فصل: تفسير الآية رقم (53):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: محاسن التأويل



.تفسير الآية رقم (53):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لِّيَقُولواْ أَهَؤُلاء مَنَّ اللّهُ عَلَيْهِم مِّن بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ} [53].
{وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ} هم الشرفاء: {بِبَعْضٍ} وهم المستضعفون، بما مننا عليهم بالإيمان. وقوله: {لِيَقُولُوا} أي: الشرفاء: {أَهَؤُلاءِ} أي: المستضعفون {مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا} أي: بشرف الإيمان، مع أن الشرفاء على زعمهم، أولى بكل شرف، فلو كان شرفاً لانعكس الأمر، فهو إنكار لأن يُخَصَّ هؤلاء من بينهم بإصابة الحق، والسبق إلى الخير، كقولهم: {لَوْ كَانَ خَيْراً مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ} [الأحقاف: 11]. ثم أشار تعالى إلى أنه إنما منَّ عليهم بنعمة الإيمان، لأنه علم أنهم يعرفون قدر هذه النعمة، فيشكرونها حق شكرها. وأما أولئك، فلا يعرفون قدرها، فلا يشكرونها، بقوله سبحانه: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ}؟ ردٌّ لقولهم ذلك، وإبطالٌ له، وإشارةٌ إلى أن مدار استحقاق الإنعام، معرفة شأن النعمة، والاعتراف بحق المنعم. كما أن فيه من الإشارة إلى أن أولئك المستضعفين عارفون بحق نعم الله تعالى في تنزيل القرآن، والتوفيق للإيمان، شاكرون له تعالى على ذلك، مع التعريض بأن القائلين بمعزل عن ذلك كله- ما لا يخفى.
قال الحافظ ابن كثير: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان غالب من اتبعه في أول بعثته ضعفاء الناس، من الرجال والنساء، والعبيد والإماء، ولم يتبعه من الأشراف إلا قليل، كما قال قوم نوح لنوح: {وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ} [هود: 27] الآية- وكما سأل هرقلُ ملك الروم أبا سفيان- حين سأله عن تلك المسائل-: فأشراف الناس يتبعونه أم ضعفاؤهم؟ قال: بل ضعفاؤهم. فقال: هم أتباع الرسل وكان مشركو مكة يسخرون بمن آمن من ضعفائهم، ويعذبون من يقدرون عليه منهم، وكانوا يقولون: {أَهَؤُلاء مَنَّ اللّهُ عَلَيْهِم مِّن بَيْنِنَا} كقوله: {لَوْ كَانَ خَيْراً مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ} [الأحقاف: 11]. وكقوله تعالى: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أي الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَاماً وَأَحْسَنُ نَدِيّاً} [مريم: 73]؟ قال الله تعالى في جواب ذلك: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثاً وَرِئْياً} [مريم: 74]. وقال في جوابهم هنا: {أَلَيْسَ اللّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ}، أي: له بأقوالهم وأفعالهم وضمائرهم، فيوفقهم ويهديهم سبل السلام، ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه، ويهديهم إلى صراط مستقيم. كما قال تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت: 69].
وفي الحديث الصحيح: «إن الله لا ينظر إلى صوركم، ولا إلى ألوانكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم». وروى ابن جرير عن عِكْرِمَة قال: جاء عُتْبَةُ بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، ومطعم ابن عدي، والحارث بن نوفل، وقرظة بن عبد عَمْرو بن نوفل، في أشراف من بني عبد مناف، من الكفار، إلى أبي طالب فقالوا: يا أبا طالب! لو أن ابن أخيك يطرد عنه موالينا وحلفاءنا، فإنما هم عبيدنا وعُسَافاؤنا- كان أعظم في صدورنا، وأطوع له عندنا، وأدنى لاتّباعنا إياه، وتصديقنا له. فأتى أبو طالب النبيّ صلى الله عليه وسلم، فحدثه بالذي كلموه به، فقال عُمَر بن الخطاب: لو فعلت ذلك، حتى تنظر ما الذي يريدون، وإلام يصيرون من قولهم! فأنزل الله عز وجل هذه الآية: {وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِم} [الأنعام: 51]. إلى قوله: {أَلَيْسَ اللّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ}. قال: وكانوا: بلال وعمارُ بن ياسر وسالم مولى أبي حذيفة وصبيح مولى أسيد. ومن الحلفاء ابن مسعود والمقداد بن عَمْرو، ومسعود بن القاريّ، وواقد بن عبد الله الحنظليّ، وعمرو بن عَمْرو ذو الشمالين، ومرثد بن أبي مرثد- وأبو مرثد بن غنيّ، حليفُ حمزة بن عبد المطلب- وأشباههم من الحلفاء. ونزلت في أئمة الكفر من قريش والموالي والحلفاء: {وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُم}.. الآية- فلما نزلت أقبل عمر، فاعتذر من مقالته، فأنزل الله عز وجل: {وَإِذَا جَاءكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا} الآية.
تنبيهات وفوائد:
قال بعض المفسرين:
1- أن الواجب في الدعاء الإخلاص به، لأنه تعالى قال: {يُرِيدُونَ وَجْهَهُ}- هكذا قال الحاكم- وهكذا جميع الطاعات، لا تكون لغرض الدنيا، قال النفس الزكية عليه السلام: إذا دعا الإمام ثم وجد أفضل منه، وجب عليه أن يسلم الأمر له. فإن لم يفعل ذلك فسق، لأنه إن لم يفعل دل على أنه طالب للدنيا.
2- ودلت على أن الغداة والعشي لهما اختصاص بفضل العمل والدعاء، فلذلك خصهما بالذكر.
3- ودلت على أن الفضل بالأعمال. وما خرج من المفاضلة من غير أمر الدين، كالكفاءة في النكاح، فذلك لمخصص، نحو قوله عليه السلام: «العرب بعضها أكفاء للبعض».
4- ودلت على أن أحداً لا يؤخذ بذنب غيره وهي كقوله: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام: 164]. وقد تقدم ما ذكر فيما ورد أن الميت ليعذَّب ببكاء أهله، على أن المراد إذا أوصاهم بذلك.
5- ودلت على أن حديث النفس لا يؤاخذ به، لأنه قد روي أنه صلى الله عليه وسلم قد همّ بذلك.
6- ودلت على أن الفقر لا يؤثر في حال المؤمن. وقد ورد في الحديث عنه صلى الله عليه وسلم: «يدخل فقراء المؤمنين الجنة قبل أغنيائهم بكذا سنة» وروي أن آخر من يدخل الجنة من الصحابة عبد الرحمن بن عوف لكثرة ماله. ورُوي أن عليّاً عليه السلام لم يخلف شيئاً بعد وفاته- هكذا في التهذيب- انتهى.
أقول: الحديث الأول، رواه الترمذيّ عن أبي هريرة وقال: حسن صحيح، ولفظه: «يدخل الفقراء الجنة قبل الأغنياء بخمسمائة عام»، وأما حديث آخر: «من يدخل الجنة من الصحابة».. إلخ فلم أجده بهذا اللفظ.
وقد روى البزار وأبو نعيم عن أنس عن النبيّ صلى الله عليه وسلم: «أول من يدخل الجنة من أغنياء أمتي عبد الرحمن بن عوف. والذي نفس محمد بيده! لن يدخلها إلا حبواً». قال السيوطي: إسناده ضعيف- كذا في منتخب كنز العمال في ترجمة عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه، في فضائل الصحابة.
7- هذا، وقال ابن الفرس: قد يؤخذ من هذه الآية أن لا يمنع من يذكّر الناس بالله وأمور الآخرة في جامع أو طريق أو غيره. قال: وقد اختلف المتأخرون في مؤذن يؤذن بالأسحار، ويبتهل بالدعاء، يردّد ذلك إلى الصباح، وتأذى به الجيران، هل يمنع؟ واستدل من قال: لا يمنع بهذه الآية، وبقوله: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّه} [البقرة: 114] الآية. انتهى.
8- قرأ ابن عامر: {بِالْغَدَاةِ} بالواو وضم الغين، هنا وفي سورة الكهف، والباقون بالألف وفتح الغين، وهي قراءة الحسن ومالك بن دينار وأبي العطارديّ وغيرهم.
قال أبو عبيد: قرأ ابن عامر وأبو عبد الرحمن السلميّ {بالغدوة}، وقرأ العامة {بالغداة} ونراهما قرآ ذلك اتباعاً للخط، لأنها رسمت في جميع المصاحف بالواو، كالصلاة، والزكاة، وليس، في إثباتهم الواو في الكتابة، دليل على أنها القراءة، لأنهم قد كتبوا {الصلاة} و{الزكاة} بالواو، ولفظهما على تركها، فكذلك الغداة، على هذا وجدنا ألفاظ العرب. انتهى.
وقال أبو علي الفارسي: الوجه قراءة العامة {بالغداة}، لأنها تستعمل نكرة، فأمكن تعريفها بإدخال لام التعريف عليها. فأما غدوة فمعرفة، وهو علم صيغ له، وحينئذ فيمتنع دخول لام التعريف عليه، كسائر المعارف، وكتابتها بالواو لا تدل على قولهم. انتهى.
قال الشهاب مجيباً ومناقشاً: إن غدوة وإن كان المعروف فيها أنها علم جنس، ممنوع من الصرف، ولا تدخله الألف واللام، ولا تصح إضافته، فلا تقول: غدوة يوم الخميس- كما قال الفرّاء- ولكنه سمع اسم جنس أيضاً، منكراً مصروفاً، فتدخله اللام، وقد نقله سيبويه في كتابه عن الخليل، وذكره جم غفير من أهل اللغة والنحو، فلا عبرة بقول أبي عبيد أن من قرأ بالواو أخطأ، وأنه اتبع رسم الخط، لأن الغداة تكتب بالواو، كالصلاة والزكاة، وهو علم جنس، لا تدخله الألف واللام، والمُخَطِّئُ مُخْطِئٌ، لما مر. وقد ذكر المبرّد عن العرب تنكيره وصرفه، وإدخال الألف واللام عليه، إذا لم يرد غدوة يوم بعينه، ومن حفظ حجة على من لم يحفظ، وكفى بوقوعه في القراءة المتواترة حجة، فلا حاجة إلى ما قيل: إنه علم، لكنه نكّر، لأن تنكير علم الجنس لم يعهد. ولا أنه معرفة، ودخلته اللام لمشاكلة العشيّ. كما في قوله: رأيت الوليد بن اليزيد مباركاً، إذ قال اليزيد لمجاورة الوليد. ومنه تعلم المشاكلة قد تكون حقيقة. انتهى.
9- في القاموس: الغدوة بالضم، البكرة، أو ما بين صلاة الفجر وطلوع الشمس كالغداة. والعشيّ والعشية: آخر النهار.
وفي الصحاح: من صلاة المغرب إلى العتمة.
وقال الأزهري: يقع العشي على ما بين الزوال والغروب.
10- جعل الزمخشري ذلك إشارة إلى هذا الفتن المذكور، حيث قال: ومثل ذلك الفتن العظيم، فتنا بعض الناس ببعض، أي: ابتليناهم بهم. وعبر عنه بذلك، إيذاناً بتفخيمه. كقولك: ضربت زيداً ذلك الضرب. ولا يلزم منه تشبيه الشيء بنفسه، لأن المثل ليس بمراد، إنما جيء به مبالغة، كما يقال ذلك كذلك كذا قرره العلامة. يعني: أن التشبيه كما يجعل كناية عن الاستمرار، لأن ما له أمثال يستمر نوعه بتجدد أمثاله، كما أشار إليه شراح الحماسة في قوله:
هكذا يذهبُ الزمان ويفنى العـ**ـلمُ فيه ويُدرسُ الأَثَرُ

والاستمرار يقتضي التحقق والتقرر ويستلزمه، فجعل في أمثال هذا بواسطة الإشارة إلى البعيد عبارة عن تحقق أمر عظيم. وكونه عظيماً مستفاد من لفظ ذلك المشار به إلى هذا الفتن القريب المذكور، وليست الكاف فيه زائدة. ومن قال إنها مقحمة أراد أن التشبيه فيه غير مقصود فيه، بل المراد لازمه الكنائي أو المجازي. والزمخشري، لما في هذا الوجه من البلاغة والدقة، اختاره فيما ورد فيه كذلك- كذا في العناية-.
وقال أبو السعود: ذلك إشارة إلى مصدر ما بعده من الفعل، ومحله في الأصل النصب على أنه نعت لمصدر مؤكد محذوف. والتقدير: فتنا بعضهم ببعض فتوناً كائناً مثل ذلك الفتون، والكاف مقحمة لتأكيد ما أفاده اسم الإشارة من الفخامة، فصار نفس المصدر المؤكد، لا نعتاً له. والمعنى: ذلك الفتون الكاملَ فتناً.
قال الشهاب: هذا الإقحام للمبالغة، مطرد في عُرْفِي العرب والعجم. انتهى.
وقيل: الكاف ليست بزائدة، والمشار إليه هو المشبه به، الأمر المقرر في الذهن، والمشبه ما دل عليه الكلام من الأمر الخارجي، والمبالغة إنما يفيدها الإبهام الذهني والتفسير بقوله: {فَتَنَّا}، وهو ما يعلمه كل أحد من الفَتْنَ مَنْ هو- انظر العناية.

.تفسير الآية رقم (54):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَإِذَا جَاءكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَن عَمِلَ مِنكُمْ سُوءاً بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِن بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [54].
قوله تعالى: {وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنَا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ}: ذهب جماعة من المفسرين إلى أن هؤلاء هم الذين سأل المشركون طردهم وإبعادهم، فأكرمهم الله بهذا الإكرام.
قال البيضاويّ: وصفهم تعالى بالإيمان بالقرآن، واتباع الحجج، بعد ما وصفهم بالمواظبة على العبادة، وأمره بأن يبدأهم بالتسليم، أو يبلّغ سلام الله تعالى إليهم، ويبشرهم بسعة رحمة الله تعالى وفضله، بعد النهي عن طردهم، إيذاناً بأنهم الجامعون لفضيلتي العلم والعمل، ومن كان كذلك ينبغي أن يقرّب ولا يطرد، ويُُعَز ولا يُذَل، ويُبشَّر من الله بالسلامة في الدنيا، والرحمة في الآخرة. انتهى.
وسلف عن ابن جرير أنها نزلت في عمر رضي الله عنه. وأخرج الفريابيّ وابن أبي حاتم عن ماهان، قال جاء الناس إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم فقالوا: إنا أصبنا ذنوباً عظاماً، فما ردّ عليهم شيئاً، فأنزل الله: {وَإِذَا جَاءكَ}.. الآية. ولا يخفى أن الآية تشتمل جميع ذلك، وربما تتعدد الوقائع المشتركة في حكم واحد، فتنزل الآية بياناً للكل. وتقدم لنا في مقدمة هذا التفسير، في بحث سبب النزول، أن قول السلف: نزلت في كذا، قد يقصدون به أن واقعته مما يشملها لفظ الآية، لنزولها إثرها فتذكرْهُ، وأَجِل فكرك في أطرافه، فإنه مهم جدًّا. وبمعرفته يندفع إشكال الرازيّ الذي قرره هنا.
وقوله تعالى: {كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} أي: أوجبها أي: أوجبها على ذاته المقدسة، تفضلاً منه وإحساناً وامتناناً.
وقوله: {أَنَّهُ مَن عَمِلَ} إلخ بدل من: {الرَّحْمَةِ}. وقرئ بكسر الهمزة على أنه تفسير للرحمة بطريق الاستئناف.
وقوله: {بِجَهَالَةٍ} في موضع الحال، أي: عمله وهو جاهل، وفيه معنيان:
أحدهما- أنه فاعل فعل الجهلة، لأن من عمل ما يؤدي إلا الضرر في العاقبة، وهو عالم بذلك، أو ظانّ، فهو من أهل السفه والجهل، لا من أهل الحكمة والتدبير، ومنه قول الشاعر:
على أنها قالت عشيةَ زُرْتُهَا ** جهلتَ على عمدٍ ولم تَكُ جَاهِلاً

والثاني- أنه جاهل بما يتعلق به من المكروه والمضرة، ومن حق الحكيم أن لا يقدم على شيء حتى يعلم حاله وكيفيته- كذا في الكشاف-.
فعلى الأول، الجهل: بمعنى السفه والمخاطرة من غير نظر للعواقب، كما في قوله:
فَنَجْهَلَ فَوْقَ جهلِ الجَاهِلِينَا

وكانت العرب تتمدح به، فلا حاجة لتقدير مفعول.
وعلى الثاني، المراد: الجهالة بمضار ما يفعله.
وقوله تعالى: {وَأَصْلَحَ} أي: العمل. كقوله: {وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً} [الفرقان: 70]. وروى الإمام أحمد والشيحان عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لما قضى الله على الخلق كتب فيه كتابه، فهو عنده فوق العرش: إن رحمتي غلبت غضبي».
تنبيه:
نقل بعض المفسرين عن الحاكم أنه قال: دلت الآية على وجوب تعظيم المؤمنين. ودلت على أنه ينبغي إنزال المسرة بالمؤمن، لأنه أمر بأن يقول لهم: {كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} لتطيب قلوبهم. انتهى.

.تفسير الآية رقم (55):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ نفَصِّلُ الآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ} [55].
{وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ} أي: آيات القرآن، في صفة المطيعين والمجرمين. ومرّ قريباً الكلام على {كذلك}: {وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ} بتأنيث الفعل بناء على تأنيث الفاعل. وقُرئ بالتذكير بناء على تذكيره، فإن السبيل مما يذكر ويؤنث، وهو عطف على علة محذوفة للفعل المذكور، لم يقصد تعليله بها بعينها، وإنما قصد الإشعار بأن له فوائد جمة، من جملتها ما ذكر. أو علة لفعل مقدّر، هو عبارة عن المذكور، فيكون مستأنفاً. أي: ولتستبين سبيلهم نفعل ما نفعل من التفضيل. وقُرئ بنصب السبيل على أن الفعل متعد، وتاؤه للخطاب. أي: ولتستوضح أنت، يا محمد! سبيل المجرمين، فتعاملهم بما يليق بهم- أفاده أبو السعود-.