فصل: تفسير الآية رقم (76):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: محاسن التأويل



.تفسير الآية رقم (76):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَإِذَا لَقُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ قَالُواْ آمَنَّا وَإِذَا خَلاَ بَعْضُهُمْ إِلَىَ بَعْضٍ قَالُواْ أَتُحَدِّثُونَهُم بِمَا فَتَحَ اللّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَآجُّوكُم بِهِ عِندَ رَبِّكُمْ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} [76].
{وَإِذَا لَقُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ} أي: بالله ورسوله من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: {قَالُواْ آمَنَّا} أي: بأنكم على الحق، وأن محمداً هو الرسول المبشر به، وكأنهم يقولون ذلك إرضاءً لحلفائهم من الأوس والخزرج، أو جهراً بحقيقةٍ لا يسعهم أمام حلفائهم السكوتُ عنها {وَإِذَا خَلاَ بَعْضُهُمْ} يعني الذين لم ينافقوا: {إِلَىَ بَعْضٍ} أي: الذين نافقوا: {قَالُواْ} أي: عاتبين عليهم: {أَتُحَدِّثُونَهُم بِمَا فَتَحَ اللّهُ عَلَيْكُمْ} أي: بما بيّن لكم في التوراة من البشارة بالنبي صلى الله عليه وسلم، والإيمان بالنبي الذي يجيئكم مصدقاً لما معكم، ونصره.
قال ابن إسحاق: أي: أتقرّون بأنه نبيّ، وقد علمتم أنه أُخذ له الميثاق عليكم باتباعه، وهو يخبرهم أنه النبيّ الذي نجده في كتابنا، اجحدوه ولا تُقرّوا به.
قال ابن جرير: أصل الفتح في كلام العرب القضاء والحكم. والمعنى: أتحدثونهم بما حكم الله به عليكم وقضاه فيكم؟ ومن حكمه تعالى وقضائه فيهم، ما أخذ به ميثاقكم من الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم، وبما جاء به في التوراة.
{لِيُحَآجُّوكُم} متعلقة بالتحديث، دون الفتح، أي: ليقيم المؤمنون به عليكم الحجة: {بِهِ عِندَ رَبِّكُمْ} أي: لتكون الحجة للمؤمنين عليكم في الآخرة، فيقولون: ألم تحدثونا بما في كتابكم، في الدنيا، من حقيّة ديننا، وصدق نبينا؟ فيكون ذلك زائداً في ظهور فضيحتكم، وتوبيخكم على رؤوس الخلائق، في الموقف؛ لأنه ليس من اعتراف بالحق، ثم كتم، كمن ثبت على الإنكار. وتأول الراغب الأصفهانيّ قوله تعالى: {عند ربّكم} أي: في حكمه وكتابه كما هو وجهٌ في آية: {فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ} [النور: 13] أي: في حكم الله وقضائه، وهو وجه جيد، وقوله: {أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} من تمام التوبيخ والعتاب، فهو من جملة الحكاية عنهم على سبيل إنكار بعضهم على بعض. قال الراغب: ويصح أن تكون استئناف إنكار من الله عز وجل، على سبيل ما يسمى في البلاغة: الالتفات. ويصح أن يكون ذلك خطاباً للمؤمنين، تنبيهاً على ما يفعله الكفار والمنافقون.

.تفسير الآية رقم (77):

القول في تأويل قوله تعالى: {أَوَلاَ يَعْلَمُونَ أَنَّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ} [77].
{أَوَلاَ يَعْلَمُونَ أَنَّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ} أي: يخفون من قولهم لأصحابهم، ومن غيره: {وَمَا يُعْلِنُونَ} أي: يظهرون من ذلك، فيخبر به أولياءه. قال الراغب: هذا تبكيت لهم، وإنكار لما يتعاطونه، مع علمهم بأن الله لا يخفى عليه خافية.
ولما ذكر العلماء من اليهود الذين عاندوا بالتحريف، مع العلم والاستيقان، ذكر العوامّ الذين قلدوهم، ونبّه على أنهم في الضلال سواء؛ لأن العالم عليه أن يعمل بعلمه، وعلى العامّي أن لا يرضى بالتقليد والظن، وهو متمكن من العلم، فقال:

.تفسير الآية رقم (78):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لاَ يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلاَّ أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ} [78].
{وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ} أي: لا يحسنون الكتب فيطالعوا التوراة ويتحققوا ما فيها من دلائل النبوة، فيؤمنوا {لاَ يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ} أي: التوراة، أي: لا يدرون ما فيها من حدود وأحكام ومواثيق: {إِلاَّ أَمَانِيَّ} بالتشديد جمع أمنية، أصلها أُمْنٌوْيَة أُفْعُوْلَة فأعلَّت إعلال سيّد، وميّت. مأخوذة من تمنَّى الشيء: قدّرة وأحب أن يصير إليه. أو من تمنَّى: كذب. أو من تمنَّى الكتاب: قرآه. وعلى كلٍّ فالاستثناء منقطع؛ إذ ليس ما يُتمنى، وما يُختلق وما يُتلى، من جنس علم الكتاب أي: لا يعلمون الكتاب. لكن يتمنون أمانيّ حسبما منَّتْهم أحبارهم من أن الله سبحانه يعفو عنهم، وأن آباءهم الأنبياء يشفعون لهم، وغير ذلك من أمانيهم الفارغة، المستندة إلى الكتاب، على زعم رؤسائهم. أو لا يعلمون الكتاب، لكن أكاذيب مختلفة سمعوها من علمائهم، فتقبلوها على التقليد. أو لا يعلمون الكتاب لكن يتلقونه قدر ما يتلى عليهم، فيقبلونه من غير أن يتمكنوا من التدبر والتأمل فيه.
قال ابن جرير: وأولى ما روينا في تأويل قوله: {إِلاَّ أَمَانِيَّ} أن هؤلاء الأميين لا يفقهون، من الكتاب الذي أنزله الله، شيئاً. ولكنهم يتخرصون الكذب ويتقوّلون الأباطيل كذباً وزوراً. والتمني في هذا الموضع هو تخلقّ الكذب وتخرّصه وافتعاله. بدليل قوله تعالى بعدُ: {إن هم إلا يظنون} فأخبر عنهم أنهم يتمنون ما يتمنون من الأكاذيب ظناً منهم، لا يقنياً.
وقال أبو مسلم الأصفهانيّ: حمله على تمني القلب أولى. بدليل قوله تعالى: {وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ} [البقرة: 111] أي: تمنيهم. وقال الله تعالى: {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوآ يُجْزَ بِهِ} [النساء: 123]، وقال: {تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة: 111]، {وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ} [الجاثية: 24] بمعنى يقدّرون ويخرصون.
ورجح كثيرون حمله على القراءة، كقوله تعالى: {ذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ} [الحج: 52] إذ في الاستثناء، حينئذاً، نوع تعلق بما قبله. فيكون أليقَ في طريقة الاستثناء. و{وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ} ما هم إلاّ قوم قصارى أمرهم الظن والتقليد. من غير أن يصلوا إلى رتبة العلم. فأنى يُرجى منهم الإيمان المؤسس على قواعد اليقين؟
تنبيه:
قال الراغب: قد أنبأ الله عن جهل الأميين وذمهم، والمبالغة في ذم علمائهم وأحبارهم، فإن الأميين لم يعرفوا إلا مجرد التلاوة، واعتمدوا على زعمائهم وأحبارهم، وهم قد ضلوا وأضلوا، ونبهنا الله تعالى بذم الأميين، على اكتساب المعارف لئلا يُحتاج إلى التقليد والاعتماد على من لا يؤمن كذبه، وبذم زعمائهم، على تحريّ الصدق وبجنب الإضلال؛ إذ هو أعظم من الضلال.
ولما بين حال هؤلاء في تمسكهم بحبال الأماني واتباع الظن، عقب ببيان حال الذين أوقعوهم في تلك الورطة، وهم الدعاة إلى الضلال بالزور والكذب على الله، وأكل أموال الناس بالباطل، فقيل على وجه الدعاء عليهم.

.تفسير الآية رقم (79):

القول في تأويل قوله تعالى: {فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِندِ اللّهِ لِيَشْتَرُواْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا يَكْسِبُونَ} [79].
{فَوَيْلٌ} فإن أضيف، نُصب. نحو: ويلك وويحك وإذا فصل عن الإضافة، رفع. نحو: ويلٌ له. الويل: الهلاك وشدة العذاب: {لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ} أي: المحرّف، أو ما كتبوه من التأويلات الزائفة: {بِأَيْدِيهِمْ} تأكيد لدفع توهم المجاز. كقولك: كتبته بيميني. وقد يقال في مثل هذا: إن فائدته تصوير الحالة في النفس كما وقعت حتى يكاد السامع لذلك أن يكون مشاهداً للهيئة: {ثُمَّ يَقُولُونَ} لما كتبوه، كذباً وبهتاناً: {هَذَا مِنْ عِندِ اللّهِ لِيَشْتَرُواْ بِهِ} أي: يأخذوا لأنفسهم بمقابلته: {ثَمَناً قَلِيلاً} أي: عرضاً يسيراً.
ويجوز في الآية معنى آخر، أي: فويل للذين يكتبون كتاب التوراة بأيديهم ثم يقولون: هذا من عند الله، فيشهدون بذلك، وكان من مقتضى كتابتهم بأيديهم التي تقفهم من الكتاب على ما لا يقفون عليه، لو كان كتابة غيرهم، ومقتضى قولهم وإقرارهم بأنه من عند الله الوقوف مع عهوده ومواثيقه، إجلالاً لمنزله وموحيه، ودعوى الناس إلى ظواهره وخوافيه، ولكن لم يكن ذلك منهم، بل كان أن حرّفوا كلمه عن مواضعه ليشتروا به ثمناً قليلاً. وحاصل هذا الوجه إبقاء الكتاب المكتوب على أصله، وصدقهم في قولهم: هذا من عند الله. ثم مخالفتهم لذلك. فيكون قوله تعالى: {لِيَشْتَرُواْ بِهِ} تعليلاً لمحذوف دل عليه السياق. أي: ثم بعد ذلك يحرفونه ثم ليشتروا به، وهو وجه جيد يوافق آية: {يحرفون الكلم عن مواضعه} وربما يشير إلى هذا الوجه قول مجاهد فيما رواه ابن جرير: هؤلاء الذين عرفوا أنه من عند الله يحرفونه: {فَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ} أي: فشدة العذاب لهم مما غيرت أيديهم: {وَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا يَكْسِبُونَ} يصيبون من الحرام والسحت.
قال الراغب: إن قيل: لِمَ ذكر: {يكسبون} بلفظ المستقبل و{كتبت} بلفظ الماضي؟ قيل: تنبيهاً على ما قال النبي صلى الله عليه وسلم «من سنّ سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة».
فنبه بالآية أن ما أضّلوه وأثبتوه من التأويلات الفاسدة، التي يعتمدها الجهلة، هو اكتساب وزر يكتسبونه حالاً فحالاً. وإن قيل: لم ذكر الكتابة دون القول. قيل: لمّا كانت الكتابة متضمنة للقول وزائدة عليه؛ إذ هو كذب باللسان واليد، صار أبلغ؛ لأن كلام اليد يبقى رسمه والقول يضمحل أثره.
إن قيل: ما الذي كانوا يكتبونه؟ قيل: روي عن بعض السلف أن رؤساء اليهود كانوا يغيرون من التوراة نعت النبي صلى الله عليه وسلم. ثم يقولون هذا من عند الله. وهذا فصل يحتاج إلى فضل شرح. وهو أنه يجب أن يتصور أن كل نبيّ أتى بوصف لنبيّ بعده، فإنه أتى بلفظة معرّضة وإشارة مدرجة، لا يعرفها إلا الراسخون في العلم. وقد قال العلماء: ما انفك كتاب منزل من السماء من تضمن ذكر النبي صلى الله عليه وسلم، لكن بإشارات، ولو كان ذلك متجلياً للعوامّ لما عوتب علماؤهم في كتمانه، ثم ازداد ذلك غموضاً بنقله من لسان إلى لسان، من العبرانيّ إلى السريانيّ إلى العربيّ، وقد ذكر المحصلة ألفاظاَ من التوراة والإنجيل، إذا اعتبرت وجدت دالة على صحة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم بتعريض، هو عند الراسخين في العلم جليّ، وعند العامة خفيّ. فبان بهذه الجملة أن ما كتبت أيديهم كانت تأويلات محرّفة، وقد نبه الله تعالى بالآية على التحذير من تغيير أحكامه، وتبديل آياته، وكتمان الحق عن أهله، وترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، طمعاً في عرض الدنيا، وقد تقدم أنه عنى بالثمن القليل، أعراض الدنيا وإن كثرت؛ لقوله تعالى: {قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ} [النساء: 77]. إلى هنا كلام الراغب رحمه الله.

.تفسير الآية رقم (80):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَقَالُواْ لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِندَ اللّهِ عَهْداً فَلَن يُخْلِفَ اللّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} [80].
{وَقَالُواْ لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَةً} بيان لبعض آخر من جناياتهم فيما ادّعوا لأنفسهم من أنهم لا تمسهم النار في الآخرة إلا مدة يسيرة، ومرادهم بذلك أنهم لا يخلدون فيها؛ لأن كل معدود منقض. قال مجاهد: كانت اليهود تقول: إنما الدنيا سبعة آلاف سنة. فإنما نعذب، مكان كل ألف سنة يوماً، ثم ينقطع العذاب. وروي ذلك عن ابن عباس. وعنه أن اليهود قالوا: لن ندخل النار إلا الأيام التي عبدنا فيها العجل، أربعين، فإذا انقضت انقطع عنا العذاب، ثم بين تعالى إفكهم. لأن العقل لا طريق له إلى معرفة ذلك، وإنما سبيل معرفته الإخبار منه تعالى، وهو منتف، فقال سبحانه: {قُلْ} منكراً لقولهم وموبّخاً لهم: {أَتَّخَذْتُمْ عِندَ اللّهِ عَهْداً} أي: عهد إليكم أنه لا يعذبكم إلا هذا المقدار: {فَلَن يُخْلِفَ اللّهُ عَهْدَهُ} أي: فتقولوا لن يخلف الله عهده. وجعل بعضهم الفاء فصيحة مُعربة عن شرط مقدر، أي: إن كان الأمر كذلك فلن يخلفه: {أَمْ تَقُولُونَ} أي: أم لم يكن ذلك فأنتم تقولون مفترين: {عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} أي: وقوعه جهلاً وجراءة. وقولهم المحكيّ، وإن لم يكن تصريحاً بالافتراء عليه سبحانه، لكنه مستلزم له. لأن ذلك الجزم لا يكون إلا بإسناد سببه إليه تعالى.

.تفسير الآية رقم (81):

القول في تأويل قوله تعالى: {بَلَى مَن كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [81].
{بَلَى} إثبات لما بعد حرف النفي وهو قوله: {لن تمسنا النار} أي: بلى تمسكم أبداً، بدليل قوله: {هم فيها خالدون}، {مَن كَسَبَ سَيِّئَةً} أي: عملها وهي والسيء عملان قبيحان أصلها سيوءة، من: ساءه يسوه. فأُعلت إعلال سيد. ثم أوضح سبحانه أن مجرد كسب السيئة لا يوجب الخلود في النار، بل لابد أن يكون سببه محيطاً به فقال: {وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ} أي: غمرته من جميع جوانبه فلا تبقي له حسنة، وسدت عليه مسالك النجاة، بأن عمل مثل عملكم أيها اليهود. وكفر بما كفرتم به حتى يحيط كفره بما له من حسنة: {فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}.
تنبيه:
ذهب أهل السنة والجماعة إلى أن الخلود في النار إنما هو للكفار والمشركين لما ثبت في السنة، تواتراً، من خروج عصاة الموحدين من النار، فيتعين تفسير السيئة والخطيئة، في هذه الآية، بالكفر والشرك. ويؤيد ذلك كونها نازلة في اليهود.

.تفسير الآية رقم (82):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [82].
{وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} من عادة التنزيل العزيز أنه لا يذكر فيه آية الوعيد إلا ويتلوها آية في الوعد. وذلك لفوائد:
منها، ليظهر بذلك عدله سبحانه؛ لأنه لما حكم بالعذاب الدائم على المصرّين على الكفر، وجب أن يحكم بالنعيم الدائم على المصرّين على الإيمان.
ومنها، أن المؤمن لابد وأن يعتدل خوفه ورجاؤه، وذلك الاعتدال لا يحصل إلا بهذا الطريق.
ومنها، أنه يظهر بوعده كمال رحمته، وبوعيده كمال حكمته، فيصير ذلك سبباً للعرفان.
وقد قدمنا عند قوله تعالى: {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [البقرة: 25] أن السلف أجمعوا على أن الإيمان قول وعمل. فإذا عطف عليه العمل، فإما أن يكون من عطف الخاص على العام. أو يقال: لم يدخل فيه ولكن مع العطف، كما في اسم الفقير والمسكين. فتذكر.
قال الراغب: في هذه الآية دليل على أن قوله تعالى من قبل: {بَلَى مَن كَسَبَ سَيِّئَةً} هو الكفر، وإحاطة الخطيئة به، الأعمال السيئة، وذلك لما قابله به من الإيمان والأعمال الصالحة.
ثم شرع، سبحانه، يقيم الدليل على أنهم ممن أحاطت به خطيئته فقال: