فصل: تفسير الآية رقم (29):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: محاسن التأويل



.تفسير الآية رقم (29):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَقَالُواْ إِنْ هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ} [29].
{وَقَالُوا} عطف على {لعادوا} أو استئناف {إِنْ هِيَ} أي: ما الحياة، فالضمير لما بعده {إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا} لأي: ليست الحياة التي يتوهم فيها البعث، والتي يُتوهم فيه الرد إلا، حياتنا الأولى: {وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ} أي: بعد مفارقتنا هذه الحياة.

.تفسير الآية رقم (30):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُواْ عَلَى رَبِّهِمْ قَالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُواْ بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُواْ العَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ} [30].
{وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ} قال الجلال: أي: عرضوا عليه. وقال ابن كثير: أي: وقفوا بين يديه {قَالَ أَلَيْسَ هَذَا} أي: المعاد: {بِالْحَقِّ} تقريعاً لهم، وردّاً لما يتوهمون عند الرد: {قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا} أي: إنه لحق، وليس بباطل، كما كنا نظن. أكدوا اعترافهم باليمين إظهاراً لكمال يقينهم بحقيّته، وإيذاناً بصدور ذلك عنهم بالرغبة والنشاط، طمعاً في نفعه {قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ}.

.تفسير الآية رقم (31):

القول في تأويل قوله تعالى: {قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِلِقَاء اللّهِ حَتَّى إِذَا جَاءتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُواْ يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلاَ سَاء مَا يَزِرُونَ} [31].
{قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ} أي: ببلوغ الآخرة وما يتصل بها، أو هو مجرى على ظاهره، لأن منكر البعث منكر للرؤية- قاله النسفيّ- والثاني هو الصواب، وإن اقتصر كثيرون على الأول، وجعلوه استعارة تمثيلية لحالهم بحال عبدٍ قدم على سيده بعد مدة، وقد اطّلع السيد على أحواله. فإما أن يلقاه ببشر لما يرضى من أفعاله، أو بسخط لما يسخط منها- فإنه نزعة اعتزالية، ولا عدول إلى المجاز ما أمكنت الحقيقة.
وفي كلام النسفي إشعار بأن اللقاء معناه الرؤية، وهو ما في القاموس. قال شارحه الزبيديّ: وهو مما نقدوه، وأطالوا فيه البحث، ومنهوه. وقالوا: لا يلزم من الرؤية اللقيّ، كالعكس.
وقال الراغب: هو مقابلة الشيء ومصادفته معاً، ويعبّر به عن كل منهما. ويقال ذلك في الإدراك بالحسّ والبصر.
لطيفة:
قال الخفاجي في العناية: قيل: روي عن عليّ رضي الله عنه أنه نظم أبياتاً على وفق هذه الآية، وفي معناها وهي:
زعم المنجمُ والطبيبُ، كلاهما ** لا تُحْشَرُ الأجساد قلتُ إليكما

إن صحّ قولكما فلست بخاسر** أو صحّ قولي فالخسار عليكما

قال الخفاجي: لا أدري من أيهما أعجب؟ الرواية أم الدراية؟ فإن هذا الشعر لأبي العلاء المعرّي في ديوانه وهو:
قال المنجمُ والطبيبُ كلاهما** لا تُحْشَرُ الأَجْسَادُ قلت إليكما

إن صحّ قولكما فلست بخاسر** أو صحّ قولي فالخسار عليكما

أخي التَُّقى والشر يصطرعان ** في الدّ نيا فأيهما أبرّ لديكما

طهّرت ثوبي للصلاة وقبله جسدي** فأين الطهر من جسديكما

وذكرت ربي في الضمائر مؤنساً ** خَلَدِي بذاك، فَأَوْحِشا خَلَدَيْكما

وبكرت في البَرْديْن أبغي رحمة ** منه، ولا تَرِعَانِ في بَرْدَيكما

إِن لم تَعُدْ بيدي منافع بالذي ** آتي فهل من عائدٍ بيديكما

بُرْدُ التقيّ، وإن تهلهل نسجُه** خير بعلم الله من بُرْديكما

قال ابن السيد في شرحه. هذا منظوم مما روي عن عليّ رضي الله عنه، أنه قال لبعض من تشكك في البعث والآخرة: إن كان الأمر كما تقول من أنه لا قيامة، فقد تخلصنا جميعاً، وإن لم يكن الأمر كما تقول، فقد تخلصنا وهلكتَ. فذكروا أنه ألزمه فرجع عن اعتقاده. وهذا الكلام، وإن خرج مخرج الشك. فإنما هو تقرير للمخاطب على خطابه، وقلة أخذه بالنظر والاحتياط لنفسه. مع أن المناظر علي ثقة من أمره، وهو نوع من أنواع الجدل.
وقوله: {إَلَيْكُما} كلمة يراد بها الردع والزجر. ومعناها: كُفَّا عما تقولان، وحقيقته: قولكما مصروف لكما، لا حاجة لي به. انتهى.
ومن له معرفة بقرض الشعر، يعلم أنه شعر مولد.
ثم نبه الخفاجيّ على أن هذا النوع يسمى استدراجاً.
قال في المثل السائر: الاستدراج نوع من البالغة استخرجتُه من كتاب الله تعالى، وهو مخادعات الأقوال التي تقوم مقام مخادعات الأفعال، يستدرج الخصم حتى ينقاد ويذعن، وهو قريب من المغالطة، وليس منها. كقوله تعالى: {أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كَاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ} [غافر: 28]. ألا ترى لطف احتجاجه على طريقة التقسيم بقوله: إن يك كاذباً فهذه عائد عليه، وإن يصدق يصبكم بعض ما وعدكم به، ففيه من الإنصاف والأدب ما لا يخفى. فإنه نبيّ صادق، فلابد أن يصيبهم كل ما وعد به، لا بعضه، لكنه أتى بما هو أذعن لتسليمهم وتصديقهم، لا فيه من الملاطفة في النصح، بكلام منصف غير مشتطّ مشدّد. أراهم أنه لم يعطه حقه، ولم يتعصب له، ويحام عنه، حتى لا ينفروا عنه. ولذا قدم قوله: {كَاذِباً}، ثم ختم بقوله: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي} الخ، يعني: أنه نبيّ على الهدى، ولو لم يكن كذلك ما آتاه الله النبوة وعضده. وفيه من خداع الخصم واستدراجه ما لا يخفى. انتهى.
وقوله تعالى: {حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً} أي: جاءتهم القيامة فجأة. وسميت القيامة ساعة. لأنها تفجأ الناس بغتة في ساعة لا يعلمها أحد إلا هو تعالى. والمعنى: جاءتهم منيّتهم. على أن المراد بالساعة، الصغرى. قال الراغب: الساعة الكبرى بعث الناس للمحاسبة، والصغرى موت الإنسان، فساعة كل إنسان موته، وهي المشار إليها بقوله تعالى: {قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِلِقَاء اللّهِ حَتَّى إِذَا جَاءتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً}. ومعلوم أن الحشر ينال الإنسان عند موته. انتهى. {وبغتة} مصدر في موضع الحال، لأي: مباغته، أو مصدر لمحذوف، أي: تبغتهم. أو للمذكور. فإنّ {جاءتهم}، بمعنى بغتتهم.
{قَالُوا} يعني: منكري البعث، وهم كفار قريش، ومن سلك سبيلهم في الكفر والاعتقاد: {يَا حَسْرَتَنَا} أي: يا ندامتنا! والحسرة: التلهف على الشيء الفائت. وذكرتْ على وجه النداء للمبالغة. والمراد: تنبيه المخاطبين على ما وقع بهم من الحسرة {عَلَى مَا فَرَّطْنَا} أي: قصرنا: {فِيهَا} أي: في الحياة الدنيا. أضمرت وإن لم يجر ذكرها، للعلم بها، أي: على ما ضيعنا فيها، إذ لم نكتسب من الاعتقادات والأخلاق والأعمال ما ينجينا، أو الضمير للساعة، أي: على ما فرطنا في شأنها، ومراعاة حقها، والاستعداد لها، وبالإيمان بها، واكتساب الأعمال الصالحة.
وقال ابن جرير: الضمير يعود إلى الصفقة التي دل عليها قوله: {قَدْ خَسِرَ} الخ. إذ الخسران لا يكون إلا في صفقة بيع قد جرت. قال: والمعنى قد وُكس الذين كذبوا بلقاء الله، ببيعهم الإيمان الذي يستوجبون به من الله رضوانه وجنته، بالكفر الذي يستوجبون به منه سخطه وعقوبته. ولا يشعرون ما عليهم من الخسران في ذلك. حتى تقوم الساعة. فإذا جاءتهم الساعة بغتة، فرأوا ما لحقهم من الخسران في ببيعهم، قالوا حينئذ تندماً: {يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا}.
وقوله تعالى: {وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ} حال من فاعل: {قَالُواْ}، فائدته الإيذان بأن عذابهم ليس مقصوراً على ما ذكر من الحسرة على ما فات وزال، بل يقاسون، مع ذلك، تحمل الأوزار الثقال. والإيماء إلى أن تلك الحسرة من الشدة، بحيث لا تزول ولا تُنْسَى بما يكابدونه من فنون العقوبات- قاله أبو السعود-.
والأوزار: جمع وزر، وهو في الأصل: الحمل الثقيل، سمي به الذنب لثقله على صاحبه. قيل: جعلها محمولة على الظهور استعارة تمثيلية، مثل لزومها لهم، على وجهلاً يفارقهم، بذلك. وخص الظهر، لأنه المعهود حمل الأثقال عليه. كما عهد الكسب بالأيدي.
وقيل: هو حقيقة، لما روي عن السّدي أنه قال: ليس من رجل ظالم يموت فيدخل قبره، إلا جاءه رجل قبيح الوجه، أسود اللون، مُنتن الريح، عليه ثياب دنسة، حتى يدخل معه قبره. فإذا رآه قال له: ما أقبح وجهك! قال: كذلك كان عملك قبيحاً. قال: ما أنتن ريحك! قال: كذلك كان عملك منتناً. قال: ما أدنس ثيابك! قال فيقول: إن عملك كان دنساً. قال من أنت؟ قال: أنا عملك. قال: فيكون معه في قبره. فإذا بعث يوم القيامة قال له: إني كنت أحملك في الدنيا باللذات والشهوات، وأنت اليوم تحملني. قال: فيركب على ظهره فيسوقه، حتى يدخله النار. فذلك قوله تعالى: {وَهُمْ يَحْمِلُونَ} الآية.
قال الخفاجي: ولعل هذا تمثيل أيضاً. وقريب منه ما قيل: من قال بالميزان، واعتقد وزن الأعمال، لا يقول إنه تمثيل. انتهى.
{أَلا سَاءَ مَا يَزِرُونَ} أي: بئس ما يحملونه.

.تفسير الآية رقم (32):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} [32].
{وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ} أي: هزل، وعمل لا يجدي نفعاً: {وَلَهْوٌ} أي: اشتغال بهوى وطرب، وما لا تقتضيه الحكمة، وما يشغل الْإِنْسَاْن عما يهمه مما يلتذ به ثم ينقضي.
{وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ} لدوامها، وخلوص منافعها ولذاتها عن المضار والآلام.
{أَفَلا تَعْقِلُونَ} ذلك حتى تتقوا ما أنتم عليه من الكفر والمعاصي، ولا تؤثرون الأدنى الفاني، على الأعلى الباقي. وههنا.
لطائف:
الأولى: قال الرازي: اعلم أن المنكرين للبعث والقيامة تعظم رغبتهم في الدنيا، وتحصيل لذاتها. فذكر الله هذه الآية تنبيهاً على خساستها وركاكتها. واعلم أن نفس هذه الحياة لا يمكن ذمها. لأن هذه الحياة العاجلة، لا يصح اكتساب السعادات الأخروية إلا فيها. فلهذا السبب حصل في تفسير هذه الآية قولان:
الأول- أن المراد منه حياة الكافر. قال ابن عباس: يريد حياة أهل الشرك والنفاق. والسبب في وصف حياة هؤلاء بهذه الصفة، أن حياة المؤمن يحصل فيها أعمال صالحة، فلا تكون لعباً ولهواً.
والقول الثاني- إن هذا عام في حياة المؤمن والكافر. والمراد منه: اللذات الحاصلة في هذه الحياة، والطيبات المطلوبة في هذه الحياة، وإنما سماها اللَّعبِ وَاللَّهْوِ لأن الإنسان، حال اشتغاله باللعب واللهو، يلتذ به. ثم عند انقراضه وانقضائه لا يبقى منه إلا الندامة. فذلك هذه الحياة، لا يبقي عند انقراضها إلا الحسرة والندامة. الثانية: قال الخفاجي: جمع اللهو واللعب في آيات. فتارة يقدم اللعب، كما هنا. وتارة قدم اللهو كما في العنكبوت. ولهذا التفنن نكتة مذكورة في درة التأويل ملخصاً: أن الفرق بين اللهو واللعب، مع اشتراكهما في أنهما الاشتغال بما لا يعني العاقل ويهمه من هوى أو طرب، سواء كان حراماً أم لا، أن اللهو أعم من اللعب، فكل لعب لهو، ولا عكس. فاستماع الملاهي لهو، وليس بلعب. وقد فرقوا ببينهما أيضاً بأن اللعب ما قصد به تعجيل المسرة، والاسترواح به، واللهو كل ما شغل من هوى وطرب، وإن لم يقصد به ذلك، كما نقل عن أهل اللغة، قالوا: واللهو، إذا أطلق، فهو اجتلاب المسرة بالنساء، كما قال امرؤ القيس:
ألا زعمت بَسْبَاسَةُ اليومَ أنني** كَبِرْتُ وأن لا يحسنُ اللهوَ أمثالي

وقال قتادة: اللهو، في لغة اليمن المرأة. وقيل: اللعب طلب: المسرة والفرح بما لا يحسن أن يطلب به. واللهو: صرف الهم بما لا يصلح أن يصرف به.
ولما كانت الآية ردّاً على الكفرة في إنكار الآخرة، وحصر الحياة في الحياة الدنيا، وليس في اعتقادهم إلا ما عجل من المسرة بزخرف الدنيا الفانية- قدم اللعب الدال على ذلك، وتمم باللهو. وأما في العنكبوت فالمقام لذكر قصر مدة الحياة وتحقيرها، بالقياس إلى الآخرة. ولذا ذكر باسم الإشارة المشعر بالتحقير. والاشتغالُ باللهو، مما يقصر به الزمان، وهو أدخل من اللعب فيه. وأيام السرور قصار، كما قال:
وليلةٍ إحدى الليالي الزُّهْرِ ** لم تك غير شَفَقَ وفجر

الثالثة: في قوله تعالى: {لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ} تنبيه على أن ما ليس من أعمال المتقين، لعب ولهو.

.تفسير الآية رقم (33):

القول في تأويل قوله تعالى: {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللّهِ يَجْحَدُونَ} [33].
وقوله تعالى: {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ} قرئ بفتح الياء وضمها {الَّذِي يَقُولُونَ} أي: يقولون فيك، من أنك كاذب أو ساحر أو شاعر أو مجنون.
قال أبو السعود: استئناف مسوق لتسليته صلى الله عليه وسلم عن الحزن الذي يعتريه، مما حكى عن الكفرة من الإصرار على التكذيب، والمبالغة فيه، ببيان أنه عليه الصلاة والسلام بمكانة من الله عز وجل، وأن ما يفعلونه في حقه فهو راجع إليه تعالى في الحقيقة، وأنه ينتقم منهم أشد انتقام. وكلمة {قَدْ} لتأكيد العلم بما ذكر، المفيد لتأكيد الوعيد.
وقوله تعالى: {فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} الفاء للتعليل، لأن قوله تعالى: {قَدْ نَعْلَمُ} بمعنى لا تحزن، كما يقال في مقام المنع والزجر: نعلم ما تفعل! ووجه التعليل في تسليته له صلى الله عليه وسلم بأن التكذيب في الحقيقة لي، وأنا الحليم الصبور، فتخلق بأخلاقي.
قال أبو السعود: وهذا يفيد بلوغه عليه الصلاة والسلام في جلالة القدر، ورفعة المحل، والزلفى من الله عز وجل، إلى حيث لا غاية وراءه، حيث لم يقتصر على جعل تكذيبه عليه الصلاة والسلام تكذيباً لآياته سبحانه، على طريقة قوله تعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّه} [النساء: 80]، بل نفي تكذيبهم عنه، وأثبت لآياته تعالى على طريقة قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ} [الفتح: 10]، إيذاناً بكمال القرب، واضمحلال شؤونه عليه الصلاة والسلام في شأن الله عز وجل. وفيه استعظام لجنايتهم، منبئ عن عظم عقوبتهم. وقيل: المعنى: فإنهم لا يكذبونك بقلوبهم، ولكنهم يجحدون بألسنتهم، عناداً أو مكابرة. ويعضده ما روى سفيان الثوريّ عن أبي إسحاق عن ناجية عن علي رضي الله عنه قال: قال أبو جهل للنبيّ صلى الله عليه وسلم: إنا لا نكذبك، ولكن نكذب بما جئت به، فأنزل الله: {فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ} الآية- رواه الحاكم وصححه.
وروى ابن جرير عن السدي قال: لما كان يوم بدر، خلا الأخنس بأبي جهل فقال: يا أبا الحكم! أخبرني عن محمد، أصادق هو أم كاذب؟ فإنه ليس هاهنا من قريش غيري وغيرك يستمع كلامنا، فقال أبو جهل: ويحك! والله إن محمد لصادق، وما كذب محمد قط، ولكن إذا ذهبت بنو قصي باللواء والسقاية والحجابة والنبوة، فماذا يكون لسائر قريش؟ فذلك قوله: {فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} فآيات الله محمد صلى الله عليه وسلم.
قال الرازي: وهذا القول غير مستبعد، ونظيره قوله تعالى في قصة موسى: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً} [النمل: 14]. وقيل: المعنى فإنهم لا يكذبونك لأنك عندهم الصادق الموسوم بالصدق، ولكنهم يجحدون بآيات الله، كما يُروى أن أبا جهل كان يقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم: ما نكذبك، وإنك عندنا لصادق، ولكننا نكذب ما جئتنا به.
قال أبو السعود: وكأن صدق المخبر عند الخبيث، بمطابقة خبره لاعتقاده. والأول هو الذي تستدعيه الجزالة التنزيلية. وقُرئ: {لا يكْذبونك} من أكذبه. بمعنى وجده كاذباً، أو نسبه إلى الكذب، أو بين كذبه، وقال: أكذبه وكذبه بمعنى- كذا في القاموس وشرحه-.