فصل: تفسير الآية رقم (6):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: محاسن التأويل



.تفسير الآية رقم (6):

القول في تأويل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [6].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} لما كان من جملة الإيفاء بالعقود التي افتتحت به هذه السورة إقامة الصلاة، وكانت مشروطة بالطهارة، بيّن سبحانه في هذه الآية كيفيّتها.
قال بعض المفسرين: نزلت في عبد الرحمن وكان جريحاً: وقيل لما احتبس صلى الله عليه وسلم في سفرٍ ليلاً- بسبب عقدٍ ضاع لعائشة، وأصبحوا على غير ماء. انتهى.
والثاني رواه البخاري- كما في أسباب النزول للسيوطي- وقد قدمنا الكلام على ذلك في سورة النساء في آية التيمم ثمة. فانظره.
ولهذه الآية ثمرات هي أحكام شرعية.
الأولى: وجوب الوضوء وقت القيام إلى الصلاة أي: إرادته. فقوله تعالى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ}. كقوله: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّه} [النحل: 98]. وكقولك: إذا ضربت غلامك فهوّن عليه: في أن المراد إرادة الفعل. قال الزمخشري: فإن قلت: لم جاز أن يعبر عن إرادة الفعل بالفعل؟
قلت: لأن الفعل يوجد بقدرة الفاعل عليه وإرادته له، وهو قصده إليه وميله وخلوص داعيه. فكما عبر عن القدرة على الفعل بالفعل في قولهم: الإنسان لا يطير، والأعمى لا يبصر، أي: لا يقدران على الطيران والإبصار. ومنه قوله تعالى: {نُّعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ} يعني إنا كنا قادرين على الإعادة- كذلك عبر عن إرادة الفعل بالفعل، وذلك لأن الفعل مسبب عن القدرة والإرادة. فأقيم المسبب مقام السبب للملابسة بينهما. ولإيجاز الكلام ونحوه، من إقامة المسبب مقام السبب، قولهم: كما تدين تدان. عَبّر عن الفعل المبتدأ- الذي هو سبب الجزاء- بلفظ الجزاء الذي هو مسبب عنه.
الثانية: ظاهر الآية وجوب الوضوء على كل قائمٍ إلى الصلاة وإن لم يكن محدثاً. نظراً إلى عموم: {الَّذِينَ آمَنُوا} من غير اختصاص بالمحدثين. والجمهور على خلافه لما روى الإمام أحمد ومسلم وأهل السنن عن بريدة قال: «كان النبي صلى الله عليه وسلم يتوضأ عند كل صلاة. فلما كان يوم الفتح توضأ ومسح على خفيه وصلى الصلوات بوضوء واحد، فقال: له عمر: يا رسول الله! إنك فعلت شيئاً لم تكن تفعله. قال: إني عمداً فعلته يا عمر». وروى البخاري عن سويد بن النعمان قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، عام خيبر. حتى إذا كنا بالصهباء صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم العصر. فلما صلى دعا بالأطعمة. فلم يؤت إلاّ بالسويق. فأكلنا وشربنا. ثم قام النبي صلى الله عليه وسلم إلى المغرب. فمضمض ثم صلى بنا المغرب ولم يتوضأ. وروى الإمام أحمد وأبو داود عن عبيد الله بن عبد الله بن عُمَر، وقد سئل عن وضوء أبيه عبد الله، لكل صلاة، طاهراً أو غير طاهر، عمن هو؟ قال: حدثته أسماء بنت زيد بن الخطاب؟ إنّ عبد الله بن حنظلة بن الغسيل حدثها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أُمِر بالوضوء لكل صلاة، طاهراً أو غير طاهر. فلما شقّ ذلك عليه أُمِر يالسواك عند كل صلاة، ووضع عنه الوضوء إلاّ من حدث. فكان عبد الله يرى أنه به قوة على ذلك. كان يفعله حتى مات. قال ابن كثير: وفي فعل ابن عمر هذا، ومداومته على إسباغ الوضوء لكل صلاة، دلالة على استحباب ذلك. كما هو مذهب الجمهور. وقد روى ابن جرير عن ابن سيرين، أن الخلفاء كانوا يتوضؤون لكل صلاة. وعن عِكْرِمَة: أن علياً- رضي الله عنه- كان يتوضأ عند كل صلاة، ويقرأ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ} الآية، وعن النزال بن سَبْرة قال: رأيت علياً صلى الظهر. ثم قعد للناس في الرحبة. ثم أتى بماء فغسل وجهه ويديه. ثم مسح برأسه ورجليه وقال: هذا وضوء من لم يحدث، وفي رواية: أنه توضأ وضوءاً فيه تجوّز فقال: هذا وضوء من لم يحدث، وكذا حكى أنس عن عمر أنه فعله، والطرق كلّها جيدة. وأما ما رواه أبو داود الطيالسي عن سعيد بن المسيب أنه قال: الوضوء من غير حدث اعتداء- فهو غريب عنه. ثم هو محمول على من اعتقد وجوبه، وأما مشروعيته استحباباً فقد دلت السنة على ذلك. روى الإمام أحمد عن أنس قال: كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يتوضأ عند كل صلاة. قيل له: فأنتم كيف تصنعون؟ قال: كنا نصلي الصلوات كلها بوضوء واحد ما لم نحدث! ورواه البخاري وأهل السنن أيضاً.
وروى أبو داود والترمذي وابن ماجة وابن جرير عن ابن عمر مرفوعاً: من توضأ على طهر كتب له عشر حسنات. وضعفه الترمذي.
وإذا دلت هذه الأحاديث على أن الوضوء لا يجب إلاّ على المحدث، فالوجه في الخروج من ظاهر الآية، أن الخطاب فيه خاص بالمحدثين.
وفي العناية: الإجماع صرفها عن ظاهرها. فأما أن تكون مقيدة- أي وأنتم محدثون- بقرينة دلالة الحال، ولأنه اشترط الحدث في البدل وهو التيمم- فلو لم يكن له مدخل في الوضوء، مع المدخلية في التيمم، لم يكن البدل بدلاً. وقوله: {فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء} صريح في البدلية. وقيل: في الكلام شرط مقدر. أي: إذا قُمْتم إلى الصَّلاَةِ. إن كنتم محدثين. وإن كنتم جنباً فاطهروا. وهو قريب جدًّا. انتهى.
وزعم بعضهم، أن الوجوب على كل قائم للصلاة كان في أول الأمر ثم نسخ. واستدلّ على ذلك بحديث عبد الله بن حنظلة المتقدم. ونظر فيه بحديث: المائدة من آخر القرآن نزولاً وأجيب بأن الحافظ العراقي قال: لم أجده مرفوعاً. هذا، وقال الزمخشري: لا يجوز أن يكون الأمر في الآية شاملاً للمحدثين وغيرهم- لهؤلاء على وجه الإيجاب، ولهؤلاء على وجه الندب- لأن تناول الكلمة لمعنيين مختلفين من باب الإلغاز والتعمية. وفي الإنصاف: من جوز أن يراد بالمشترك كلّ واحدٍ من معانيه على الجمع، أجاز ذلك في الآية. ومن المجوزين لذلك الشافعي- رحمه الله تعالى- وناهيك بإمام الفن وقدوته. وإذا وقع البناء على انتهى صيغة أفعل مشتركة بين الوجوب والندب، صح تناولها في الآية الفريقين المحدثين والمتطهرين. وتناولها للمتطهرين من حيث الندب، والله أعلم.
الثالثة: قال الحافظ ابن حجر في الفتح: تمسك بهذه الآية مَنْ قال: إنّ الوضوء أول ما فرض بالمدينة، فأمّا ما قبل ذلك، فنقل ابن عبد البرّ اتفاق أهل السير على أن غسل غسل الجنابة إنما فرض على النبي صلى الله عليه وسلم وهو بمكة، كما فرضت الصلاة. وأنه لم يصلّ قط إلا بوضوء قال: وهذا مما لا يجله عالم.
وقال الحاكم في المستدرك: وأهل السنة بهم حاجة إلى دليل الردّ على من زعم أن الوضوء لم يكن قبل نزول آية المائدة. ثم ساق حديث ابن عباس: دخلت فاطمة على النبيّ صلى الله عليه وسلم وهي تبكي، فقالت: هؤلاء الملأ من قريش قد تعاهدوا ليقتلوك! فقال: ائتوني بوضوء فتوضَأ... الحديث.
قال ابن حجر: وهذا يصلح رداً على من أنكر وجود الوضوء قبل الهجرة، لا على من أنكر وجوبه حينئذٍ. وقد جزم ابن الحكم المالكيّ بأنه كان قبل الهجرة، لا مندوباً، وجزم ابن حزم بأنه لم يشرع إلاّ بالمدينة، وردّ عليهما بما أخرجه ابن لهيعة في المغازي التي يرويها عن أبي الأسود- يتيم عروة- عنه، أن جبريل علّم النبيّ صلى الله عليه وسلم الوضوء عند نزوله عليه بالوحي. وهو مرسل، ووصله أحمد من طريق ابن لهيعة أيضاً. لكن قال: عن الزهري عن عروة عن أسامة بن زيد عن أبيه، وأخرجه ابن ماجة من رواية رِشْدين بن سعد، عن عقيل، عن الزهري، نحوه. لكن لم يذكر زيد بن حارثة في السند، وأخرجه الطبراني في الأوسط من طريق الليث عن عقيل موصولاً، ولو ثبت لكان على شرط الصحيح، لكن المعروف رواية ابن لهيعة. انتهى.
أي: وابن لهيعة يضعف في الحديث. الرابعة: قيل: في الآية دلالة على أن الوضوء لا يجب لغير الصلاة. وأيد بما رواه أو داود والنسائي والترمذي عن عبد الله بن عباس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج من الخلاء فقدم إليه طعام فقالوا: ألا نأتيك بوضوء؟ فقال: إنما أمرت بالوضوء إذا قمت إلى الصلاة. قال الترمذي: حديث حسن.
وروى مسلم عن ابن عباس قال: كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم. فأتى الخلاء. ثم إنه رجع فأتي بطعام، فقيل: يا رسول الله! ألا تتوضأ؟ فقال: لم أصلّ فأتوضأ.
وأما اشترط الوضوء لطواف وسجدة التلاوة وصلاة الجنازة ومسّ المصحف- عنه من أوجبه- فمن أدلةٍ أخر مقررة في فقه الحديث.
الخامسة: وجوب غسل الوجه والغسل إمرار الماء على المحل حتى يسيل عنه، هذا هو المحكي عن أكثر الأئمة. زاد بعضهم: مع الدلك. وعن النفس الزكية: أن مجرد الإمساس يكفي وإن لم يَجِْر. وحدّ الوجه من منابت شعر الرأس إلى منتهى الذقن طولاً. ومن الأذن إلى الأذن عرضاً. وقد ساق بعض المفسرين هنا مذاهب، فيما يشمله الوجه وما لا يشمله، ومحلها كتب الخلاف.
السادسة: وجوب غسل اليدين: وهذا مجمع عليه، وأما المرفقان، تثنية مرفق كمنْبَر ومَجْلِس موصل الذراع في العضد، فالجمهور على دخولهما في المغسول، وحكي عن زفر وبعض المالكية وأهل الظاهر عدم دخولهما. وسبب الخلاف أن المغيّا بـ إلى تارةً يتضح دخوله في الغاية، وطوراً لا، وآونة يحتمل.
قال الزمخشري: إلى تفيد معن الغاية مطلقاً، فأما دخولها في الحكم وخروجها فأمر يدور مع الدليل فمما فيه دليل على الخروج قوله: {فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} [البقرة: 280]، لأن الإعسار علة الإنظار، وبوجود الميسرة تزول العلة، ولو دخلت الميسرة فيه لكان منظراً في كلتا الحالتين، معسراً وموسراً، وكذلك: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة: 187]. لو دخل الليل لوجوب الوصال، ومما فيه دليل على الدخول قولك: حفظت القرآن من أوله إلى آخره، لأن الكلام مسوق لحفظ القرآن كله. ومنه قوله تعالى: {مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى} [الإسراء: 1]. لوقوع العلم بأنه لا يسرى به إلى بيت المقدس من غير أن يدخله، وقوله: {إِلَى الْمَرَافِقِ} و{إِلَى الْكَعْبَينِ} لا دليل فيه على أحد الأمرين، فأخذ كافة العلماء بالاحتياط. فحكموا بدخولها في الغسل، وأخذ زفر وداود بالمتيقن، فلم يدخلاها. انتهى.
قال الرضي: الأكثر عدم دخول حدّي الابتداء والانتهاء في المحدود. فإذا قلت: اشتريت من هذا الموضع إلى ذلك الموضع، فالموضعان لا يدخلان ظاهراً في الشراء. وجوز دخولهما فيه مع القرينة، وقال بعضهم: ما بعد إلى ظاهر الدخول فيما قبلها. فلا تستعمل في غيره إلا مجازاً. وقيل: إن كان ما بعدها من جنس ما قبلها نحو: أكلت السمكة إلى رأسها، فالظاهر الدخول وإلاّ فلا، نحو: أتموا الصيام إلى الليل. والمذهب هو الأول. ثم قيل: بأنها في الآية بمعنى مع كقوله تعالى: {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُم} [النساء: 2]. قال: الرضي: والتحقيق أنها بمعنى الانتهاء. أي: تضيفوها إلى أموالكم، ومضافة إلى المرافق. انتهى.
قال صاحب النهاية: وقول من لم يدخل المرافق من جهة الدلالة اللفظية أرجح، وقول من أدخلها من جهة الأثر أبين، لأن في حديث مسلم مما رواه أبو هريرة: أنه غسل يده اليمنى حتى أشرع في العضد. ثم اليسرى، ثم غسل رجله اليمنى حتى أشرع في الساق. ثم اليسرى كذلك. واحتج أهل المذاهب بحديث جابر: أنه صلى الله عليه وسلم كان يدير الماء على مرفقيه. قالوا: ودلالة الآية مجملة. وهذا بيان للمجمل. وبيان المجمل الواجب يكون واجباً. انتهى.
وقال المجد ابن تيمية في المنتقى: يتوجه من حديث أبي هريرة وجوب غسل المرفقين لأن نص الكتاب يحتمله، وهو مجمل فيه، وفعله صلى الله عليه وسلم بيان لمجمل الكتاب، ومجاوزته للمرفق ليس في محل الإجمال، ليجب بذلك. انتهى.
وأجابوا بأن حديث جابر رواه الدارقطني والبيهقي. وفي إسناده متروك. وقد صرح بضعفه غير واحد من الحفاظ. وحديث أبي هريرة فعل لا ينتهض بمجرده على الوجوب. وقولهم هو بيان للمجمل فيه نظر. لأن إلى حقيقة في انتهاء الغاية- كما قدمنا- فلا إجمال. والله أعلم.
السابعة: قال الرازي: يقتضي قوله تعالى: {إِلَى الْمَرَافِقِ} تحديد الأمر، لا تحديد المأمور به. يعني أن قوله: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} أمر بغسل اليدين إلى المرفقين فإيجاب الغسل محدود بهذا الحدّ فبقي الواجب هو هذا القدر فقط، أما نفس الغسل فغير محدود بهذا الحدّ، لأنه ثبت بالأخبار أن تطويل الغرة سنة مؤكدة. انتهى.
الثامنة: أشعر أيضاً قوله تعالى: {إِلَى الْمَرَافِقِ} أن ينتهي في غسل اليدين بها، ويبتدأ بالأصابع. قال الحاكم: وقد وردت السنة بذلك، وهو الذي عليه الفقهاء، ولدلالة لفظ إلى لأنها للغاية، وغاية الشيء آخره. وقالت الإمامية: السنة أن يبتدئ بالمرفق. وقالوا: إن إلى هنا بمعنى من قال الحاكم: هذا تقدير فاسد.
التاسعة: ذهب الجمهور إلى أن تقديم اليمين على الشمال سنّة، مَنْ خالفها فاته الفضل وتم وضوؤه. وذهب العترة والإمامية- كما في البحر للمهدي- إلى وجوبه. واحتج عليهم بأن الآية لا تفيد ذلك، فمتى غسلهما مرتباً أو غير مرتب- قدم اليمنى أو اليسرى- فقد امتثل الأمر. وأجابوا بأن الدلالة على الوجوب من السنة، فقد روى أحمد وأبو داود عن أبي هريرة أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «إذا لبستم وإذا توضأتم فابدأوا بأيامنكم»! وأجيب: بأن الأمر للندب لقوله: إذا لبستم وإذا توضأتم، فقرن بينه وبين اللبس. فإذن يدل على وجوب التيامن في اللبس كما يدلّ عليه في الوضوء، وهم لا يقولون به. أيضاً فقد روي عن عليّ عليه السلام أنه قال: ما أبالي بدأت بيميني أو بشمالي إذا أكملت الوضوء. رواه الدارقطني. وروى نحوه البيهقي وابن أبي شيبة. وروى أبو عبيد في الطهور: أن أبا هريرة كان يبدأ بميامنه، فبلغ ذلك علياً فبدأ بمياسره. ورواه أحمد بن حنبل عن عليّ قال الحافظ ابن حجر: وفيه انقطاع. وهذه الطرق يقوي بعضها بعضاً. وكذلك الحديث وكذلك الحديث المقترن بالتيامن في اللبس، المجمع على عدم وجوبه، صالح لجعله قرينة تصرف الأمر إلى الندب. ودلالة الاقتران- وإن كانت ضعيفة- لكنها لا تقصر عن الصلاحية للصرف لاسيما مع اعتضادها بقول عليّ عليه السلام وفعله.
العاشرة: ذهب بعض العترة إلى أنه لا مسح على الجبائر. ففي الأحكام من كتبهم: إذا جبر على جرح أو كسر وخشي نزع الجبائر ضرراً، لا يشرع المسح. قال: لأن الآية تقتضي غسل اليد دون ما عليها. والجمهور منهم ومن غيرهم: أنه يمسح، لحديث جابر: إنما كان يكفيه أن يتيمم ويعصب على جرحه ثم يمسح عليه ويغسل سائر جسده. رواه أبو داود والدارقطني. وصححه ابن السكن.
الحادية عشرة: وجوب مسح الرأس:
والمسح إمساس المحل الماء بحيث لا يسيل، والباء في قوله تعالى: {بِرُؤُوسِكُمْ} تدل على تضمين الفعل معنى الإلصاق، فكأنه قيل: وألصقوا المسح برؤوسكم قال الزمخشري: وماسح بعض الرأس ومستوعبه بالمسح كلاهما ملصق للمسح برأسه. أي: فيكون الواجب مطلق المسح كلاً أو بعضاً- وأيّاً ما كان- وقع به الامتثال. والسنة الصحيحة وردت بالبيان، وفيها ما يفيد جواز الاقتصار على مسح البعض في بعض الحالات كما في صحيح مسلم وغيره من حديث المغيرة، أنه صلى الله عليه وسلم أدخل يده من تحت العمامة فمسح مقدم رأسه ولم ينقض العمامة وقد ثبت في الأحاديث الصحيحة، أنه مسح رأسه فأقبل وأدبر. وهذه هي الهيئة التي استمرّ عليهما صلى الله عليه وسلم. فاقتضى هذا أفضلية الهيئة التي كان صلى الله عليه وسلم يداوم عليها. وهي: مسح الرأس مقبلاّ ومدبراً. وإجزاء غيرها في بعض الأحوال. ولا يخفى أن الآية لا تفيد إيقاع المسح على جميع الرأس. كما في نظائره من الأفعال. نحو: ضربت رأس زيد، وبرأسه. وضربت زيداً وضربت يد زيد. فإنه يوجد المعنى اللغوي في جميع ذلك، بوجود الضرب على جزءٍ من الأجزاء المذكورة. وهكذا ما في الآية. وليس النزاع في مسمى الرأس لغة، حتى يقال: إنه حقيقة في جميعه. بل النزاع في إيقاع المسح عليه. وعلى فرض الإجمال، فقد بينه الشارع تارةً بمسح الجميع، وتارةً بمسح البعض، بخلاف الوجه. فإنه لم يقتصر على غسل بعضه في حال من الأحوال، بل غسله جميعاً. وأما اليدان والرجلان فقد صرح فيهما بالغاية.
فإن قلت: إن المسح ليس كالضرب الذي مثلث به.
قلت: لا ينكر أحد من أهل اللغة أنه يصدق قول من قال مسحت الثوب أو بالثوب. أو مسحت الحائط أو بالحائط على مسح جزء من أجزاء الثوب أو الحائط. وإنكار مثل هذا مكابرة. كذا في الروضة.
قال شمس الدين بن القيّم في الهدى: ولم يصحّ عنه صلى الله عليه وسلم في حديث واحد، أنه اقتصر على مسح بعض رأسه البتة. ولكن كان إذا مسح بناصيته كمل على العمامة- فأما حديث أنس الذي رواه أبو داود: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ وعليه عمامة قطرية، فأدخل يده من تحت العمامة فمسح مقدم رأسه ولم ينقض العمامة- فهذا مقصود أنس به أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يَنْقُضْ عمامته حتى يستوعب مسحُ الرأس الشعرَ كله. ولم ينف التكميل على العمامة. وقد أثبته المغيرة بن شعبة وغيره. فسكوت أنس عنه لا يدل على نفيه. انتهى.
قال الشوكاني: ليس النزاع إلا في الوجوب. وأحاديث التعميم، وإن كانت أصح، وفيها زيادة وهي مقبولة- لكن أين دليل الوجوب؟ وليس إلاّ مجرد الفعل. وهو لا يدل على الوجوب. ثم قال: وبعد هذا، فلا شك في أولوية استيعاب المسح لجميع الرأس وصحة أحاديثه. ولكن دون الجزم بالوجوب، مفاوز وعقاب.
فصل:
وأما قوله تعالى: {وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَينِ}. فقرأه بالنصب نافع وابن عامر وحفص والكسائي ويعقوب. وبالجرّ الباقون، ومن هاتين القراءتين تشعبت المذاهب في صفة طهارة الرجلين. فمن ذاهب إلى أن طهارتهما الغسل. ومن ذاهب إلى أنها المسح. ومن مخيّر بينهما. ولكلٍّ من هذه المذاهب حججٌ وتأويلاتٌ وأجوبةٌ ومناقشاتٌ تسوق شذرةً منها. فنقول: قال الأولون: قراءة النصب ظاهرهما يفيد الغسل. وقراءة الجرّ ظاهرهما يفيد المسح. إلا أنه لما وجد ما يرجح الغسل تأولنا ما أفادته قراءة الجرّ في الظاهر. والمرجح للغسل أمور.
منها ما في الصحيحين والسنن عن عثمان وعليّ وابن عباس ومعاوية عبد الله بن زيد بن عاصم والمقداد بن معد يكرب، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم غسل الرجلين في وضوئه، إما مرةً وإما مرتين أو ثلاثاً. على اختلاف رواياتهم. وفي حديث عَمْرو بن شعيب عن أبيه عن جده، أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ فغسل قدميه ثم قال: هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلاّ به.
وفي الصحيحين عن عبد الله بن عَمْرو قال: تخلف عنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفره. فأدركَنا وقد أهنا العصر. فجعلنا نتوضأ ونمسح على أرجلنا. قال، فنادى بأعلى صوته: ويل للأعقاب من النار. مرتين أو ثلاثاً. وكذلك هو في الصحيحين عن أبي هريرة. وفي صحيح مسلم عن عائشة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: «أسبغوا الوضوء. ويل للأعقاب من النار»، وروى البيهقي والحاكم، بإسناد صحيح، عن عبد الله بن الحارث بن جزء، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ويل للأعقاب وبطون الأقدام من النار» وروى الإمام أحمد وابن ماجة وابن جرير عن جابر بن عبد الله قال: رأى النبيّ صلى الله عليه وسلم في رِجْلِِ رَجُلٍ مثلَ الدرهم لم يغسله، فقال: «ويلٌ للأعقاب من النار». قال ابن كثير: ووجه الدلالة من هذه الأحاديث ظاهرة. وذلك أنه لو كان فرض الرجلين مسحهما، أو أنَّه يجوز ذلك، لما توعد على تركه، لأن المسح لا يستوعب جميع الرِّجل. بل يجري فيه ما يجري في مسح الخف. وروى الإمام أحمد عن خالد بن معدان عن بعض أصحاب النبيّ: «أن النبيّ صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً يصلّي وفي ظهر قدمه لمعةٌ قدر الدرهم، لم يصبها الماء. فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعيد الوضوء». زاد أبو داود: والصلاة. وروى الإمام أحمد عن أبي أمامة قال: حدثنا عَمْرو بن عَبسَة قال: «قلت: يا رسول الله! أخبرني عن الوضوء، قال: ما منكم من أحدٍ يقرب وضوءه ثم يتمضمض ويستنشق وينتثر، إلاّ خرت خطاياه من فمه وخياشيمه مع الماء حين ينتثر، ثم يغسل وجهه كما أمره الله إلاّ خرت خطايا وجهه من أطراف لحيته مع الماء. ثم يغسل يديه إلى المرفقين إلاّ خرت خطايا يديه من أطراف أنامله. ثم يمسح رأسه إلاّ خرت خطايا رأسه من أطراف شعره مع الماء. ثم يغسل قدميه إلى الكعبين كما أمر الله إلاّ خرت خطايا قدميه من أطراف أصابعه مع الماء. ثم يقوم فيحمد الله ويثني بالذي هو له أهل، ثم يركع ركعتين إلا خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه».
قال أبو أمامة: يا عَمْرو! انظر ما تقول. سمعتَ هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ أَيُعْطى هذا الرجل كله في مقامه؟ قال عَمْرو بن عَبَسة: يا أبا أمامة! لقد كبر سني ورقّ عظمي واقترب أجلي. وما بي حاجة أن أكذب على الله وعلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولم أسمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلاّ مرة أو مرتين أو ثلاثاً. لقد سمعته سبع مرات أو أكثر من ذلك.. قال ابن كثير: وإسناده صحيح وهو في صحيح مسلم من وجه آخر، وفيه: ثم يغسل قدميه كما أمره الله. فدلّ على أن القرآن يأمر بالغسل. وهكذا روى أبو إسحاق السبيعي عن الحارث عن علي رضي الله عنه أنه قال: اغسلوا القدمين إلى الكعبين كما أمرتم. ومن هاهنا يتضح لك المراد من حديث عبدُ خَير عن عليّ، «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رش على قدميه الماء وهما في النعلين فدلكهما. إنما أراد غسلاً خفيفاً وهما في النعلين». ولا مانع من إيجاد الغسل والرّجل في نعلها. ويكون في هذا ردّ على المتعمقين والمتنطعين من الموسوسين. وهكذا ما رواه ابن جرير عن حذيفة قال: أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم سباطة قومٍ فبال قائماً ثم دعا بماء فتوضأ ومسح على نعليه. وهو حديث صحيح. وقد أجاب ابن جرير عنه: بأن الثقات الحفاظ رووه عن حذيفة: فبال قائماً ثم توضأ ومسح على خفيه. قال ابن كثير: ويحتمل الجمع بينهما. بأن يكون في رجليه خفان وعليهما نعلان.
وهكذا الحديث الذي رواه الإمام أحمد عن أوس بن أبي أوس قال: «رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ ومسح على نعليه ثم قام إلى الصلاة». ورواه أبو داود عنه بلفظ: «رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى سباطة قوم فبال وتوضأ ومسح على نعليه وقدميه». ثم قال الجمهور: إن قراءة الجرّ محمولة على الجوّ الجواريّ. ونظيره كثير في القرآن والشعر. كقوله تعالى: {عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ} [هود: 26] و{وَحُورٌ عِينٌ} [الواقعة: 22] بالجرّ في قراءة حمزة والكسائي عطفاً على: {بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ} [الواقعة: 18] والمعنى مختلف. إذ ليس المعنى: يطوف عليهم ولدان مخلدون بحور عين. وكقولهم: جحرٍ ضبٍ خربٍ، وللنحاة باب في ذلك. حتى تعدوا، من اعتباره في الإعراب، إلى التثنية والتأنيث وغير ذلك. وقد ساق شذرة من أشباهه ونظائره أبو البقاء هنا. فانظره. وما قيل بأن حرف العطف مانع من الجواز زعماً بأنه خاص بالنعت والتأكيد مردود بأنه ورد في العطف كثيراً في كلام العرب. قال الشاعر:
لم يبق إلاّ أسير غير منفلتٍ ** وموثقٍ في عقال الأسر مكبول

فخفض موثقاً بالمجاورة للمنفلت- وحقه الرفع عطفاً على أسير. وقال:
فهل أنت- إن ماتت أتانك- راحلٌ ** إلى آل بسطام بن قيس فخاطبِ

فجرّ فخاطب للمجاورة. وحقه الرفع عطفاً على راحل. وكفى في الردّ قراءة {وحورٍ} بالجرّ كما قدّمنا. قالوا: وشرط حسن الجرّ الجواريّ عدم الإلباس مع تضمن نكتة. وهنا كذلك. فإن الغاية دلت أنه ليس بممسوح. إذ المسح لم تضرب له غاية في الشريعة. والنكتة فيه الإشارة إلى تخفيفه حتى كأنه مسح. قال الناصر في الانتصاف: والوجه فيه أن الغسل والمسح متقاربان، من حيث إن كل واحد منهما إمساس بالعضو. فيسهل عطف الغسول على المسوح من ثَمَّ- كقوله: متقلداً سيفاً ورمحاً. وعلفتها تبناً وماء بارداً- ونظائره كثيرة. وبهذا وجّه الحذاق. ثم يقال: ما فائدة هذا التشريك بعلة التقارب؟ وهلاً أسند إلى كل واحد منهما الفعل الخاص به على الحقيقة؟ فيقال: فائدته الإيجاز والاختصار وتوكيد الفائدة- بما ذكره الزمخشري- أي: من أنّ الأرجل لما كانت مظنة للإسراف المذموم المنهيّ عنه، فعطف على الرابع المسوح، لا لتمسح ولكن لينبه على وجوب الاقتصار في صبّ الماء عليها. ثم قال الناصر: وتحقيقه أن الأصل أن يقال مثلاً: واغسلوا أرجلكم غسلاً خفيفاً لا إسراف فيه كما هو المعتاد، فاختصرت هذه المقاصد بإشراكه الأرجل مع الممسوح. ونبه بهذا التشريك، الذي لا يكون إلاّ في الفعل الواحد أو الفعلين المتقاربين جدًّا، على أن الغسل المطلوب في الأرجل، غسل خفيف يقارب المسح. وحسن إدراجه معه تحت صيغة واحدة. انتهى.
وأما من أوجب الجمع بين المسح والغسل فأخْذاً بالجمع بين القراءتين. ومراد من ذهب إلى وجوب الجمع بين غسل الرجلين ومسحهما. فحكاه من حكاه كذلك. ولهذا يستشكله كثير من الفقهاء، وهو معذور. فإنه لا معنى للجمع بين المسح والغسل سواء تقدمه أو تأخر عليه لاندراجه فيه. وإنما أراد ما ذكرته والله أعلم. ثم تأملت كلامه أيضاً فإذا هو يحاول الجمع بين القراءتين في قوله: {وَأَرْجُلَكُمْ} خفضاً على المسح وهو الدلك، ونصباً على الغسل، فأوجبهما أخذاً بالجمع بين هذه وهذه. انتهى.
وأما من قال: الواجب هو المسح، فتمسك بقراءة الجر، وهو مذهب الإمامية. وأجابوا عن قراء النصب بأنها مقتضية للمسح أيضاً. وقد وقفت على كتاب شرح المقنعة من كتبهم فوجدته أطنب في هذا البحث، ووجه اقتضاء النصب للمسح بأن موضع الرؤوس موضع نصب لوقوع الفعل، الذي هو المسح عليه. قال: وعلى هذا لا ينكر أن يعطف الأرجل على موقع الرؤوس لا لفظها فينصب، والعطف على الموضع جائز مشهور في لغة العرب. ثم ساق الشواهد في ذلك وقال بعد: فإن قيل: ما أنكرتم أن تكون القراءة بالنصب لا تقتضي الغسل، فلا تحتمل المسح. لأن عطف الأرجل على مواضع الرؤوس في الإيجاب توسّع وتجوّز. والظاهر والحقيقة يوجبان عطفها على اللفظ لا الموضع، قلنا: ليس الأمر على ما توهمتم، بل العطف على الموضع مستحسن في لغة العرب، وجائز لا على سبيل الاتساع والعدول عن الحقيقة. فالمتكلم مخير بين حمل الأعراب على اللفظ تارةً، وبين حيله على الموضع أخرى.
قال: وهذا ظاهر في العربية مشهور عند أهلها، وفي القرآن والشعر له نظائر كثيرة. ثم قال: على أنّا لو سلمنا أن العطف على اللفظ أقوى، لكان عطف الأرجل على موضع الرؤوس أولى، مع القراءة بالنصب،لأن نصب الأرجل لا يكون إلاّ على أحد وجهين: إما بأن يعطف على الأيدي والوجوه في الغسل،أو يعطف على موضع الرؤوس فينصب، ويكون حكمها المسح. وعطفها على موضع الرؤوس أولى. وذلك أن الكلام إذا حصل فيه عاملان، أحدهما قريب والآخر بعيد، فإعمال الأقرب أولى من إعمال الأبعد. وقد نص أهل العربية على هذا في باب التنازع. انتهى. فتأمّل جدلهم.
قال الحافظ ابن كثير: وقد روي عن طائفة من السلف بالمسح: فروى ابن جرير عن حميد قال: قال موسى بن أنس ونحن عنده: يا أبا حمزة! إن الحجاج خطبنا بالأهواز، ونحن معه. فذكر الطهور فقال: اغسلوا وجوهكم وأيديكم وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم. وإنه ليس شيء من ابن آدم أقرب من خبثه من قدميه.
فاغسلوا بطونهما وظهورهما وعراقيبهما. فقال أنس: صدق الله وكذب الحجاج. قال الله تعالى: {وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ}.
قال: وكان أنس إذا مسح قدميه بلّهما.
قال ابن كثير: إسناده صحيح إليه.
وروى ابن جرير أيضاً عن عاصم عن أنس قال: نزل القرآن بالمسح، والسنة بالغسل. وإسناده صحيح أيضاً.
وأسند أيضاً عن عِكْرِمَة عن ابن عباس قال: الوضوء غسلان ومسحتان.
وكذا روى سعيد بن أبي عروبة عن قتادة. وروى ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: {وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ}، قال: هو المسح. ثم قال: وروى ابن عمر وعلقمة وأبي جعفر محمد بن عليّ والحسن في إحدى الروايات وجابر بن يزيد ومجاهد- في إحدى الروايتين- نحوه. وروى ابن جرير عن أيوب قال: رأيت عِكْرِمَة يمسح على رجليه. وعن الشعبي قال: نزل جبريل بالمسح. ألا ترى أنّ التيمم، أن يمسح ما كان غسلاً ويلغي ما كان مسحاً؟
وأمّا من ذهب إلى التخيير، فقال: لما جاءت القراءة بما يوجب الغسل وبما يوجب المسح، دل على أنه مخير. قال في الشفا: القراءتان لا توجبان الجمع، بل تثبتان التخيير.
ولا يخفى أن ظاهر الآية صريح في أن واجبهما المسح. كما قال ابن عباس وغيره. وإيثار غسلهما في المأثور عنه صلى الله عليه وسلم، إنما هو للتزيد في الفرض والتوسع فيه حسب عادته صلى الله عليه وسلم، فإنه سنّ في كل فرضٍ سنناً تدعمه وتقويه. في الصلاة والزكاة والصوم والحج. وكذا في الطهارات كما لا يخفى، ومما يدلّ على أن واجبهما المسح، تشريع المسح على الخفين والجوربين. ولا سند له إلا هذه الآية. فإن كل سنة أصلها في كتاب الله، منطوقاً أو مفهوماً، فاعرف ذلك واحتفظ به، والله الهادي.
فصل:
فيما قاله الصوفية- قدس الله سرهم- من أسرار طهارة هذه الأعضاء:
فأما الوجه، فإنما وجب غسله لأن فيه أكثر الحواس الظاهرة التي ينتفع بالمحسوسات بواسطتها، فلابد من تطهيره عن ظهور آثار حدثت عنها، ولسبق الإحساس على العمل، قدم ما فيه أكثر الحواس الظاهرة أي: غير السمع. ثم أمر بتطهير الآلة الفاعلية للأفعال، التي منها تلك الآثار- وهي الأيدي إلى المرافق- لأن العمل بالأصابع يحتاج إلى تحريك الكف التي لا تتحرك غالباً إلاّ بتحريك المرافق، ثم أمر بمسح الرأس لأنه جامع للحواس الباطنة، فأشبه جامع الحواس الظاهرة، وأخره عن غسل اليدين لأنه مخزن الصور المدركة بالحواس الظاهرة من أعماله وغيرهما. ولم يأمر بغسله لأنه يضر بصاحب الشعر، ولابد منه في الزينة، لاسيّما للمرأة، فخفف بالمسح. ثم أوجب غسل آلة السعي لمشابهة آلة العمل وهي الأرجل، ولما كانت حركتها توجب حركة جميع البدن، اقتصر على أدنى الغايات، أعني: الكعبين، لئلا تبطل فائدة تخصيص الأعضاء، وفي الفصل بين المغسولات بالممسوح إيماء إلى وجوب الترتيب، والسرّ فيه ما أشرنا إليه. كذا في تفسير المهايميّ.
وذكر الشعراني- قُدِّس سره- في سرّ ذلك، أن الوجه به حصول المواجهة في حضرة الله تعالى عند خطابه، والشرع قد تبع العرف في ذلك، وإلاّ فكل جزء من بدن العبد- ظاهراً وباطناً- ظاهر للحق تعالى من العبد. أمر الله تعالى العبد بالتوبة فوراً. مسارعة للتطهير من النجاسة المعنوية. لأن الماء لا يصل إلى القلب. فافهم. ثم وجه قول الجمهور بدخول المرفقين في اليدين بأنهما محل الارتفاق. وتكمل الحركة بهما في فعل المخالفات. ووجّه قول زفر وداود، بأنهما لم يتمحضا للذراعين، لأنهما مجموع شيئين: إبرة الذراع ورأس العظمين، ثم وجّه مسح جميع الرأس، بالأخذ بالاحتياط. فيمسح جميع محل الرياسة التي عند المتوضئ ليخرج عن الكبر الذي في ضمنها، ويمكن من دخول حضرة الله تعالى في الصلاة. فإن من كان عنده مثقال ذرة من كبر لا يمكن من دخوله الجنة يوم القيامة، كما ورد، إذ هي الحضرة الخاصة، وكذلك القول في حضرة الصلاة. ثم وجّه غسل القدمين بمؤاخذة العبد بالمشي بهما في غير طاعة الله عزّ وجل، وكونهما حاملَيْن للجسم كلّه. وممدين له بالقوة على المشي، فإذا ضعفا بالمخالفة أو الغفلة سرى ذلك فيما حملاه، كما يسري منهما القوة إلى ما فوقهما إذا غسل، فإنهما كعروق الشجرة التي تشرب الماء وتمدّ الأغصان بالأوراق والثمار. فتعين فيهما الغسل دون المسح، ثم ذكر سرَّ من ذهب إلى وجوب الموالاة في طهارة أعضاء الوضوء، بأن الغالب على المتطهرين ضعف أبدانهم من كثرة المعاصي، أو الغفلات، أو الشهوات، وإذا لم يكن موالاة جفت الأعضاء كلها قبل القيام إلى الصلاة، مثلاً. وإذا جفت فكأنها لم تغسل ولم تكتسب بالماء انتعاشاً. ولا حياة تقف بها بين يدي ربها. فخاطبت ربها بلا كمال لحضور ولا إقبال على مناجاته. هذا حكم غالب الأبدان، أما أبدان العلماء العاملين وغيرهم من الصالحين، فلا يحتاجون إلى تشديدٍ في أمر الموالاة لحياة أبدانهم بالماء. ولو طال الفصل بين غسل أعضائهم. فيحمل قول من قال بوجوب الموالاة على طهارة عوام الناس. ويحمل قول من قال بالاستحباب على طهارة علمائهم وصالحيهم.
وسمعت سيدي عليّاً الخوّاص، رحمه الله تعالى، يقول: نِعْمَ قول من قال بوجوب الموالاة في هذا الزمان. فإنّ من لم يوجبها يؤدي قوله إلى جواز طول الفصل جدًّا. وزيادة البطء في زمن الطهارة، وفوات أول الوقت، كأن يغسل وجه في الوضوء للظهر بعد صلاة الصبح. ثم يغسل يديه ربع النهار. ثم يمسح رأسه بعد زوال الشمس. ثم يغسل رجليه قبيل العصر. مع وقوع ذلك المتوضئ مثلاً، في الغيبة والنميمة والاستهزاء والسخرية والضحك والغفلة. وغير ذلك من المعاصي والمكروهات. أو خلاف الأولى إن كان ممن يؤاخذ به كما يؤاخذ بأكل الشهوات. فمثل هذا الوضوء، وإن كان صحيحاً في ظاهر الشرع- من حيث إنه يصدق عليه إنه وضوء كامل- فهو قليل النفع لعدم حصول حياة الأعضاء به بعد موتها أو ضعفها أو فتورها. ففات بذلك حكمة الأمر بالموالاة في الوضوء- وجوباً استحباباً- وهي إنعاش البدن وحياته قبل الوقوف بين يدي الله تعالى للمناجاة. ثم لو قدر عدم وقوع ذلك المتوضئ، الذي لم يوال، في معصية أو غفلة في الزمن المتخلل بين غسل الأعضاء. فالبدن ناشف كالأعضاء التي عمتها الغفلة والسهو والملل والسآمة. فلم يَصِرْ لها داعية إلى كمال الإقبال على الله تعالى حال مناجاته.
وقد كمل أسرار السنن بما يبهج، فلينظر في ميزانه رحمه الله تعالى.
وفي كلام الله تعالى من الفوائد والأسرار واللطائف، ما تضيق عنه الأسفار. وقوله تعالى: {وَإِن كُنتُمْ جُنُباً} أي: بخروج مني أو التقاء ختانين: {فَاطَّهَّرُواْ} أي: بالماء، أي: اغتسلوا به. قال المهايمي: أي: بالغوا في تطهير البدن لأنه يتلذذ به الجميع تلذذاً أغرقه في غير الله، فأثر فيه بالحدَث: {وَإِن كُنتُم} جنباً: {مَّرْضَى} تخافون من استعمال الماء: {أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاء أَحَدٌ مَّنكُم مِّنَ الْغَائِطِ} أي: رجع من مكان البزار: {أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاء فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ} أي: اقصدوا: {صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُم مِّنْهُ} تذليلاً للعضوين الشريفين. وقد مرّ تفسير هذا وأحكامه في سورة النساء {مَا يُرِيدُ اللّهُ} أي: ما يريد بالأمر بالطهارة للصلاة. أو بالأمر بالتيمم: {لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ} أي: ضيق في الامتثال أو في تحصيل الماء: {وَلَكِن يُرِيدُ لِيُطَهَّرَكُمْ} أي: عن الذنوب، أو ليجعلكم في حكم الطاهرين بالتذلل بالتراب. فإنه لما رفع التكبر فكأنما رفع الحدث الذي ينشأ عن أمثاله: {وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ} أي: بشرعه ما هو مطهر لأبدانكم ومنعش لها مما لحقها، ومكفر لذنوبكم، أو ليتم برخصه إنعامه عليكم بتمكينكم من عبادته بكل حالٍ، حتى حال الحدث: {لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} نعمته ورخصته فيثيبكم.
وقد روى ابن جرير عن أبي أمامة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من توضأ فأحسن الوضوء ثم قام إلى الصلاة خرجت ذنوبه من سمعه وبصره ويديه ورجليه». ورواه مسلم وأصحاب السنن عن أبي هريرة مفصلاً.