فصل: تفسير الآية رقم (86):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: محاسن التأويل



.تفسير الآية رقم (86):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} [86].
{وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} أي: الذين جحدوا الحقّ الذي جاءهم وكذّبوا بِحُجَجِ الله وبراهينِه أولئك أصحاب الجحيم، أي: النار الشديدة الحرارة. جَزاءً وفاقاً.

.تفسير الآية رقم (87):

القول في تأويل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللّهُ لَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [87].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ} أي: ما طاب ولذّ منه. كأنه- لما تضمن ما سلف مدح النصارى على الترهيب، والحث على كسر النفس. ورفض الشهوات- عقبه النهي عن الإفراط في ذلك بتحريم اللذائذ من المباحات الشرعية. ثم أشار إلى أنه اعتداء بقوله سبحانه: {وَلا تَعْتَدُوا} أي: عمّا حدّ الله سبحانه وتعالى بجعل الحلال حراماً. أو: ولا تعتدوا في تناول الحلال فتجاوزوا الحدّ فيه إلى الإسراف كما قال تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا} [الأعراف: 31]. وقال: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً} [الفرقان: 67]. أو: ولا تعتدوا على النفس والأهل بمنع الحقوق. أو: ولا تعتدوا حدود ما أحل الله لكم إلى ما حرم عليكم: {إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} في كل ما ذكر، وهو تعليل لما قبله.

.تفسير الآية رقم (88):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللّهُ حَلاَلاً طَيِّباً وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِيَ أَنتُم بِهِ مُؤْمِنُونَ} [88].
{وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالاً طَيِّباً} أي: كلوا ما حل لكم وطاب مما رزقكم الله. فيكون: {حَلالاً} مفعول: {وَكُلُوا} و{مِمَّا} حال منه، أو متعلقة بـ: {كُلُوا}، أو هو المفعول و{حَلالاً} حال من: {مَا} أو من عائده المحذوف، أو صفة لمصدر محذوف، أي: أكْلاً حلالاً. وقوله تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ} تأكيد للتوصية بما أمر به، وزاده تأكيداً بقوله: {الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ} لأن الإيمان به يوجب التقوى، في الانتهاء إلى ما أمر به وعما نهى عنه.
قال المهايمي: مقتضى إيمانكم أن لا تغيروا شيئاً من أحكام دينكم، وأن لا تعارضوا في أحكامه ولو بكراهة من أنفسكم، وأن تتقوه في وضع قواعد تخالف قواعد الشرع، بل غاية ما يجوز أخذ معان من علم الشريعة مؤكدة لمقتضاه.
تنبيهات.
الأول: فيما روي في سبب نزولها:
أخرج الترمذي عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن رجلاً أتى النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال: إني إذا أصبت اللحم انتشرت للنساء وأخذتني شهوتي فحرمتُ عليّ اللحم. فأنزل الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحَرِّمُواْ}.. الآية.
وروى ابن أبي حاتم عن عليّ بن أبي طلحة عن ابن عباس: نزلت هذه الآية في رهط من أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم، قالوا: نقطع مذاكيرنا ونترك شهوات الدنيا ونسيح في الأرض كما تفعل الرهبان. فبلغ ذلك النبيّ صلى الله عليه وسلم. فأرسل إليهم، فذكر لهم ذلك، فقالوا: نعم. فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأنام، وأنكح النساء. فمن أخذ بسنتي فهو مني ومن لم يأخذ بسنتي فليس مني». وروى ابن مردويه نحوه.
وفي الصحيحين من حديث عائشة رضي الله عنها، أنَّ ناساً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم سألوا أزواج النبيّ صلى الله عليه وسلم عن عمله في السرّ؟ فقال بعضهم: لا آكل اللحم. وقال بعضهم: لا أتزوج النساء. وقال بعضهم: لا أنام على فراش. فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «ما بال أقوامٍ يقول أحدهم كذا وكذا؟ لكني أصوم وأفطر، وأنام وأقوم، وآكل اللحم. وأتزوج النساء. فمن رغب عن سنّتي فليس مني».
وروى ابن أبي حاتم، أن عبد الله بن مسعود جاءه مَعْقِل بن مقرن فقال: إني حرمت فراشي. فتلا عليه هذه الآية.
وأخرج أيضاً عن مسروق قال: كنا عند عبد الله بن مسعود. فجيء بضرعٍ فتنحّى رجل. فقال عبد الله: ادن. فقال: إني حرمت أن آكله. فقال عبد الله: ادن فاطعم وكفّر عن يمينك. وتلا هذه الآية. ورواه الحاكم أيضاً.
الثاني: قال بعض الزيدية: ثمرة الآية النهي عن تحريم الطيبات من الحلال. وذكر الحاكم: أن هذا النهي يحتمل وجوهاً لا مانع من الحمل على جميعها: أحدهما لا تعتقدوا التحريم. ومنها: لا تحرّموا على غيركم بالفتوى والحكم. ومنها: لا تجروه مجرى الحرمات في شدة الاجتناب. ومنها: لا تلتزموا تحريمه بنذرٍ أو غيره.
وقال القاضي: لا تحرموا الحلال بفعل يصدر منكم، كالبياعات الربوية وخلط الحلال بالمغصوب والطاهر بالنجس.
ثم قال: ويتعلق بهذا أمرين: الأول إذا حرم الحلال، هل يجب عليه الحنث والرجوع؟ قلنا: ظاهر الآية يدل على ذلك، ويلزم مع ذلك التوبة.
الأمر الثاني: هل يلزمه في ذلك كفارة؟ قلنا هذه الآية قد يستدل بها على اللزوم، لأن النهي يقتضي فساد المنهيّ عنه. وهذه المسألة فيها خلاف بين العلماء. انتهى.
وقال ابن كثير: ذهب الشافعيّ إلى أنه من حرّم مأكلاً أو ملبساً أو شيئاً، ما عدا النساء، أنّه لا يحرم عليه، ولا كفارة عليه أيضاً. لإطلاق هذه الآية. ولأن الذي حرم اللحم على نفسه- كما في الحديث المتقدم- لم يأمره النبي صلى الله عليه وسلم بكفارة.
وذهب آخرون- منهم الإمام أحمد- إلى أن من حرم شيئاً- مما ذكر- فإنه يجب عليه كفارة يمين، كما إذا التزم تركه باليمين. فكذلك يؤاخذ بمجرد تحريمه على نفسه إلزاماً له بما التزمه، كما أفتى بذلك ابن عباس، وكما في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [التحريم: 1]. ثم قال: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} [التحريم: 2].. الآية. وكذلك هنا. لما ذكر هذا الحكم عقبه بالآية المبينة لتكفير اليمين، فدلّ على أنَّ هذا منزل منزلة اليمين في اقتضاء التفكير. والله أعلم.
وفي زاد المعاد لابن القيم فصل مهمّ في حكم من حرم أمَتَهُ أو زوجته أو متاعه. تنبغي مراجعته.
الثالث: هذه الآية أصل في ترك التنطع والتشدد في التعبد- كذا في الإكليل.
قال ابن جرير: لا يجوز لأحد من المسلمين تحريم شيء، ممَّا أحلّ الله لعباده المؤمنين، على نفسه من طيبات المطاعم والملابس والمناكح، ولذلك ردّ النبيّ صلى الله عليه وسلم التبتل على عثمان بن مظعون. فثبت أنه لا فضل في ترك شيء مما أحلّه الله لعباده. وأن الفضل والبرّ إنما هو في فعل ما ندب الله إليه عباده، وعمل به رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنّه لأمته، واتبعه على منهاجه الأئمة الراشدون. إِذْ كان خير الهدى هدى نبيناً محمد صلى الله عليه وسلم.. فإذا كان ذلك كذلك تبيّن خطأ من آثَرَ لباس الشعر والصوف على لباس القطن والكتان، إذا قدر على لباس ذلك من حله. وآثَرَ أكل الخشن من الطعام وترك اللحم وغيره حذراً من عارض الحاجة إلى النساء.. قال: فإن ظن ظان أن الفضل في غير الذي قلنا- في لباس الخشن وأكله من المشقة على النفس وصرف ما فضل منهما من القيمة إلى أهل الحاجة- فقد ظنّ خطأ. وذلك أن الأوْلى بالإنسان صلاح نفسه وعونه لها على طاعة ربّها، ولا شيء أضَر على الجسم من المطاعم الرديئة. لأنها مفسدة لعقله ومضعفة لأدواته التي جعلها الله سبباً إلى طاعته.. انتهى.
وللرازي هنا مبحث جيد في حكمه هذا النهي. مؤيد لما ذكر. فليراجع فإنه نفيس.
وقد أخرج الترمذي عن عائشة قالت: كان رسول الله يحب الحلواء والعسل. وله عن أبي هريرة قال: أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بلحم فرُفِع إليه الذراع- وكانت تعجبه- فنهش منها. قالت عائشة: ما كان الذراع أحبّ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكن كان لا يجد اللحم إلا غبّاً، وكان يعجل إليه الذراع لأنه أعجلها نضجاً. أخرجه الترمذي. وحكى الزمخشري عن الحسن أنه دعي إلى طعامٍ ومعه فَرْقَدٌ السَّبَخِيٌّ وأصحابه. فقعدوا على المائدة- وعليها الألوان من الدجاج المسمن والفالوذ وغير ذلك- فاعتزل فَرْقَد ناحية، فسأل الحسنُ: أهو صائم؟ قالوا: لا ولكنه يكره هذه الألوان، فأقبل الحسن عليه وقال: يا فريقد! أترى لعاب النحل، بلباب البر، بخالص السمن، يعيبه مسلم؟
وعنه: أنه قيل له: فلان لا يأكل الفالوذ ويقول: لا أؤدي شكره قال: أفيشرب الماء البارد؟ قالوا نعم، قال: إنه جاهل. إن نعمة الله عليه في الماء البارد أكثر من نعمته في الفالوذ.
وعنه: أن الله تعالى أدب عباده فأحسن أدبهم قال الله تعالى: {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ} [الطلاق: 7]. ما عاب الله قوماً وسع عليهم الدنيا فتَنعّموا وأطاعوا. ولا عذر قوماً زواها عنهم فعصوه.
الرابع: قال الرازي: لم يقل تعالى: كُلُوا مَا رَزَقَكُمْ، ولكن قال: {مِمَّا رَزَقَكُمُ اللّهُ} وكلمة: {مِنْ} للتبعيض. فكأنه قال: اقتصروا في الأكل على البعض واصرفوا البقية إلى الصدقات والخيرات، لأنه إرشاد إلى ترك الإسراف كما قال: {وَلاَ تُسْرِفُواْ}.

.تفسير الآية رقم (89):

القول في تأويل قوله تعالى: {لاَ يُؤَاخِذُكُمُ اللّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُواْ أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [89].
{لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} تقدم الكلام على اللغو في اليمين في سورة البقرة وإنه ما يسبق إليه اللسان بلا قصد الحلف، كقول الإنسان: لا، والله! وبلى والله! والمراد بالمؤاخذة: مؤاخذة الإثم والتكفير، أي: فلا إثم في اللغو ولا كفارة: {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ} أي: بتعقيدكم الأيْمَانَ وتوثيقها عليه بأن حلفتم عن قصد منكم، أي: إذا حنثتم. أو بنكث ما عقدتم، فحذف للعلم به. وقرئ بالتخفيف، وقرئ {عاقدتم} بمعنى عقدتم: {فَكَفَّارَتُهُ} أي: فكفارة نكثه، أي: الخصلة الماحية لإثمه: {إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ} يعني محاويج من الفقراء ومن لا يجد ما يكفيه: {مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ} أي: لا من أجوده فضلاً عما تخصونه بأنفسهم. ولا من أرادأ ما تطعمونهم فضلاً عن الذي تعطونه السائل: {أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} أي: عتقها: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ} أي: شيئاً مما ذكر: {فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ} كفارته: {ذَلِكَ} أي: المذكور: {كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ} أي: التي اجترأتم بها على الله تعالى: {إِذَا حَلَفْتُمْ} أي: وحنثتم: {وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ} أي: عن الإكثار منها- أو عن الحنث- إذا لم يكن ما حلفتم عليه خيراً، لئلا يذهب تعظيم اسم الله عن قلوبكم: {كَذَلِكَ} أي: مثل هذا البيان الكامل: {يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ} أي: أعلام شرائعه: {لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} أي: نعمته فيما يعلمكم ويسهل عليكم المخرج.
قال المهايمي: أي: تشكرون نعمه بصرفها إلى ما خلقت له، ومن جملتها صرف اللسان، الذي خلق لذكر الله وتعظيمه، إلى ذلك. فإذا فات صرف بعض ما ملكه إلى بعض ما يجبره ليقوم مقام الشكر باللسان، إذ به يتم تعظيمه. فإذا لم يجد كسر هوى النفس من أجله فهو أيضاً من تعظيمه. فافهم.
وفي هذه الآية مباحث:
الأول: معنى {أو} التخيير وإيجاب إحدى الكفارات الثلاث. فإذا لم يجد انتقل إلى الصوم.
فأما الإطعام فليس فيه تحدي بقدر. لا في وجبة ولا وجبتين، ولا في قدر من الكيل.
ولذا روي عن الصحابة والتابعين فيه وجوه. جميعها مما يصدق عليه مسماء، فبأيها أخذ أجزأه. فمنها ما رواه ابن أبي حاتم عن علي رضي الله عنه قال: يغديهم ويعشيهم. كأنه ذهب- رضي الله عنه- إلى المراد بالإطعام الكامل- أعني قوت اليوم وهو وجبتان- وإلا فالإطعام يصدق على الوجبة الواحدة.
ولذا قال الحسن ومحمد بن الحنفية: يكفيه إطعامهم أكلة واحدة خبزاً ولحماً. زاد الحسن: فإن لم يجد فخبزاً وسمناً ولبناً، فإن لم يجد فخبزاً وزيتاً وخلاً حتى يشبعوا.
وعن عمر وعلي أيضاً وعائشة وثلّة من التابعين: يطعم كل واحد من العشرة نصف صاع من بر أو تمر أو نحوهما.
وعن ابن عباس: لكل مسكين مدّ من بُر ومعه إدامه.
وفي فتح القدير من كتب الحنفية: يجوز أن يغديهم ويعشيهم بخبز. إلا أنه إن كان براً لا يشترط الإدام، وإن كان غيره فبإدام. وحكي عن الهادي: اشترط الأكل لإشعار الإطعام بذلك.
والأكثرون: أن الأكل غير شرط. لأنه ينطلق لفظ الإطعام على التمليك.
الثاني: إطلاق المساكين يشمل المؤمن والكافر الذميّ والفاسق. فبعضهم أخذ بعموم ذلك. ومذهب الشافعية والزيدية: خروج الكافر بالقياس على منع صرف الزكاة إليه، وأما الفاسق فيجوز الصرف إليه مهما لم يكن في ذلك إعانة له على المنكر. ولم يجوزه الهادي. وظاهر الآية اشترط العدد في المساكين. وقول بعضهم: إن المراد إطعام طعام يكفي العشرة، مفرعاً عليه جواز إطعام مسكين واحد عشرة أيام- عدول عن الظاهر، لا يثبت إلا بنص.
الثالث: لم يبين في الآية حدّ الكسوة وصفتها، فالواجب حينئذ الحمل على ما ينطلق عليها اسمها.
قال الشافعي، رحمه الله: لو دفع إلى كل واحد من العشرة ما يصدق عليه اسم الكسوة- من قميص أو سراويل أو إزار أو عمامة أو مقنعة- أجزأه ذلك.
وقال مالك وأحمد بن حنبل: لابد أن يدفع إلى كل واحد منهم من الكسوة ما يصحّ أن يصلي فيه، إن كان رجلاً أو امرأة، كل بحسبه.
وقال العوفيّ عن ابن عباس: عباءة لكل مسكين أو شملة.
وقال مجاهد: أدناه ثوب وأعلاه ما شئت.
وعن ابن المسيّب: عمامة يلفَّ بها رأسه، وعباءة يلتحف بها.
وعن الحسن وابن سيرين: ثوبان ثوبان.
وروى ابن مردويه عن عائشة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: {أَوْ كِسْوَتُهُمْ} قال: عباءة لكلّ مسكين. قال ابن كثير: حديث غريب.
أقول: لا يخفى الاحتياط والأخذ بالأكل والأفضل في الإطعام والكسوة.
الرابع: قال الرازي: المرادُ بـ الرقبة الجملة. قيل: الأصل في هذا المجاز أنّ الأسير في العرب كان يجمع يداه إلى رقبته بحبل. فإذا أطلق حلّ ذَلك الحبل. فسمّي الإطلاق من الرقبة فكّ الرقبة. ثم جرى ذلك على العتق. وقد أخذ بإطلاقها أبو حنيفة فقال: تجزئ الكافرة كما تجزئ المؤمنة. وقال الشافعي وآخرون: لابد أن تكون مؤمنة. وأخذ تقييدها من كفارة القتل لاتحاد الموجب، وإن اختلف السبب. ومن حديث معاوية بن الحكم السلمي- الذي هو في موطأ مالك ومسند الشافعي وصحيح مسلم- أنّه ذكر أنَّه عليه عتق رقبة. وجاء معه بجارية سوداء. فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أين الله؟» قالت: في السماء. قال: «من أنا؟» قالت: أنت رسول الله. «قال أعتقها فإنها مؤمنة»... الحديث بطوله.
قال الشعراني، قدس سره في الميزان: قال العلماء: عدم اعتبار الإيمان في الرقبة مشكل. لأن العتق ثمرته تخليص رقبة لعبادة الله عز وجلّ. فإذا أعتق رقبة كافرة فإنما خلصها لعبادة إبليس. وأيضاً فإن العتق قربة، ولا يحسن التقرب إلى الله تعالى بكافر. انتهى. الخامس: للعلماء في حدّ الإعسار الذي يبيح الانتقال إلى الصوم أقوال. وظاهر الآية هو أنه لا يملك قدر إحدى الكفارات الثلاثة- من الإطعام أو الكسوة أو العتق- فإن وجد قدر إحداهما كان ذلك مانعاً من الصوم، اللهمّ إذا فضل عن قومه وقوت عياله في يومه ذلك.
وقد روى ابن جرير عن سعيد بن جبير والحسن أنهما قالا: من وجد ثلاثة دراهم لزمه الإطعام، وإلاَّ صام.
السادس: إطلاق قوله تعالى: {فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ} صادق على المجموعة والمفرّقة. كما في قضاء رمضان، لقوله: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 184]. ومن أوجب التتابع استدلّ بقراءة أبيّ كعب وعبد الله بن مسعود أنهما كانا يقرءان: {فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ مُتَتَابِعَاتٍ}. وقراءتهما لا تختلف عن روايتهما.
قال الأعمش: كان أصحاب ابن مسعود يقرؤونها كذلك.
قال ابن كثير: وهذه، إذا لم يثبت كونها قرآناً متواتراً. فلا أقلّ أن يكون خبر واحد أو تفسير من الصحابة. وهو في حكم المرفوع.
وروى ابن مردويه عن ابن عباس قال: لما نزلت آية الكفارات قال حذيفة يا رسول الله! نحن بالخيار؟ قال: «أنت بالخيار، إن شئت أعتقت وإن شئت كسوت. وإن شئت أطعمت. فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام متتابعات». قال ابن كثير: وهذا حديث غريب جدًّا.
ونقل بعض الزيدية، روايةً عن ابن جبير، أنه كان يصليّ تارةً بقراءة ابن مسعود وتارةً بقراءة زيد.
السابع: قال الناصر في الانتصاف: في هذه الآية- يعني قوله تعالى: {ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ}- وجهٌ لطيفُ المأخذ في الدلالة على صحة وقوع الكفارة بعد اليمين وقبل الحنث، وهو المشهور من مذهب مالك. وبيان الاستدلال بها أنه جعل ما بعد الحلف ظرفاً لوقوع الكفارة المعتبرة شرعاً. حيث أضاف: {إِذَا} إلى أنها إنما تجب بالحنث. فتعين تقديره مضافاً إلى الحلف. بل إنما نطقت بشرعية الكفارة ووقوعها على وجه الاعتبار. إذْ لا يعطي قوله: {ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ} إيجاباً، إنما يعطي صحةً واعتباراً. والله أعلم.
وهذا انتصار عل منع التكفير قبل الحنث مطلقاً، وإن كانت اليمين على برّ.
والأقوال الثلاثة في مذهب مالك، إلا أن القول المنْصُور هو المشهور. انتهى.
وقال الرازيّ: احتجّ الشافعي بهذه الآية على أن التكفير قبل الحنث جائز. لأنها ذلت على أن كل واحد من الثلاثة كفارة لليمين عند وجود الحلف. فإذا أدّاها بعد الحلف، قبل الحنث، فقد أدّى الكفارة. وقوله تعالى: {إِذَا حَلَفْتُمْ} فيه دقيقة. وهي التنبيه على أن تقديم الكفارة قبل اليمين لا يجوز. انتهى. وفي الصحيحين من حديث عبد الرحمن بن سمرة قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا حلفت على يمين، فرأيت غيرها خيراً منها، فكفّر عن يمينك وَأْتِ الذي هو خير». وعند أبي داود: «فكفرّ عن يمينك ثم أتِ الذي هو خير».
الثامن: قال السيوطي في الإكليل: في قوله تعالى: {وَاحْفَظُواْ أَيْمَانَكُمْ} استحباب ترك الحنث إلاَّ إذا كان خيراً، أي: لما تقدم من حديث ابن سمرة. وهذا على أحد وجهين في الآية. والآخر النهي عن الإكثار من الحلف كما سبق. قال كثير:
قليل الألايَا حافظٌ ليمينه ** وإن سَبَقَتْ منه الألِيَّةُ بَرَّت

التاسع: حكمة تقديم الإطعام على العتق- مع أنه أفضل- من وجوه:
أحدها: التنبيه من أول الأمر على أن هذه الكفارة وجبت على التخيير لا على الترتيب. وإلاَّ لَبُدئ بالأغلظ.
ثانيها: كون الطعام أسهل لأنه أعمّ وجوداً، والمقصود منه التنبيه على أنه تعالى يراعي التخفيف والتسهيل في التكاليف.
وثالثها: كون الإطعام أفضل، لأن الحرّ الفقير قد لا يجد الطعام، ولا يكون هناك من يعطيه الطعام، فيقع في الضرّ. أما العبد فإنه يجب على مولاه إطعامه وكسوته، أفاده الرازي.
العاشرة: سرّ إطعام العشرة، أنه بمنزلة الإمساك عن الطعام عشرة أيام العدد الكامل، الكاسرة للنفس المجترئة على الله تعالى. وسرّ الكسوة كونه يجزي بستر العورة سرّ المعصية. وسرّ التحرير فكَّ رقبة عن الإثم. وسرّ صوم الثلاثة، أنَّ الصيام لما كان ضيراً بنفسه اكتفى فيه بأقلّ الجمع. أفاده المهايميّ، قدس سره.
الحادي عشر: قال شمس الدين بن القيّم في زاد المعاد: كان صلى الله عليه وسلم يستثني في يمينه تارةً، ويكفرها تارة، ويمضي فيها تارة. والاستثناء يمنع عقد اليمين. والكفارة تحلّها بعد عقدها. ولهذا سمَّاها الله: {تَحِلَّةَ}. وحلف صلى الله عليه وسلم من ثمانين موضعاً. وأمره الله سبحانه بالحلف في ثلاثة مواضع: فقال تعالى: {وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِين} [يونس: 53] وقال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ} [سبأ: 3]، وقال تعالى: {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [التغابن: 7]. وكان إسماعيل بن إسحاق القاضي يذكر أبا بكر بن داود الظاهريّ ولا يسميه بالفقيه. فتحاكم إليه يوماً هو وخصم له. فتوجهت اليمين على أبي بكر بن داود. فتهيّأ للحلف. فقال له القاضي إسماعيل: وتحلف، ومثلك يحلف يا أبا بكر؟ فقال: وما يمنعني عن الحلف؟ وقد أمر الله تعالى نبيّه بالحلف في ثلاثة مواضع من كتابه. قال: أين ذلك؟ فسردها أبو بكر، فاستحسن ذلك منه جدًّا، ودعاه بالفقيه من ذلك اليوم.. انتهى.