فصل: تفسير الآية رقم (169):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: محاسن التأويل



.تفسير الآية رقم (169):

القول في تأويل قوله تعالى: {إِلاّ طَرِيقَ جَهَنّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللّهِ يَسِيراً} [169].
{إِلاّ طَرِيقَ جَهَنّمَ} أي: المؤدي إليها وهو اكتسابهم الأعمال السيئة.
{خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللّهِ يَسِيراً} أي: هيناً لا يعسر عليه ولا يستعظمه، ولما قرر أمر النبوة، وبين الطريق الموصل إلى العلم بها، ووعيد من أنكرها، خاطب الناس عامة بالدعوة وإلزام الحجة والوعيد على الرد، فقال تعالى:

.تفسير الآية رقم (170):

القول في تأويل قوله تعالى: {يَا أَيّهَا النّاسُ قَدْ جَاءكُمُ الرّسُولُ بِالْحَقّ مِن رّبّكُمْ فَآمِنُواْ خَيْراً لّكُمْ وَإِن تَكْفُرُواْ فَإِنّ لِلّهِ مَا فِي السّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَكَانَ اللّهُ عَلِيماً حَكِيماً} [170].
{يَا أَيّهَا النّاسُ قَدْ جَاءكُمُ الرّسُولُ بِالْحَقّ مِن رّبّكُمْ} أي: بالهدى ودين الحق والبيان الشافي الذي يجب قبوله.
{فَآمِنُواْ خَيْراً لّكُمْ} أي: إيماناً خيراً لكم، أو ائتوا أمراً خيراً لكم من تقليد المعاندين.
{وَإِن تَكْفُرُواْ فَإِنّ لِلّهِ مَا فِي السّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ}: أي: فهو قادر على تعذيبكم لعظم ملكوته، أو فهو غني عنكم لا يتضرر بكفركم كما لا ينتفع بإيمانكم، كما قال تعالى: {إِن تَكْفُرُواْ أَنتُمْ وَمَن فِي الأَرْضِ جَميعاً فَإِنّ اللّهَ لَغَنِيّ حَميدٌ} [إبراهيم: 8].
{وَكَانَ اللّهُ عَلِيماً حَكِيماً} في صنعه، ولما أجاب تعالى عن شبهات اليهود وألزمهم الحجة، جرد الخطاب للنصارى، زجراً لهم عما هم عليه من الكفر والضلال، فقال سبحانه:

.تفسير الآية رقم (171):

القول في تأويل قوله تعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ إِلاّ الْحَقّ إِنّمَا المسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللّهِ وَكَلمتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مّنْهُ فَآمِنُواْ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ وَلاَ تَقُولُواْ ثَلاَثَةٌ انتَهُواْ خَيْراً لّكُمْ إِنّمَا اللّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَن يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لّهُ مَا فِي السّمَاوَات وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَفَى بِاللّهِ وَكِيلاً} [171].
{يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ} أي: بالإفراط في رفع شأن عيسى عليه السلام وادعاء ألوهيته، فإنه تجاوزٌ فوق المنزلة التي أُوتِيَهَا، وهي الرسالة، واستفيد حرمة الغلو في الدين وهو مجاوزة الحد.
وفي الصحيح عن عُمَرَ رَضِي اللّهُ عَنْهُ عن رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم قال: «لاَ تُطْرُونِي كَمَا أَطْرَتِ النَّصَارَى ابْنَ مَرْيَمَ، فَإِنَّمَا أَنَا عَبْدُهُ، فَقُولُوا: عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ».
وقال الإمام أحمد: حدثنا حسن بن موسى، حدثنا حماد بن لمة، عن ثابت البُناني، عن أنس بن مالك أن رجلاً قال: يَا مُحَمَّدُ! يَا سَيِّدَنَا وَابْنَ سَيِّدِنَا! وَخَيْرَنَا وَابْنَ خَيْرِنَا!.
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَيُّهَا النَّاسُ! عَلَيْكُمْ بِتَقْوَاكُمْ وَلاَ يَسْتَهْوِيَنَّكمُ الشَّيْطَانُ، أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ، وَاللَّهِ مَا أُحِبُّ أَنْ تَرْفَعُونِي فَوْقَ مَنْزِلَتِي الَّتِي أَنْزَلَنِي اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ»، قال ابن كثير: تفرد به من هذا الوجه.
{وَلاَ تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ إِلاّ الْحَقّ} أي: لا تصفوه بما يستحيل اتصافه به من الحلول والاتحاد واتخاذ الصاحبة والولد، بل نزهوه عن جميع ذلك.
{إِنّمَا المسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ} صفة له مفيدة لبطلان ما وصفوه به من كونه ابناً لله تعالى.
{رَسُولُ اللّهِ} خبر المبتدأ أعني المسيح، أي: مقصود على مقام الرسالة لا يتخطاه.
{وَكَلمتُهُ} أي: مكون بكلمته وأمره الذي هو كن من غير واسطة أب ولا نطفة.
{أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ} أي: أوصلها إليها وحصلها فيها بنفخ جبريل عليه السلام.
{وَرُوحٌ مّنْهُ} أي: بتخليقه وتكوينه كسائر الأرواح المخلوقة، وإنما أضافَهُ إلى نفسه على سبيل التشريف والتكريم كما يقال: بيت الله، وناقة الله.
وقيل: الروح هو نفخ جبريل عليه السلام في جيب درع مريم، فحملت بإذن الله، سمى النفخ روحاً لأنه ريح تخرج من الروح، وإنما أضافه إلى نفسه لأنه وجد بأمره تعالى وإذنه.
قال أبو السعود: من لابتداء الغاية مجازاً، لا تبعيضية، كما زعمت النصارى، يحكى أن طبيباً نصرانياً للرشيد، ناظَرَ عليّ بن حسين الواقديّ المروزيّ ذات يوم، فقال له: إن في كتابكم ما يدل على أن عيسى عليه السلام جزء منه تعالى، وتلا هذه الآية، فقرأ الواقدي: {وَسَخّرَ لَكُم مّا فِي السّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَميعاً مّنْهُ} [الجاثية: 13]، فقال: إذن يلزم أن يكون جميع تلك الأشياء جزءاً منه، تعالى علواً كبيراً، فانقطع النصراني واسلم، وفرح الرشيد فرحاً شديداً، ووصل الواقدي بصلة فاخرة.
وقيل: سمي روحاً، لإحياءه الموتى بإذن الله، وقيل: لإحيائه القلوب، كما سمى به القرآن لذلك، في قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مّنْ أَمْرِنَا} [الشورى: 52].
وقيل: أريد بالروح الوحي الذي أوحي إلى مريم بالبشارة.
وقيل: جرت العادة بأنهم إذا أرادوا وصف شيء بغاية الطهارة والنظافة، قالوا: إنه روح، فلما كان عيسى عليه السلام متكوناً من النفخ، لا من النطفة، وصف بالروح، وتقديم كونه عليه السلام رسول الله في الذكر، مع تأخره عن كونه كلمته تعالى وروحاً منه، في الوجود- لتحقيق الحق من أول الأمر بما هو نص فيه غير محتمل للتأويل، وتعيين مآل ما يحتمله، وسدّ باب التأويل الزائغ. انتهى.
{فَآمِنُواْ بِاللّهِ} وخصوه بالألوهية: {وَرُسُلِهِ} أي: جميعهم وصفوهم بالرسالة ولا تخرجوا بعضهم عن سلكهم بوصفه بالألوهية.
{وَلاَ تَقُولُواْ ثَلاَثَةٌ} أي: الآلهة ثلاثة: الله، والمسيح، ومريم، كما ينبئ عنه قوله تعالى: {أَأَنتَ قُلتَ لِلنّاسِ اتّخِذُونِي وَأُمي إِلَهَيْنِ مِن دُونِ اللّهِ} [المائدة: 116].
وقد ذكر السيد عبد الله الهندي في مناظرته مع قسيس الهند حكاية عن مناظره، أنه حكى أن فرقة من النصارى تسمى كولى ري دينس كانت تقول: الآلهة ثلاثة: الأب والابن ومريم، قال: ولعل هذا الأمر كان مكتوباً في نسخهم، لأن القرآن كذبهم. انتهى.
أو التقدير: ولا تقولوا: الله ثلاثة، أي: ثلاثة أقانيم، وفي تعاليمهم المدرسية المطبوعة الآن ما نصه: أخص أسرار المسيحية سر الثالوث، وهو إله واحد في ثلاثة أقانيم: الأب والابن وروح القدس.
والأب هو الله، والابن هو الله، وروح القدس هو الله، وليسوا ثلاثة آلهة، بل إله واحد موجود في ثلاثة أقانيم متساوين في الجوهر ومتميزين فيما بينهم بالأقنومية، وذلك لأن لهم جوهراً واحداً ولاهوتاً واحداً، وذاتاً واحدةً، وليس أحد هذه الأقانيم الثلاثة أعظم أو أقدم أو أقدر من الآخرين، لكون الثلاثة متساوية في العظمة والأزلية والقدرة وفي كل شيء، ما عدا الأقنومية، ولا نقدر أن نفهم جيداً هذه الحقائق لأنها أسرار فائقة العقل والإدراك البشري. انتهى كلامهم في تعليمهم المدرسيّ المطبوع في بيروت سنة (1876) مسيحية.
فانظر إلى هذا التناقض والتمويه، يعترفون بأن الثلاثة آلهة، ثم يناقضون قولهم وينكرون ذلك.
ونقل العلامة الشيخ رحمة الله الهندي في كتابه إظهار الحق عن صاحب ميزان الحق النصراني أنه قال: نحن لا نقول: إن الله ثلاثة أشخاص أو شخص واحد، بل نقول بثلاثة أقانيم في الوحدة، وبين الأقانيم الثلاثة وثلاثة أشخاص بُعد السماء والأرض. انتهى.
قال رحمة الله: وهذه مغالطة صرفة، لأن الموجود لا يمكن أن يوجد بدون التشخص، فإذا فرض أن الأقانيم موجودون وممتازون بالامتياز الحقيقي، كما صرح هو بنفسه في كتبه، فالقول بوجود الأقانيم الثلاثة هو بعينه القول بوجود الأشخاص الثلاثة، على أنه وقع في الصحيفة التاسعة والعشرين من كتاب الصلاة، الرائج في كنيسة انكلترة، المطبوع سنة (1818) ما ترجمته: أيها الثلاثة المقدسون والمباركون والعالون منزلةً، الذين هم واحد.
يعني ثلاثة أشخاص وإلهاً واحداً، فوقع فيه ثلاثة أشخاص صريحاً، وكذلك مملوءة بعبارات مصرحة بأن عيسى ابن الله، وأنه الله، وأن مريم أم لله وزوجه الله، ويسجدون لها ولصورتها السجود المحرَّم في كتبهم لغير الله، كما يسجدون لله، نسأله سبحانه وتعالى الحفظ، ونعوذ به من الخذلان وتسويلات الشيطان.
ولقد شفى الغليل الأستاذ الجليل الشيخ رحمة الله في إظهار الحق فساق، في الباب الرابع منه، إبطال التثليث بالبراهين الدامغة والحجج البالغة، كما رد عليهم من المسلمين وممن أسلم منهم عدد وافر يفوت الحصر، وقد انتشر، والله الحمد، في ذلك مؤلفات نافعة، بل رد عليهم فرق كثيرة منهم.
فقد جاء في كتاب الرأي الصواب وفصل الخطاب للقس جبارة ما صورته: إن المسيحيين الموحدين الذين ظهروا منذ (80) سنة في أميركا ولهم الآن ثلاثمائة كنيسة والدرجة الأولى في المعارف والمدارس والاجتماعات الأدبية، وكذلك لهم في انكلترا ثلاثمائة كنيسة وتآليف عديدة معتبرة، ويعتبرون القرآن كما يعتبرون الإنجيل والتوراة كتباً إلهية- لا يؤمنون بتثليث الآلهة، أي: أنهم لا يعتقدون بكون السيد المسيح أو الروح القدس هو إله حقيقي، كالله الواجب الوجود، بل يعتقدون أن الله وحده هو الإله الحق. انتهى.
وفيه أيضاً ما لفظه: كل الكتب المنزلة تعلم بالوحدانية وتنفي تثليث الآلهة، أو كون الله ثلاثة، وتعلن صريحاً بأوضح العبارة، أن الله واحد أحد، وأنه لا إله حقاً سواه. انتهى.
وفي كتاب سوسنة سليمان ذكر فرق منهم متعددة صارت إلى إنكار ألوهية المسيح والروح القدس، وهذا الكتاب ساق من فرقهم العتيقة والحديثة واختلافهم ما يقضي بالعجب، مما يؤيد ما قاله الحافظ ابن كثير، من أن لهم آراء مختلفة وأقوالاً غير مؤتلفة، ولقد أحسن بعض المتكلمين حيث قال: لو اجتمع عشرة من النصارى لافترقوا عن أحد عشر قولاً. انتهى.
قال شيخ الإسلام تقي الدين ابن تيمية في الرسالة القبرصية: فتفرق النصارى في التثليث والاتحاد تفرقاً وتشتتوا تشتيتاً لا يقر به عاقل، ولم يجيء نقل، إلا كلمات متشابهات في الإنجيل وما قبله من الكتب، قد بينتها كلمات محكمات في الإنجيل وما قبل، كلها تنطلق بعبودية المسيح وعبادته لله وحده، ودعائه وتضرعه، ولما كان أصل الدين هو الإيمان بالله ورسله، كان أمر الدين توحيد الله والإقرار برسله، فأرباب التثليث في الوحدانية، والاتحاد في الرسالة، قد دخل في أصل دينهم من الفساد ما هو بيّن بفطرة الله التي فطر الناس عليها، وبكتب الله التي أنزلها. انتهى.
وقد اجتمع لديّ، بحمده تعالى، حين كتابة هذه السطور عشرون مؤلفاً في الرد عليهم، وكلها، ولله الحمد، مطبوعة منتشرة، فلا حاجة للإطالة بالنقل عنها، لسهولة الوقوف عليها.
قال الماردوي في أعلام النبوة: فأما النصارى فقد كانوا، قبل أن تنصر قسطنطين الملك، على دين صحيح في توحيد الله تعالى ونبوة عيسى عليه السلام، ثم اختلفوا في عيسى بعد تنصر قسطنطين، وهو أول من تنصر من ملوك الروم، أي: لأن الروم كانت صابئة، ثم قهرهم على التنصر قسطنطين لما ملكهم.
فقال أوائل النسطورية: إن عيسى هو الله.
وقال أوائل اليعاقبة: إنه ابن الله.
وقال أوائل الملكانية: إن الآلهة ثلاثة: أحدهم عيسى.
ثم عدل أواخرهم عن التصريح بهذا القول المستنكر، حين استنكرته النفوس، ودفعته العقول، فقالوا: إن الله تعالى جوهر واحد، هو ثلاثة أقانيم: أقنوم الأب، وأقنوم الابن، وأقنوم روح القدس، وأنها واحدة في الجوهرية، وأن أقنوم الأب هو الذات، وأقنوم الابن هو الكلمة، وأقنوم روح القدس هو الحياة، واختلفوا في الأقانيم، فقال بعضهم: هي خواص، وقال بعضهم: هي أشخاص، وقال بعضهم: هي صفات، وقالوا: إن الكلمة اتحدت بعيسى، واختلفوا في الاتحاد.
ثم قال: وليس لهذه المذاهب شبهة تقبلها العقول، وفسادها ظاهر في المعقول.
وقوله تعالى: {انتَهُواْ} أي: عن التثليث: {خَيْراً لّكُمْ} أي: انتهاء خيراً، أو اقصدوا خيراً من التثليث وهو التوحيد.
{إِنّمَا اللّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ} أي: بالذات، لا تعدد فيه بوجه ما.
وبقوله: {سُبْحَانَهُ أَن يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ} تنزيه لمقامه جل شأنه، عما زعموه من نبوة عيسى، حيث قالوا: إنه الله وابن الله، والذي أوقعهم في هذه المهلكة الوخيمة، والورطة الجسيمة، ما ورد موهماً من ألفاظ الإنجيل كالأب والابن، فلم يحملوها على ما أريد منها، وحملوها على ظاهرها، فضلُّوا وأضلُّوا.
وفي منية الأذكياء ما نصه: وأما ما ورد في الإنجيل الموجود الآن، من إطلاق ابن الله على عيسى عليه السلام، فهو- إن لم يكن مما حرف، يكون مجازاً، بمعنى ابن المحبة، كما يقال: فلان من أبناء الدنيا، ونظير ذلك قول عيسى عليه السلام لليهود، حين ادعوا أن لهم أباً واحداً هو الله: لو كان الله أباكم لكنتم تحبونني. ثم قال لهم: أنتم من أب هو إبليس، وشهوات أبيكم تريدون أن تعلموا ادعت اليهود أن الله تعالى أبوهم، أي: أنهم مطيعون له إطاعة الابن للأب، فكذبهم عيسى عليه السلام وجعلهم أبناء الشيطان، أي: أنهم مطيعون له، ولا يخفي أن الابن والأب هنا مجازان.
وقد كثر إطلاق اسم الأب على الله تعالى، واسم الابن على العبد الصالح في الكتب السالفة، فهو إما من الخبط في الترجمة، وإما مؤول بما ذكرنا، فلا تغفل، لكن قد منع من هذا الإطلاق في الملة المحمدية بالكلية، تحرزاً من الإيهام والوقوع في شرك الأوهام، وهذا هو الطريق الرشد.
وقوله تعالى: {لّهُ مَا فِي السّمَاوَات وَمَا فِي الأَرْضِ} تعالى للتنزهه مما نسب إليه، بمعنى أن كل ما فيهما خلقه وملكه، فكيف يكون بعض ملكه جزءاً منه؟ إذ البنوة والملك لا يجتمعان.
{وَكَفَى بِاللّهِ وَكِيلاً} أي: إليه يكل كل الخلق أمورهم، وهو غنيّ عنهم، فأَنَّى يتصور في حقه اتخاذ الولد، الذي هو شأن العجزة المحتاجين في تدبير أمورهم إلى من يخلفهم ويقوم مقامهم، وقوله تعالى:

.تفسير الآية رقم (172):

القول في تأويل قوله تعالى: {لّن يَسْتَنكِفَ المسِيحُ أَن يَكُونَ عَبْداً لّلّهِ وَلاَ الملائكَةُ المقَرّبُونَ وَمَن يَسْتَنكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيهِ جَميعاً} [172].
{لّن يَسْتَنكِفَ المسِيحُ أَن يَكُونَ عَبْداً لّلّهِ} جملة مستأنفة لتقرير ما سبق من التنزيه، أي: لن يأنف من أن يكون عبداً لله، فإن عبوديته شرف يتباهى به.
{وَلاَ الملائكَةُ المقَرّبُونَ} من أن يكونوا عبيداً له تعالى، واحتج بالآية من زعم فضل الملائكة على الأنبياء.
قال الزمخشري: أي: ولا من هو أعلى منه قدراً وأعظم منه خطراً، وهم الملائكة الكروبيون، الذين حول العرش، كجبريل وميكائيل وإسرافيل، ومَن في طبقتهم.
ثم قال: فإن قلت: من أين دل قوله: {وَلاَ الملائكَةُ المقَرّبُونَ} على أن المعنى: ولا من فوقه؟
قلت: من حيث إن علم المعاني لا يقتضي غير ذلك، وذلك أن الكلام إنما سيق لرد مذهب النصارى وغلوهم في رفع المسيح عن منزلة العبودية، فوجب أن يقال لهم: لن يترفع عيسى عن العبودية، ولا من هو أرفع منه درجة، كأنه قيل: لن يستنكف الملائكة المقربون من العبودية، فكيف بالمسيح؟ ويدل عليه دلالة ظاهرة بينة، تخصيص المقربين، لكونهم أرفع الملائكة درجة وأعلاهم منزلة، ومثاله قول القائل:
وما مثله ممن يُجَاِوِدُ حَاتِمٌ ** ولا البحر ذو الأمواج يَلْتَجُّ زَاخِرُهْ

لا شبهة في أنه قصد بالبحر ذي الأمواج، ما هو فوق حاتم في الجود، ومن كان له ذوق فليذق، مع هذه الآية قوله: {وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النّصَارَى} [البقرة: 120]، حتى يعترف بالفرق البين. انتهى.
قال البيضاوي: وجوابه أن الآية: للرد على عَبْدة المسيح والملائكة، فلا يتجه ذلك، وإن سلم اختصاصها بالنصارى فلعله أراد بالعطف المبالغة باعتبار التكثير دون التكبير، كقولك: أصبح الأمير لا يخالفه رئيس ولا مرؤوس، وإن أراد به التكبير فغايته تفضيل المقربين من الملائكة، وهم الكروبيون الذين هم حول العرش، أو من أعلى منهم رتبة من الملائكة، على المسيح من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وذلك لا يستلزم فضل أحد الجنسين على الآخر مطلقاً والنزاع فيه. انتهى.
قال ناصر الدين في الانتصاف: وقد كثر الاختلاف في تفضيل الأنبياء على الملائكة، فذهب جمهور الأشعرية إلى تفضيل الأنبياء، وذهب القاضي أبو بكر، منّا، والحليمي وجماعة المعتزلة إلى تفضيل الملائكة، واتخذ المعتزلة هذه الآية عمدتهم في تفضيل الملائكة، من حيث الوجه الذي استدل به الزمخشريّ، ونحن بعون الله نشبع القول في المسألة من حيث الآية، فنقول: أورد الأشعرية على الاستدلال بها أسئلة:
أحدها: أن سيدنا محمداً عليه أفضل الصلاة والسلام أفضل من عيسى عليه الصلاة والسلام، فلا يلزم من كون الملائكة أفضل من المسيح، أن تكون أفضل من محمد عليه الصلاة والسلام، وهذا السؤال إنما يتوجه إذ لم يدّع مورده أن كل واحد من آحاد الأنبياء، أفضل من كل واحد من آحاد الملائكة، وبين طائفتنا في هذه الطرف خلاف السؤال الثاني أن قوله: {وَلاَ الملائكَةُ المقَرّبُونَ} صيغة جمع، تتناول مجموع الملائكة، فهذا يقتضي كونه مجموع الملائكة أفضل من المسيح.
ولا يلزم أن يكون كل واحد منهم أفضل من المسيح، وفي هذا السؤال أيضاً نظر، لأن مورده إذا بنى على أن المسيح أفضل من كل واحد من آحاد الملائكة، فقد يقال يلزمه القول بأنه أفضل من الكل، كما أن النبيّ عليه الصلاة والسلام، لما كان أفضل من كل واحد من آحاد الأنبياء، كان أفضل من كلهم، ولم يفرق بين التفضيل على التفضيل، والتفضيل على الجملة أحدٌ ممن صنف في هذا المعنى.
وقد كان بعض المعاصرين يفصل بين التفضيلين، وادعى أنه لا يلزم منه، على التفصيل، تفضيل على الجملة، ولم يثبت عنه هذا القول، ولو قاله أحد فهو مردود بوجه لطيف، وهو: أن التفضيل المراد، جل أماراته رفع درجة الأفضل في الجنة، والأحاديث متوافرة بذلك، وحينئذ لا يخلوا إما أن ترفع درجة واحد من المفضولين على من اتفق على أنه أفضل من كل واحد منهم، أو لا ترفع درجة أحد منهم عليه، لا سبيل إلى الأول، لأنه يلزم منه رفع المفضول على الأفضل، فتعين الثاني وهو ارتفاع درجة الأفضل على درجات المجموع، ضرورة، فيلزم ثبوت أفضليته على المجموع من ثبوت أفضليته على كل واحد منهم، قطعاً، الثالث: أنه عطف الملائكة على المسيح بالواو، وهي لا تقتضي ترتيباً، وأما الاستشهاد بالمثال المذكور على أن الثاني أبداً يكون أعلى رتبة، فمعارض بأمثلة لا تقتضي ذلك، كقول القائل: ما عابني على هذا الأمر زيد ولا عَمْرو، قلت: وكقولك لا تؤذ مسلماً ولا ذمياً، فإن هذا الترتيب وجه الكلام، والثاني أدنى وأخفض درجة، ولو ذهبت تعكس هذا، فقلت لا تؤذ ذمياً ولا مسلماً، ليجعل الأعلى ثانياً، لخرجت عن حد الكلام وقانون البلاغة، وهذا المثال بين ما يورد في نقض القانون المقرر، ولكن الحق أولى من المراء، وليس بين المثالين تعارض، ونحن نمهد تمهيداً يرفع اللبس ويكشف الغطاء، فنقول: النكتة في الترتيب في المثالين الموهوم تعارضهما واحدة، وهي توجب في مواضع تقديم الأعلى، وفي مواضع تأخيره، وتلك النكتة مقتضى البلاغة التنائي عن التكرار والسلامة عن النزول، فإذا اعتمدت ذلك فمهما أدى إلى أن يكون آخر كلامك نزولاً بالنسبة إلى أوله، أو يكون الآخر مندرجاً في الأول، قد أفاده، وأنت مستغن عن الآخر فأعدل عن ذلك إلى ما يكون ترقياً من الأدنى إلى الأعلى، واستئنافاً لفائدة لم يشتمل عليها الأول، مثاله الآية المذكورة، فإنك لو ذهبت فيها إلى أن يكون المسيح أفضل من الملائكة وأعلى رتبة، لكان ذكر الملائكة بعده كالمستغنى عنه، لأنه إذا كان الأفضل وهو المسيح، على هذا التقدير، عبداً لله غير مستنكف من العبودية- لزم من ذلك أن من دونه في الفضيلة أولى أن لا يستنكف عن كونه عبداً لله، وهم الملائكة على هذا التقدير، فلم يتجدد إذاً بقوله: {وَلاَ الملائكَةُ المقَرّبُونَ} إلا ما سلف أول الكلام، وإذا قدرت المسيح مفضولاً بالنسبة إلى الملائكة، فإنك ترقيت من تعظيم الله تعالى بأن المفضول لا يستنكف عن كونه عبداً له، إلا أن الأفضل لا يستنكف عن ذلك، وليس يلزم من عدم استنكاف المفضول عدم استنكاف الأفضل، فالحاجة داعية إلى ذكر الملائكة، إذ لم يستلزم الأول الآخر، فصار الكلام على هذا التقدير تتجدد فوائده وتتزايد، وما كان كذلك تعين أن يحمل عليه الكتاب العزيز، لأن الغاية في البلاغة، وبهذه النكتة يجب أن نقول: لا تؤذ مسلماً ولا ذمياً، فتؤخر الأدنى على عكس الترتيب في الآية، لأنك إذا نهيته عن إيذاء المسلم، فقد يقال ذاك من خواصه احتراماً للإسلام، فلا يلزم من ذلك نهيه عن الكافر المسلوبة عنه هذه الخصوصية، فإذا قلت: ولا ذميّاً- فقد جددت فائدة لم تكن في الأول، وترقيت من النهي عن بعض أنواع الأذى، إلى النهي عن أكثر منه، ولو رتبت هذا المثال كترتيب الآية، فقلت: لا تؤذ ذمياً، فهم المنهي أن أذى المسلم أدخل في النهي، إذ يساوي الذمي في سبب الاحترام وهو الْإِنْسَاْنية مثلاً، ويمتاز عنه بسبب أجل وأعظم وهو الإسلام، فيقنعه هذا النهي عن تجديد نهي آخر عن أذى المسلم.
فإن قلت: ولا مسلماً، لم تجدد له فائدة، ولم تعلمه غير ما علمه أولاً، فقد علمت أنها نكتة واحدة، توجب أحياناً تقديم الأعلى، وأحياناً تأخيره، ولا يميز لك ذلك إلا السياق، وما أشك أن سياق الآية يقتضي تقديم الأدنى وتأخير الأعلى، ومن البلاغة المرتبة على هذه النكتة قوله تعالى: {فَلاَ تَقُل لّهُمَا أفّ} [الإسراء: 23]، استغناء عن نهيه عن ضربهما فما فوقه، بتقدير الأدنى، ولم يلق ببلاغة الكتاب العزيز أن تريد نهياً عن أعلى من التأفيف والإنهار كذا، لأنه مستغني عنه، وما يحتاج المتدبر لآيات القرآن مع التأييد شاهداً سواها، {مّا فَرّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍٍ} [الأنعام: 38] ولما اقتضى الإنصاف تسليم مقتضى الآية لتفضيل الملائكة، وكانت الأدلة على تفضيل الأنبياء عتيدة عند المعتقد لذلك، جمع بين الآية وتلك الأدلة بحمل التفضيل في الآية على غير محل الخلاف، وذاك أن تفضيل الملائكة في القوة وشدة البطش وسعة التمكن والاقتدار، قال: وهذا النوع من الفضيلة هو المناسب لسياق الآية، لأن المقصود الرد على النصارى في اعتقادهم ألوهية عيسى عليه السلام، مستندين إلى كونه أحيا الموتى وأبرأ الأكمه والأبرص، وصدرت على يديه الخوارق، لا يستنكف عن عبادة الله، بل من هو أكثر خوارق وأظهر آثاراً، كالملائكة المقربين الذين من جملتهم جبريل عليه السلام، وقد بلغ من قوته وإقدار الله له أن اقتلع المدائن واحتملها على ريشة من جناحه، فقلب عاليها سافلها، فيكون تفضيل الملائكة، إذاً، بهذا الاعتبار، لا خلاف أنهم أقوى وأبطش وأن خوارقهم أكثر، وإنما الخلاف في التفضيل باعتبار مزيد الثواب والكرامات ورفع الدرجات في دار الجزاء، وليس في الآية عليه دليل، ولما كان أكثر ما لبس على النصارى في ألوهية عيسى كونه مخلوقاً، أي: موجوداً من غير أب، أنبأنا الله تعالى أن هذا الموجود من غير أب، لا يستنكف من عبادة الله، بل ولا الملائكة المخلوقون من غير أب ولا أم، فيكون تأخير ذكرهم لأن خلقهم أغرب من خلق عيسى، ويشهد لذلك أن الله تعالى نظر عيسى بآدم عليهما السلام، فنظر الغريب بالأغرب، وشبه العجيب من قدرته بالأعجب، إذ عيسى مخلوق من أم، وآدم من غير أم ولا أب، ولذلك قال: {خَلَقَهُ مِن تُرَابٍٍ ثِمّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ} [آل عِمْرَان: 59]، ومدار هذا البحث على النكتة التي نبهت عليها، فمتى استقام اشتمال المذكور أياماً على فائدة، لم يشتمل عليها الأول بأي طريق كان، من تفضيل أو غيره، من الفوائد- فقد استدّ النظر وطابق صيغة الآية والله أعلم، وعلى الجملة فالمسألة سمعية، والقطع فيها معروف بالنصر الذي لا يحتمل تأويلاً، ووجوده عسر، صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين. انتهى.
{وَمَن يَسْتَنكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ} أي: يأنف منها ويمتنع.
{وَيَسْتَكْبِرْ} أي: يتعظم عنها ويترفع.
{فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيهِ جَميعاً} أي: فيجمعهم يوم القيامة لموعدهم الذي وعدهم، ويفصل بينهم بحكمه العدل.