فصل: تفسير الآية رقم (39):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: محاسن التأويل



.تفسير الآية رقم (39):

القول في تأويل قوله تعالى: {فَمَن تَابَ مِن بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [39].
{فَمَنْ تَابَ} أي: رجع من السُّرَّاق إلى الله: {مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ} أي: سرقته: {وَأَصْلَحَ} أي: علمه: {فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ} أي: يقبل توبته فلا يعذبه في الآخرة: {إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} أي: مبالغ في المغفرة ولذلك يقبل توبته. وهو تعليل لما قبله.
قال أبو السعود: وإظهار الاسم الجليل للإشعار بعلة الحكم وتأييد استقلال الجملة.
وكذا في قوله عزّ وجل:

.تفسير الآية رقم (40):

القول في تأويل قوله تعالى: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يُعَذِّبُ مَن يَشَاء وَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاء وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [40].
{أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} فإن عنوان الألوهية مدارُ أحكام ملكوتهما. والاستفهام لتقرير العلم. والمراد به الاستشهاد بذلك على قدرته تعالى على ما سيأتي من التعذيب والمغفرة على أبلغ وجه وأتمّه. أي: ألم تعلم أن له السلطان القاهر والاستيلاء الباهر المستلزمان للقدرة التامة على التصرف الكلي فيهما وفيما فيهما: {يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ} وتقديم التعذيب لأن السياق للوعيد. فيناسب ذلك تقديم ما يليق به من الزواجر: {وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} ومنه التعذيب والمغفرة.
تنبيه:
ذهب الجمهور إلى أن توبة السارق تُسُقط عنه حدود الله. وأما حقّ الآدمي من القطع وردّ المال أو بدله فلاَ يَسْقط بتوبته.
وقال أبو حنيفة: متى قطع، وقد تلفت في يده فإنه لا يرد بدلها. وقد بينت السنة أنه إن عفي عنه قبل الرفع إلى الإمام، سقط القطع.
روى ابن ماجة عن ثعلبة الأنصاري: أن عُمَر بن سمرة جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! إني سرقت جملاً لبني فلان فطهِّرني. فأرسل إليهم النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: إنا افتقدنا جملاً لنا. فأمر به فقطعت يده. قال ثعلبة- أحد رجال السند-: أنا أنظر إليه حين وقعت يده وهو يقول: الحمد لله الذي طهرني منك. أردت أن تدخلي جسدي النار. وروى الإمام أحمد عن عبد الله بن عَمْرو: أن امرأة سرقت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم. فجاء بها الذين سرقتهم فقالوا. يا رسول الله! إن هذه المرأة سرقتنا، قال قومها فنحن نفديها- يعني أهلها- فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اقطعوا يدها». فقطعت يدها اليمنى، فقالت المرأة: هل لي من توبة؟ يا رسول الله! قال: «نعم، أنت اليوم من خطيئتك كيوم ولدتك أمك». فأنزل الله عز وجل في سورة المائدة: {فَمَن تَابَ مِن بَعْدِ ظُلْمِهِ}.. الآية.
قال ابن كثير: وهذه المرأة هي المخزومية التي سرقت. وحديثها ثابت في الصحيحين من رواية الزهري عن عائشة أن امرأة سرقت في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة الفتح. ففزع قومها إلى أسامة بن زيد يستشفعونه. قال عروة: فلما كلمه أسامة فيها، تلون وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أتكلمني في حد من حدود الله؟ قال أسامة استغفر لي، يا رسول الله؟
فلما كان العشي قام رسول الله صلى الله عليه وسلم خطيباً فأثنى على الله بما هو أهله، ثم قال: أما بعد. فإنما أهلك الناس قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد. والذي نفس محمد بيده! لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها.
ثم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بتلك المرأة فقطعت يدها، فحسنت توبتها بعد ذلك. وتزوجت.
قالت عائشة: فكانت تأتي بعد ذلك فأرفع حاجاتها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا لفظ مسلم. وفي لفظ له عن عائشة قالت: كانت امرأة مخزومية تستعير المتاع وتجحده، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقطع يدها. وعن ابن عُمَر. قال: كانت امرأة مخزومية تستعير متاعاً على ألسنة جاراتها وتجحده. فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقطع يدها. رواه الإمام أحمد. وأبو داود النسائي، وهذا لفظه. وفي لفظ له: إنّ امرأة كانت تستعير الحلي للناس ثم تمسكه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قم يا بلال! فخذ بيدها فاقطعها».

.تفسير الآية رقم (41):

القول في تأويل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لاَ يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُواْ آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هِادُواْ سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِن بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِن لَّمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُواْ وَمَن يُرِدِ اللّهُ فِتْنَتَهُ فَلَن تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللّهِ شَيْئاً أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللّهُ أَن يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [41].
{يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ} نهيٌ. قال أبو البقاء: والجيد فتح الياء وضم الزاي. ويقرأ بضم الياء وكسر الزاي من {أحزنني} وهي لغة {الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ} أي: في إظهاره بما يلوح منهم آثار الكيد للإسلام ومن موالاة الكافرين: {مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ} أي: بألسنتهم. متعلق بـ: {قالوا}: {وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُم} وهم المنافقون، أي: لا تبال بهم فإني ناصرك عليهم: {وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا} عطف على: {مِنَ الَّذِينَ قَالُواْ} وهم يهود بني قريظة، كعب وأصحابه: {سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ} خبر لمحذوف، أي: هم سماعون. واللام إما لتقوية العمل، وإما لتضمين السماع معنى القبول، وإما لام كي، والمفعول محذوف، والمعنى: هم مبالغون في سماع الكذب الذي افترته أحبارهم أو في قبوله. أو سماعون أخباركم ليكذبوا عليكم بالزيادة والنقص إرجافاً وتهويلاً.
وفي الإكليل: أن قوله تعالى: {سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ} يدلّ على أن سامع المحظور كقائله في الإثم.
{سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ} أي: لم يحضروا مجلسك وتجافَوْا عنه إفراطاً في البغضاء. أي: قابلون من الأحبار ومن أولئك المفرطين في العداوة الذين لا يقدرون أن ينظروا إليك. قيل: هم يهود خيبر. والسماعون، بنو قريظة: {يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ} أي: كلم التوراة في الأحكام: {مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ} أي: التي وضعه الله عليها.
قال ابن كثير: أي: يتناولونه على غير تأويله، ويبدلونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون {يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا} أي: إن أوتيتم هذا المحرّف المزال عن مواضعه من جهة الرسول الله صلى الله عليه وسلم: {فَخُذُوهُ} أي: اعملوا به فإنه الحق: {وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ}. بأن أفتاكم الرسول بخلافه: {فَاحْذَرُوا} أي: من قبوله، وإياكم وإياه! فإنه الباطل والضلال. قال ابن كثير: قيل نزلت في قوم من اليهود قتلوا قتيلاً وقالوا تعالوا نتحاكم إلى محمد. فإن حكم بالدية فاقبلوه. وإن حكم بالقصاص فلا تسمعوا منه.
والصحيح أنها نزلت في اليهوديين اللذين زنيا. وكانوا قد بدلوا كتاب الله الذي بأيديهم من الأمر برجم من أحصن منهم. فحرفوا واصطلحوا فيما بينهم على الجلد مائة جلدة والتحميم والإركاب على حمار مقلوبَيْن. فلما وقعت تلك الكائنة بعد الهجرة قالوا فيما بينهم: تعالوا حتى نتحاكم إليه. فإن حكم بالجلد والتحميم فخذوا عنه واجعلوه حجة بينكم وبين الله. ويكون نبياً من أنبياء الله قد حكم بذلك.
وقد وردت الأحاديث بذلك: فروى مالك عن نافع عن ابن عمر قال: جاءت اليهود إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكروا له أن رجلاً منهم وامرأة زنيا، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما تجدون في شأن الرجم»؟ فقالوا: نفضحهم ويجلدون. فقال عبد الله بن سلام: كذبتم. إنَّ فيها الرجم. فأَتَوْا بالتوراة فنشروها. فوضع أحدهم يده على آية الرجم فقرأ ما قبلها وما بعدها. فقال له عبد الله بن سلام: ارفع يدك. فرفع يده فإذا آية الرجم. فقالوا: صدق، يا محمد، فيها آية الرجم. فأمر بهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فرُجِما. فقال عبد الله بن عُمَر: فرأيت الرجل يحني على المرأة يقيها الحجارة. وأخرجاه في الصحيحين. وهذا لفظ الموطأ.
وروى الإمام أحمد عن البراء بن عازب قال: مُرَّ على رسول الله صلى الله عليه وسلم بيهودي محمَّم مجلود. فدعاهم فقال: هكذا تجدون حد الزاني في كتابكم؟ فقالوا نعم. فدعا رجلاً من علمائهم فقال: أنشدك بالذي أنزل التوراة على موسى! هكذا تجدون حد الزاني في كتابكم؟ فقال: لا، والله! ولولا أنك نشدتني بهذا لم أخبرك، نجد حد الزاني في كتابنا الرجم. ولكنه كثر في أشرافنا. فكنا إذا أخذنا الشريف تركناه. وإذا أخذنا الضعيف أقمنا عليه الحد. فقلنا تعالوا حتى نجعل شيئاً نقيمه على الشريف والوضيع. فاجتمعنا على التحميم والجلد. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «اللهم! إني أول من أحيا أمرك إذ أماتوه». قال: فأمر به فرجم قال: فأنزل الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لاَ يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ} إلى قوله-: {يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ}. أي: يقولون: إيتوا محمداً. فإن أفتاكم بالتحميم والجلد فخذوه. وإن أفتاكم بالرجم فأحذروا. قال الحافظ ابن كثير: انفرد بإخراجه مسلم دون البخاري. أبو داود والنسائي وابن ماجة. وكذلك روى أبو بكر الحميدي في مسنده نحوه في سبب نزولها عن جابر. وأبو داود أيضاً، عن ابن عمر.
{وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ} أي: ضلالته: {فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً} أي: في دفع ضلالته: {أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ} أي: من دنس الفتنة ووضر الكفر لانهماكهم فيهما. وإصرارهم عليهما، وإعراضهم عن صرف اختيارهم إلى تحصيل الهداية: {لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ} أي: فضيحة وهتك ستر، بظهور نفاقهم بالنسبة للمنافقين. وذل وجزية وافتضاح، بظهور كذبهم في كتمان نص التوراة بالنسبة لليهود: {وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} وهو النار.

.تفسير الآية رقم (42):

القول في تأويل قوله تعالى: {سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِن جَاؤوكَ فَاحْكُم بَيْنَهُم أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِن تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَن يَضُرُّوكَ شَيْئاً وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُم بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [42].
{سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ} أي: بالباطل. خبر لمحذوف. وكرر تأكيداً لما قبله وتمهيداً لقوله: {أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ} أي: الحرام. وهو الرشوة كما قال ابن مسعود.
قال الزمخشري: السحت كل ما لا يحل كسبه. وهو من سَحَتَهُ إذا استأصله. لأنه مسحوت البركة. كما قال تعالى: {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا} [البقرة: 276]. والربا باب منه. وقرئ {السحت} بالتخفيف والتثقيل، و{السحت} بفتح السين على لفظ المصدر من سحته، و{السحت} بفتحتين، و{السحت} بكسر السين، وكانوا يأخذون الرشا على الأحكام وتحليل الحرام. انتهى.
وفي اللباب: السحت كله حرام تحمل عليه شدة الشره. وهو يرجع إلى الحرام الخسيس الذي لا تكون له بركة ولا بركة ولا لآخذه مروءة ويكون في حصوله عار بحيث يخيفه لا محالة. ومعلوم أن حال الرشوة كذلك. فلذلك حرمت الرشوة على الحاكم عن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن الراشي والمرتشي في الحكم.
أخرجه الترمذي. وأخرجه أبو داود عن عبد الله بن عَمْرو بن العاص.
قال ابن مسعود: الرشوة في كل شيء. فمن شفع شفاعة ليردّ بها حقّاً أو يدفع بها ظلماً. فأهدي بها إليه، فقبل، فهو السحت. فقيل له: يا أبا عبد الرحمن! ما كنا نرى ذلك إلاّ الأخذ على الحكم؟ فقال: الأخذ على الحكم كفر! قال الله تعالى: {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ}.
{فَإِنْ جَاءُوكَ} يعني اليهود لتحكم بينهم: {فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ} لأنهم اتخذوك حكماً: {أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ} لأنهم لا يقصدون بتحاكمهم إليك اتباع الحق بل ما يوافق أهواءهم، أي: فأنت بالخيار. وقد استدل بالآية من قال: إن الإمام مخيّر في الحكم بين أهل الذمة أو الإعراض عنهم. وعن بعض السلف: إنّ التخيير المذكور نسخ بقوله تعالى: {وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ} والتحقيق أنها محكمة، والتخيير باق.
وهو مرويّ عن الحسن والشعبيّ والنخعي والزهريّ، وبه قال أحمد. لأنه لا منافاة بين الآيتين. فإن قوله تعالى: {فَاحْكُم بَيْنَهُم أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ} فيه التخيير. وقوله تعالى: {وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ} فيه كيفية الحكم، إذا حكم بينهم: {وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً} أي: فلن يقدروا على الإضرار بك، لأن الله تعالى عاصمك من الناس: {وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ}، أي: بالعدل الذي أمرت به، وإن كانوا ظلمة خارجين عن طريق العدل: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} أي: العادلين فيما وَلُو وحكموا.
روى مسلم عن عبد الله بن عَمْرو بن العاص قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنّ المقسطين عند الله على منابر من نور عن يمين الرحمن. وكلتا يديه. الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما وَلُوا».

.تفسير الآية رقم (43):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِندَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ} [43].
{وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ} تعجيب من تحكيمهم لمن لا يؤمنون به وبكتابه. مع أن الحكم منصوص في كتابهم الذين يدعون الإيمان به.
قال بعضهم: معنى: {فِيهَا حُكْمُ اللّهِ} أي: في المسألة التي تحاكموا فيها إلى النبي صلى الله عليه وسلم. وهو حكم الله بحسب اعتقادهم أو بحسب الحقيقة. قال: ووجود هذا الحكم الخاص فيها، لا ينافي القول بوجود أشياء أخرى كثيرة فيها محرفة. وسمّاها التوراة: إما باعتبار عرفهم. أو باعتبار أصلها، أو لاشتمالها على أشياء كثيرة من التوراة الحقيقية. ولولا ذلك ما صحّ أن تسمى بذلك، كالإنجيل، مع اعتقاد تحريفها وتبديلها وعدم صحة كثير من أجزائها وكتبها...
{ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ} أي: من بعد البيان في التوراة، وحكمك الموافق لما في كتابهم: {وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ} أي: بالتوراة كما يزعمون.
قال الحاكم: وفي الآية دلالة على أنه لا يجوز طلب الرخصة بترك ما يعتقده حقّاً إلى ما يعتقده غيرَ حقٍّ. وقوله تعالى: {ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ} يدلّ على أن التوليّ عن حكم الله يخرجه عن الإيمان.
قال بعض الزيدية: إذا كره حكم الشرع وطلب المنع، هل ذلك يخرجه عن حكم الإيمان؟ وهذا ينبغي أن يفصل فيه، فيقال: إن اعتقد صحته، أو رأى له مزية أو تعظيماً. أو استهان بحكم الإسلام، فلا إشكال في كفره. وإن لم يحصل ذلك منه، بل اعتقد أنه باطل خسيس، وأنه يعظم شرع الإسلام، ولكن يميل إلى هوى نفسه، فهذا لا يكفر على الظاهر. إذا الكفر يحتاج إلى دليل قاطع.
وفي كلام الحاكم ما تقدم: أنه يخرجه عن الإيمان. فإن أوهم أنه حق أو أنه أصلح من شرع الإسلام، فهذا محتمل للكفر. لأنه كفر إبليس اللعين، بكونه اعتقد أن أمر الله تعالى له بالسجود لآدم، غير صلاح. لكونه خلقه من طين، وإبليس من النار. انتهى.
ثم أشار تعالى إلى حالة اليهود الذين كانوا لا يبالون بالتوراة ويحرّفونها، ويقتلون النبيين، بأنهم خالفوا ما أمرهم الله في شأنها من الهداية بها وصونها عن التحريف، فقال: