فصل: تفسير الآية رقم (89):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: محاسن التأويل



.تفسير الآية رقم (89):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَلَمَّا جَاءهُمْ كِتَابٌ مِّنْ عِندِ اللّهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُواْ فَلَمَّا جَاءهُم مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّه عَلَى الْكَافِرِينَ} [89].
{وَلَمَّا جَاءهُمْ كِتَابٌ} هو القرآن الكريم الذي مقصود هذه السورة. وصفه بالهدى. وتنكيره للتفخيم. ونعته بقوله: {مِّنْ عِندِ اللّهِ} للتشريف: {مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ} من التوراة. وجواب لما، محذوف دل عليه جواب لما الثانية. وعليه، فقوله تعالى: {وَكَانُواْ} الخ.. جملة معطوفة على الشرطية، عطف القصة على القصة. وقيل: جوابها كفروا. ولمّا الثانية تكرار للأولى، فلا تحتاج إلى جواب. وقيل: كفروا جواب للأولى والثانية؛ لأن مقتضاهما واحد. وعلى الوجهين فجملة قوله: {وكانوا مِن قَبْلُ} أي: قبل مجيئه: {يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُواْ} جملة حالية مفيدة لكمال مكابرتهم وعنادهم. والاستفتاح: الاستنصار أي: طلب النصر، أي: يطلبون من الله النصر على المشركين لما أنهم كانوا مستذلين في جزيرة العرب، ولذا كانوا يحالفون بعض القبائل تعزّزاً بهم على ما تقدم: {فَلَمَّا جَاءهُم مَّا عَرَفُواْ} صحته وصدقه، كان من حقهم أن يسارعوا إلى الإيمان به لظفرهم بأمنيتهم حينئذ، وهو انتصارهم على المشركين، وحصول العزة لهم مع المؤمنين، ولكن: {كَفَرُواْ بِهِ} أي: امتنعوا من الإيمان به خوفاً من زوال رياستهم وأموالهم، وأصروا على الإنكار مع علمهم بحقيقة نبوته، ولذا قال عبد الله بن سلام في قصة بإسلامه: يا معشر اليهود اتقوا الله. فو الله الذي لا إله إلا هو إنكم لتعلمون أنه رسول الله، وأنه جاء بحق. رواه البخاري في الهجرة.
وروى أيضاً أن عبد الله بن سلام لما بلغه مقدم النبي صلى الله عليه وسلم أتاه فقال: إني سائلك عن ثلاث لا يعلمهن إلا نبيّ. فلما أجابه عنها قال: أشهد أنك رسول الله. وسنذكر الحديث بتمامه عند قوله تعالى: {مَنْ كَانَ عَدُوّاً لِجِبْرِيلَ} [البقرة: 97] الآية إن شاء الله تعالى. وقوله: {فَلَعْنَةُ اللَّه عَلَى الْكَافِرِينَ} اللام فيه للعهد أي: عليهم، ووضع المظهر موضع المضمر للإشعار بأن حلول اللعنة عليهم بسبب كفرهم، كما أن الفاء للإيذان بترتبها عليه، أو للجنس وهم داخلون في الحكم دخولاً أولياً، إذ الكلام فيهم، وأيّاً ما كان فهو محقق لمضمون قوله تعالى: {بل لعنهم الله بكفرهم}.

.تفسير الآية رقم (90):

القول في تأويل قوله تعالى: {بِئْسَمَا اشْتَرَوْاْ بِهِ أَنفُسَهُمْ أَن يَكْفُرُواْ بِمَا أنَزَلَ اللّهُ بَغْياً أَن يُنَزِّلُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ عَلَى مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ فَبَاؤواْ بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُّهِينٌ} [90].
{بِئْسَمَا اشْتَرَوْاْ بِهِ أَنفُسَهُمْ} ما نكرة موصوفة بما بعدها، منصوبة على التمييز، مفسرة لفاعل بئس. أي: بئس شيئاً باعوا به أنفسهم واعتاضوا لها، فرضوا به وعدلوا إليه. والمخصوص بالذم ما دل عليه قوله تعالى: {أَن يَكْفُرُواْ بِمَا أنَزَلَ اللّهُ} أي: كفرهم بالكتاب المصدق لما معهم بعد الوقوف على حقيقته: {بَغْياً} حسداً: {أَن يُنَزِّلُ اللّهُ} لأن ينزل، أو على أن ينزل، أي: حسدوه على أن ينزل الله: {مِن فَضْلِهِ} الذي هو الوحي: {عَلَى مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ} أي: يشاؤه ويصطفيه للرسالة: {فَبَاؤواْ بِغَضَبٍ} أي: رجعوا لأجل ذلك بغضب، في حسدهم لهذا النبي صلى الله عليه وسلم حتى كفروا به: {عَلَى غَضَبٍ} كانوا استحقوه قبل بعثته صلى الله عليه وسلم من أجل تحريفهم الكلم، وتضييعهم بعض أحكام التوراة، وكفرهم بعيسى عليه السلام.
قال الرازيّ: إن غضبه تعالى يتزايد، ويكثر ويصح فيه ذلك كصحته في العذاب، فلا يكون غضبه على من كفر بخصلة واحدة، كغضبه على كفر بخصال كثيرة.
قلت: وفي الصحيحين عن أبي هريرة: «اشتد غضب الله على من زعم أنه ملك الأملاك؛ لا ملك إلا الله». والروايات في توصيف غضبه تعالى بالشدة على بعض المنكرات متوافرة. انظر الجامع الصغير.
ويحتمل المعنى. فصاروا أحقاء بغضب مترادف، فلا يكون القصد إثبات غضبين لأمرين متنوعين أو أمور. بل المراد به تأكيد الغضب، وتكثيره لأجل أن هذا الكفر، وإن كان واحداً، إلا أنه عظيم. والله أعلم.
وقد قدمنا في تفسير قوله تعالى: {غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ} أن الغضب صفة وصف الله تعالى نفسه بها. وليس غضبه كغضبنا، كما أن ذاته ليست مثل ذواتنا، فليس هو مماثلاً لأبداننا ولا لأرواحنا، وصفاته كذاته. وما قيل: إن الغضب من الانفعالات النفسانية فيقال نحن وذاتنا منفعلة، فكونها انفعالات فينا لا يجب أن يكون الله منفعلاً بها، كما أن نفسه المقدسة ليست مثل ذوات المخلوقين. فصفاته كذلك ليست كصفات المخلوقين، ونسبة صفة المخلوق إليه كنسبة صفة الخالق إليه، وليس المنسوب كالمنسوب والمنسوب إليه، كالمنسوب إليه. كما قال صلى الله عليه وسلم: «ترون ربكم كما ترون الشمس والقمر» فشبه الرؤية بالرؤية لا المرئيّ بالمرئيّ. وهذا يتبين بقاعدة: وهي أن كثيراً من الناس يتوهم، في بعض الصفات أو كثير منها، أو أكثرها أو كلها، أنها تماثل صفات المخلوقين. ثم يريد نفي ذلك الذي فهمه فيقع في أربعة أنواع من المحاذير:
أحدها: كونه مثّل ما فهمه من النصوص لصفات المخلوقين، وظن أن مدلول النصوص هو التمثيل.
الثاني: أنه إذ جعل ذلك هو مفهومها وعطله، فبقيت النصوص معطلة عما دلت عليه من إثبات الصفات اللائقة بالله، فيبقى مع جنايةٍ على النصوص، وظنه السَّيء الذي ظنه بالله ورسوله، حيث خلاف الذي يفهم من كلامهما، من إثبات صفات الله، والمعاني الإلهية الله اللائقة بجلال الله تعالى.
الثالث: أنه ينفي تلك الصفات عن الله بغير دليل، فيكون معطلاً عما يستحقه الرب تبارك وتعالى.
الرابع: أنه يصف الرب بنقيض تلك الصفات من صفات الموات، والجمادات، وصفات المعدومات، فيكون قد عطل صفات الكمال التي يستحقها الرب، ومثّله بالمنقوصات والمعدومات، وعطَّل النصوص عما دلت عليه من الصفات، وجعل مدلولها هو التمثيل بالمخلوقات، فيجمع في الله، وفي كلام الله بين التعطيل والتمثيل. سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون عُلُُوّاً كبيراً. أفاده الإمام ابن تبمية. عليه الرحمة، في القاعدة التدمرية.
{وَلِلْكَافِرِينَ} أي: لهم. والإظهار في موضع الإضمار للإشعار بعلّية كفرهم لما حاق بهم: {عَذَابٌ مُّهِينٌ} يراد به إهانتهم. أي: إذلالهم. فإن كفرهم، لما كان سببه البغي والحسد، ومنشأ ذلك التكبر، قوبلوا بالإهانة والصغار في الآخرة كما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غافر: 60] أي: صاغرين حقيرين.

.تفسير الآية رقم (91):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ بِمَا أَنزَلَ اللّهُ قَالُواْ نُؤْمِنُ بِمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرونَ بِمَا وَرَاءهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنبِيَاء اللّهِ مِن قَبْلُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} [91].
{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ} أي: لليهود: {آمِنُواْ بِمَا أَنزَلَ اللّهُ} على محمد صلى الله عليه وسلم وصدَّقوه واتبعوه: {قَالُواْ نُؤْمِنُ بِمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا} من التوراة، ولا نقرّ إلا بها: {وَيَكْفُرونَ بِمَا وَرَاءهُ} حال من ضمير {قالوا} بتقدير مبتدأ. أي: قالوا ما قالوا وهم يكفرون بما بعده: {وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَهُمْ} منها غير مخالف له. وفيه ردٌ لمقالتهم؛ لأنهم إذا كفروا بما يوافق التوراة فقد كفروا بها: {قُلْ} تبكيتاً لهم ببيان التناقض بين أقوالهم وأفعالهم: {فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنبِيَاء اللّهِ مِن قَبْلُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} أي: كنتم صادقين في دعواكم الإيمان بما أنزل إليكم، فلِم قتلتم الأنبياء الذين جاؤوكم بتصديق التوراة التي بأيديكم وأنتم تعلمون صدقهم، قتلتموهم بغياً وعناداً واستكباراً على رسل الله فلستم تتبعون إلا مجرد الأهواء والآراء والتشهي، كما قال تعالى: {أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ} [البقرة: 87]، والخطاب للحاضرين من اليهود والماضين، على طريق التغليب، وحيث كانوا مشاركين في العقد والعمل، كان الاعتراض على أسلفهم اعتراضاً على أخلاقهم. ودلت الآية على أن المجادلة في الدين من عرف الأنبياء عليهم السلام، وإن إيراد المناقضة على الخصم جائز.
ولما دل على كذبهم في دعوى الإيمان بما فعلوا بعد موسى، أقام دليلاً آخر أقوى مما تقدمه. فإنه لم يعهد إليهم في التوراة ما عهد إليهم في التوحيد والبعد عن الإشراك، وهو في النسخ الموجودة بين أظهرهم الآن. وقد نقضوا جميع ذلك باتخاذ العجل في أيام موسى، وبحضرة هارون عليهما السلام فقال تعالى:

.تفسير الآية رقم (92):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَلَقَدْ جَاءكُم مُّوسَى بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِن بَعْدِهِ وَأَنتُمْ ظَالِمُونَ} [92].
{وَلَقَدْ جَاءكُم مُّوسَى بِالْبَيِّنَاتِ} من الآيات كفلق البحر، وإنزال المن والسلوى، وغير ذلك من الدلائل القاطعات على أنه رسول الله، وأنه لا إله إلا الله: {ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ} معبوداً من دون الله: {مِن بَعْدِهِ} أي: من بعد ما ذهب موسى عنكم إلى الطور لمناجاة الله عز وجل، كما قال تعالى: {وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوَارٌ} [الأعراف: 148]. وقوله تعالى: {وَأَنتُمْ ظَالِمُونَ} أي: بعبادته، واضعين لها في غير موضعها، أو بالإخلال بحقوق آيات الله تعالى، أو هو اعتراض، أي: وأنتم قوم عادتكم الظلم.
ثم ذكر أمراً آخر هو أبين في عنادهم، وأنهم مع الهوى فقال:

.تفسير الآية رقم (93):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُواْ مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُواْ قَالُواْ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُواْ فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ} [93].
{وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ} على الإيمان والطاعة {وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ} قائلين: {خُذُواْ مَا آتَيْنَاكُم} أي: ما أمرتم به في التوراة: {بِقُوَّةٍ} بجد: {وَاسْمَعُواْ} أطيعوا: {قَالُواْ سَمِعْنَا} قولك: {وَعَصَيْنَا} أمرك. وظاهر السوق يقتضي أنهم قالوا ذلك حقيقة.
قال أبو مسلم: وجائز أن يكون المعنى: سمعوه فتلقوه بالعصيان، فعبّر عن ذلك بالقول وإن لم يقولوه: كقوله تعالى: {أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس: 82].
{وَأُشْرِبُواْ فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ} أي: حبّه على حذف المضاف، وإقامة المضاف إليه مقامه للمبالغة. أو العجل مجاز عن صورته. فلا يحتاج إلى حذف المضاف. وعلى كلٍّ، فأشربوا استعارة تبعية، إما من إشراب الثوب الصبغَ أي: تداخله فيه، أو من إشراب الماء أي: تداخله أعماق البدن، والجامع السراية في كل جزء، وإسناد الفعل إليهم إيهام لمكان الإشراب، ثم بُيَّن بقوله: {في قلوبكم} للمبالغة، فظهر وجه العدول عن مقتضى الظاهر، وهو: وأُشرب قلوبهم العجل: {بِكُفْرِهِمْ} بسبب كفرهم.
{قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ} أي: كما زعمتم، بالتوراة. وإضافة الأمر إلى إيمانهم تهكم كما في قصة شعيب: {أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ} [هود: 87] وكذا إضافة الإيمان إليهم. وقوله: {إن كنتم مؤمنين} قدح في صحة دعواهم، فإن الإيمان إنما يأمر بعباده الله وحده لا بشركة العبادة لما هو في غاية البلادة. فهو غاية الاستهزاء. وحاصل الكلام: إن كنتم مؤمنين بها عاملين، فيما ذكر من القول والعمل، بما فيها، فبئسما يأمركم به إيمانكم بها، وإذ لا يسوغ الإيمان بها مثل تلك القبائح فلستم بمؤمنين بها قطعاً. فجواب الشرط محذوف كما ترى؛ لدلالة ما سبق عليه.

.تفسير الآية رقم (94):

القول في تأويل قوله تعالى: {قُلْ إِن كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الآَخِرَةُ عِندَ اللّهِ خَالِصَةً مِّن دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُاْ الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} [94].
{قُلْ} كرر الأمر بتبكيتهم لإظهار نوع آخر من أباطيلهم، وهو ادعاؤهم أن الدار الآخرة خالصة لهم من دون الناس، لكنه لم يُحك عنهم قبل الأمر بإبطاله، بل اكتفى بالإشارة إليه في تضاعيف الكلام بقوله: {إِن كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الآَخِرَةُ عِندَ اللّهِ خَالِصَةً}، نصب على الحال من الدار الآخرة، والمراد الجنة، أي: سالمة لكم، خاصة بكم، ليس لأحد سواكم فيها حق كما تقولون: {لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُوداً} [البقرة: 111].
: {مِّن دُونِ النَّاسِ} اللام للجنس أو للعهد وهم المسلمون: {فَتَمَنَّوُاْ الْمَوْتَ} فسلوا الموت: {إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} لأن من أيقن أنه من أهل الجنة اشتاق إليها، وتمنى سرعة الوصول إلى النعيم، والتخلص من الدار ذات الأكدار، ولا سبيل إلى ذلك إلا بالموت. والذي يتوقف عليه المطلوب لابد وأن يكون مطلوباً، نظراً إلى كونه وسيلة إلى ذلك المطلوب. والمراد بالتمني هنا هو التلفظ بما يدل عليه كما أشرنا إليه، لا مجرد خطوره بالقلب، وميل النفس إليه، فإن ذلك لا يراد في مقام المحاجّة، ومواطن الخصومة، ومواقف التحدي لأنه من ضمائر القلوب، وثَمَّ تفسير آخر للتمني بأن يُدعَوا إلى المباهلة، والدعاء بالموت. وإليه ذهب ابن جرير. والأول أقرب إلى موافقة اللفظ. وقوله تعالى:

.تفسير الآية رقم (95):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَلَن يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمينَ} [95].
{وَلَن يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً} من المعجزات لأنه إخبارٌ بالغيب. وكان كما أخبر به، كقوله: {وَلَنْ تَفْعَلُوا} [البقرة: 24] {بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ} بما أسلفوا من أنواع العصيان. واليد مجاز عن النفس. عبّر بها عنها، لأنها من بين جوارح الْإِنْسَاْن، مناط عامة صنائعه. ولذا كانت الجنايات بها أكثر من غيرها. ولم يجعل المجاز في الإسناد فيكون المعنى بما قدموا بأيديهم، ليشمل ما قدموا بسائر الأعضاء: {وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمينَ} أي: بهم. تذييل للتهديد. والتنبيه على أنهم ظالمون في دعوى ما ليس لهم، ونفيه عمن سواهم. ونظير هذه الآية في سورة الجمعة قوله تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِن زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاء لِلَّهِ مِن دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ وَلَا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ} [الجمعة: 6، 7].
وقد تلطف الغزالي في توجيه الإتيان بلن هنا، ولا في سورة الجمعة بأن الدعوى هنا أعظم من الثانية؛ إذ السعادة القصوى هي الحصول في دار الثواب، وأما مرتبة الولاية فهي، وإن كانت شريفة إلا أنها إنما تراد ليتوسل بها إلى الجنة. فلما كانت الدعوى الأولى أعظم، لا جَرَمَ بيّن تعالى فساد قولهم بلفظ: لن؛ لأنها أقوى الألفاظ النافية. ولما كانت الدعوى الثانية ليست في غاية العظمة اكتفى في إبطالها بلفظ: لا؛ لأنه ليس في نهاية القوة، في إفادة معنى النفي. والله أعلم.
ولما أخبر تعالى عنهم أنهم لا يتمنون الموت، أتبعه بأنهم في غاية الحرص على الحياة بقوله:

.تفسير الآية رقم (96):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَن يُعَمَّرَ وَاللّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ} [96].
{وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ} التنكير يدل على أن المراد حياة مخصوصة، وهي الحياة المتطاولة، ولذا كانت القراءة بها أوقع من قراءة أُبيّ: {على الحياة} {وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ} عطف على ما قبله بحسب المعنى، كأنه قيل: أحرص من الناس ومن الذين أشركوا. وإفرادهم بالذكر، مع دخولهم في الناس، للإيذان بامتيازهم من بينهم بشدة الحرص. للمبالغة في توبيخ اليهود، فإن حرصهم، وهم معترفون بالجزاء، لمّا كان أشد من حرص المشركين المنكرين له، دلّ ذلك على جزمهم بمصيرهم إلى النار، ويجوز أن يحمل على حذف المعطوف ثقة بإنباء المعطوف عليه عنه، أي: وأحرص من الذين أشركوا.
وأما تجويز كون الواو للاستئناف، وقد تم الكلام عند قوله: {على حياة} تقديره: {ومن الذين أشركوا} ناس يود أحدهم، على حذف الموصوف، وقولُ أبي مسلم: إن في الكلام تقديماً وتأخيراً، وتقديره: ولتجدنهم وطائفة من الذين أشركوا أحرص الناس على حياة، ثم فسر هذه المحبة بقوله: {يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ} فلا يخفى بُعده؛ لأنه إذا كانت القصة في شأن اليهود خاصة فالأليق بالظاهر، أن يكون المراد: ولتجدن اليهود أحرص على الحياة من سائر الناس ومن الذين أشركوا، ليكون ذلك أبلغ في إبطال دعواهم، وفي إظهار كذبهم في قولهم: إن الدار الآخرة لنا، لا لغيرنا. والله أعلم.
{يودّ أحدهم لو يعمر ألف سنة} بيان لزيادة حرصهم، على طريق الاستئناف. و{لو} مصدرية، بمعنى أن مؤوّل ما بعدها بمصدر، مفعول يود، أي: يود أحدهم تعمير ألف سنة: {وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَن يُعَمَّرَ}: {ما} حجازية، والضمير العائد على أحدهم اسمها، وبمزحزحه: خبرها، والباء: زائدة، وأن يعمر: فاعل مزحزحه، أي: وما أحدهم المتمني بمن يزحزحه، أي: يبعده وينجيه، من العذاب، تعميره. قال القاضي: والمراد أنه لا يؤثر في إزالة العذاب أقل تأثير، ولو قال تعالى: وما هو بمبعده وبمنجيه لم يدل على قلة التأثير كدلالة هذا القول: {وَاللّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ} فسوف يجازيهم عليه.
وما ذكره بعض المفسرين من أن البصير في اللغة بمعنى العليم لا يخفى فساده، فإن العليم والبصير اسمان متباينا المعنى لغة. نعم! لو حمل أحدهما على الآخر مجازاً لم يبعد، ولا ضرورة إليه هنا. ودعوى أن بعض الأعمال مما لا يصح أن يرى، فلذا حَمْلُ هذا البصر على العلم هو من باب قياس الغائب على الشاهد، وهو بديهيّ البطلان. قال شمس الدين ابن القيم الدمشقيّ في كتاب الكافية الشافية:
وَهُوَ الْبَصِيْرُ يَرَىْ دَبِيْبَ النَّمْلَةِ السْ ** سَوْدَاْءِ تَحْتَ الصَّخْرِ وَالصَّوَّانِ

وَيَرَىْ مَجَارِى الْقُوْتِ فِيْ أَعْضَائِهَا ** وَيَرَى عُرُوْقَ بََِيَاضِهَا بِعَيَانِ

وَيَرَى خِيَانَاتِ الْعُيُوْنِ بِلَحْظِهَا ** وَيَرَىْ، كَذَاكَ، تَقَلُّبَ الْأَجْفَانِ

وقوله تعالى: