فصل: تفسير الآية رقم (64):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: محاسن التأويل



.تفسير الآية رقم (64):

القول في تأويل قوله تعالى: {ثُمَّ تَوَلَّيْتُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ فَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنتُم مِّنَ الْخَاسِرِينَ} [64].
{ثُمَّ تَوَلَّيْتُم} أي: أعرضتم عن الوفاء بالميثاق: {مِّن بَعْدِ ذَلِكَ} أي: من بعد أخذ ذلك الميثاق المؤكد: {فَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ} أي: لكم بتوفيقكم للتوبة، أو تأخير العذاب {لَكُنتُم مِّنَ الْخَاسِرِينَ} أي: الهالكين بالعقوبة.
قال الراغب: الخاسر المطلق، في القرآن، هو الذي خسر أعظم ما يقتني، وذلك نعيم الأبد، وهو المذكور في قوله: {قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [الزمر: 15].
وقال القفال: قد يعلم في الجملة أنهم بعد قبول التوراة ورفع الطور، تولوا عن التوراة بأمور كثيرة، فحرفوا كلمها عن مواضعه، وتركوا العلم بها، وقتلوا الأنبياء، وكفروا بهم، وعصوا أمرهم. ومنها ما عمله أوائلهم، ومنها ما فعله متأخروهم، ولم يزالوا في التيه مع مشاهدتهم الأعاجيب ليلاً ونهاراً يخالفون موسى ويعترضون عليه، ويلقونه بكل أذى ويجاهرون بالمعاصي في معسكرهم ذلك. حتى لقد خسف ببعضهم، وأحرقت النار بعضهم وعوقبوا بالطاعون. وكل هذا مذكور في تراجم التوراة التي يقرون بها، ثم فعل متأخروهم ما لا خفاء به. حتى عوقبوا بتخريب بيت المقدس، وكفروا بالمسيح، وهموا بقتله.
والقرآن، وإن لم يكن فيه بيان ما تولوا به عن التوراة، فالجملة معروفة، وذلك إخبار من الله تعالى عن عناد أسلافهم. فغير عجيب إنكارهم ما جاء به محمد عليه الصلاة والسلام من الكتاب، وجحودهم لحقه. وحالهم في كتابهم ونبيهم ما ذكر. والله أعلم.
ثم ذكرّهم تعالى بالإيقاع بمن نقض ميثاقه وفيما أخذه عليهم من تعظيم السبت بقوله:

.تفسير الآية رقم (65):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَواْ مِنكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ} [65].
{وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَواْ} أي: تعمدوا العدوان: {مِنكُمْ فِي السَّبْتِ} بأن استحلوه وتحيّلوا على اصطياد الحيتان فيه. وذلك أن الله ابتلاهم، فما كان يبقى حوت في البحر إلا أخرج خرطومه يوم السبت، فإذا مضى تفرقت كما قال: {تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ} [الأعراف: 163]، فحفروا حياضاً عند البحر، وشرعوا إليها الجداول، فكانت الحيتان تدخلها فيصطادونها يوم الأحد. فذلك الحبس في الحياض هو اعتداؤهم. فتسبب عن اعتدائهم المذكور ما ذكره تعالى بقوله: {فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ} أي: صاغرين مطرودين مبعدين من الخير، أذلاء. وقد روي عن الضحاك وقتادة: أنهم مسخوا قردة، لها أذناب تعاوى، بعد ما كانوا رجالاً ونساء. وأما مجاهد فقال: مسخت قلوبهم ولم يمسخوا قردة. وإنما هو مثل ضربه الله لهم كمثل الحمار يحمل أسفاراً. رواه ابن جرير. وهكذا قال القاشانيّ: {كُونُواْ قِرَدَةً} أي: مشابهين الناس في الصورة وليسوا بهم. ثم قال: والمسخ بالحقيقة حق غير منكر في الدنيا والآخرة. وردت به الآيات والأحاديث. وفي أثر: عدّ المسوخ ثلاثة عشر، وبيان أعمالهم ومعاصيهم وموجبات مسخهم. والحاصل أن من غلب عليه وصف من أوصاف الحيوانات، ورسخ فيه بحيث زال استعداده، وتمكن في طبعه، وصار صورة ذاتية له، صار طبعه طبع ذلك الحيوان. ونفسه نفسه، فصارت صفته صورته. وهذه القصة مبسوطة في سورة الأعراف حيث يقول تعالى: {وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} [الأعراف: 163].

.تفسير الآية رقم (66):

القول في تأويل قوله تعالى: {فَجَعَلْنَاهَا نَكَالاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ} [66].
{فَجَعَلْنَاهَا} أي: المسخة والعقوبة: {نَكَالاً} عبرة تنكل المعتبر بها، أي: تمنعه وتردعه. ومنه النكل للقيد: {لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهَا} من المعاصي من أهل عالمها الشاهدين لها: {وَمَا خَلْفَهَا} ممن جاء بعدهم، أو لأهل تلك القرية وما حواليها، أو لما بحضرتها من القرى وما تباعد عنها: {وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ} من قومهم، أو لكل متق سمعها. وأشعر هذا أن التقوى عصمة من كل محذور، وأن النقم تقع في غيرهم، وعظاً لهم.
تنبيه:
أفادت هذه الآية التنويه بشأن يوم السبت عند الإسرائيليين؛ إذ مستحلوه منهم مسخوا قردة. وفي ترجمة التوراة ما نصه: وكلم الرب موسى قائلاً: كلم بني إسرائيل، تحفظون السبت لأنه مقدس لكم، من دنّسه يقتل، ومن صنع فيه عملاً يقطع من بين شعبه. في ستة أيام تصنع الأعمال، وأما اليوم السابع ففيه سبت راحة، وليحفظ بنو إسرائيل السبت، وليتخذوه عيداً بأجيالهم. لأن الرب خلق السماء والأرض في ستة أيام، وفرغ يوم السابع. وفيها أيضاً ما نصه: في ستة أيام تعمل عملك، وأما اليوم السابع ففيه تستريح، لكي يستريح ثورك وحمارك ويتنفس ابن أمتك والغريب. انتهى.
وقد حرم على اليهود فيه أن يُعدّوا طعامهم. بل حرم عليهم أن يوقدوا ناراً. وفي سفر نحميا في الفصل الثالث عشر ما نصه: وفي تلك الأيام رأيت في يهوذا قوماً يدوسون في المعاصر في السبت، ويأتون بأكداسها يحملونها على الحمير، وبخمر أيضاً، وعنب وتين، وكل حمل مما كانوا يأتون به إلى أورشليم في يوم السبت. فأشهدت عليهم يوم بيعهم الطعام. وكان الصوريون المقيمون بها يأتون بالسمك. وكل نوع من المبيعات، ويبيعون في يوم السبت لبني يهوذا، وفي أورشليم. فخاصمت عظماء يهوذا، وقلت لهم: ما هذا الشرّ الذي تفعلونه وتدنّسون يوم السبت؟ ألم تفعل آباؤكم هكذا؟ فجلب إلهنا كل هذا الشر علينا وعلى هذه المدينة، وأنتم تزيدون الغضب على بني إسرائيل بتدنيسكم السبت، إلى آخره.
ولما بيّن تعالى قساوتهم في حقوقه العلية، أتبعه ببيان قساوتهم في مصالح أنفسهم توبيخاً لأخلاقهم. مع الإشارة إلى نعمته عليهم في خرق العادة في شأن البقرة، وبيان من هو القاتل بسببها، وإحياء الله تعالى المقتول، ونصه على من قتله منهم، فقال:

.تفسير الآية رقم (67):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُواْ بَقَرَةً قَالُواْ أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً قَالَ أَعُوذُ بِاللّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [67].
{وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ} بني إسرائيل: {إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُواْ بَقَرَةً} وذلك أنه وجد قتيل فيهم، وكانوا يطالبون بدمه، فأمرهم الله بذبح بقرة وأن يضربوه ببعضها ليحيى ويخبر بقاتله: {قَالُواْ} استئناف وقع جواباً عما ينساق إليه الكلام، كأنه قيل: فماذا صنعوا؟ هل سارعوا إلى الامتثال أو لا. فقيل: {قَالُواْ أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً} بضم الزاي وقلب الهمزة واواً، وقرئ بالهمزة مع الضم والسكون. أي: أتجعلنا مكان هُزُوٍ، أو أهل هُزُوٍ، أو مهزواً بنا، أو نفس الهزو، للمبالغة. وأشعر جوابهم ما ثبت من فظاظتهم؛ إذ فيه سوء الأدب على من ثبتت رسالته وقد علموها.
{قَالَ} استئناف كما سبق: {أَعُوذُ بِاللّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} لأن الهزؤ في أثناء تبليغ أمر الله، سبحانه، جهل وسفه. نفى عنه، عليه السلام، ما توهموه من قبله على أبلغ وجه، وآكده، بإخراجه مخرج ما لا مكروه وراءه بالاستعاذة منه، استفظاعاً له، واستعظاماً لما أقدموا عليه من العظيمة التي شافهوه، عليه السلام، بها. والعوذ: اللجأُ من متخوف لكافٍ يكفيه. والجهل: التقدم في الأمور بغير علم.

.تفسير الآية رقم (68):

القول في تأويل قوله تعالى: {قَالُواْ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لّنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لاَّ فَارِضٌ وَلاَ بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ فَافْعَلُواْ مَا تُؤْمَرونَ} [68].
{قَالُواْ} تمادياً في الغلظة: {ادْعُ لَنَا} أي: لأجلنا: {رَبَّكَ يُبَيِّن لّنَا مَا هِيَ} ما حالها، وصفتها؟!. وذلك أنهم تعجبوا من بقرة ميتة يضرب ببعضها ميت فيحيى. فسألوا عن صفة تلك البقرة العجيبة الشأن. الخارجة عما عليه البقر، و{مَا} وإن شاعت في طلب مفهوم الحقيقة، لكنها قد يطلب بها الصفة والحال. تقول: ما زيد؟ فيقال: طبيب أو عالم {قَالَ} أي: موسى عليه السلام، بعد ما دعا ربه عز وجل بالبيان، وأتاه الوحي {إِنَّهُ} تعالى: {يَقُولُ إِنَّهَا} أي: البقرة المأمور بذبحها: {بَقَرَةٌ لاَّ فَارِضٌ} أي: لا مسنّة. وقد فرضت فروضاً، فهي فارض، أي: أسنّت. من الفرض بمعنى القطع. كأنها قطعت سنّها وبلغت آخرها {وَلاَ بِكْرٌ} أي: لا فتية صغيرة لم يلقحها الفحل {عَوَانٌ} أي: نصف: {بَيْنَ ذَلِكَ} أي: سنّي الفارض والبكر: {فَافْعَلُواْ مَا تُؤْمَرونَ} هذا أمر من جهة موسى عليه السلام متفرع على ما قبله من بيان صفة المأمور به. وفيه حث على الامتثال، وزجر عن المراجعة. ومع ذلك لم يفعلوا، بل سألوا بيان اللون بعد بيان السنّ بأن:

.تفسير الآية رقم (69):

القول في تأويل قوله تعالى: {قَالُواْ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاء فَاقِعٌ لَّوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ} [69].
{قَالُواْ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاء فَاقِعٌ لَّوْنُهَا}
شديد الصفرة، يقال في التوكيد: أصفر فاقع ووارس، كما يقال: أسود حالك وأبيض يقق، وأحمر قانئ، وأخضر ناضر ومدهامّ. وفي إسناد الفقوع إلى اللون مع كونه من أحوال الملّون لملابسته به ما لا يخفى من فضل تأكيد، كأنه قيل: صفراء شديدة الصفرة صفرتها كما في: جدّ جدّه {تَسُرُّ النَّاظِرِين} أي: تبهج نفوسهم. روى ابن جرير بإسناد صحيح عن ابن عباس قال: لو أخذوا أدنى بقرة لاكتفوا بها، ولكنهم شددوا فشدد عليهم. وقد رواه غير واحد عن ابن عباس، ورفعه ابن جريج والله أعلم.

.تفسير الآية رقم (70):

القول في تأويل قوله تعالى: {قَالُواْ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا هِيَ إِنَّ البَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّآ إِن شَاء اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ} [70].
{قَالُواْ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا هِيَ} زيادة استكشاف عن حالها لتمتاز عما يشاركها في التعوين والصفرة. ولذلك علّلوا تكرير سؤالهم بقولهم: {إِنَّ البَقَرَ} الموصوف بما تقدم: {تَشَابَهَ عَلَيْنَا} لكثرته، أي: اشتبه علينا أيّها نذبح.
قال البقاعي: وذكر الفعل، لأن كل جمع حروفه أقل من حروف واحده، فإن العرب تذكره. نُقل عن سيبويه {وَإِنَّا إِن شَاء اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ} إلى البقرة المراد ذبحها.

.تفسير الآية رقم (71):

القول في تأويل قوله تعالى: {قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لاَّ ذَلُولٌ تُثِيرُ الأَرْضَ وَلاَ تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لاَّ شِيَةَ فِيهَا قَالُواْ الآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُواْ يَفْعَلُونَ} [71].
{قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لاَّ ذَلُولٌ تُثِيرُ الأَرْضَ وَلاَ تَسْقِي الْحَرْثَ}. أي: لم تذلل لإثارة الأرض وسقي الحرث. و{لاذلول} صفة لبقرة. بمعنى غير ذلول. و{لا} الأولى للنفي، والثانية مزيدة لتوكيد الأولى. لأن المعنى: لا ذلول تثير وتسقي، على أن الفعلين صفتان لذلول، كأنه قيل: لا ذلول مثيرة وساقية، والمقصود: إنها مكرمة ليست مذللة بالحراثة، ولا معدة للسقي في السانية {مُسَلَّمَةٌ}، سلمها الله من العيوب، أو معفاة من العلم، سلمها أهلها منه، أومخلصة اللون لم يشب صفرتها شيء من الألوان. من: سلم له كذا، إذا خلص له: {لاَشِيَةَ فِيهَا}، أي: لا لون فيها يخالف لون جلدها من بياض وسواد وحمرة، فهي صفراء كلها، وهي في الأصل مصدر: وشاه وشيا وشية، إذا خلط بلونه لوناً آخر. في الصحاح: الشية: كل لون يخالف معظم لون الفرس وغيره. والهاء عوض من الواو الذاهبة من أوله. والجمع: شيات. يقال: ثور أشيه، كما يقال: فرس أبلق.
{قَالُواْ الآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ} أي: بحقيقة وصف البقرة بحيث ميزتها عن جميع ما عداها، ولم يبق لنا في شأنها اشتباه أصلاً. بخلاف المرتين الأوليين، فإن ما جئت به فيهما لم يكن في التعيين بهذه المرتبة: {فَذَبَحُوهَا}، الفاء فصيحة، كما في: {فَانْفَجَرَتْ}، أي: فحصلوا البقرة فذبحوها: {وَمَا كَادُواْ يَفْعَلُونَ} كاد من أفعال المقاربة، وضع لدنوّ الخبر من الحصول، والجملة حال من ضمير ذبحوا، أي: فذبحوها والحال أنهم كانوا قبل ذلك بمعزل منه. اعتراض تذييليّ. ومآله استثقال استقصائهم واستبطاء لهم، وأنهم لفرط تطويلهم وكثرة مراجعاتهم ما كاد ينتهي خيط إسهابهم فيها.
تنبيه:
قال الراغب: قال بعض الناس: في هذه الآية دلالة على نسخ الشيء قبل فعله. فإن في الأول أمروا بذبح بقرة غير معينة، وكان لهم أن يذبحوا أي: بقرة شاؤوا. وفي الثاني والثالث أمروا بذبح بقرة مخصوصة. فكأنهم نهوا عما كانوا أمروا به من قبل. وليس كذلك، فإن الأول أمر مطلق، والثاني والثالث كالبيان له، لمّا راجعوا، ولم يسقط عنهم ذبح البقرة. بل زيد في أوصافها، وكشف عن المراد بالأمر الأول. وفي الآية دلالة على جواز تأخير البيان إلى وقت الحاجة.

.تفسير الآية رقم (72):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللّهُ مُخْرِجٌ مَّا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ} [72].
{وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا} أي: اختلفتم واختصمتم في شأنها؛ إذ كل واحد من الخصماء يدافع الآخر: {وَاللّهُ مُخْرِجٌ مَّا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ} مظهر، لا محالة ما كتمتم من أمر القتيل، لا يتركه مكتوماً.

.تفسير الآية رقم (73):

القول في تأويل قوله تعالى: {فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [73].
{فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ} أي: المقتول: {بِبَعْضِهَا} أي: البقرة. يعني فضربوه فحيى وأخبر بقاتله. كما دل عليه قوله: {كَذَلِكَ} أي: مثل هذا الإحياء العظيم على هذه الهيئة الغريبة: {يُحْيِي اللّهُ الْمَوْتَى} يوم القيامة: {وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ} أي: دلائله الدالة على أنه تعالى على كل شيء قدير.
ويجوز أن يراد بالآيات هذا الإحياء. والتعبير عنه بالجمع لاشتماله على أمور بديعة من ترتب الحياة على عضو ميت. وإخباره بقاتله، وما يلابسه من الأمور الخارقة للعادة: {لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} لتكونوا برؤية تلك الآيات على رجاء من أن يحصل لكم عقل، فيرشدكم إلى اعتقاد البعث وغيره، مما تخبر به الرسل عن الله تعالى.
قال الراغب: وقوله: {كَذَلِكَ يُحْيِي اللّهُ الْمَوْتَى} قيل هو حكاية عن قول موسى عليه السلام لقومه، وقيل بل هو خطاب من الله تعالى لهذه الأمة، تنبيهاً على الاعتبار بإحيائه الموتى.
تنبيهات:
الأول: قال الزمخشري: فإن قلت: فما للقصة لم تقص على ترتيبها، وكان حقها أن يقدم ذكر القتيل والضرب ببعض البقرة على الأمر بذبحها؟ فيقال: وإذ قتلتم نفساً فادارأتم فيها، فقلنا اذبحوا بقرة واضربوه ببعضها؟
أجيب: بأن كل ما قص من قصص بني إسرائيل، إنما قص تعديداً لما وجد منهم من الجنايات، وتقريعاً لهم عليها، ولما جدد فيهم من الآيات العظام. وهاتان قصتان كل واحدة منهما مستقلة بنوع من التقريع وإن كانتا متصلتين متحدتين. فالأولى لتقريعهم على الاستهزاء، وترك المسارعة إلى الامتثال وما يتبع ذلك. والثانية للتقريع على قتل النفس المحرمة، وما يتبعه من الآية العظيمة. وإنما قدمت قصة الأمر بذبح البقرة على ذكر القتيل، لأنه لو عمل على عكسه لكانت قصة واحدة، ولذهب الغرض في تثنية التقريع. ولقد روعيت نكتة، بعد ما استؤنفت الثانية، استئناف قصة برأسها أن وصلت بالأولى دلالة على اتحادهما بضمير البقرة لا باسمها الصريح في قوله: {اضْرِبُوْهُ بِبَعْضِهَا}، حتى تبين أنهما قصتان فيما يرجع إلى التقريع، وتثنيته بإخراج الثانية مخرج الاستئناف مع تأخيرها، وأنها قصة واحدة بالضمير الراجع إلى البقرة.
وقال الحراليّ: قدم نبأ قول موسى عليه السلام على ذكر ندائهم في القتيل، ابتداء بأشرف القصدين من معنى التشريع الذي هو القائم على أفعال الاعتداء وأقوال الخصومة. والله أعلم.
التنبيه الثاني: قال الراغب: قد استبعد بعض الناس ذلك وما حكاه الله منه، وأنكر حصول ذلك الفعل على الحقيقة. وقال: ذلك ممتنع من حيث الطبيعة، وأيضاً فإن ذلك لا يعرف فيه حكمة إلهية. فأما استبعاده ذلك من حيث الطبيعة فإنما هو استبعاد للإحياء والنشور، ولذلك موضع لا يختص بالتفسير. ومن كان ذلك طريقته فلا خوض معه في تفسير القرآن. وأما الحكمة فيه فظاهرة إذ هو من المعجزات المحسوسة الباهرة للعقول. وأما تخصيص البقرة، فإن كثيراً من حكمة الله تعالى لا يمكن للبشر الوقوف عليه. ولو لم يكن في تخصيص بقرة على وصف مخصوص إلاّ توافر المأمورين بذلك على طلبها، واستيجاب الثواب في بذل ثمنها، وجلب نفع توفر إلى صاحبها لكان في ذلك حكمة عظيمة.
وفي الآية تنبيه على أن الجماعة التي حكمهم واحد يجوز أن ينسب الفعل إليهم، وإن كان واقعاً من بعضهم، ولا يكون ذلك كذباً، كأن الجملة المركبة من شخص واحد يصح أن ينسب إليها ما وقع من عضو منها.
وقد ذكر أكثر المفسرين قصة البقرة وصاحبها بروايات مختلفة لم نورد شيئاً منها لأنه لم يرو بسند صحيح إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، ولا يتعلق به كبير فائدة، كما أن البعض من البقرة لم يجئ من طريق صحيح عن معصوم بيانُه. فنحن نبهمه كما أبهمه الله تعالى؛ إذ ليس في تعيينه لنا فائدة دينية ولا دنيوية، وإن كان معيناً في نفس الأمر، وأيّاً كان فالمعجزة حاصلة به.