت أفراد نوعه، ولا يكاد الحس يفرق بين اثنين منه البتة، فإذا تقرر أن الحس لا سلطان له على الفرق بين المثلين، ولا التمييز بين الشيئين، فيجب القطع أن كون المصلوب هو خصوص عيسى عليه السلام دون شبهه أو مثله- ليس مدركاً بالحس، وإذا لم يكن مدركاً بالحس، جاز أن يخرق الله تعالى العادة لعيسى عليه السلام شبهه في غيره، كما خرق له العادة في إحيائه الموتى وغيرها، ثم يرفعه ويصونه عن إهانة أعدائه، وهو اللائق بكريم آلائه، في إحسانه لخاصة أنبيائه وأوليائه وإذا جوز العقل مثل هذا مع أن الحس لا مدخل له في ذلك، بقي إخبار القرآن الكريم عن عدم الصلب سالماً عن المعارض، مؤيداً بكل حجة، وسقط السؤال بالكلية.
وثانيها: سلمنا أن الحس يتعلق بالتفرقة بين المثلين، والتمييز بين الشبهين، ولكن لا نسلم أن العدد المباشر للصلب كانوا بحيث يستحيل تواطؤهم على الكذب، ويدل على أنهم ليسوا كذلك، أن الحواريين فروا عنه، لأنه لو وجد أحد منهم لقتله اليهود، فحينئذ عدد التواتر متعذر من جهة شيعة النصارى عن أسلافهم، لا يفيد علماً بل هو ظن وتخمين لا عبرة به، لذلك قال الله سبحانه في قرآنه المبين: {وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً بَل رّفَعَهُ اللّهُ إِلَيْهِ} أي: هم لا يتيقنون ذلك، بل يحزرون بالظن والتخمين، وأما من جهة الملة اليهودية، فلأن المباشر منهم للصلب إنما هو الوزعة وأعوان الولاة، وذلك في مجرى العادة يكون نفراً قليلاً، كالاثنين أو الثلاثة ونحوها، يجوز عليهم الكذب ولا يفيد خبرهم العلم بكون العادة وخرج الصلب عدد يستحيل تواطؤهم على الكذب يفتقر إلى نقل متواتر، فإنه لو وقع ونقل بأخبار الآحاد لم يحصل لنا علم بالصلب فإن المتواترات إذا نقلت بأخبار الآحاد، سقط اعتبارها في إفادة العلم، لجواز كذب الناقل، فلا يكون عدد التواتر حاصلاً في نفس الأمر، والنصارى واليهود إنما يعتمدون على التوراة والإنجيل، ولا يوجد يهودي ولا نصراني على وجه الأرض يروي التوراة والإنجيل، عدلاً عن عدل، إلى موسى وعيسى عليهما السلام، وإذا تعذرت عليهم رواية العدل عن العدل، فأولى أن يتعذر التواتر، ولم يبق في الكتابين إلا أخبار وتواريخ بعيدة الزمان جدًّا، بحيث إن التواريخ الإسلامية أصح منها، لقرب عهدها، مع أنه لا يجوز الاعتقاد في فروع الديانات على شيء من التواريخ، فضلاً عن أصول الأديان، وإذا ظهر أن مستند هاتين الأمتين العظيمتين في العدد، في غاية الضعف- كانت أخبارها في نفسها في غاية الضعف، لأن الفرع لا يزيد على الأصل.
وثالثها: أن نصوص الإنجيل مُشعرة بعدم صلب عيسى عليه السلام بخصوصه، كما نقلنا بعضاً آنفاً.
وقال في تخجيل الأناجيل: فيقال للنصارى: ما ادعيتموه من قتل المسيح وصلبه، أتنقلونه من تواتر أم آحاداً؟ فإن زعموا أنه آحاد لم يقم بذلك حجة، ولم يثبت العلم الضروري، إذ الآحاد لم يأمن عليهم فيها السهو والغفلة والتواطؤ على الكذب، وإذا كان الآحاد يعرض عليهم ذلك، فلا يحتج بهم في القطعيات، وإن عزوا ذلك إلى التواتر قلنا لهم: شرط التواتر استواء الطرفين فيه والوسط، وهو أن ينقل الجم الغفير عن الجم الغفير الذين شاهدوا المشهود به، وهو المصلوب، وعلموا أنه هو ضرورة، فإن اختل شيء من ذلك فلا تواتر، فإن زعم النصارى أن خبرهم في قتل المسيح وصلبه بهذه الصفة، أكذبتم نصوص أناجيلهم التي بأيديهم، إذ قال لهم نقلتها الذين دوّنوها لهم وعليها معولهم: إنه لما أخذ فقتل كان في شرذمة يسيرة من تلاميذه، فلما أقبل عليه هربوا بأسرهم، ولم يتبعه إلا بطرس من بعيد، ولما دخل الدار اجتمعوا نظرت جارية منهم إلى بطرس فعرفته، فقالت: هذا كان مع يسوع، فحلف أنه لا يعرف يسوع بقوله، وخادعهم حتى تركوه، وذهب ولم يكد يذهب، وأن شاباً آخر تبعه وعليه إزار فتعلقوا به، فترك إزاره بأيديهم وذهب عرياناً، فهؤلاء أصحابه وأتباعه، لم يحضر منهم ولا رجل واحد بشهادة أناجيلهم، وأما أعداؤه اليهود، الذين تزعم النصارى أنهم حضروا الأمر، فلم يبلغوا عدد التواتر، بل كانوا آحاداً وأفراداً، لأن عموم الناس الذين حضروا لا يرون إلا شخصاً على خشبة ومعه لصان مصلوبان، ولا شك أن هيئتهم وصفتهم متغيرة عن الحالة التي قبل أخذهم، وأما المشايخ ونحوهم فلم يعرفوه أيضاً، ففي الإصحاح الثاني والعشرين من إنجيل لوقا ما لفظه: فلما كان النهار اجتمع مشايخ الشعب ورؤساء الكهنة وأدخلوه إلى مجمعهم، وقالوا له: إن كنت أنت المسيح فقل لنا: فقال لهم: إن قلت لكم لم تؤمنوا لي، وإن سألتكم لم تجيبوني ولم تخلوني. انتهى.
وهذا يحتمل أنهم يسألونه عن ذاته أو عن رسالته، على أنا لو سلمنا كثرة عددهم وصدق معرفتهم يمكن تواطؤهم على الكذب، لأنهم لما لم يجدوه هو، ولم يعلموا محل المسيح، وكان ذلك من تلاميذه، واستحلوا قتله أيضاً، أشاعوا أنه هو المسيح ليترك الناس متابعته، ولئلا يتخذوا المسيح نبياً، وصمموا، أنهم إذا وجدوا المسيح بعد هذا أيضاً، يعملون به كما عملوا بصاحبه، ويؤيد هذا أنهم جعلوا على القبر حراساً لئلا ينبش القبر ويُرى أنه غير المسيح، ومما يزيد الأمر وضوحاً قول إنجيل متى في الإصحاح الثامن والعشرين: أن مريم لما جاءت لزيارة القبر رأت ملكاً قد نزل من السماء برّجة عظيمة، فدحرج الحجر عن فم القبر، وجلس عنده، فكاد الحراس أن يموتوا من هيبته، وبادروا من فورهم إلى المشايخ فأعلموهم بالقصة، فأرشاهم المشايخ برشوة أن يستروا القصة وأن يشيعوا أن التلاميذ سرقوه ونحن نيام، فما يؤمنكم أن تكون هذه العصابة من اليهود، كما أنهم ستروا الآية التي ذكرتم، صلبوا شخصاً من أتباعه وأوهموا الناس أنه المسيح، فإذا تبين عدم الاحتجاج بإجماع اليهود، والنصارى الآن على صلبه، فنرجع إلى القرائن العقلية والنقلية، فأما العقل فلا يجوز أن الإله القادر على كل شيء يقتله أذل عباده، وهم اليهود، ويضربونه ويعملون به ما هو محرر في أناجيل النصارى المضطربة المحرفة المكتوبة بعد رفعه بسنين عديدة وأعوام مديدة، مع أنه يفرّ منهم مرات كثيرة ويستغيث ويطلب من الله تعالى تأخير أجله بقوله: أجز عني هذه الكاس، ويصرخ ويقول: إلهي! إلهي! لم تركتني؟ ويسلم روحه، وعند الصلب يطلب منهم الماء لكثرة عطشه، فيعطوه خلاً بدله، وأي خلاص لعباده في هذه الحالة، وهو بزعمهم أتى ليخلص العالم من الخطيئة، بل صار موقعاً لهم في الإثم بسبب عدم إيمانهم به، فكيف يكون مخلصاً بنفسه؟
وأما النقل، فقد تبين لك تهافت أناجيلهم واضطرابها، والدلالة على عدم المعرفة به، وعدم وجوده في قبره، والأعظم من ذلك عند كل ذي عقل سُلَيم قوله تعالى: {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِن شُبّهَ لَهُمْ} وأما قول متى في الإصحاح السابع والعشرين: فصرخ يسوع أيضاً بصوت عظيم واسلم الروح، وإذا حجاب الهيكل قد انشقت إلى اثنين من فوق إلى أسفل، والأرض تزلزلت، والصخور تشققت والقبور تفتحت، وقام كثير من أجساد القديسين الراقدين، وخرجوا من القبور بعد قيامته، ودخلوا المدينة المقدسة، وظهروا للكثيرين- فهو قول بهت ومحال، لا يخفى بطلانه على ذوي العقول من النساء والرجال، لأنه لو كان صحيحاً لأطبق الناس على نقله، ولم يتفق إخفاء مثله، ولزال الشك عن تلك الجموع في أمر يسوع، فحيث داموا على الجحد له والتكذيب، دلّ على كذب ما نقله عَبَّاد الصليب، وإذا كان اليهود أعطوا دراهم رشوة، كما علمت سابقاً، لحراس القبر حتى لا يخبروا القائد وسائر الناس بملك نزل من السماء على قبر يسوع، كي لا يظن براءته مما نسب إليه أعداؤه، فكيف تكون هذه الآيات العظيمة؟ وتقوم الأموات من قبورها؟ ويدخلون المدينة؟ ولا يكون ذلك حجة على من لا يؤمن به إذ ذاك؟ وأيضاً، ما معنى تفتح القبور وقيام القديسين من قبورهم؟ فهل كان استبشاراً بمصابه؟ فهم إذ ذاك ليسوا من أحبابه، أو كان جزعاً على مماته؟ وخرجوا إعانة له قبل فواته؟ فواعجباً لرب أحياهم بعد أن كانوا رفات، ولم يعينوه حتى قضى ومات، وأحيي الرمم، وصرخ عند تسليم الروح، ولم يقدر على إبراء ما فيه من جروح، وليت شعري ما عمل هؤلاء القديسون؟ أبقوا في المدينة المقدسة؟ أم كروا إلى قبورهم فهم راجعون؟ وهل التأم الهيكل والصخور؟ أم دامت على انشقاقها إلى كثير من الدهور؟
فإن قيل: إنما لم يشتهر ذلك، لأن أصحاب المسيح لم يحضر منهم أحد خوفاً من اليهود، والذين شاهدوا هذه الآيات من اليهود تواطؤوا على الكتمان حسداً وبغياً، قلنا: مثل هذه الآيات العظيمة إذا وقعت، علمها من حضر ومن غاب، من الأعداء والأحباب، لأنها آيات نهارية، ومعجزات تشتهر في البرية، ويتناقلها أهل البلدان، وتبقى مؤرخة بكل لسان، في سائر الملل بكل أرض وزمان، فعلم بالضرورة أن هذه الأقوال، مما اخترعها وحررها أئمة الضلال، ليخدعوا بها ضعفاء العقول، ويتوصلوا إلى جذب الدنيا بالكذب على هذا الرسول. انتهى.
وقال الإمام ابن حزم رحمه الله فكتابه الملل عند الكلام على النصارى: وممّا يعترض به علينا اليهود والنصارى ومن ذهب إلى إسقاط الكوافّ- جمع كافة- من سائر الملحدين: أن قال قائلهم: قد نقلت اليهود والنصارى أن المسيح عليه السلام قد صلب وقتل، وجاء القرآن بأنه صلى الله عليه وسلم لم يقتل ولم يصلب. فقولوا لنا كيف كان هذا؟
فإن جوّزتم على هذه الكواف العظام المختلفة الأهواء والأديان والأزمان والبلدان والأجناس نقل الباطل، فليست بذلك أولى من كافتكم التي نقلت أعلام نبيكم وشرائعه وكتابه.
فإن قلتم: اشتبه عليهم، فلم يتعمدوا نقل الباطل، فقد جوّزتم التلبيس على الكواف، فلعل كافتكم أيضاً ملتبس عليها. فليس سائر الكواف أولى بذلك من كافتكم.
وقولوا لنا: كيف فرض الإقرار بصلب المسيح عندكم قبل ورود الخبر عليكم ببطلان صلبه وقتله؟ فإن قلتم: كان الفرض على الناس الإقرار بصلبه، وجب من قولكم الإقرار أن الله تعالى فرض على الناس الإقرار بالباطل، وأن الله تعالى فرض على الناس تصديق الباطل والتدّين به، وفي هذا ما فيه.
وإن قلتم كان الفرض عليكم الإنكار لصلبه، فقد أوجبتم أن الله تعالى فرض على الناس تكذيب الكواف، وفي هذا إبطال قول كافتكم، بل إبطال جميع الشرائع، بل إبطال كل خبر كان في العالم عن كل بلد وملك ونبي وفيلسوف وعالم، ووقعتم، وفي هذا ما فيه.
قال أبو محمد رضي الله عنه: هذه الإلزامات كلها فاسدة في غاية الحوالة والاضمحلال بحمد الله تعالى. ونحن مبينون ذلك بالبراهين الضرورية بياناً لا يخفى على من له أدنى فهم بحول الله تعالى وقوته.
فنقول وبالله التوفيق: إن صلب المسيح عليه السلام لم يقله قط كافَّةٌ، ولا صحَّ بالخبر قط؛ لأن الكافّة التي يلزم قبول نقلها هي: إمَّا الجماعة التي يوقن أنها لم تتواطأ لِتَنَابُذِ طرقهم، وعدم التقائهم، وامتناع اتفاق خواطرهم على الخبر الذي نقلوه عن مشاهدة، أو رجع إلى مشاهدة ولو كانوا اثنين فصاعداً.
وإمّا أن يكون عدد كثير يمتنع منه الاتفاق في الطبيعة على التمادي على سنن ما تواطؤوا عليه، فأخبروا بخبر شاهدوه ولم يختلفوا فيه، فما نقله أحد أهل هاتين الصفتين عن مثل إحداهما، وهكذا حتى يبلغ إلى مشاهدة، فهذه صفة الكافة التي يلزم قبول نقلها، ويضطر خبرها سامعها إلى تصديقه، وسواء كانوا عدولاً أو فساقاً أو كفَّاراً وما عدا هذا من الخبر فليس كافة، ولا يضطر سامعه إلى تصديقه، وسواء أكانوا عدولاً أم غير عدول زيادة في الأصل ولا يقطع على صحته إلا ببرهان. فلما صح ذلك نظرنا فيمن نقل خبر صلب المسيح عليه السلام فوجدناه كواف عظيمة صادقة بلا شك في نقلها جيلاً بعد جيل إلى الذين ادّعوا مشاهدة صلبه، فإنَّ هنالك تبدّلت الصفة ورجعت إلى شُرَطٍٍ مأمورين مجتمعين مضمون منهم الكذب وقبول الرشوة على قول الباطل.
والنصارى مقرّون بأنهم لم يقدموا على أخذه نهاراً خوف العامة، وإنما أخذوه ليلاً عند افتراق الناس عن الفصح، وأنه لم يبق في الخشبة إلاَّ ست ساعات من النهار، وأنه أنزل إثر ذلك، وأنه لم يصلب إلاَّ في مكان نازح عن المدينة في بستان فخار متملك للفخار، ليس موضعاً معروفاً بصلب من يصلب، ولا موقوفاً لذلك، وأنه بعد هذا كله رُشِيَ الشُّرط على أن يقولوا إن أصحابه سرقوه ففعلوا ذلك، وإن مريم المجدلانية وهي امرأة من العامة، لم تقدم على حضور موضع صلبه، بل كانت واقفة على بعد تنظر، هذا كله في نص الإنجيل عندهم، فبطل أن يكون صلبه منقولاً بكافة، بل بخبر يشهد ظاهره على أنه مكتوم متواطأ عليه.
وما كان الحواريون ليلتئذ بنص الإنجيل إلا خائفين على أنفسهم، غُيَّباً عن ذلك المشهد، هاربين بأرواحهم مستترين. وأنَّ شمعون الصفا غُرِّر ودخل دار قيقان الكاهن أيضاً بضوء النهار فقال له: أنت من أصحابه؟ فانتفى وجحد، وخرج هارباً عن الدار. فبطل أن ينقل خبرَ صلبه أحدٌ تطيب النّفس عليه على أن تظن به الصدق، فكيف أن ينقله كافة؟ وهذا معنى قوله تعالى: {وَلَكِن شُبّهَ لَهُمْ} إنما عنى تعالى أن أولئك الفساق، الذين دبروا هذا الباطل، وتواطؤوا عليه، هم شبهوا على من قلدهم، فأخبروهم أنهم صلبوه وقتلوه، وهم كاذبون في ذلك، عالمون أنهم كذبة، ولو أمكن أن يشبه ذلك على ذي حاسة سليمة، لبطلت النبوات كلها، إذ لعلها شبهت على الحواس السليمة، ولو أمكن ذلك لبطلت الحقائق كلها، لأمكن أن يكون كل واحد مما يشبه عليه فيما يأكل ويلبس، وفيمن يجالس، وفي حين هو فلعله نائم، أو مشبه على حواسه، وفي هذا خروج إلى السخف وقول السفسطائية والحماقة، وقد شاهدنا نحن مثل ذلك، وذلك أننا أنذرنا للجبل لحضور دفن المؤيد هشام بن الحكم المستنصر، فرأيت أنا وغيري نعشاً فيه شخص مكفن، وقد شاهد غسله شيخان جليلان حكمان من حكام المسلمين ومن عدول القضاة، في بيت، وخارج البيت أبي رحمه الله وجماعة عظماء البلد، ثم صلينا في ألوف من الناس عليه، ثم لم يلبث شهوراً نحو السبعة حتى ظهر حياً، وبويع بعد ذلك بالخلافة، ودخلت عليه أنا وغيري وجلست بين يديه، ورأيته، وبقي ثلاثة أعوام غير شهرين وأيام.
قال أبو محمد رَضِي اللّهُ عَنْهُ: وأما قوله: قد جوزتم التمويه على الكافة، فقد بينا أنها لم تكن كافة قط، وحتى لو صح أنها كافة فكيف لا يجوز ذلك في كل آية تحيل الطبائع والحواس؟ فهو ضرورة لا يحمل على الممكنات، فلو صح أنها كانت كافة، لكان خبر الله تعالى أنه شبه لهم، حاكماً على حواسهم ومحيلاً لها، كخروج النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم ليلة هاجر بحضرة مائة رجل من قريش، وقد حجب الله سبحانه أبصارهم عنه فلم يروه، وأما ما لم يأت خبر عن الله عز وجل بأنه شبه على الكافة، فلا يجوز أن يقال ذلك، لأنه قطع على المحال وإحالة طبيعية، وحالة الطبائع لا تدخل في الممكن، إلا أن يأتي بذلك يقين عن الله عز وجل، فيلزم قبوله، وأما التشبيه على الواحد والاثنين ونحو ذلك فإنه جائز، وكذلك فقد العقل والسخافة يجوز ذلك على الواحد والاثنين ونحو ذلك، ولا يجوز على الجماعة كلها، وقوله تعالى: {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِن شُبّهَ لَهُمْ} إنما هو إخبار عن الذين يقولون تقليداً لأسلافهم من النصارى واليهود أنه عليه السلام قتل وصلب، فهؤلاء شبه لهم القول، أي: أدخلوا في شبهة منه، وكان المشبهون لهم شيوخ السوء في ذلك الوقت، وشُرَطهم المدَّعون أنهم قتلوه، وهم يعلمون أنه لم يكن ذلك، وإنما أخذوا من أمكنهم فقتلوه وصلبوه في استتار ومع من حضور الناس، ثم أنزلوه ودفنوه تمويهاً على العامة التي شبه الخبر لها.
ثم نقول لليهود النصارى، بعد أن بينا بحول الله وقوته بيان ما شنعوه في هذه المسالة: إن كوافكم قد نقلت عن بعض أنبيائكم فسوقاً ووطء إماء، وهو حرام عندكم، وعن هارون عليه السلام أنه هو الذي عمل العجل لبني إسرائيل وأمرهم بعبادته والرقص أمامه، وقد نزه الله تعالى الأنبياء عليهم السلام عن عبادة غيره، وعن الأمر بذلك، وعن كل معصية ورذيلة، فإذا جوزوا كلهم هذا على أنبياء، منهم موسى عليه السلام وسائر أنبيائهم- كان كل ما أمروهم به، مع جنس عمل العجل والرقص والأمر بعبادته، ومن جنس وطء الإماء وسائر ما نسبوه إلى داود وسليمان عليهما السلام وسائر أنبيائهم، لاسيما وهم يقرون بأن العجل كان يحور بطبعه، وأما نحن فجوابنا في هذا كله بأن ليس شيء منه كافة، ولكن نقل آحاد كذبوا فيه، وأما خوار العجل فإنما هو على ما روينا عن ابن عباس رَضِي اللّهُ عَنْهُ، من أنه إنما كان صفير الريح تدخل من فيه وتخرج من دبره، لا أنه خار بطبعه قط، وحتى لو صح أنه خار بطبعه، لكان ذلك من أجل القوة التي كانت في القبضة التي قبضها السامري من أثر جبريل عليه السلام، والذي يعتمد فهو قول ابن عباس رَضِي اللّهُ عَنْهُ الذي ذكرناه، وبالله تعالى التوفيق.
وأما قوله: كيف كان الفرض قبل ورود النص ببطلان صلبه؟ الإقرار بصلبه أم الإنكار له؟ فهذه قسمة فاسدة شغبية، قد حذر منها الأوائل كثيراً، ونبه عليها أهل المعرفة بحدود الكلام، وذلك أنهم أوجبوا فرضاً ثم قسموه على قسمين: إما فرض بإنكار، وإما فرض بإقرار، وأضربوا عن القسم الصحيح فلم يذكروه، وهذا لا يرضى به لنفسه إلا جاهل أو سخيف مغابط غابن لنفسه، غاش لمن اغتر به، وإن الحقيقة هاهنا أن يقول، هل يلزم الناس، قبل ورود القرآن فرض بالإقرار بالصلب المسيح، أو بإنكار صلبه، أو لم يلزمهم فرض بشيء من ذلك؟ فهذه هي القسمة الصحيحة والسؤال الصحيح، وحق الجواب أنه لم يلزم الناس قط، قبل ورود القرآن فرض بشيء من ذلك، لا بإقرار ولا بإنكار، وإنما كان خبراً لا يقطع العذر ولا يوجب العلم الضروري، ممكن صدق قائله، فقد قتل أنبياء كثيرة وممكن أن يكون ناقله كذب في ذلك، وهو بمنزلة شيء مغيب في دار، فيقال لهذا المعرض بهذا السؤال الفاسد: ما الفرض على الناس فيما في هذه الدار؟ الإقرار بأن فيها رجلاً أم الإنكار لذلك؟ فهذا كله لا يلزم منه شيء، ولم ينزل الله عز وجل كتاباً قبل القرآن بفرض إقرار بصلب المسيح صَلّى اللهُ عليّه وسلّم ولا بإنكاره، وإنما ألزم الفرض بعد نزول القرآن بتكذيب الخبر بصلبه، فإن قالوا: قد نقل الحواريون صلبه وهم أنبياء وعدول، قيل لهم وبالله التوفيق: الناقلون لنبوتهم وأعلامهم ولقولهم بصلبه عليه السلام، هم الناقلون عنهم الكذب في نسبه والقول بالتثليث الذي من قال به فهو كاذب على الله تعالى، مفتر عليه، كافر به، فإن كان الناقل لذلك عنهم صادقاً أو كانوا كافة، فما كان يوحنا ومتّى وبولس إلاَّ كفاراً كاذبين، وما كانوا قط من صالحي الحواريين.
وإن كان ناقل ما ذكرنا عنهم كاذباً، فالكاذب لا يقوم بنقله حجة، فبطل التمويه المتقدم، والحمد لله رب العالمين.
فصل:
أخذ بعض نصارى هذا العصر يتذبذب في الاعتقاد، فطفق يرد على المسيحيين قوله بتثليث الآلهة، وأنه مضاد لصريح نصوص الوحي، أخذ يسلم بحقية القرآن وكذا التوراة والإنجيل الموجودين وأنهما لم يحرفا تحريفاً جوهرياً، واعتقد بصلب المسيح يقيناً، وصار بناقش المفسرين فيما فسروا به الآية المذكورة، أعني آية الصلب، زاعماً أن المنفي عن اليهود فيها هو نسبه الفعل لهم توبيخاً لتهكمهم وازدرائهم، وَرَدَّ فعل الصلب إليه تعالى، وقد توسع في هذا الموضوع وألف كتاباً سماه المعتقد الصحيح في صلب السيد المسيح ولما كان مبحثه غريباً جدًّا، أردت أن أورد هنا بعض تمويهاته في رسالته، وأعقبها بما فوِّق عليه من سهام ردود تهافته.
قال في أول رسالته: إن التباس فهم آية الصلب هو غالباً في تقدير نائب الفاعل لفعل {شبه لهم} فإنا إن قدرنا نائب الفاعل مصدراً مأخوذاً من الفعل السابق المذكور في الآية: {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ} وكان التقدير شبه لهم أنهم قتلوه وأنهم صلبوه، أو شبه لهم قتلهم له وصلبهم إياه، والمعنى أنه مثل أو خيل لهم أنهم كانوا هم القاتلين وهم الصالبين- انحلت المسألة تقريباً، وزالت كل صعوبة تأويل، حيث إن السيد المسيح لم يقتل أصلاً، ولا صلب قهراً، أو مات جبراً، أو اضطراراً، بل هو من نفسه على زعمه قدم ذاته للصلب عن رغبته واختياره ورضاه، فكأن اليهود لم يفعلوا شيئاً بقدرتهم ومجرد إرادتهم، حتى يحق لهم الافتخار بأنهم قتلوه، وأما إن قدِّر المسيح نائب الفاعل لـ: {شبه} تعقدت المسألة وضاع السياق اللغوي، لأنه لا وجه، لغوياً، في الآية يثبت وقوع الصلب على رجل آخر غيره، إذ لم يذكر صريحاً ولا إشارة.
ثم ذكر في الفصل السادس أن القرآن العزيز لم يؤنب النصارى، ولا مرة، على ضلال اعتقادهم بصلب المسيح وموته وقيامته، ولا كذب الإنجيل أو الحواريين، ولا لام الذين آمنوا بصلب المسيح، حال كونه نبههم مراراً على غير ضلالات عندهم.
وذكر فيه أيضاً: لم ترد أحاديث صحيحة عن الرسول صَلّى اللهُ عليّه وسلّم بنفي صلبه، وفيه أيضاً: أن هذه الآية يصح تأويلها إيجابياً طبقاً لما في الإنجيل، بما أن عدة آيات أخرى قرآنية مجانسة لها أولت بخلاف ظاهرها اللفظي، كأفعال المبايعة والرمي والموت والحياة وما أشبه ذلك، التي نسبت صريحاً لغيرها فاعلها الظاهر.
وقال في الفصل العاشر: أما قولنا إن القرآن العزيز قصد نفي نسبة فعل الصلب لليهود وإسناده لله حقيقة، فهو استناد على قوله: {فَلم تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنّ اللّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَميتَ إِذْ رَميتَ وَلَكِنّ اللّهَ رَمَى} [الأنفال: 17]، وقوله: {إِنّ الّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنّمَا يُبَايِعُونَ اللّهَ يَدُ اللّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} [الفتح: 10]، فهنا الفاعل الظاهر حساً وفعلاً إنما هو الرسول محمد عليه الصلاة والسلام، ولكن الفاعل الحقيقي إنما هو الله الفاعل كل شيء في الكل.
ثم قال: وربما يعترض أنه ذكر في الآية نفسها أن الله رمى، وإنه تعالى هو المبايع، فنقول: كذلك في آي الصلب وإخباره مراراً عديدة صرح في الإنجيل أن الفاعل والمسلم والبازل والحاكم والآذن في أمر الصلب إنما هو الله جل جلاله.
ثم قال: نقول أخيراً: إن آية الصلب القرآنية هي صحيحة في ذاتها تماماً وكمالاً، ومطابقة أشد المطابقة لما ورد في نفس القرآن بهذا الشأن، ولكل فّحْوى أسفار الميثاقين أو العهدين، بكل بيان، إنما تفسيرها بمطلق النفي كان وما زال غلطاً وضد الحقيقة والذوق اللغوي، وضد ما جانسها في الآي الأخرى من نفس القرآن، ومن نصوص سائر الكتب المنزلة، ولاسيما الإنجيل، الذي زبدته وروحه وقوامه وخلاصته هي كون المسيح صلب ومات وقام وعرج إلى السماء، وأرسل البارقليط الآخر الرسول محمداً مبلغ القرآن العظيم، الحاوي روح الصدق والحق، والمذكر بكل ما قال المسيح في الإنجيل الشريف.
ثم قال: إن إنكار أمر الصلب أو إثباته ليس من الأركان في الدين عند المحمديين، ولا هو محرِّم قطعاً الاختلاف في تفسير بعض آيات، وقد وجد ويوجد عدة اختلافات عند اليهود والنصارى والمسلمين، وليس ذلك محرماً إلا إذا آل لإنكار أو لإفساد نفس الآيات، أو إيقاع الشبهة على ذات نصوص الوحي، ففي آية الصلب ليس شيء من ذلك، بل بالعكس تأييد كل النصوص الإلهية.
هذا خلاصة ما أورده في رسالته، وقد رد عليه من الفضلاء المسلمين عدد وافر، في تآليف بديعة، منها كتاب السيوف البتارة اعتمد مؤلفها في إيراد حججها على التواريخ الإفرنجية المعول عليها، فإن الإفرنج أعرف من غيرهم بحقيقة ما يهمهم، وأبعد من مظنة التشيّع في شهادتهم على أنفسهم، في أمر دينهم.
قال رعاه الله: يعلم الواقف على حقائق التاريخ أن مسألة الصلب من أهم المسائل التي ولدت الشقاق والنفرة فيما بين النصارى عموماً ونصارى مصر والشام في الأجيال الأولى خصوصاً، فإنهم كانوا غالباً يرفضون حصول الصلب رفضاً باتاً، لأن بعضهم كان يعتبره إهانة لشرف المسيح، ونقصاً فاضحاً، والبعض الآخر كان يجحده ارتكاناً على الأدلة التاريخية، وهؤلاء الجاحدون للصلب طوائف كثيرة، منها: الساطر نيوسيون والمركيونيون والبارديسيانيون والتاتيانيسيون والكاربو كراتيون والمانيسيون والبارسكاليونيون والبوليسيون، إذ كلهم اعتقدوا، مع كثيرين غيرهم، بأنه لا يمكنهم أن يسلموا بنوع من الأنواع، أن المسيح سمر فعلاً، أو مات على الصليب حقيقة، حتى استَخَفُّوا بالصليب والصلب، وقال بعض المؤرخين الأفاضل: إن الخلاف الذي وقع بين النصارى في مبدأ الأمر الذي كان سبباً في انسلاخ جملة طوائف وتشتتها واعتبارها في رأي آخرين مارقة من الدين، ولكن هذه الطوائف المضطهدة الهضومة كانت أفكارها منطبقة على الأصول النصرانية عقلاً ونقلاً، بخلاف أفكار مضطهديهم، فإن هذه الطوائف بنت على ألوهية عيسى عليه الصلاة والسلام أنهلا يجوز أن يمتهن، واستنتجت من هذا أنه لم يصلب قطعاً، وأن ألفاظ التوجع والتضجر، التي نسبتها إليه كتب النصارى المتأخرين، لم يتفوه بها ولا تصح نسبتها إليه، وبالجملة إن الشخص المصلوب غير عيسى قطعاً، وأنه عليه الصلاة والسلام لم تسلط عليه أيدي مضطهديه، بل رفع إلى السماء، ومن القائلين، بهذه الأفكار الدوسيتية والمرسيونية والفلنطانيائية، وغير خاف أنه حتى على فرض البنوة فقط، لا يمكن عقلاً أن يتصور صلبه. انتهى.
ويؤيد هذا ما قاله الباحث الشهير الموسيو إدوار سيوس، أحد أعضاء الانستيتو دي فرنس في باريس، المشهور بمعارضته المسلمين في كتابه عقيدة المسلمين في بعض المسائل النصرانية صحيفة (49): إن القرآن ينفي قتل عيسى وصلبه، ويقول بأنه ألقي شبهه على غيره فغلط اليهود فيه وظنوا أنهم قتلوه، وإن ما قاله القرآن موجود عند طوائف النصرانية منه الباسيليديون، كانوا يعتقدون، بغاية السخافة، أن عيسى وهو ذاهب لمحل الصلب، ألقي شبهه على سيمون السيرناي تماماً، وألقي شبه سيمون عليه، ثم أخفى نفسه ليضحك استهزاء على مضطهديه الغالطين، ومنهم السيرنتيون، فإنهم قرروا أن أحد الحواريين صلب بدل عيسى، وقد عثر على فصل من كتب الحواريين، وإذا كلامه نفس كلام الباسيليديين، وقد صرح إنجيل القديس برنابا باسم الذي صلب بدل عيسى قال: إنه يهوذا. انتهى.
ولم يردّ المؤرخ، المترجم كلامه، على هذا الإنجيل، إلا بدعوى أنه كلام لا يعول عليه، وهذا الرد من رجل صدر نفسه للرد على المسلمين غير كاف، فيستفاد من جميع ما ذكر أن جماً غفيراً من طوائف النصارى ذوات البال والأهمية، كانت تنبذ عقيدة صلب المسيح نبذاً، وتفندها تفنيداً وما زالوا كذلك حتى جاء الإسلام فدخلوا فيه أفواجاً، لإنكار القرآن، وما أنكروه من الصلب وغيره، وبالجملة إن أغلب الشعوب الشرقية، قبل الفتح الإسلامي، رفضت القتل والصلب، حتى قال ياسيليوس الباسليدي: إن نفس حادثة القيامة، المدعى بها بعد الصلب الموهوم، هي من ضمن البراهين الدالة على عدم حصول الصلب، ومن المعلوم أن نصارى الشام هم الذين وقعت هذه الحادثة بينهم، فهم أقرب الناس إلى العمل بحقيقتها، وكذلك من جاورهم من نصارى المصريين وغيرهم، لحصول الجواز وقرب المسافة، فكيف لا تكون شهادتهم هي عين الصواب؟ وبذلك يتبين أن دعوى صاحب جريدة شهادة الحق الإجماع على الصلب وانفراد القرآن الشريف بنفيه- غير مسلمة، مع وجود هذه الطوائف المنازعة في الصلب، وقد صرح القرآن بأن رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم إنما بعث لتصديق ما بين يديه من الحق وتبيين ما اختلف فيه طوائف النصارى مع اليهود، والنصارى مع بعضهم بعضاً، ولو حكمنا التاريخ لشهد لهؤلاء الناس وبرز أقوالهم، وذلك أن أهل فلسطين كانوا يعبدون الأوثان ويخالفون بني إسرائيل في ديانتهم، فكان من مبادئهم، العاملين عليها في سياستهم العمومية، بذل المجهود وإفراغ الوسع في معاكسة عقائد اليهود، لإدخالهم في الديانة الوثنية وتقويض دعائم الشريعة الموسوية، والضغط على شعائرهم الملية، يشهد لهذا أقوال الكاتب الشهير أرنست رنان العضو في الأكاديمية الفرنساوية المنفرد بالإجادة والشهرة في رسالة نشرت في جريدة العاملين في 15 مارس 1893، معنونة بـ: اليهود تحت حكم الرومان حيث قال: إن كل المناصب ذوات المرتب الباهظ كانت تعطى غنيمة باردة لليهود الذين يطرحون دينهم ظهرياً، ويجعلون شعائرهم الملية شيناً، ويعتنقون ديانة الرومان الوثنية، فكان من ضغط الرومان ومن تزلف اليهود إليهم، ومن أطماعهم إلى الرتب والألقاب، أن ارتد غالب سواد اليهود وعبدوا جوبيتر الألومبي، وكان الواحد منهم يخف الاختتان بعملية شاقة جدًّا- ذكرها سلسل المؤرخ الروماني الشهير- ثم يتزيى بزي الرومان ويسحب ذيوله تيهاً وإعجاباً بنفسه وبعوائد الرومان، وازدراء واحتقاراً لبني جلدته وذوي ملته، فرحاً بلقمة يلتقمها، أو مرتبة يتربع في دستها، وما زالت اليهود تَتَرَوْمَنُ حتى أن الأحبار غادروا الهيكل والمجامع، واشتغلوا بملاعب الرومان الرياضية، وأخيراً آل الأمر، قبل وجود عيسى عليه السلام، إلى إدخال صنمهم الأكبر ووضعه في محل تقريب القربان نفسه، بحيث إن القربانات كانت تعمل أمامه، حتى كادت معالم اليهودية أن تنمحي من صحيفة الوجود، ووقع ذلك سيء الوقع وأثر أردأ تأثير في نفوس البقية القليلة من اليهود التي اعتصمت بدينها. انتهى.
وبهذا يعلم مقدار ضغط الرومان على اليهود لمحو آثار دينهم من الوجود، فليس من المعقول أن الحكومة، وهي ما ترى من الكراهة الدينية لليهود، تجيبهم إلى ما طلبوا من تنفيذ أمر الصلب، أو تعيره أدنى ذرة من الأهمية، خصوصاً والحاكم الروماني على فلسطين في ذلك الوقت، كان يكره اليهود كما يكره أن يلقى في النار، وهم يكرهونه أشد من ذلك، دليلنا على ذلك ما كتبه المسيو رنان المذكور في كتابه المشهور المسمى حياة المسيح حينما تكلم على شكاية اليهود من عيسى بدعوى أنه غيّر التوراة، وكان ذلك على زعمهم ليستوجب قتله، حيث قال: إن حاكم فلسطين المسمى بونسيوس الملقب بيلاطس- أظهر عدم عنايته بمنازعات اليهود الداخلية وشكاويهم وخصوماتهم، بل كان يعتبر أن هذه الأعمال صادرة عن عقول مختلفة وأفكار معتلة، وبالإجمال، كان يكره اليهود وهم يكرهونه أشد من كراهته لهم، لأنهم كانوا يجدونه قاسياً ذا أنفة وكبر، غير مكترث بهم، ولقد رموه وعابوه بجنايات لا يسعها عقل عاقل، والمتمسكون بدينهم منهم رأوا أن غرض بيلاطس هذا، سحق أثر الشريعة الموسوية سحقاً ومحوها محواً، وتعصبهم الأعمى وكراهتهم الدينية له جعلاه يأنف من أفكارهم، فإنه كان يميل كل الميل إلى الأحكام الوضعية الرومانية، التي كانت نهاية فخر كل رومانيّ في ذلك الحين، وكان يرى أفكار اليهود سخيفة تقهقرية، لأنه كلما هي بجلب النافع العام، وسن مشروع يضمن الراحة والرفاهية، قام الأحبار عن آخرهم وعارضوه بتفسير التوراة التي كانت تسد في وجهه أبواب التحسين والتغيير، فلم يعتن بجرح حواسهم ومس شرفهم ومعالمهم الدينية، وعاملهم بالقسوة والكبر وعدم تنفيذ رغباتهم، فانشغب الأمر ودام الفشل، وأخيراً اضطرت الحكومة إلى إقالته من منصبه بسبب قيامة اليهود عليه، ولقد كانت نفس بيلاطس تضيق، وصدره يحرج عند مجيء شكوى ضد عيسى عليه الصلاة والسلام، حيث كان لا يسمح بتنفيذ أمر القتل عليه، وعيسى ضد اليهود، ويعيب التوراة كما يقولون، فكان ذلك عن رغبة الحاكم، وجل ما يتمنى، فكيف يكون هو الآمر والمنفذ لقتله؟ مع أنه كان قادراً على تنفيذ رغباته المضادة لليهود على خط مستقيم، والحقيقة أن بيلاطس كان ميالاً كل الميل لخلاص السيد المسيح من هؤلاء الظلمة، ولعله رأى ما فيه من جميل الشيم والأخلاق الكريمة الطاهرة، فَرَاقه ذلك، زيادة عن كراهته لليهود، فعمل على خلاصه من الصلب، كما يتضح من إنجيل متى 27 و24، ولوقا 23 و12، ويوحنا 13- 23 وفي بعض آيات الإنجيلين أن عيسى سوعد من زوجة بيلاطس الحاكم القائلة- كما هو مذكور في إنجيل متى 27و 19-: إياك وهذا البارّ، لأني تألمت اليوم كثيراً في حلم من أجله، ولعلها رأته فبهرها كماله ووقاره وحشمته وبلوغه الغاية في الأدب والشمائل الطاهرة، والظاهر أنها رأت هذا الشاب البريء المبجل من إحدى نوافذ قضرها المطلة على أفنية هيكل سليمان عليه السلام، فظهر لها بكماله الحقيقي فاستفظعت إهدار دم هذا البريء الوقور، وكيفما كان السبب فالذي لا يشك فيه أحد، أن بيلاطس كان محباً لعيسى عليه السلام حباَ شديداً، ولذلك سأله بكمال اللطف والأدب ليفرغ ما في وسعه لتبرئته. انتهى.
فيؤخذ من كلام رنان أن الحاكم المنوط به الأمر والتنفيذ، كان مضاداً للصلب، فلا غرابة في عدم حصوله للمسيح عليه السلام، وتبديله بآخر، وكراهة هذا الحاكم لليهود مشهورة لا تحتاج لزيادة إيضاح، حتى إن ترتوليانوس، أحد آباء الكنيسة النصرانية، جزم بأن بيلاطس الحاكم كان نصرانياً في الباطن، وفي الجزء الأول من تاريخ الديانة النصرانية لمؤلف ملمن: إن تنفيذ الحكم كان في وقت الغلس وإسدال ثوب الظلام، فيستنتج من ذلك أيضاً إمكان استبدال السيد المسيح بأحد المجرمين الذين كانوا في سجون القدس، منتظرين تنفيذ حكم القتل عليهم، كما اعتقد بعض الطوائف، وصدقهم القرآن، ولقد جرى على هذا الرأي جماعة من المؤرخين المهمين كالمسيو شارل بيكار وأرنست دي بونس وغيرهما، فإن الأول قال: إن مسألة صلب المسيح كلها مبتكرة مخترعة لا غير، لتوافق اعتقادات قديمة، مآلها أن الله لا يسكن غضبه إلا بسفك دم القربان من بني آدم، وكانت اليهود تقدم أولادها قرباناً للذبح استجلاباً لإسكان غضب الخالق وجلب رضاه ويقول: إنهم ربما أكلوا لحوم القربان الآدمي وشربوا دمه، ولما قامت الأنبياء في بني إسرائيل واضطهدت هذه العادة الشنعاء، بدل ذبح الآدمي قرباناً بذبح الحيوان، وأطال المسيو بيكار في شرح ارتباط تضحية سيدنا عيسى عليه الصلاة والسلام مع هذه العوائد القديمة، فأفاد أن نفس الصليب كان مستعملاً رمزاً عن شيء عندهم اسمه اللنجام وهو عبارة عن خشبتين متصلبتين متداخلتين في بعضهما.
وأما المسيو أرنست دي بونس الألماني فإنه قال في كتابه المسمى بـ النصرانية الحقة صحيفة 142 ما معناه: إن جميع ما يختص بمسائل الصلب والفداء، هو من مبتكرات ومخترعات بولس ومن شابهه، من الذين لم يروا المسيح عليه الصلاة والسلام، لا من أصول النصرانية الأصلية.
فوضح وضوح الشمس لذي عينين أن التاريخ، فضلاً عن كونه لم يثبت مسألة الصلب والقتل، يرجح نفي حصوله رجحاناً لا يكاد يفارق اليقين الحقيقي، ومعلوم أن أخذ الأمور التاريخية في هذا الصدد عن طوائف مصر والشام أولى، لأنهم أبناء جلدتها، وأدرى بحوادث بلادهم الحقيقية، فيؤخذ من كل ذلك:
أولاً: أن كافة الظروف التي حصل فيها تنفيذ الحكم كانت مساعدة لتخليص المسيح عليه الصلاة والسلام، وبالأخص اضطهاد الحكومة الرومانية للعقائد الموسوية، وعدم الاعتناء بها لا يسهل تنفيذها.
ثانياً: وقت الغلس الذي حصل فيه ذلك الصلب الموهوم.
وكان يمكننا لدرس هذا الموضوع التكلم على جملة مسائل تفند دعوى الصلب تفنيداً لا مزيد عليه، ومن ضمنها، أن نصارى اليوم تدعي أن سيدنا عيسى عليه الصلاة والسلام حكم عليه من مجمع اليهود بالقتل بسبب تغييره لأحكام التوراة، ومن المعلوم أن الحكم، في ذلك الموضوع، الرجم لا الصلب، فهذا مما يرتكن عليه مثل المرسيو شارل بيكار في ادعائه أن النصارى الحديثين احتاجوا لعلامة الصليب رمزاً لبعض عقائد كانوا يريدون إدخالها في الديانة وهي مسألة الفدا. انتهى كلام صاحب السيوف البتارة.
ولما اطلع عليها ذلك النصراني المذبذب المردود عليه، أعياه الرد من الطريقة التاريخية، فأخذ يرد عليها تشبثاً بأسباب واهية فعدّ، كل من رفض الصلب من نصارى الأيام الأول، هرطوقياً، أي: مارقاً من الدين، ورمى أصحاب التواريخ من أهل أوروبا الذين وافقوا المسلمين في عدم حصول الصلب بأنهم كفرة الإفرنج، ثم تمسك بالأناجيل الأربعة الرسمية وقال: أنه لا يمكنه أن يزيف شيئاً منها ما دامت شاهدة من أولها إلى آخرها بحصول الصلب حقيقة، وأنه يلزم حينئذ تأويل ما جاء في القرآن المجيد حتى يصل للوفاق.
فعاد صاحب السيوف البتارة وألف رسالة ثانية في شهادة علماء الإفرنج بحفظ القرآن وتحريف ما سواه، تكملة للأول، فتوسع جزاه لله خيراً في هذا الموضوع ثم قال في الكلام على الإنجيل ما لفظه: أما الإنجيل فإنه أبعد عن الصحة من التوراة بكثير، إذ لا يفهم أحد للآن كيف تعدد الإنجيل الأصلي إلى نسخ شتى متباينة، ولأي مرجح استحسنت منها النصارى الحاليون أربعة أناجيل، مختلفة كل الاختلاف، متضاربة كل التضارب، ولا يدري لماذا عدلوا عن إنجيل برنابا مثلاً الذي وافق القرآن قبل ظهوره في المسائل التي أبتها الكتب الحالية، فإنا نجد هذا الإنجيل يخبر أن السيد المسيح نبي، عبد، مخلوق، ليس بإله، وأنه لم يصلب، وفيه البشارة بسيدنا محمد صَلّى اللهُ عليّه وسلّم مذكوراً بلفظه كذا، وهاك ما قاله السيد المسيح في الإنجيل المذكور: وإني وإن كنت برياً، لكن بعض الناس لما قالوا في حقي إنه الله وابن الله، كره الله هذا القول واقتضت مشيئه بأن لا تضحك الشياطين يوم القيامة عليّ ولا يستهزؤون، فاستحسن بمقتضى لطفه ورحمته أن يكون الضحك والاستهزاء في الدنيا بسبب موت يهوذا، ويظن كل شخص أني صلبت، لكن هذه الإهانة والاستهزاء تبقيان إلى أن يجيء محمد رسول الله، فإذا جاء في الدنيا ينبه كل مؤمن على هذا الغلط، وترتفع هذه الشبهة من قلوب الناس.
وقد استشهد العلامة سيل الإنكليزي، المشهور في أوروبا بترجمة المصحف الشريف، بهذه الآية الإنجيلية، تفسيراً لقوله تعالى في سورة آل عِمْرَان: {وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الماكِرِينَ} [آل عِمْرَان: 54] وإنجيل برنابا أثبته العلماء قبل الإسلام بنحو ثلاثمائة سنة، حتى أن العالم الإنكليزي تولاند قال: وعلى النصرانية السلام، بمجرد رؤيته هذا الإنجيل، ثم قال: قال العلامة هيردر وجماعة آخرون: إن الإنجيل الأصلي كان واحداً، إلا أنه لم يكتب، بل قال المسيح مشافهة، وروه الحواريون عنه للناس شفاهياً أيضاً، فحفظ الخلق منه بعض أقوال أضافوا إليها ما استحسنوه من السير والقصص، ونقصوا منها ما لم يوافق أذواقهم، وما زالت تنتقل الروايات المختلفة من شخص إلى آخر، ومن زمن إلى غيره حتى تشعبت، وكتب أخيراً منها أناجيل شتى، فاختارت الكنائس منها أربعة جعلتها الرسمية.
ثم قال مؤلف السيوف البتارة: فوضح وضوحاً تاماً لذي بصيرة، أن الحجة على دعوى صلب المسيح قد سقطت سقوطاً لا تقوم بعده أبداً، سواء من جهة التاريخ الصحيح الذي دحضها وخذل مدعيها بأجلى برهان، أو من جهة الأناجيل المعتبرة عندهم، لذهاب أصلها أدراج الرياح، بثبوت التحريف والتغيير لها.
ثم قال: وأما قوله يعني المذبذب: بأن طوائف النصارى الرافضة للصلب هراقطة- فغريب، لأنهم مثله في العقيدة لا يمتازون إلا بإنكارهم الصلب الحقيقي للمسيح، وهل الاقتصار، في الرد من باحث، على قوله كفرة.يعد من باب نقض الدليل بالدليل وتزييف الحجة بالحجة؟ أو من باب المكابرة في المحسوس والانقطاع عن المناظرة للعجز الواضح، وإذا جاز إطلاق كفرة.على هؤلاء وهم أمناء النصرانية واليهودية- جاز أن تصف بهذه الصفة كل يهودي ونصراني، وحينئذ لا يصح احتجاجك بإجماعهم ولا بشيء من آرائهم، وتكون في ردك بكلمة هراقطة، كفرة أشبه لمن اقتصر في مناظرة خصمه على كلمة لا فقط، فهو يكررها ولا يسأم من الرد بها، ثم قال: فقد برح الخفاء وانكشف الغطاء وبان للقراء أن لا إجماع بين النصارى أنفسهم على حصول الصلب منذ تكلم الناس فيه حتى الآن، وتفرقت فيه آراؤهم أيدي سبا، وذهبوا فيه كل مذهب، فلا تكاد تجد قولاً لأحدهم في أي: عصر إلا وهو مضاد لأقوال آخرين منهم على خط مستقيم، حتى لا ترى إلا غوغاء وجلبة المناقضات، فلم يتفقوا على كيفية الصلب ولا على معناه ولا على المراد منه، ولا اجتمع فيه رأيان، كان ذلك من باب التقليد والتسليم، الذي لا يقام عليه دليل أعظم من أن يقال: إن الدين ينبغي أن لا يفهم ولا يدخل معناه السري تحت تصورٍٍ، هذا مع أن الصلب عند النصارى هو قلب دينهم- كما يقولون- وأساس معتقدهم، حتى كأنه بمنزلة التوحيد عند المسلمين، ومع أن نفي الصلب عندنا ليس من الأصول التي انبنى علها ديننا في شيء، بل لا تخرج مسألته عن كونها من قصص الأولين، كالإخبار عن نوح وإبراهيم وموسى، مما سبق لنحو الوعظ والاعتبار- فلم يهجس بخلد مسلم منذ وجد الإسلام إلى يومنا هذا أن عيسى صَلّى اللهُ عليّه وسلّم صلب أو قتل، ولم يخرق إجماع المسلمين على ذلك واحدٌ منهم في كل عصر ومكان، وما ذلك إلا لضبط القرآن الكريم وصيانته، ولو حكّمنا غير متدين في هذه المسالة، ونظر لأهميتها عند النصارى، مع عدم قدرتهم على إثباتها، ولفرعيتها عند المسلمين، مع إجماعهم على نفيها إجماعاً لا مثيل له في العالم- لا نبهر من همة المسلمين في ضبط وحفظ كتابهم، وثباتهم في صغير الأمر وكبيره، وتمنى أن تتدلى الأنجم الزهر ليصوغ منها عقود ثناء ومدح لهم، على عنايتهم بدينهم إلى هذا الحد الذي لا نظير له، ولم يسعه إلا أن يقلب أكف الأسف، ويعض بنان الندم على تزعزع دين غيرهم، لدرجة أن أعظم أصل فيه لا يثبت إلا في مخيلات بعض المقلدين، من غير استناد على دليل نقلي صحيح، أو عقلي مسلم، حتى قام عقلاؤهم نافضين غبار التقليد، ناشدين الحقيقة، فانجلت، لكثير منهم، عن تدمير هذا البناء التقليدي، والرجوع إلى ما ثبت بالدليل في ديانة غيرهم، ومما هو جدير بالتنبه له أن بولس الذي عزا إليه كل محققي التاريخ من الإفرنج وغيرهم، أنه وحده المخترع لمسائل الصلب والفداء، وألوهية عيسى إلى غير ذلك- قد أَبَان أن الصلب والقتل ليسا حقيقيين، كما جاء في رسالته لأهل غلاطية، حيث قال: أنتم الذين رسم يسوع المسيح بينكم مصلوباً، وقال في رسالته لأهل رومية: نحن نقوم بشبه موته، إلى أن قال: فدفنا معه بالمعمودية، لأنه إن كنا قد صرنا متحدين معه بشبه موته، نصيراً أيضاً بارتفاعه، عالمين أن إنساننا العتيق قد صلب معه إلخ، فيستفاد من مجموع أقوال بولس هذه أن المسيح لم يصلب ولم يقتل حقيقة، وإنما ذلك مجاز عن الشبه المقتول المصلوب، كما جاء في إنجيل برنابا، وقد يدعوك حب التمسك بهذه المسألة إلى أن تؤول كلام بولس بما لا يحتمله اللفظ والسياق، وأنت لاهٍٍ عن أنه متى وقع الاحتمال سقط الاستدلال، وإنما أتينا بكلامه تنزلاً معك على التسليم الجدلي بصحة ما روي عنه في رسالته لأهل غلاطية، فنقول: حتى على فرض صحة ما روي عن بولس نفسه، فإنه يشهد لنفي الصلب والقتل، لا لحصولهما حقيقة، هذا ولو قارنت دعوى الصلب والفداء بما جاء في التوراة من قولها الشرير فدية الصديق.لكان معناه، على مقتضى زعمك، أن عيسى شرّ بالإضافة لكل أحد، وهذا لا يجوز لا عقلاً ولا شرعاً، فوجب، أخذاً من عبارة التوراة، أن يكون المصلوب شريراً فداءً لصديق، هو عيسى عليه الصلاة والسلام، كما جاء في إنجيل برنابا انتهى ملخصاً.
ولن يعدم الحق أنصاراً، والباطل خزياً وانكساراً.
فصل:
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رَضِي اللّهُ عَنْهُ في كتابه الفرقان وهو من آخر مصنفاته، صنفه بقلعة دمشق، ما لفظه: فإن قيل فإذا كان في كتب الأناجيل التي عندهم أن المسيح صلب، وأنه بعد الصلب بأيام أتى إليهم، وقال لهم: أنا المسيح، ولا يقولون إن الشيطان تمثل على صورته- فالشيطان ليس هو لحم وعظم، وهذا أثر المسامير، أو نحو هذا الكلام- فأين الإنجيل الذي قال الله عز وجل فيه: {وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإِنجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللّهُ} [المائدة: 47]، وقال قبل هذا: {وَقَفّيْنَا عَلَى آثَارِهِم بِعَيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدّقاً لما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الإِنجِيلَ فِيهِ هُدىً وَنُورٌ وَمُصَدّقاً لما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التّوْرَاةِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةً لّلمتّقِينَ وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإِنجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللّهُ فِيهِ وَمَن لم يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [المائدة: 46- 47]، وقال قبل هذا: {وَكَيْفَ يُحَكّمُونَكَ وَعِندَهُمُ التّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللّهِ ثُمّ يَتَوَلّوْنَ مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُوْلَئِكَ بِالمؤْمِنِينَ إِنّا أَنزَلْنَا التّوْرَاةَ فِيهَا هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النّبِيّونَ الّذِينَ أَسْلمواْ لِلّذِينَ هَادُواْ وَالرّبّانِيّونَ وَالأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُواْ مِن كِتَابِ اللّهِ وَكَانُواْ عَلَيْهِ شُهَدَاء} [المائدة: 43- 44] وقال أيضاً: {وَلَوْ أَنّهُمْ أَقَامُواْ التّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مّن رّبّهِمْ لأكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم} [المائدة: 66]، وقال أيضاً: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍٍ حَتّى تُقِيمُواْ التّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُم مّن رّبّكُمْ وَلَيَزِيدَنّ كَثِيراً مّنْهُم مّا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رّبّكَ طُغْيَاناً وَكُفْراً فَلاَ تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} [ألمائدة: 68]، وهذا أمر للنبي صلى الله عليه وسلم بأن يقول لأهل الكتاب، الذين بعث إليهم، وهو من كان في وقتهم، ومن يأتي من بعدهم إلى يوم القيامة، لم يؤمر أن يقول ذلك لمن قد تاب منهم، وكذلك قوله: {وَكَيْفَ يُحَكّمُونَكَ وَعِندَهُمُ التّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللّهِ} [المائدة: 43]، إخبار عن اليهود الموجودين، وأن عندهم التوارة فيها حكم الله، وكذلك قوله: {وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإِنجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ الله فيه} [المائدة: 47]، هو أمر من الله على لسان محمد لأهل الإنجيل، ومن لا يؤمر على لسان محمد صَلّى اللهُ عليّه وسلّم، قيل قبل هذا: إنه قد قيل ليس في العالم نسخة بنفس ما أنزل الله في التوراة والإنجيل بل ذلك مبدّل، فإن التوراة انقطع تواترها، والإنجيل إنما أخذ عن أربعة، ثم من هؤلاء من زعم أن كثيراً مما في التوراة والإنجيل باطل ليس من كلام الله، ومنهم من قال: بل ذلك قليل، وقيل: لم يحرف أحد شيئاً من حروف الكتب وإنما حرَّفوا معانيها بالتأويل، وهذان القولان، قال كلاً منهما كثير من المسلمين، والصحيح القول الثالث، وهو أن في الأرض نسخاً صحيحة، وبقيت إلى عهد النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم، ونسخاً كثيرة محرّفة، ومن قال: إنه لا يحرف شيء من النسخ فقد قال ما لا يمكنه نفيه.
ومن قال: جميع النسخ بعد النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم حرفت فقد قال ما يعلم أنه خطأ، والقرآن يأمرهم أن يحكموا بما أنزل الله في التوراة والإنجيل ويخبر أن فيهما حكمه، وليس في القرآن خبر أنهم غيّروا جميع النسخ، وإذا كان كذلك فنقول: هو سبحانه قال: {وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإِنجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ الله فيه} [المائدة: 47]، وما أنزله الله هو ما تلقوه عن المسيح، فأما حكايته لحاله بعد أن رفع فهو مثلها في التوراة ذكر وفاة موسى عليه السلام، ومعلوم أن هذا الذي في التوراة والإنجيل، من الخبر عن موسى وعيسى بعد توفيهما، ليس هو مما أنزله الله ومما تلقوه عن موسى وعيسى، بل هو مما كتبوه مع ذلك التعريف بحال توفيهما، وهذا خبر محض من الموجودين بعدهما عن حالهما، ليس هو مما أنزله الله عليهما، ولا هو مما أمرا به في حياتهما، ولا مما أخبرا به الناس وكذلك: {لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍٍ حَتّى تُقِيمُواْ التّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُم مّن رّبّكُمْ} [المائدة: 68]، وقوله: {وَلَوْ أَنّهُمْ أَقَامُواْ التّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مّن رّبّهِمْ لأكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم} [المائدة: 66]، فإن إقامة الكتاب، العمل بما أمر الله به في الكتاب، ومن التصديق بما أخبر به على لسان الرسول.
وما كتبه الذين نسخوه من بعد وفاة الرسول ومقدار عمره ونحو ذلك، ليس هو مما أنزله الله على الرسول، ولا مما أمر به، ولا أخبر به، وقد يقع مثل هذا في الكتب المصنفة، يصنف الشخص كتاباً فيذكر ناسخه، في آخره، عمر المصنف ونسبه وسنه، ونحو ذلك مما ليس هو من كلام المصنف، ولهذا أمر الصحابة والعلماء بتجريد القرآن، وأن لا يكتب في المصحف غير القرآن، فلا يكتب أسماء السور ولا التخميس والتعشير ولا آمين، ولا غير ذلك.
والمصاحف القديمة والتي كتبها أهل العلم، على هذه الصفة، وفي المصاحف من قد كتب ناسخها أسماء السور والتخميس والتعشير والوقف والابتداء، وكتب في آخر المصحف تصديقه، ودعا وكتب اسمه ونحو ذلك، وليس هذا من القرآن، فهكذا ما في الإنجيل من الخبر عن صلب المسيح وتوفيه ومجيئه بعد رفعه إلى الحواريين، ليس هو مما قاله المسيح، وإنما هو مما رآه من بعده، والذي أنزله الله هو ما سمع من المسيح المبلغ عن الله، فإن قيل: فإذا كان الحواريون قد اعتقدوا أن المسيح صلب، وأنه أتاهم بعد أيام، وهم الذين نقلوا عن المسيح الإنجيل والدين، فقد دخلت الشبهة.
قيل: الحواريون وكل من نقل عن الأنبياء، إنما يجب أن يقبل منهم ما نقلوه عن الأنبياء، فإن الحجة في كلام الأنبياء، وما سوى ذلك فموقوف على الحجة، إن كان حقّاً قُبِلَ وإِلاَّ رُدّ، ولهذا كان ما نقله الصحابةُ عن النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم من القرآن والحديث يجب قبوله، لاسيما المتواتر، كالقرآن وكثير من السنن.
وأما ما قالوه، فما أجمعوا عليه فإجماعهم معصوم، وما تنازعوا فيه، رُدَّ إلى الله والرسول، وعُمَرُ قد كانَ أَوَّلاً أنكر موت النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم، حتى ردَّ ذلك عليه أبو بكر، وقد تنازعوا في دفنه حتى فصل أبو بكر بالحديث الذي رواه، وتنازعوا في تجهيز جيش أسامة، وتنازعوا في قتال مانعيّ الزكاة، فلم يكن هذا قادحاً فيما نقلوه عن النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم، والنصارى ليسوا متفقين على صلب المسيح، ولم يشهد أحد منهم صلبه، فإن الذي صُلِبَ إنما صلبه اليهود، ولم يكن أحد من أصحاب المسيح حاضراً، وأولئك اليهود الذين صلبوه، قد اشتبه عليهم المصلوب بالمسيح، وقد قيل إنهم عرفوا أنه ليس هو المسيح، ولكن هم كذبوا وشبهوا على الناس، والأول هو المشهور، وعليه جمهور الناس، وحينئذ فليس عند النصارى خبر عمن يصدقونه بأنه صلب، ولكن عمدتهم على ذلك، الشخص الذي جاء الشيطان بعد أيام وقال، أنا المسيح، وذاك شيطان، وهم يعترفون بأن الشياطين كثيراً ما تجيء ويدّعي كذا إنه نبي أو صالح، ويقول، أنا فلان النبي والصالح، ويكون شيطاناً، وفي ذلك حكايات متعددة مثل حكاية الراهب الذي جاءه جاءٍٍ وقال: أنا المسيح جئت لأهديك، فعرف أنه الشيطان، فقال: أنت قد بلغت الرسالة، ونحن نعمل بها، فإن جئت اليوم بشيء يخالف ذلك لم نقبل منك، فليس عند النصارى واليهود علم بأن المسيح صلب، كما قال تعالى: {وَإِنّ الّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِيهِ لَفِي شَكّ مّنْهُ مَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلم إِلاّ اتّبَاعَ الظّنّ} [النساء: 157]، وأضاف الخبر عن قتله، إلى اليهود بقوله: {وَقَوْلِهِمْ إِنّا قَتَلْنَا المسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللّهِ} [النساء: 157]، فإنهم بهذا الكلام يستحقون العقوبة، إذ كانوا يعتقدون جواز قتل المسيح.
ومن جوز قتله فهو كمن قتله، فهم في هذا القول كاذبون، وهم آثمون، وإذا قالوه فخراً لم يحصل لهم الفخر، لأنهم لم يقتلوه، وحصل الوزر لاستحلالهم ذلك وسعيهم فيه، وقد قال النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم: «إذا التقى الْمُسْلِمَانِ بِسَيْفَيْهِمَا فَالْقَاتِلُ وَالْمَقْتُولُ فِي النَّارِ»، قالوا: يا رسول الله! فما بال المقتول؟ قال: «إِنَّهُ كان حريصاً عَلى قَتْلَ صَاحِبِهِ».
وقوله: {وَإِنّ الّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِيهِ لَفِي شَكّ مّنْهُ}: قيل هم اليهود والنصارى والآية تعم الطائفتين.
وقوله: {لَفِي شَكّ مّنْهُ} من قتله، وقيل: منه، أي: في شك منه، هل صلب أم لا؟ كما اختلفوا فيه، فقالت اليهود: هو ساحر، وقالت النصارى: إنه إله، فاليهود والنصارى اختلفوا هل صلب أم لا؟ وهم في شك من ذلك ما لهم به من علم، فإذا كان هذا في الصلب فكيف في الذي جاء بعد الرفع وقال إنه هو المسيح؟
فإن قيل: كان الحواريون الذين أدركوه قد حصل هذا في إيمانهم، فأين المؤمنون به الذي قال فيهم: {وَجَاعِلُ الّذِينَ اتّبَعُوكَ فَوْقَ الّذِينَ كَفَرُواْ} [آل عِمْرَان: 55]، وقوله: {فَأَيّدْنَا الّذِينَ آَمَنُوا عَلَى عَدُوّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ} [الصف: 14]، قيل: ظنٌّ من ظن منهم أنه صلب لا يقدح في إيمانه، إذا كان لم يحرف ما جاء به المسيح، بل هو مقر بأنه عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه- فاعتقاده بعد هذا أنه صلب لا يقدح في إيمانه، فإن هذا اعتقاد موته على وجه معين، وغاية الصلب أن يكون قتلاً له، وقتل النبي لا يقدح في نبوته، وقد قتل بنو إسرائيل كثيراً من الأنبياء، قال تعالى: {وَكَأَيّن مّن نّبِيّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبّيّونَ كَثِيرٌ} [آل عِمْرَان: 146] الآية، وقال تعالى: {وَمَا مُحَمّدٌ إِلاّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرّسُلُ أَفَإِن مّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ} [آل عِمْرَان: 143]، وكذلك اعتقاد من اعتقد منهم أنه جاء بعد الرفع وكلمهم، هو مثل اعتقاد كثير من مشايخ المسلمين أن النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم جاءهم في اليقظة، فإنهم لا يكفرون بذلك، بل هذا كان يعتقده من هو أكثر الناس اتباعاً للسنة وأتباعاً لها، وكان في الزهد والعبادة أعظم من غيره، وكان يأتيه من يظن أنه رسول الله فهذا غلط منه لا يوجب كفره، فكذلك ظنُّ من ظن من الحواريين أن ذلك هو المسيح، لا يوجب خروجهم عن الإيمان بالمسيح، ولا يقدح فيما نقلوه عنه، وعُمَرُ- لما كان يعتقد أن النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم لم يمت، ولكن ذهب إلى ربه كما ذهب موسى، وأنه لا يموت حتى يموت أصحابه- لم يكن هذا قادحاً في إيمانه، وإنما كان غلطاً ورجع عنه، وقوله تعالى: {مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلم} هو ذم لهم على اتباع الظن بلا علم. انتهى كلام ابن تيمية رضي الله عنه.
ولإمام الأدباء شرف الدين البوصيري رحمه الله، قصيدة في هذا المقام، نظمها في سلك ما تقدم تكملة للمرام، قال قدس سره:
جاء المسيح من الإله رسولاً ** فأبى أقل العالمين عقولا

قوم رأوا بشراً كريماً فادعوا ** من جهلهم لله فيه حلولا

وعصابة ما صدقته وَأكثرت ** بالإفك والبهتان، فيه القيلا

لم يأت فيه مُفْرِط ومُفَرِّط ** بالحق تجريحاً ولا تعديلا

فكأنما جاء المسيح إليهم ** ليكذبوا التوراة والإنجيلا

فاعجب لأمته التي قد صيرت ** تنزيهها لإلهها التنكيلا

وإذا أراد الله فتنة معشر ** وأضلهم، رَأوُا القبيح جميلا

هم بجّلوه بباطل فابتزّه ** أعداؤه بالباطل التبجيلا

وتقطعوا أمر العقائد بينهم ** زمراً، ألَمْ تَرَ عقدها محلولا

هو آدم في الفضل إلا أنه ** لم يُعْطَ حال النفخة التكميلا

أسمعتموا أن الإله لحاجة ** يتناول المشروب والمأكولا؟

وينام من تعب ويدعو ربه ** ويروم من حر الهجير مقيلا

ويمسُّه الألم الذي لم يستطع ** صرفاً له عنه ولا تحويلا

يا ليت شعري، حين مات بزعمهم ** من كان بالتدبير عنه كفيلا؟

هل كان هذا الكون دبر نفسه ** من بعده أم آثر التعطيلا؟

زعموا الإله فدى العبيد بنفسه ** وأراه كان القاتل المقتولا

أجْزُوا اليهود بصلبه خيراً، ولا ** تجزوا يهوذا الآخذ البرطيلا

أيكون قوم في الجحيم ويصطفى ** منهم كليماً ربُّنا، وخليلا

وإذا فرضتم أن عيسى ربكم ** أفلم يكن لفدائكم مبذولاً؟

وأجل روحاً قامت الموتى به ** عن أن يرى بيد اليهود قتيلا

فدعوا حديث الصلب عنه ودونكم ** من كتبكم ما وافق التنزيلا

شهد الزبور بحفظه ونجاته ** أفتجعلون دليله مدخولاً؟

أيكون من حفظ الإله مضيعاً ** أو من أشيد بنصره مخذولاً؟

أيجوز قول منزه لإلهه ** سبحان قاتل نفسه مقتولا؟

أو جلّ من جعل اليهودُ بزعمكم ** شوك القتاد لرأسه إكليلا

ومضى لحبل صليبه مستسلماً ** للموت مكتوف اليدين ذليلا

كم ذا أبكتكم ولم تستنكفوا ** أن تسمعوا التبكيت والتخجيلا

ضل النصارى في المسيح وأقسموا ** لا يهتدون إلى الرشاد سبيلاً

وهي سابغة الذيل، كلها من هذا النفس البديع.
واعلم أنه تعالى لما ذكر فضائح اليهود وقبائح أفعالهم، وشرح أنهم قصدوا قتل عيسى عليه السلام، وبيّن أنه ما حصل لهم ذلك المقصود، وأنه حصل لعيسى أعظم المناصب وأجلُّ المراتب- بيّن تعالى تحقيق ما أثبته في الآية السابقة، من القطع بكذبهم، مثبتاً أنهم في مبالغتهم في عداوته، سيكونون من أتباعه المصدقين بجميع أمره، الذي منه التصديق بمحمد صَلّى اللهُ عليّه وسلّم، مؤكداً له أشد تأكيد لما عندهم من الإنكار له، بقوله: