فصل: تفسير الآية رقم (60):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: محاسن التأويل



.تفسير الآية رقم (60):

القول في تأويل قوله تعالى: {قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُم بِشَرٍّ مِّن ذَلِكَ مَثُوبَةً عِندَ اللّهِ مَن لَّعَنَهُ اللّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُوْلَئِكَ شَرٌّ مَّكَاناً وَأَضَلُّ عَن سَوَاء السَّبِيلِ} [60].
{قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ} المخاطب بكاف الجمع أهل الكتاب المتقدم ذكرهم، أو الكفار مطلقاً، أو المؤمنون. والمشار إليه الأكثرون الفاسقون. وتوحيد اسم الإشارة لكونه يُشارُ به إلى الواحد وغيره، أو لتأويله بالمذكور ونحوه. وفي الكلام مقدر أي: بشرٍّ من حال هؤلاء. وقيل: المشار إليه المتقدمون الذين هم أهل الكتاب، يعني أن السلف شرٌّ من الخلف. وجعله الزمخشريّ إشارة إلى المنقوم.
وقد جوّد في إيضاحه العلامة أبو السعود بقوله: لما أمر عليه الصلاة والسلام بإلزامهم وتبكيتهم، ببيان أن مدار نقمهم للدين إنما هو اشتماله على من يوجب ارتضاءه عنهم أيضاً، وكفرهم بما هو مسلم لهم- أمر عليه الصلاة والسلام عقيبه بأن يبكتهم ببيان أن الحقيق بالنقم والعيب حقيقةً، ما هم عليه من الدين المحرف.
وينعى عليهم في ضمن البيان جناياتهم وما حاق بهم من تبعاتها وعقوباتها، على منهاج التعريض. لئلاً يحملهم التصريح بذلك على ركوب متن المكابرة والعناد. ويخاطبهم قبل البيان بما ينبئ عن عظم شأن المبيَّن، ويستدعي إقبالهم على تلقيه من الجملة الاستفهامية المشوقة إلى المخبر به، والتنبئة المشعرة بكونه أمر خطيراً، لما أن النبأ هو الخبر الذي له شأن وخطر. وحيث كان مناط النقم شرّية المنقوم حقيقة أو اعتقاداً، وكان مجرد النقم غير مقيد لشريته البتة، قيل {بشرٍّ من ذلك} ولم يقل: بأنقم من ذلك، تحقيقاً لشرية ما سيذكر وزيادة تقرير لها. وقيل: إنما قيل ذلك، لوقوعه في عبارة المخاطبين، حيث أتى نفر من اليهود فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن دينه فقال عليه الصلاة والسلام: «أومن بِالله وما أنزل إلينا».. إلى قوله: {وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ}. فحين سمعوا ذكر عيسى عليه السلام، قالوا: لا نعلم شرّاً من دينكم. وإنما اعتبر الشرية بالنسبة إلى الدين- وهو منزه عن شائبة الشرية بالكلية- مجاراة معهم على زعمهم الباطل المنعقد على كمال شريته، ليثبت أن دينهم شرّ من كل شرّ. أي: هل أخبركم بما هو شرٌّ في الحقيقة مما تعتقدونه شرّاً، وإن كان في نفسه خيراً محضاً؟ انتهى.
وقوله: {مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ} أي: جزاء ثابتاً عند الله. قال الراغب: الثواب ما رجع إلى الإنسان من جزاء أعماله. سمي به بتصور أن ما عمله يرجع إليه، كقوله: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ} [الزلزلة: 7]، ولم يقل: ير جزاءه. والثواب يقال في الخير ولا شر، لكن الأكثر المتعارف في الخير. وكذا المثوبة، وهي مصدر ميميّ بمعناه. وعلى اختصاصها بالخير استعملت هنا في العقوبة على طريقة:
تحيةُ بَيْنِهِمْ ضَرْبٌ وَجِيعٌ

في التهكم. ونصبها على التميير من {بشرّ}
وقوله تعالى: {مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ} بدل من: {شَرٌّ} على حذف مضاف، أي: بشر من أهل ذلك من لعنه الله، أو بشر من ذلك دينُ من لعنه الله، أو خبر محذوف. أي: هو من لعنه الله وهم اليهود، أبعدهم الله من رحمته وسخط عليهم بكفرهم وانهماكهم في المعاصي بعد وضوح الآيات ومسخ بعضهم قردة وخنازير، وهم أصحاب السبت، كما تقدم بيانه في سورة البقرة: {وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ} عطف على صلة {مَنْ} والمراد من الطاغوت: العجل، أو الكهنة وكل من أطاعوه في معصية الله تعالى: {أُولَئِكَ} أي: الملعونون الممسوخون: {شَرٌّ مَكَاناً} إثبات الشرارة للمكان كناية عن إثباتها لأهله، كقولهم: سلام على المجلس العالي والمجد بين برديه كأن شرهم أثّر في مكانهم أو عظم حتى صار متجسماً! وقيل: المراد بالمكان محل الكون والقرار الذي يؤول أمرهم إلى التمكن فيه، كقوله: {شَرٌّ مَكَاناً} [الفرقان: 34]، وهو مصيرهم، يعني جهنم.
{وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ} أي: أكثر ضلالاً عن الصراط المستقيم.
ثم بين تعالى علامات كمال شرهم وضلالهم بقوله:

.تفسير الآية رقم (61):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَإِذَا جَاؤوكُمْ قَالُوَاْ آمَنَّا وَقَد دَّخَلُواْ بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُواْ بِهِ وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُواْ يَكْتُمُونَ} [61].
{وَإِذَا جَاءُوكُمْ} يعني سفلة اليهود، ويقال: المنافقون: {قَالُوا آمَنَّا} أي: بك ونعتك، أنه في كتابنا: {وَقَدْ دَخَلُوا} إليكم متلبسين: {بِالْكُفْرِ} بكفر السرّ: {وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا} أي: من عندكم متلبسين: {بِهِ} أي: بكفر السر، فهم مستمرون عليه: {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا يَكْتُمُونَ} أي: من الكفر، وفيه وعيد لهم.

.تفسير الآية رقم (62):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَتَرَى كَثِيراً مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} [62].
{وَتَرَى كَثِيراً مِنْهُمْ} أي: اليهود: {يُسَارِعُونَ فِي الْأِثْمِ} أي: الحرام، كالكذب والعصيان من غير مبالاة من الله ولا من الناس: {وَالْعُدْوَانِ} أي: الظلم والاعتداء على الناس: {وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ} أي: الحرام كالرشا. وخصه بالذر مع اندراجه في الإثم للمبالغة في التقبيح، وفيه دلالة على تحريم الرشا، لأن ذلك ورد في كبرائهم أنهم يسترشون في تغيير الحكم: {لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} مما ذكر.

.تفسير الآية رقم (63):

القول في تأويل قوله تعالى: {لَوْلاَ يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ} [63].
{لَوْلا} أي: هلا: {يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ} أي: الزهاد منهم والعبّاد: {وَالْأَحْبَارُ} أي: العلماء: {عَنْ قَوْلِهِمُ الْأِثْمَ} أي: الكذب: {وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ} أي: الرشوة، المفسدة أمر العالم كله: {لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} من ترهبهم وتعلمهم لغير دين الله. أو من تركهم نهيهم. وهذا الذم المقول فيهم، أبلغ مما قيل في حق عامتهم. أولاً: لأنه لما عبر عن الواقع المذموم من مرتكبي المناكير بالعمل في قوله: {لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ}، وعبرّ عن ترك الإنكار عليهم حيث ذمه بالصناعة في قوله: {لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ}- كان هذا الذم أشد. لأنه جعل المذموم عليه صناعة لهم وللرؤساء، وحرفة لازمة، هم فيها أمكن من أصحاب المناكير في أعمالهم.
وهذا معنى قول الزمخشريّ: كأنهم جُعِلوا آثم من مرتكبي المناكير، لأن كل عامل لا يسمى صانعاً، ولا كل عمل يسمى صناعة، حتى يتمكن فيه ويتدرب وينسب إليه. وكأن المعنى في ذلك، أن مُوَاقِعَ المعصية معه الشهوة التي تدعوه إليها وتحمله على ارتكابها. وأما الذي ينهاه، فلا شهوة معه في فعل غيره. فإذا فرط في الإنكار كان أشد حالاً من المُواقِع. ثم قال الزمخشري: ولعمري! إن هذه الآية مما يَقِذُ السامع وينعى على العلماء توانيهم. انتهى.
وفي الإكليل: في هذه الآية وجوب النهى عن المنكر على العلماء، اختصاص ذلك بهم.
وقال البيضاويّ: فيها تحضيض لعلمائهم على النهي عن ذلك، فإن {لولا} إذا دخل على الماضي أفاد التوبيخ، وإذا دخل على المستقبل أفاد التحضيض.
روى ابن جرير عن ابن عباس قال: ما في القرآن آية أشدّ توبيخاً من هذه الآية.
وقال الضحاك: ما في القرآن آية أخوف عندي منها. وروى ابن أبي حاتم عن يحيي بن يعمر قال: خطب عليّ بن أبي طالب، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أيها الناس! إنما هلك من كان قبلكم بركوبهم المعاصي ولم ينههم الربانيون والأحبار. فلما تمادوا أخذتهم العقوبات. فمروا بالمعروف وانهوا عن المنكر قبل أن ينزل بكم مثل الذي نزل بهم. واعلموا أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يقطع رزقاً ولا يقرب أجلاً.
وروى الإمام أحمد عن جرير قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما من قومٍ يكون بين أظهرهم من يعمل بالمعاصي، هم أعزّ منه وأمنع. ولم يغيّروا، إلاّ أصابهم الله منه بعذاب».
ولفظ أبي داود عنه، مرفوعاً: «ما من رجل يكون في قومٍ يعمل فيهم بالمعاصي، يقدرون على أن يغيّروا عليه فلا يغيّروا، إلاّ أصابهم الله بعذاب قبل أن يموتوا».

.تفسير الآية رقم (64):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاء وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِّنْهُم مَّا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَاناً وَكُفْراً وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُواْ نَاراً لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} [64].
{وَقَالتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ} أخرج الطبراني وابن إسحاق عن ابن عباس قال: قال رجل من اليهود يقال له شاس بن قيس: إن ربك بخيلٌ لا ينفق. فنزلت.
وأخرج أبو الشيخ من وجه آخر عنه: نزلت في فنحاص، رأس يهود قينقاع، وتقدم أنه الذي قال: إن الله فقير ونحن أغنياء. فضربه أبو بكر الصديق رضي الله عنه.
فيكون أريد بالآية هنا، ما حكى عنه بقوله المذكور. والله أعلم.
ولما لم ينكر على القائل قومُه ورضوا به، نُسِبَتْ تلك العظيمة إلى الكل، كما يقال: بنو فلان قتلوا فلاناً. وإنما القاتل واحد منهم. وغُلذ اليد وبسُطها: مجاز مشهور عن البخل والجود. ومنه قوله تعالى: {وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا} [الإسراء: 29]، قالوا: والسبب فيه أن اليد آلة لأكثر الأعمال. لاسيما لدفع المال ولإنفاقه. فأطلقوا اسم السبب على المسبب. وأسندوا الجود والبخل إلى اليد والبنان والكف والأنامل. فقيل للجواد: فياض الكف. مبسوط اليد، وسبط البنان نَزِهُ الأنامل. ويقال للبخيل: كزّ الأصابع، مقبوض الكف، جعد الأنامل. وقوله تعالى: {غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ} دعاء عليهم بالبخل أو بالفقر والمسكنة أو بغلّ الأيدي حقيقة. يغلّون أي: تشدّ أيديهم إلى أعناقهم أسارى في الدنيا ومسحوبين إلى النار في الآخرة: {وَلُعِنُوا} أي: أبعدوا عن الرحمة فلا يوفقون للتوبة: {بِمَا قَالُوا} من الكلمة الشنيعة التي لا تصح في حق الله حقيقةً ولا مجازاً: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} أي: بأنواع العطايا المختلفة. وثنّى اليد مبالغة في الرّد ونفي البخل عنه تعالى، وإثباتاً لغاية الجود، فان غاية ما يبذله السخيّ من ماله أن يعطيه بيديه: {يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاء} تأكيد لما قبله، منبه على أن إنفاقه تابع لمشيئته، المبنية على الحكم، التي عليها يدور أمر المعاش والمعاد.
وهاهنا مباحث:
الأول: ما زعمه الزمخشري ومن تابعه- مِن إنَّ إثبات اليد لا يصحّ حقيقة له تعالى- فإنه نزعة كلامية اعتزالية.
قال الإمام ابن عبد البرّ في شرح الموطأ: أهل السنة مجمعون على الإقرار بالصفات الواردة كلها في القران والسنة، والإيمان بها، وحملها على الحقيقة لا على المجاز. إلاَّ أنهم لا يكيّفون شيئاً من ذلك ولا يحدّون فيه صفة محصورة. وأما أهل البدع، الجهمية والمعتزلة كلها، والخوارج، فكلهم ينكروها ولا يحمل شيئاً منها على الحقيقة. ويزعم أن أقرّ بها شبَّهَ. وهم عند من أقرّ بها نافون للمعبود. والحق فيها قاله القائلون بما نطق به كتاب الله وسنة رسوله. وهم أئمة الجماعة.
وقال القاضي أبو يعلى في كتاب إبطال التأويل: لا يجوز ردّ هذه الأخبار ولا التشاغل بتأويلها. والواجب حملها على ظاهرها، وأنها صفات الله، لا تشبّه بسائر الموصوفون بها من الخلق، ولا يعتقد التشبيه فيها ثم قال: ويدل على إبطال التأويل، أن الصحابة ومن بعدهم من التابعين، حمولها على ظاهرها ولم يتعرضوا لتأويلها ولا صرفها عن ظاهرها، ولو كان التأويل سائغاً لكانوا إليه أسبق. لما فيه من إزالة التشبيه ورفع الشبهة. وقال الإمام أبو الحسن الأشعري رحمه الله تعالى في كتاب الإبانة في باب الكلام في الوجه والعينين والبصر واليدين وذكر الآيات في ذلك. ورد على المتأولين بكلام طويل لا يتسع هذا الموضع لحكايته. مثل قوله:
فإن سئلنا: أتقولون لله يدان؟ قيل: نقول ذلك، وقد دل عليه قوله: {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِم} [الفتح: 10]. وقوله تعالى: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَي} [ص: 75]. وروي عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: إن الله مسح ظهر آدم بيده فاستخرج منه ذرية، وقد جاء في الخبر المأثور عن النبيّ صلى الله عليه وسلم: «أن الله خلق آدم بيده، وخلق جنة عدن بيده، وكتب التوراة بيده، وغرس شجرة طوبى بيده». وليس يجوز في لسان العرب، ولا في عادة أهل الخطاب، أن يقول القائل: عملت كذا بيدي، ويعني به النعمة. وإذا كان الله إنما خاطب العرب بلغتها وما يجري في مفهومها في كلامها، ومعقولاً في خطابها، وكان لا يجوز في خطاب أهل اللسان أن يقول القائل: فعلت بيدي، ويعني به النعمة- بطل أن يكون معنى قوله عز وجل: {بِيَدَيَّ} النعمة. وذكر كلاماً طويلاً في تقرير هذا ونحوه.
وقال القاضي أبو بكر الباقلاني في كتاب الإبانة له:
فإن قال: فما الدليل على أنّ للهِ وجهاً ويداً؟ قيل له: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} [الرحمن: 27]، وقوله تعالى: {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص: 75] فأثبت لنفسه وجهاً ويداً: فإن قال: فما أنكرتم أن يكون وجهه ويده جارحة إذا كنتم لا تعقلون وجهاً ويداً إلاّ جارحة؟ قلنا: لا يجب هذا كما لا يجب- إذا لم نعقل حيّاً عالماً قادراً إلا جسماً- أن نقضي نحن وأنتم بذلك على الله سبحانه.
وقال الشيخ تقيّ الدين في الرسالة المدنية مذهب أهل الحديث- وهم السلف من القرون الثلاثة ومن سلك سبيلهم من الخلف- أن هذه الأحاديث تُمَرُّ كما جاءت ويُؤْمَن بها وتُصَدَّق وتصان عن تأويلٍ يفضي إلى تعطيل، وتكييف يفضي إلى تمثيل. وقد أطلق غير واحدٍ ممن حكى إجماع السلف- منهم الخطابيّ- مذهب السلف أنَّها تجري على ظاهره مع نفي الكيفية والتشبيه عنها. وذلك، أن الكلام في الصفات فرع عن الكلام في الذات، يحتذى حذوه ويتبع فيه مثاله. فإذا كان إثبات الذات إثبات وجودٍ لا إثبات كيفية.
فكذلك إثبات الصفات إثبات وجودٍ لا إثبات كيفية.. انتهى.
ويرحم الله الإمام الصرصريّ الأنصاريّ حيث يقول من قصيدة:
إن المقال بالاعتزال لَخِطَّةٌ ** عمياءُ حلّ بها الغُواة المُرَّدُ

هجموا على سبل الهدى بعقولهم ** ليلاً فعاثوا في الديار وأفسدوا

صمٌّ، إذا ذكر الحديث لديهم ** نفروا كأن لم يسمعوه وغرّدوا

واضرب لهم مَثَلَ الحمير إذ رأتْ ** أُسْدَ العرين فهنّ منهم شُرَّدُ

إلى أن قال:
يدعو من اتبع الحديث مشبّهاً ** هيهات ليس مشبّهاً من يُسند

لكنه يروي الحديث كما أتى ** غير تأويلٍ ولا يتأوّد

الثاني: روى الإمام أحمد والشيخان في معنى الآية عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن يمين الله ملأى لا يغيضها نفقة. سحاء الليل والنهار. أرأيتم ما أنفق منذ خلق السماوات والأرض، فإنه لم يَغِضْ ما في يمينه. وكان عرشه على الماء وفي يده الأخرى الفيض- أو القبض- يرفع ويخفض وقال: يقول الله تعالى: أنفقْ أُنفق عليكَ».
الثالث: في هذه الآية دلالة على جواز لعن اليهود، ولا إشكالَ أنَّ ذلك جائز.
الرابع: هذه الآية أصل في تفكير من صدر منه، في جناب البارئ تعالى، ما يؤذن بنقص. وقوله تعالى: {وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ} أي: من اليهود: {مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} من جوامع الخيرات: {طُغْيَاناً} أي: عدواناً على الناس، أو تمادياً في الجحود: {وَكُفْراً} أي: في أنفسهم بعد كفرهم وطغيانهم بالتحريف وأخذ الرشوة أوّلاً. وهذا من إضافة الفعل إلى السبب. أي: يزدادون طغياناً وكفراً بما أنزل، كما قال: {فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِم} [التوبة: 125].
قال الحافظ ابن كثير: أي: يكون ما آتاك الله، يا محمدّ، من النعمة نقمةً في حقّ أعدائك من اليهود وأشباههم. فكما يزداد به المؤمنون تصديقاً وعملاً صالحاً وعلماً نافعاً، يزداد به الكافرون الحاسدون لك ولأمتك، طغياناً- وهو المبالغة والمجاوزة للحدّ في الأشياء- وكفراً أي: تكذيباً كما قال تعالى: {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمىً} [فصلت: 44]، وقال تعالى: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَاراً} [الإسراء: 82].
{وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} فكلمتهم أبداً مختلفة وقلوبهم شتى، لا يقع بينهم اتفاق ولا تعاضد.
وقد ذكر الشهرستاني أنهم افترقوا نيّفاً وسبعين فرقة. ولما قدم النبيّ صلى الله عليه وسلم المدينة، كان اليهود ثلاث طوائف حول المدينة: بني قينقاع وبني النضير وبني قريظة، وَبَسْطُ ما جرياتهم، وهدية صلى الله عليه وسلم في شأنهم، مبسوط في زاد المعاد لابن القيم. فراجعه.
قال الرازي: واعلم أن اتصال هذه الآية بما قبلها، هو أنه تعالى بيّن أنهم إنما ينكرون نبوّته بعد ظهور الدلائل على صحتها، لأجل الحسد ولأجل حب الجاه والتبع والمال والسيادة. ثم إنه تعالى بيّن أنهم، لما رجّحوا الدنيا على الآخرة، لا جرم أن الله تعالى، كما حرمهم سعادة الدين، فكذلك حرمهم سعادة الدنيا، لأن كل فريق منهم بقي مصرّاً على مذهبه ومقالته. يبالغ في نصرته ويطعن في كل ما سواه من المذاهب والمقالات. تعظماً لنفسه وترويجاً لمذهبه. فصار ذلك سبباً لوقوع الخصومة الشديدة بين فرقهم وطوائفهم. وانتهى الأمر فيه إلى إن بعضهم يُكفّر بعضاً، ويغزو بعضهم بعضاً.
وفي الآية وجهان:
أحدهما- ما بين اليهود والنصارى، لأنه جرى ذكرهم في قوله تعالى: {لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى} [المائدة: 51]. وهو قول الحسن ومجاهد. لأنهم المُحدَّث عنهم في قوله تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ}.
والثاني- ما بين فرق اليهود خاصة.
أقول: وهو الظاهر.
فإن قلت: فهذا المعنى حاصل أيضاً بين فرق المسلمين، فكيف يكون ذلك عيباً على الكتابيين حتى يذموا به؟
قلت: بدعة التفرق التي حصلت في المسلمين، إنما حدثت بعد عصر النبيّ صلى الله عليه وسلم وعصر الصحابة والتابعين.
أما في الصدر الأول فلم يزن شيء من ذلك حاصلاً بينهم، فَحَسَنَ جَعْلُ ذلك عيباً على الكتابيين في ذلك العصر الذي نزل فيه القرآن.
{كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَاراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ} أي: كلما أرادوا حرب الرسول صلى الله عليه وسلم، وإثارة شر عليه، ردهم الله سبحانه وتعالى، بأن أوقع بينهم منازعة كفَّ بها عنه شرهم، أو كلما أرادوا حرب أحد، غلبوا وقهروا ولم يقم لهم نصر من الله تعالى على أحد قط. فإيقاد النار كناية عن إرادة الحرب، لأنه كان عادتهم ذلك. ونيران العرب مشهورة، منها هذه. وإطفاء النار على الأول عبارة عن دفع شرهم، وعلى الثاني غلبتهم. و{للحرب} إما صلة لـ: {أوقدوا}، أو متعلق بمحذوف وقع صفة {ناراً} أي: كائنة للحرب {وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَاداً} أي: للفساد أو مفسدين، أي: يجتهدون في الكيد للإسلام وأهله وتعويق الناس عنه وإثارة الفتن: {وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} أي: من كان الإفساد صفته. واللام إما للجنس وهم داخلون فيه دخولاً أوليًّا، أو للعهد، ووضع المظهر موضع المضمر للتعليل، وبيان كونهم راسخين في الإفساد.