فصل: تفسير الآية رقم (74):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: محاسن التأويل



.تفسير الآية رقم (74):

القول في تأويل قوله تعالى: {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاء وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللّهِ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [74].
{ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ} المخاطبون إما أهل الكتاب الذين كانوا في زمنه صلى الله عليه وسلم، أي: اشتدت قلوبكم وقست وصلبت من بعد البينات التي جاءت أوائلكم، والأمور التي جرت عليهم، والعقاب الذي نزل بمن أصرّ على المعصية منهم، والآيات التي جاءهم بها أنبياؤهم، والمواثيق التي أخذوها على أنفسهم، وعلى كل من دان بالتوراة ممن سواهم. فأخبر بذلك عن طغيانهم وجفائهم مع ما عندهم من العلم بآيات الله التي تلين عندها القلوب. وهذا أَولى؛ لأن قوله تعالى: {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم}، خطاب مشافهة. فحمله على الحاضرين أولى. وإما أن يكون المراد أولئك اليهود الذين كانوا في زمن موسى عليه السلام خصوصاً، أو من قبل المخاطبين من سلفهم. والله أعلم {فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ} في القساوة: {أَوْ أَشَدُّ} منها: {قَسْوَةً} أي: هي في القسوة مثل الحجارة أو زائد عليها فيها. و{أَوْ} للتخير أو للترديد. بمعنى أن من عرف حالها شبهها بالحجارة، أو بما هو أقسى كالحديد، أو من عرفها شبهها بالحجارة، أو قال هي أقسى من الحجارة، وترك ضمير المُفَضَّل عليه للأمن من الالتباس: {وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ} أي: يتفتح بالسعة والكثرة: {مِنْهُ الأَنْهَارُ} بيان لأشديّة قلوبهم من الحجارة في القساوة وعدم التأثر بالعظات، والقوارع التي تميع منها الجبال وتلين بها الصخور، يعني أن الحجارة ربما تتأثر حيث يكون منها ما يتفجر منه المياه العظيمة: {وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ} أي: يتشقق: {فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاء} أي: العيون التي هي دون الأنهار: {وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللّهِ} أي: يتردى من رأس الجبل من خشية الله، انقياداً لما سخره له من الميل إلى المركز بالسلاسة، قاله القاشانيّ.
وقد ذهب بعض المفسرين إلى الاستدلال بظاهر الآية على خلق التمييز في الجماد حتى يخشى ويسبح. والمحققون على أن هذه الآية وأمثالها من المجاز البليغ، وأن الإطلاق لا ينحصر في الحقيقة، لاسيما وأن المجاز أكثر في اللسان منها، كما بسط في مطولات البيان.
وقد رد الإمام ابن حزم، في أول كتابه الفصل على من زعم أن للحيوان والجماد تمييزاً، رداً مسهباً. وقال: من ادعى ذلك أكذبه العيان. ثم استثنى ما كان معجزة للأنبياء عليهم السلام.
قال: ولعل معترضاً يعترض بقوله تعالى يصف الحجارة: {وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ الْلَّهِ}، فقد علمنا بالضرورة أن الحجارة لم تؤمر بشريعة ولا بعقل ولا بعث إليها نبيّ. فإذْ لا شك في هذا، فإن القول منه تعالى يخرج على أحد ثلاثة أوجه:
أحدها أن يكون الضمير في قوله تعالى: {وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ} راجع إلى القلوب المذكورة في أول الآية في قوله تعالى: {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً} فذكر تعالى أن من تلك القلوب القاسية ما يقبل الإيمان يوماً ما، فيهبط عن القسوة إلى اللين من خشية الله تعالى، وهذا أمر يشاهد بالعيان، فقد تلين القلوب القاسية بلطف الله تعالى، ويخشى العاصي. وقد أخبر عز وجلّ: {وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ} [آل عِمْرَان: 199]، وكما أخبر تعالى أن: {وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ} [التوبة: 99] من بعد أن أخبر أن: {الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفَاقاً} [التوبة: 97]. قال: فهذا وجه ظاهر متيقن الصحة.
والوجه الثاني: أن الخشية المذكورة في الآية إنما هي التصرف بحكم الله تعالى وجري أقداره، كما قلنا في قوله تعالى حاكياً عن السماء والأرض: {قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} [فصلت: 11].
والوجه الثالث: أن يكون الله تعالى عنى بقوله: {وإنّ منها لما يهبط من خشية الله} الجبل الذي صار دكّاً، إذ تجلى الله تعالى له يوم سأله كليمه عليه السلام الرؤية، فذلك الجبل بلا شك من جملة الحجارة، وقد هبط عن مكانه من خشية الله تعالى، وهذه معجزة وآية وإحالة طبيعة في ذلك الجبل خاصة. ويكون: {يهبط} بمعنى: هبط، كقوله تعالى: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا} [الأنفال: 30] معناه: وإذ مكر، وبين قوله تعالى، مصدقاً إبراهيم خليله صلى الله عليه وسلم في إنكاره على أبيه عُبَاْدَة الحجارة: {لم تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ} [مريم: 42] وقوله تعالى: {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ} [الزمر: 43] فصح بهذا، صحة لا مجال للشك فيها، أن الحجارة لا تعقل. وإذ تيقن ذلك بالنص وبالضرورة والمشاهدة فقد انتفى عنها النطق والتمييز والخشية، المعهود كل ذلك عندنا.
وأما الأحاديث المأثورة في أن الحجر له لسان وشفتان، والكعبة كذلك، وأن الجبال تطاولت، وخشع جبل كذا، فخرافات موضوعة نقلها كل كذاب وضعيف، لا يصح منها شيء من طريق الإسناد أصلاً. ويكفي من التطويل في ذلك أنه لم يدخل شيئاً منها من انتدب من الأئمة لتصنيف الصحيح من الحديث، أو ما يستجاز روايته، مما يقارب الصحة. انتهى كلام ابن حزم.
وقال ابن جرير: اختلف أهل النحو في معنى الهبوط، ما هبط من الأحجار من خشية الله فقال بعضهم: إن هبوط ما هبط منها من خشية الله تفيّؤ ظلاله. وقال آخرون: ذلك الجبل الذي صار دكاً إذ تجلى له ربه. وقال آخرون: قوله: {يهبط من خشية الله} كقوله: {جِدَاراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ} [الكهف: 77] لا إرادة له. قالوا: وإنما أريد بذلك أنه من عظم أمر الله يرى كأنه هابط خاشع من ذلّ خشية الله. قال زيد الخيل:
بِجَمْعٍ تَضِلُّ اْلبُلْقُ فِيْ حَجَرَاتِهِ ** تَرَى الْأُكْمَ مِنْهُ سُجَّداً لِلْحَوَافِر

وكما قال سويد بن أبي كاهل، يصف عدوّاً له:
سَاْجِدَ الْمَنْخِرِ لَاْ يَرْفَعُهُ ** خَاْشِعَ الطَّرْفِ أَصَمَّ الْمُستَْمَعْ

يريد أنه ذليل.
وكما قال جرير بن عطية:
لَمَّا أتَىْ خَبَرُ الزُّبَيْرِ تَواضَعَتْ ** سُوْرُ المَدِينَةِ والْجِبَالُ الْخُشَّعُ

وقال آخرون: معنى قوله: {يهبط من خشية الله} أي: يوجب الخشية لغيره بدلالته على صانعه. كما قيل: ناقة تاجرة إذا كانت، من نجابتها وفراهتها، تدعو الناس إلى الرغبة فيها، كما قال جرير بن عطية:
وَأَعْوَرُ مِنْ نَبْهَاْنَ، أَمَّا نَهَاْرُهُ ** فَأَعْمَىْ، وَأَمَّاْ لَيْلُهُ فَبَصِيْرُ

فجعل الصفة لليل والنهار، وهو يريد بذلك صاحبه النبهانيّ الذي يهجوه. من أجل أنه فيهما كان ما وصفه به. ثم اختار ابن جرير ما يقتضيه ظاهر الآية. وتقدم رد ابن حزم له مبرهناً عليه.
ثم رأيت الإمام الراغب حاول هنا تقريب ما نقل من الوقوف على ظاهرها بتأويله. وعبارته: قال مجاهد وابن جريج: كل حجر تردى من رأس جبل فخشية الله نزلت به، وقال الزجاج: الهابط منها قد جعل له معرفة، قال ويدل على ذلك قوله: {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} [الحشر: 21]، وقال: {لَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ} [الحج: 18]، إلى قوله: {النُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوُابُّ} [الحج: 18] وقد روي مثل هذا عن السلف، ولابد في معرفة ذلك من مقدمة تكشف عن وجه هذا القول، وحقيقته. فإن قوماً استسلموا لما حكي لهم من هذا النحو، فانطووا على شبهة، وقوماً استبعدوا ذلك واستخفوا عقل رواته وقائليه، فيقال وبالله التوفيق: إن قوماً من المتقدمين ذكروا أن جميع المعارف على أضرب:
الأول المعرفة التامة التي هي العلم التام. وذلك لعلاّم الغيوب الذي أحاط بكل شيء علماً.
والثاني معرفة متزايدة، وهي للإنسان، وذاك أن الله تعالى جعل له معرفة غريزية، وجعل له بذلك سبيلاً إلى تعريف كثير مما لم يعرفه، وليس ذلك إلا للإنسان.
والثالث معرفة دون ذلك، وهي معرفة الحيوانات التي سخرها لإيثار أشياء نافعة لها والسعي إليها. واسترذال أشياء هي ضارة لها وتجنبها، ودفع مضار عن أنفسها.
والرابع: معرفة الناميات من الأشجار والنبات، وهي دون ما للحيوانات، وليس ذلك إلا في استجلاب المنافع وما ينميها.
والخامس: معرفة العناصر، فإن كل واحد منها مسخر لأن يشغل المكان المختص به كالحجر في طلب السفل، والنار في طلب العلّو، وذلك بتسخير الله تعالى، بلا اختيار منه. قالوا: والدلالة على ذلك أن كل واحدٍ من هذه العناصر إذا نقل من مركزه قهراً، أبى إلا العود إليه طوعاً. قالوا ويوضح ذلك أن السراج يجتذب الأدهان التي تبقيه، ويأبى الماء الذي يطفيه، وأن المغناطيس يجر الحديد ولا يجر غيره. هذا ما حكوه.
فعلى هذا إذا قيل: لهذه الأشياء معرفة، فليس ببعيد، متى سلم لهم أن هذه القوى تسمى معرفة، فأما إذا قيل إن للجمادات معارف الْإِنْسَاْن في أنها تميز وتختار وتريد، فهذا مما تعافه العقول. انتهى قول الراغب.
وهو تأويل حسن، ومبناه على أن اصطلاح السلف في كثير من الإطلاقات غير اصطلاحات الخلف. وهو مسلم في كثير من الإطلاقات.
وقوله تعالى: {وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} فيه من التهديد وتشديد الوعيد ما لا يخفى. فإن الله عز وجل إذا كان عالماً بما يعملونه، مطلعاً عليه غير غافل عنه، كان لمجازاتهم بالمرصاد، ولما بيّن سبحانه وتعالى قساوة قلوبهم، تسبب عن ذلك بعدهم عن الإيمان، فالتفت إلى المؤمنين يُؤْيسهم من فلاحهم تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم عما كان يشتد حرصه عليه من طلب إيمانهم في معرض التنكيب عليهم، والتبكيت لهم، منكراً للطمع في إيمانهم فقال:

.تفسير الآية رقم (75):

القول في تأويل قوله تعالى: {أَفَتَطْمَعُونَ أَن يُؤْمِنُواْ لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلاَمَ اللّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِن بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [75].
{أَفَتَطْمَعُونَ} أيها المؤمنون بعد أن علمتم تفاصيل شؤون أسلافهم المؤيسة عنهم: {أَن يُؤْمِنُواْ} أي: هؤلاء اليهود الذين بين أظهركم، وهم متماثلون في الأخلاق الذميمة، لا يأتي من أخلاقهم إلا مثل ما أتى من أسلافهم. واللام في قوله: {لَكُمْ} لتضمن معنى الاستجابة. كما في قوله عز وجل: {فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ} [العنكبوت: 26]، أي: في إيمانهم مستجيبين لكم، أو للتعليل أي: في أن يحدثوا الإيمان لأجل دعوتكم: {وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ} أي: طائفة فيمن سلف منهم: {يَسْمَعُونَ كَلاَمَ اللّهِ} وهو ما يتلونه من التوراة: {ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ} قال ابن كثير: أي: يتأولونه على غير تأويله. وقال ابن جرير: يعني بقوله: {يحرفونه} يبدلون معناه وتأويله ويغيّرونه، أصله من انحراف الشيء عن جهته وهو ميله عنها إلى غيرها. فكذلك قوله: {يحرفونه} أي: يميلونه عن وجهه، ومعناه الذي هو معناه، إلى غيره: {مِن بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ} أي: فهموه على الجلية، ومع هذا يخالفونه على بصيرة: {وَهُمْ يَعْلَمُونَ} أنهم مخطئون فيما ذهبوا إليه من تحريفه وتأويله.
قال ابن جرير: هذا إخبار عن إقدامهم على البهت ومناصبتهم العداوة له ولرسوله موسى عليه السلام. وأن بقاياهم في العصر المحمديّ على مثل ما كان عليه أوائلهم في العصر الموسويّ بغياً وحسداً. وهذا المقام شبيه بقوله تعالى: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ} [المائدة: 13]، والظاهر أن المراد، بالفريق منهم، أحبارهم، وإنما فعلوا ذلك لضرب من الأغراض على ما بينه الله تعالى، من بعد، في قوله تعالى: {وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً} [آل عِمْرَان: 187]، وقال: {يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ} [البقرة: 146].
ولقائلٍ أن يقول، كيف يلزم من إقدام البعض على التحريف حصول اليأس من إيمان الباقين، فإن عناد البعض لا ينافي إقرار الباقين. وأجاب القفال عنه فقال: يحتمل أن يكون المعنى: كيف يؤمن هؤلاء، وهم إنما يأخذون دينهم، ويتعلمونه من قوم هم يتعمدون التحريف عناداً، فأولئك إنما يعلمونهم ما حرفوه وغيّروه عن وجهه، والمقلدة لا يقبلون إلا ذلك، ولا يلتفتون إلى أقوال أهل الحق، وهو قولك للرجل كيف تفلح، وأستاذك فلان؟ أي: وأنت عنه تأخذ، ولا تأخذ عن غيره.
ونحوه قول الراغب: لما كان الإيمان هو العلم الحقيقيّ مع العمل بمقتضاه، فمتى لم يتحر ذلك من حصل له بعض العلوم، فحقيق أن لا يحصل لمن غَبِيَ عن كل العلوم. فذكر ذلك تبعيداً لإيمانهم لا يأساً للحكم بذلك؛ إذ ليس كل ما لا يطمع فيه كان مأيوساً. ثم قال الراغب: وفي الآية تنبيه أن ليس المانع للإنسان من تحري الإيمان الجهل به فقط، بل يكون عناداً وغلبة شهوة.
تنبيه:
ما نقلناه عن ابن جرير وابن كثير في تفسير: {ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ} هو الأنسب باعتبار سوق الآية الكريمة، ولا يتوهم من ذلك دفع تحريفهم اللفظيّ عن التوراة، فإنه واقع بلا ريب، فقد بدلوا بعضاً منها وحرفوا لفظة، وأوّلوا بعضاً منها بغير المراد منه، وكذا يقال في الإنجيل. ويشهد لذلك كلام أحبارهم، فقد نقل العلامة الجليل الشيخ رحمه الله الهندي في كتابه إظهار الحق: أن أهل الكتاب سلفاً وخلفاً، عادتهم جارية بأنهم يترجمون غالباً الأسماء في تراجمهم، ويوردون بدلها معانيها، وهذا خبط عظيم ومنشأ للفساد، أنهم يزيدون تارة شيئاً بطريق التفسير في الكلام، الذي هو كلام الله في زعمهم، ولا يشيرون إلى الامتياز، وهذان الأمران بمنزلة الأمور العادية عندهم، ومن تأمل في تراجمهم المتداولة بألسنةٍ مختلفة وجد شواهد تلك الأمور كثيرة. ثم ساق بعضاً منها فانظره.
وفي ذخيرة الألباب، لأحد علماء النصارى، ما مثاله: إن بعضهم ذهب إلى أن الروح القدس لم يقِ الكتبة عثرة الخطأ الطفيف، ولا كفاهم زلة القدم حتى لم يستحِل أنهم خلطوا البشريات بالإلهيات. وفيه أيضاً: إن بين النسخة العبرانية والسامرية واليونانية من الأسفار الخمسة خلافاً عظيماً في أمر التاريخ. فإذاً تحريف الأسفار الخمسة أمر بيّن. وفيه أيضاً في الفصل (31): أن بعض علمائهم زعم أنه وجد في الترجمة اللاتينية العامية للعهدين العتيق والجديد نيفاً وأربعة آلاف غلطة، ورأى آخر فيها ما يزيد على الثمانية آلاف خطأ. انتهى. فثبت من شهادتهم وقوع التحريف اللفظيّ فيها. وهو المقصود.
وأما القول بتحريف الأسفار كلها أو جلها، فهو إفراط. قال الحافظ ابن حجر في آواخر شرح الصحيح في باب قول الله تعالى: {بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ} [البروج: 21].
إن القول بأنها بدلت كلها مكابرة. والآيات والأخبار كثيرة في أنه بقي منها أشياء كثيرة لم تبدل. من ذلك قوله تعالى: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْأِنْجِيلِ} [الأعراف: 157] الآية. ومن ذلك قصة رجم اليهوديين وفيه وجود آية الرجم، ويؤيده قوله تعالى: {قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [آل عِمْرَان: 93].
وقد أسلفنا تتمة هذا البحث في مقدمة التفسير في الكلام على الإسرائيليات. فارجع إليه.
ثم أخبر تعالى، عن تخلق أولئك المأيوس من إيمانهم من اليهود بأخلاق المنافقين، وسلوكهم منهاجهم، بقوله تعالى: