فصل: تفسير الآية رقم (44):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: محاسن التأويل



.تفسير الآية رقم (44):

القول في تأويل قوله تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُواْ لِلَّذِينَ هَادُواْ وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُواْ مِن كِتَابِ اللّهِ وَكَانُواْ عَلَيْهِ شُهَدَاء فَلاَ تَخْشَوُاْ النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [44].
{إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدىً} أي: إرشادٌ إلى الحق: {وَنُورٌ} أي: إظهار لما انْبَهَمَ من الأحكام: {يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ} من بني إسرائيل: {الَّذِينَ أَسْلَمُوا} أي: الذين كانوا مسلمين من لدن موسى إلى عيسى عليهم السلام. وسنذكر سرّ هذه الصفة: {لِلَّذِينَ هَادُوا} وهم اليهود. وهاد بمعنى تاب ورجع إلى الحق.
قال المهايميّ: {لِلَّذِينَ هَادُوا} أي: لا لمن يأتي بعدهم. ولم يختص بالحكم بها الأنبياء بل يحكم بها: {وَالرَّبَّانِيُّونَ} أي: الزهّاد العبّاد: {وَالْأَحْبَارُ} أي: العلماء الفقهاء: {بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ} أي: بسبب الذي استودعوه من كتاب الله أن يحفظوه من التغيير والتبديل وأن يقضوا بأحكامه. والضمير في {اسْتُحْفِظُوا} للأنبياء والربانيين والأحبار جميعاً. ويكون الاستحفاظ من الله، أي: كلفهم حفظه. أو للربانيين والأحبار، ويكون الاستحفاظ من الأنبياء: {وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ} أي: رقباء يحمونه من أن يحوم حوله التغيير والتبديل بوجه من الوجوه. أو بأنه حق وصدق من عند الله. فمُعلمو اليهود وعلماؤهم الصالحون لا يفتون ولا يقضون إلا بما لم ينسخ من شريعتهم وما لم يحرف منها، لشيوعه وتداوله وتواتر العمل به.
لطيفة:
قال الزمخشريّ: قوله تعالى: {الَّذِينَ أَسْلَمُواْ} صفة أجريت على النبيين على سبيل المدح. كالصفات الجارية على القديم سبحانه. لا للتفصلة والتوضيح. وأريد بإجرائها التعريض باليهود، وأنهم بعداء من ملة الإسلام التي هي دين الأنبياء كلهم في القديم والحديث، وأن اليهودية بمعزل منها. انتهى.
قال الناصر في الانتصاف: وإنما بعثه على حمل هذه الصفة على المدح دون التفصلة والتوضيح، أنَّ الأنبياء لا يكونون إلا متّصفين بها. فذكر النبوّة يستلزم ذكرها. فمن ثَمَّ حمله على المدح، وفيه نظر. فإن المدح إنما يكون غالباً بالصفات الخاصة التي يميّز بها الممدوح عمن دونه. والإسلام أمر عام يتناول أمم الأنبياء ومتبعيهم كما يتناولهم. ألا ترى أنه لا يحسن في مدح النبيّ صلى الله عليه وسلم أن يقتصر على كونه رجلاً مسلماً؟ فإن أقل متبعيه كذلك. فالوجه- والله أعلم- أن الصفة قد تذكر للعظم في نفسها ولينوّه بها إذا وصف لها عظيم القدر. كما يكون ثبوتها بقدر موصوفها. فالحاصل أنه كما يراد إعظام الموصوف بالصفة العظيمة قد يراد إعظام الصفة بعظم موصوفها. وعلى هذا الوصف جرى وصف الأنبياء بالصلاح في قوله تعالى: {وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيّاً مِنَ الصَّالِحِينَ} [الصافات: 112]. وأمثاله. تنويهاً بمقدار الصلاح. إذ جُعِل صفةَ الأنبياء. وبعثاً لآحاد الناس على الدأب في تحصيل صفته. وكذلك قيل في قوله تعالى: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا} [غافر: 7]. فأخبر، عن الملائكة المقربين، بالإيمان. تعظيماً لقدر الإيمان وبعثاً للبشر على الدخول فيه، ليساووا الملائكة المقربين في هذه الصفة. وإلاّ فمن المعلوم أن الملائكة مؤمنون ليس إلاّ. ولهذا قال: {وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا} يعني من البشر لثبوت حقّ الأخوة في الإيمان بين الطائفتين فكذلك- والله أعلم- جرى وصف الأنبياء في هذه الآية بالإسلام تنويهاً به. لقد أحسن القائل في أوصاف الأشراف، والناظم في مدحه صلى الله عليه وسلم:
فلئن مدحتُ محمداً بقصيدتي ** فلقد مدحتُ قصيدتي بمحمّدِ

والإسلام، وإن كان من اشرف الأوصاف، إذ حاصله معرفة الله تعالى بما يجب له ويستحيل عليه ويجوز في حقه، إلاَّ أن النبوة أشرف وأجلّ، لاستعمالها على عموم الإسلام مع خواص المواهب التي لا تسعها العبارة. فلو لم نذهب إلى الفائدة المذكورة في ذكر الإسلام بعد النبوة، في سياق المدح، لخرجنا عن قانون البلاغة المألوف في الكتاب العزيز، وفي كلام العرب الفصيح، وهو الترقي من الأدنى إلى الأعلى، لا النزول على العكس. ألا ترى أن أبا الطيب كيف تزحزح عن هذا المهيع في قوله:
شمس ضحاها هلال ليلتها ** درّ تقاصيرها زبرجدها!

فنزل عن الشمس إلى الهلال، وعن الدر إلى الزبرجد في سياق المدح. فمضغت الألسن عرض بلاغته، ومزقت أديم صيغته. فعلينا أن نتدبّر الآيات المعجزات، حتى يتعلق فهمنا بأهداب علوّها في البلاغة المعهود لها. والله الموفق.
وقوله تعالى: {فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ} قال الزمخشري: نهيٌ للحكام عن خشيتهم غير الله في حكوماتهم وإدهانهم فيها، وإمضائها على خلاف ما أمروا به من العدل لخشية سلطان ظالم، أو خيفة أذية أحد من القرباء والأصدقاء.
وقال أبو السعود: خطاب لرؤساء اليهود وعلمائهم بطريق الالتفات. وأما حكام المسلمين فيتناولهم النهي بطريق الدلالة دون العبارة. والفاء لترتيب النهي على ما فصل من حال التوراة وكونها معتنى بشأنها فيما بين الأنبياء عليهم السلام، ومن يقتدي بهم من الربانيين والأحبار المتقدمين عملاً وحفظاً. فإن ذلك مما يوجب الاجتناب عن الإخلال بوظائف مراعاتها والمحافظة عليها بأيّ وجهٍ كان. فضلاً عن التحريف والتغيير. ولما كان مدار جراءتهم على ذلك، خشية ذي سلطان أو رغبة في الحظوظ الدنيوية، نهوا عن كل منهما صريحاً، أي: إذا كان شأنها كما ذكر فلا تخشوا الناس كائناً من كانوا، واقتدوا في مراعاة أحكامها وحفظها بمن قبلكم من الأنبياء وأشياعهم: {وَاخْشَوْنِ} في مخالفة أمري والإخلال بحقوق مراعاتها: {وَلا تَشْتَرُوا} أي: تستبدلوا: {بِآيَاتِي} أي: التي فيها، بأن تتركوا العمل بها وتأخذوا لأنفسكم بدلاً منها: {ثَمَناً قَلِيلاً} من الرشوة وابتغاء الجاه ورضا الناس، فإنها- وإن جلّت- قليلة مسترذلة في نفسها، لاسيما بالنسبة إلى ما فات عنهم بترك العمل بها: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} أي: كائناًَ من كان، دون المخاطبين خاصة، فإنهم مندرجون فيه اندراجاً أوليًّا. أي: من لم يحكم بذلك مستهيناً به، منكراً له كما يقتضيه ما فعلوه اقتضاءً بيّناً: {فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} لاستهانتهم به. والجملة تذييل مقرر لمضمون ما قبلها أبلغ تقرير، وتحذير عن الإخلال به أشدّ تحذير. حيث علق فيه الحكم بالكفر بمجرد ترك الحكم بما أنزل الله تعالى. فكيف وقد انضمّ إليه الحكم بخلافه؟ لاسيما مع مباشرة ما نهموا عنه من تحريفه ووضع غيره موضعه، وادعاء أنه من عند الله ليشتروا به ثمناً قليلاً. قاله أبو السعود.
تنبيهات:
الأول: في قوله تعالى: {فَلاَ تَخْشَوُاْ النَّاسَ} دلالة على أنّ على الحاكم أن لا تأخذه في الله لومة لائم.
الثاني: في قوله تعالى: {وَلاَ تَشْتَرُواْ} إلخ دلالة على تحريم الرشا على التبديل. وكتمان الحقّ، وأنّ فِعْلَ ذلك، لغرضٍ دنيويٍِ من طلب جَاه، أو مال- محرّمٌ.
الثالث: في قوله: {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ} الآية، تغليظ في الحكم بخلاف المنصوص عليه، حيث علق عليه الكفر هنا، والظلم والفسق بعدُ. الرابع: ما أخرجه مسلم عن البراء: أن قوله تعالى: {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أنزَلَ اللّهُ}. الثلاث الآيات في الكفار كلها. وكذا ما أخرجه أبو داود عن ابن عباس: أنها في اليهود خاصة، قريظة والنضير- لا يناف تناولها لغيرهم، لأن الاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، وكلمة: {مَن} وقعت في معرض الشرط فتكون للعموم.
الخامس: كفر الحاكم بغير ما أنزل بقيد الاستهانة به والجحود له، هو الذي نحاه كثيرون وأثروه عن عِكْرِمَة وابن عباس.
وروى الحاكم وابن أبي حاتم وعبد الرزاق عن ابن عباس وطاوس: أن من لم يحكم بما أنزل الله، هي به كفر، وليس بكفر ينقل عن الملة. كمن كفر بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر. ونحو هذا روى الثوريّ، عن عطاء قال: هو كفر دون كفر، وظلم دون ظلم، وفسق دون فسق. رواه ابن جرير.
ونقل في اللباب عن ابن مسعود والحسن والنخعيّ: أن هذه الآيات الثلاث عامة في اليهود وفي هذه الأمة، فكل من ارتشى وبدل الحكم فحكم بغير حكم الله، فقد كفر وظلم وفسق. وإليه ذهب السدّي. لأنه ظاهر الخطاب. ثم قال: وقيل: هذا فيمن علم نص حكم الله ثم رده عياناً عمداً، وحكم بغيره. وأما من خفي عليه النص أو أخطأ في التأويل، فلا يدخل في هذا الوعيد.. انتهى.
وقال إسماعيل القاضي في أحكام القرآن: ظاهر الآيات يدل على أن من فعل مثل ما فعلوا- يعني اليهود- واخترع حكماً يخالف به حكم الله، وجعله ديناً يعمل به فقد لزمه مثل ما لزمهم من الوعيد المذكور، حاكماً كان أو غيره.
السادس: روي سبب آخر في نزول هذه الآيات الكريمات.
أخرج الإمام أحمد عن ابن عباس قال: إن الله أنزل: {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} و{أُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} و{أُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} في الطائفتين من اليهود. وكانت إحداهما قد قهرت الأخرى في الجاهلية حتى ارتضوا أو اصطلحوا على أن كل قتيل قتله العزيزة من الذليلة فديته خمسين وسقاً، وكل قتيل قتله الذليلةُ من العزيزة فديته مائة وسق. فكانوا على ذلك حتى قدم النبيّ صلى الله عليه وسلم المدينة، فذلّت الطائفتان كلتاهما لمقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم. ويومئذٍ لم يظهر ولم يوطئهما عليه وهو في الصلح. فقتلت الذليلة من العزيزة قتيلاً. فأرسلت العزيزة إلى الذليلة: أن ابعثوا لنا بمائة وسق، فقالت الذليلة: وهل كان في حيين قط، دينهما واحد ونسبهما واحد وبلدهما واحد، ديةُ بعضهم نصف دية بعض؟ إنا إنما أعطيناكم هذا ضمياً منكم لنا وفَرَقاً منكم. فأما إذْ قدم محمد فلا نعطيكم ذلك، فكادت الحرب تهيج بينهما، ثم ارتضوا على أن يجعلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهم. ثم ذكرت العزيزة فقالت والله! ما محمد بمعطيكم منهم ضعف ما يعطيهم منهم، ولقد صدقوا ما أعطونا هذا إلا ضيماً منا وقهراً لهم. فدُسّوا إلى محمد من يَخْبُرُ لكم رأيه. إن أعطاكم ما تريدون حكمتوه، وإن لم يعطكم حذرتم فلم تحكموه، فَدَسّوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ناساً من المنافين ليخبُروا لهم رأي رسول الله صلى الله عليه وسلم. فلما جاءوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبر الله رسوله صلى الله عليه وسلم بأمرهم كلِّه وما أرادوا. فأنزل الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لاَ يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ} إلى قوله: {الْفَاسِقُونَ} ثم قال: فيهما، والله! نزلت، وإياهم عنى الله عز وجلّ. ورواه أبو داود بنحوه.
وروى ابن جرير من طريق أخرى عن ابن عباس قال: إن الآيات في المائدة قوله: {فَاحْكُم بَيْنَهُم أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ}- إلى-: {الْمُقْسِطِينَ} إنما أنزلت في الدية في بني النضير وقريظة. وذلك أن قتلى بني النضير، وكان لهم شرف يُؤدِّي الدية كاملة. وأن قريظة كانوا يؤدى لهم نصف الدية. فتحاكموا في ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله ذلك فيهم. فحملهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على الحق في ذلك، فجعل الدية في ذلك سواء. ورواه أحمد وأبو داود والنسائي بنحوه.
وروى ابن جرير أيضاً عن ابن عباس قال: كانت قريظة والنضير. وكانت النضير أشرف من قريظة. فكان إذا قتل القرظي رجلاً من النضير قُتِل به. وإذا قتل النضيري رجلاً من قريظة، وُدِيَ بمائة وسق من التمر. فلما بُعِثَ رسول الله صلى الله عليه وسلم، قتل رجلٌ من النضير رجلاً من قريظة. فقالوا: ادفعوا إليه، فقالوا: بيننا وبينكم رسول الله صلى الله عليه وسلم. فنزلت: {وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُم بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ} ورواه أبو داود والنسائيّ وابن حبان والحاكم في المستدرك بنحوه. وهكذا قال قتادة ومقاتل بن حيان وغير واحد. وقد روى العوفيّ وعليّ بن أبي طلحة الوالبيّ عن ابن عباس: أن هذه الآية نزلت في اليهوديين اللذين زنيا، كما تقدمت الأحاديث، وقد يكون اجتمع هذان السببان في وقت واحد. فنزلت هذه الآيات في ذلك كله، والله أعلم. انتهى كلام ابن كثير.
وقد أسلفنا في المقدمة في بحث سبب النزول، ما يزيل الإشكال في تعدد السبب. فتذكر. ومما يقوى أن سبب النزول قضية القصاص- كما قال ابن كثير- قوله تعالى بعد ذلك:

.تفسير الآية رقم (45):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنفَ بِالأَنفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [45].
{وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا} أي: فرضنا على اليهود في التوراة: {أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ}. أي: مقتولة بها إذا قتلتها بغير حق: {وَالْعَيْنَ} مفقوءة: {بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ} مجدوع: {بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ} مقطوعة: {بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ} مقلوعة: {بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} أي: ذات قصاص، أي: يقتص فيها إذا أمكن. كاليد والرجل والذكر ونحو ذلك وإلا- ككسر عظم وجَرح لحم مما لا يمكن الوقوف على نهايته- فلا قصاص، بل فيه حكومة عدل.
تنبيهات:
الأول: هذه الآية مما وُبِّخَتُ به اليهود أيضاً وَقُرِّعت عليه. فإن عندهم في نص التوراة أن النفس بالنفس، وقد خالفوا حكم ذلك عمداً وعناداً. فأقادوا النضريّ من القرظيّ، ولم يُقِيدوا القرظي من النضري. وعدلوا إلى الدية كما خالفوا حكم التوراة في رجم الزاني المحصن، وعدلوا إلى ما اصطلحوا عليه من الجلد والتحميم والإشهار، ولهذا قال هناك: {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ}، لأنهم جحدوا حكم الله قصداً منهم وعناداً وعمداً. وقال ههنا- في تتمة الآية: {فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} لأنهم لم ينصفوا المظلوم من الظالم في الأمر الذي أمر الله بالعدل والتسوية بين الجميع فيه. فخالفوا وظلموا، وتعدوا على بعضهم بعضاً- أفاده ابن كثير.. الثاني- قوله تعالى: {وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ} والمعطوفات بعده، كلها قرئت منصوبة ومرفوعة، والرفع للعطف على محل: {أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} لأن المعنى: وكتبنا عليهم النفس بالنفس، إما لإجراء {كتبنا} مجرى قلنا وإما لأن معنى الجملة التي هي قولك {النَّفْسُ بالنَّفْسِ} مما يقع عليه الكتب كما تقع عليه القراءة، تقول: كتبت الحمد لله، وقرأت {سورة أنزلناها} ولذلك قال الزجاج: لو قُرئ: {أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} بالكسر لكان صحيحاً. كذا في الكشاف. وقد توسع الخفاجي في العناية في بحث الرفع- هنا- على عادته في النحويات فانظره إن شئت.
روى الإمام أحمد وأبو داود والترمذي والحاكم عن أنس بن مالك: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ} نصب النفس ورفع العين، قال الترمذي: حسن غريب. وقال البخاريّ: تفرد ابن المبارك بهذا الحديث.
الثالث: استدل كثير ممن ذهب من الأصوليين والفقهاء إلى أن شرع من قبلنا شرع لنا- إذا حكي مقرراً ولم ينسخ، كما هو المشهور عن الجمهور، وكما حكاه الشيخ أبو إسحاق الأسفراييني عن نص الشافعي وأكثر أصحابه- بهذه الآية. حيث كان الحكم عندنا على وفقها في الجنايات عند جميع الأئمة. وقال الحسن البصريّ: هي عليهم وعلى الناس عامة. رواه ابن أبي حاتم. وقد حكى الإمام أبو منصور بن الصباغ في كتابه الشامل اجتماع العلماء على الاحتجاج بهذه الآية على ما دلت عليه.
الرابع: قال ابن كثير: احتج الأئمة كلهم على أن الرجل يُقتل بالمرأة. بعموم هذه الآية الكريمة. وكذا ورد في الحديث الذي رواه النسائي وغيره، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب في كتاب عَمْرو بن حزم: أن الرجل يُقتل بالمرأة.
وفي الحديث الآخر: المسلمون تتكافأ دماؤهم. وهذا قول جمهور العلماء. وعن أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب، وحكي عن الحسن وعثمان البستيّ، ورواية عن أحمد، أن الرجل إذا قتل المرأة لا يقتل بها، بل يجب ديتها. وهكذا احتج أبو حنيفة رحمه الله تعالى بعموم هذه الآية على أن يقتل المسلم بالكافر الذميّ، وعلى قتل الحرّ بالعبد. وقد خالفه الجمهور فيهما. ففي الصحيحين عن أمير المؤمنين عليّ رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يقتل مسلم بكافر». وأما العبد ففيه عن السلف آثار متعددة. إنهم لم يكونوا يُقيدون العبد من الحرّ، ولا يقتل حرّ بعبد. وجاء في ذلك أحاديث لا تصح. وحكى الشافعيّ الإجماع. على خلاف قول الحنفية في ذلك. انتهى.
وقال السيوطي في الإكليل: في هذه الآية مشروعية القصاص في النفس والأعضاء والجروح بتقدير شرعنا. كما قال صلى الله عليه وسلم في حديث أنس: كتاب القصاص، استدل بعموم {النفس بالنفس} من قال بقتل المسلم بالكافر، والحرّ بالعبد، والرجل بالمرأة. وأجاب ابن الفرس بأن الآية أريد بها الأحرار المسلمون، لأن اليهود المكتوب ذلك عليهم في التوراة كانوا ملّةً واحدة ليسوا منقسمين إلى مسلم وكافر، وكانوا أحراراً لا عبيدَ فيهم، لأن عقد الذمة والاستعباد إنما أبيح للنبيّ صلى الله عليه وسلم بين سائر الأنبياء. لأن الاستعباد من الغنائم. ولم تحلّ لغيره. وعقد الذمة لبقاء الكفار. ولم يقع ذلك في عهد نبيّ. بل كان المكذبون يهلكون جميعاً بالعذاب. وأخّر ذلك في هذه الأمة رحمة. وهذا جواب مبين.
وقوله: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} استدل به في كل جرحٍ قيل بالقصاص فيه- كاللسان والشفة وشجاج الرأس والوجه وسائر الجسد- وعلى أن نتف الشعر والضرب لا قصاص فيه، إذ ليس بجرح. انتهى. وقال بعض الزيدية في تفسيره: مذهب أئمة البيت ومالك والشافعي، أنه لا يقتل المسلم بالكافر. وقال أبو حنيفة: يُقتل به، لا بالحربيّ ولا بالمستأمن من الحربيين أخذاً بعموم الآية. قلنا: هي مخصصة بقوله في سورة الحشر: {لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ}. وهذا يقتضي نفي المساواة عموماً. قالوا: أراد في الآخرة. قلنا قال الله: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً} [النساء: 141]. قالوا: ليس هذا على عمومه فإنَّ له أخذ الدَّين منه، وذلك سبيل. قلنا قال صلى الله عليه وسلم: «لا يقتل المؤمن بكافر». فعمّ. قالوا أراد بكافر حربيّ. بدليل أن في آخر الخبر: ولا ذو عهد في عهد. والمعنى: لا يقتل المؤمن ولا الكافر الذي عوهد، بالكافر الذي لا عهد له. قلنا قد تمت الجملة الأولى وهي قوله عليه السلام: «لا يقتل المؤمن بكافر». وأما قوله: «ولا ذو عهد في عهد»، فهذه جملة أخرى. يريد: لا يقتل ما دام في العهد. مع أن الحديث إن احتمل أنها جملة واحدة فالمراد: لا يُقتل مؤمن بأحد من الكفار عموماً. وكذلك المعاهد لا يقتل بأحد من الكفار عموماً. فقامت الدلالة على أن المعاهد، يُقتل ببعض الكفار. وبقي المؤمن على عمومه. وما قلنا مرويّ عن عليّ عليه السلام وزيد. وهذه المخصصات تخصص ما ورد من العمومات في هذه المسألة. انتهى.
الخامس: عموم قوله تعالى: {الْعَيْنَ بِالْعَيْنِ} كعموم قوله تعالى: {النَّفْسَ بِالنَّفْسِ}. فما خصص ذلك العام، خصصه هنا، لكن ننبه على أطراف:
منها-: أن اليسرى لا تؤخذ باليمنى، والوجه عدم المساواة.
ومنها-: عين الأعور تؤخذ بعين الصحيح على ما نصه في الأحكام، وإليه ذهب أبو حنيفة والشافعيّ لعموم الآية. وقال في المنتخب ومالك: لا تؤخذ، لأن نورها أكثر فتطلب المساواة. واحتجوا بأنه مرويّ عن عليّ عليه السلام وعمر وابن عمر وعثمان، قال في الشرح: وكان الإمام يحيى لا يصحح هذه الرواية عن عليّ عليه السلام.
ومنها-: في كيفية القصاص. فإن قلعت العين ثبت القصاص بالقلع. وإن ضرب حتى ذهب بصره ثبت القصاص. قال في التهذيب: فقيل: بالقلع. وقيل: تحمى حديدة ثم تقرب من عينه.
وأما قوله تعالى: {وَالأَنفَ بِالأَنفِ} فالكلام في عمومه كما تقدم. ويذكر هنا تنبيه، وهو أن القصاص إنما يكون إذا استؤصلت. لأن ذلك كالمفصل، لا إذا قطع بعضها. والعموم في قوله تعالى: {وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ} أيضاً كما تقدم. والقصاص: إذا قطعت من أصلها لا إذا قطع البعض. ولا تؤخذ أذن الصحيح بأذن الأصمّ.
وكذا عموم قوله تعالى: {وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ} والقصاص: إذا قلع من أصله. ولابد من المساواة. فلا يؤخذ الصحيح بالأسود ولا بالمكسور. ولا الثنية بالضرس. ونحو ذلك. كما لا تؤخذ اليمنى باليسرى.
وأما قوله تعالى: {وَالْجُرُوحَ} فهذا فيما تُمْكِنًُ فيه المساواة، ويؤمن على النفس لتحرج الأمة.
كذا في تفسير بعض الزيدية. وتتمة فقه هذه الآية يرجع فيه إلى مطولات كتب السنة وشروحها.
وقوله تعالى: {فَمَنْ تَصَدَّقَ} أي: من المستحقين: {بِهِ} أي: بالقصاص. أي: فمن عفا عن الجاني. والتعبير عنه بالتصدق للمبالغة في الترغيب: {فَهُوَ} أي: التصدق {كَفَّارَةٌ لَهُ} أي: للمتصدق يكفر الله بها ذنوبه. وقيل: فهو كفارة للجاني، إذا تجاوز عنه صاحب الحق سقط عنه ما لزمه. وهذا التأويل الثاني روي عن كثير من السلف. كما أخرجه ابن أبي حاتم. واللفظ محتمل. إلا أن الأخبار الواردة في فضل العفو تشهد للأول.
وروى الإمام أحمد عن عن الشعبيّ، أن عُبَاْدَة بن الصامت قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ما من رجل يجرح في جسده جراحة فيتصدق بها إلاَّ كفّر الله عنه مثل ما تصدّق به». ورواه النسائي أيضاً.
وروى الإمام أحمد عن رجل من أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: من أصيب بشيءٍ من جسده فتركه لله، كان كفارة له.
وروى الإمام ابن جرير عن أبي السفر قال: دفع رجل من قريش رجلاً من الأنصار. فاندقّت ثنيّته. فرفعه الأنصاريّ إلى معاوية. فلما ألحّ عليه الرجل قال معاوية: شأنَك وصاحبك. قال، وأبو الدرداء عند معاوية. فقال أبو الدرداء: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ما من مسلمٍ يصاب بشيءٍ من جسده، فيهبه، إلاَّ رفعه الله به درجةً وحطَ عنه به خطيئة». فقال الأنصاري: أنت سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال سمعتْه أذناي ووعاه قلبي. فخلى سبيل القرشيّ. فقال له معاوية: مروا له بمال.
ورواه الإمام أحمد أيضاً عن أبي السفر قال: كسر رجل من قريش سن رجل من الأنصار. فاستعدى عليه معاوية. فقال القرشيّ: إن هذا دق سني، فقال معاوية: كلاَّ. إنا سنرضيه. قال فلما ألح عليه الأنصاري. قال معاوية: شأنك بصاحبك- وأبو الدرداء جالس- فقال أبو الدرداء: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ما من مسلم يصاب بشيءٍ من جسده، فيتصدق به، إلاّ رفعه الله به درجة وحطَّ عنه بها خطيئة». قال فقال الأنصاري: أنت سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: نعم. سمعته أذناي ووعاه قلبي. يعني فعفا عنه الأنصاري. وهكذا رواه الترمذي وقال: غريب، ولا أعرف لأبي السفر سماعاًً من أبي الدرداء.
{وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} لأنهم حكموا بخلاف حكم الله العدل. وتقدم في أول التنبيهات الخمس، قريباً، سرّ التعبير هاهنا بـ: {الظالمون} قبله بـ: {الكافرين} فتذكَّر.