فصل: تفسير الآية رقم (61):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: محاسن التأويل



.تفسير الآية رقم (61):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُم حَفَظَةً حَتَّىَ إِذَا جَاء أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لاَ يُفَرِّطُونَ} [61].
{وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} قد مرّ تفسيره، وأنه المتصرف في أمورهم لا غيره، يفعل بهم ما يشاء..: {وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً} أي: ملائكة تحفظ أعمالكم وتحصيها، وهم الْكرَامَ الكَاتِبُونَ، كقوله تعالى: {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ} [الانفطار: 10] وقوله: {إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ} [ق: 17] الآية.
لطيفة:
الحكمة في ذلك أن المكلف إذا علم أن أعماله تكتب عليه، وتعرض على رؤوس الأشهاد، كان أزجر عن المعاصي. وأن العبد إذا وثق بلطف سيده، واعتمد على عفوه وستره، لم يحتشم منه احتشامه من خدمه المطلعين عليه- أفاده القاضي.
{حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ} أي: أسبابه ومباديه: {تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا} أي: ملائكة موكلون بذلك {وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ} أي: بالتواني والتأخير. وقال ابن كثير: أي: في حفظ روح المتوفى، بل يحفظونها ويتركونها حيث شاء الله عز وجل، إن كان من الأبرار ففي علِّيين، وإن كان من الفجار في سجِّين.

.تفسير الآية رقم (62):

القول في تأويل قوله تعالى: {ثُمَّ رُدُّواْ إِلَى اللّهِ مَوْلاَهُمُ الْحَقِّ أَلاَ لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ} [62].
{ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ} أي: الذي يتولى أمورهم. و{الْحَقِّ}: العدل الذي لا يحكم إلا بالحق. قال ابن كثير الضمير للملائكة. أو للخلائق المدلول عليهم بـ أحد. والإفراد أولاً، والجمع آخراً لوقوع التوفي على الانفراد، والرد على الاجتماع. أي: ردوا بعد البعث، فيحكم فيهم بعدله، كما قال: {قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ} [الواقعة: 49- 50]. وقال: {وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً} [الكهف: 47]. إلى قوله: {وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً} ولهذا قال: {مَوْلاَهُمُ الْحَقِّ}.
{أَلا لَهُ الْحُكْمُ} يومئذ لا حكم فيه لغيره {وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ} يحاسب الخلائق في أسرع زمان.
فوائد:
الأولى- قال ابن كثير: ونذكر هاهنا الحديث الذي رواه الإمام أحمد عن سعيد بن يسار عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن الميت تحضره الملائكة، فإذا كان الرَجَل الصالحَ، قالوا: اخرجي أيتها النفس الطيبة، كانت في الجسد الطيب، اخرجي حميدة وابشري بروح وريحان، ورب غير غضبان. فلا يزال يقال ذلك حتى تخرج. ثم يعرج بها إلى السماء، فيستفتح لها، فيقال: من هذا؟ فيقال فلان. فيقولون مرحباً بالنفس الطيبة، كانت في الجيد الطيب، ادخلي حميدة، وابشري بروح وريحان، ورب غير غضبان، فلا زال يقال لها حتى ينتهى بها إلى السماء التي فيها الله عز وجل. وإذا كان الرَجل السوءَ، قالوا اخرجي أيتها النفس الخبيثة، كانت في الجسد الخبيث، اخرجي ذميمة، وابشري بحميم وغساق، وآخر من شكله أزواج. فلا يزال حتى تخرج، ثم يعرج بها إلى السماء، فيستفتح لها، فيقال: من هذا؟ فيقال فلان! فيقال: لا مرحباً بالنفس الخبيثة، كانت في الجسد الخبيث. ارجعي ذميمة، فإنه لا يفتح لك أبواب السماء، فترسل من السماء، ثم تصير إلى القبر. فيجلس الرجل الصالح، فيقال له مثل ما قيل في الحديث الأول، ويجلس الرجل السوء». فيقال له ما قيل في الحديث الأول. قال الحافظ ابن كثير: هذا حديث غريب.
الثانية- قال بعض أهل الكلام: إن لكل حاسة من هذه الحواس روحاً تقيض عند النوم، ثم ترد إليها إذا ذهب النوم. فإما الروح التي تحيا بها النفس، فإنها لا تقبض إلا عند انقضاء الأجل. والمراد بالأرواح، المعاني والقوى التي تقوم بالحواس، ويكون بها السمع والبصر، والأخذ والمشيء والشم، ومعنى: {ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ} أي: يوقظكم، ويرد إليكم أرواح الحواس، فيستدل به على منكري البعث، لأنه بالنوم يُذهب أرواح هذه الحواس، ثم يردها إليها. فكذا يحيى الأنفس بعد موتها- نقله النسفي-.
الثالثة- قال الخازن: فإن قلت: قال الله في آية: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا} [الزمر: 42]. وقال في آية أخرى: {قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُم} [السجدة: 11]. وقال هنا: {تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا}، فكيف الجمع بين هذه الآيات؟.
قلت: وجه الجمع أن المتوفي في الحقيقة هو الله تعالى. فإذا حضر أجل العبد، أمر الله ملك الموت بقبض روحه، ولملك الموت أعوان من الملائكة، يأمرهم بنزع روح ذلك العبد من جسده. فإذا وصلت إلى الحلقوم، تولى قبضها ملك الموت نفسه، فحصل الجمع.
قال مجاهد: جعلت الأرض لملك الموت، مثل الطشت، يتناول من حيث شاء وجعلت له أعوان ينزعون الأنفس ثم يقبضها منهم. انتهى.
ثم أمر تعالى أن يبكَّت المشركين بانحطاط شركائهم عما زعموا لها، بأنهم يخصون الحق تعالى بالالتجاء إليه عند الشدائد بقوله:

.تفسير الآية رقم (63):

القول في تأويل قوله تعالى: {قُلْ مَن يُنَجِّيكُم مِّن ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً لَّئِنْ أَنجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ} [63].
{قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ} أي: شدائده، كخوف العدوّ، وضلال الطريق {وَالْبَحْرِ} كخوف الغرق، والضلال، وسكون الريح. استعيرت الظلمة للشدة، لمشاركتهما في الهول، وإبطال الأبصار، ودهش العقول. يقال لليوم الشديد: يوم مظلم، ويوم ذو كواكب. أي: اشتدت ظلمته حتى عاد كالليل، وظهرت الكواكب فيه.
{تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً} أي: تذللاً إليه، تحقيقاً للعبودية {وَخُفْيَةً} بضم الخاء، وقرئ بكسرها. أي: سراً، تحقيقاً للإخلاص {لَئِنْ أَنْجَانَا} حال من الفاعل بتقدير القول. أي: قائلين، وعداً بالشكر، لئن أنجيتنا: {مِنْ هَذِهِ} أي: الشدة المعبر عنها بالظلمات {لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ} أي: لك، باعتقاد أنك المخصوص بالثناء الجميل.

.تفسير الآية رقم (64):

القول في تأويل قوله تعالى: {قُلِ اللّهُ يُنَجِّيكُم مِّنْهَا وَمِن كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنتُمْ تُشْرِكُونَ} [64].
ثم أمره تعالى بالجواب تنبيهاً على ظهوره وتعينه عندهم، أو إهانة لهم إذ لا يلتفتون لخطابه بقوله: {قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ} أي: من غير شفاعة أحد ولا عون {ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ} أي: ثم أنتم بعد ما تشاهدون من النجاة عنها، الموعود فيها بالشكر وعداً وثيقاً بالقسم، تشركون، بعبادته والثناء عليه، غيره. وتنسبون النجاة الحاصلة بعد تخصيصه بالدعوة، إلى شفاعة الشريك، فقد جعلتم الشرك مكان الشكر.
تنبيهات:
الأول- ما قدمناه من أن ظلمات: {الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} مجاز عن مخاوفها وأهوالها، هو ما قاله المحققون.
قال الرازي ومنهم من حمله على حقيقته فقال: أما ظلمات البحر، فهي أن تجتمع ظلمة الليل، وظلمة البحر، وظلمة السحاب، ويضاف الرياح الصعبة، والأمواج الهائلة إليها، فلم يعرفوا كيفية الخلاص، وعَظُمَ الخوف، وأما ظلمات البر، فهي ظلمة الليل، وظلمة السحاب، والخوف الشديد من هجوم الأعداء والخوف الشديد من عدم الاهتداء إلى طريق الصواب. والمقصود أن عند اجتماع هذه الأسباب الموجبة للخوف الشديد، لا يرجع الإنسان إلا إلى الله تعالى. وهذا الرجوع يحصل ظاهراً وباطناً، لأن الإنسان في هذه الحالة يعظم إخلاصه في حضرة الله تعالى. وينقطع رجاؤه عن كل ما سوى الله تعالى. وهو المراد من قوله: {تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً}. فبين تعالى أنه إذا شهدت الفطرة السليمة، والخلقة الأصلية في هذه الحالة، بأنه لا ملجأ إلا الله، ولا تعويل إلا على فضل الله، وجب أن يبقى هذا الإخلاص عند كل الأحوال والأوقات. ولكنه ليس كذلك، فإن الإنسان بعد الفوز بالسلامة والنجاة. يحيل تلك السلامة إلى الأسباب، ويقدم على الشرك. ومن المفسرين من يقول: كالمقصود من هذه الآية الطعن في إلهية الأصنام والأوثان.
ثم قال الرازيّ رحمه الله، وأنا أقول: التعلق بشيء مما سوى الله في طريق العبودية، يقرب من أن يكون تعلقاً بالوثن، ولذلك فإن أهل التحقيق يسمونه بالشرك الخفي. انتهى.
الثاني- قال بعض المفسرين: دل قوله تعالى: {تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً} على أن دعاء السرّ أفضل. قيل: وكان جهر النبيّ صلى الله عليه وسلم بالدعاء ليعلّم غيره. انتهى.
وهذا بناء على أن قوله تعالى: {تَضَرُّعاً} تذللاً، لا جهراً. وكثير من المفسرين ذهب إلى أن المعنى جهراً وسراً، ولعله الصواب. فإن العيان يؤيده، إذ لا يتمالك من اشتد عليه الأمر، وأظلم عليه طريق الخلاص، على الاقتصار على دعاء السر وحده- والله أعلم-.
وفي القاموس وشرحه: تضرع إلى الله تعالى، أي: ابتهل وتذلل. وقيل: أظهر الضراعة، وهي شدة الفقر والحاجة إلى الله تعالى. ومنه قوله تعالى: {تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً} أي: مظهرين الضراعة، وحقيقة الخشوع. انتهى.
الثالث- المراد بالكرب ما يعم ما تقدم، ولا محذور في التعميم بعد التخصيص، لكثرة وروده. أو ما يعتري المرء من العوارض النفسية التي لا تتناهى، كالأمراض والأسقام، وما قيل: إن المراد بالأول كرب مخصوص، أو الأولى نعمة رفع، وهذه نعمة دفع، وأنه من قبيل متقلداً سيفاً ورمحاً- تكلف لا داعي له- كذا في العناية-.
الرابع- وضع {تشركون}، موضع لا تشركون الذين هو مقتضى الظاهر المناسب لقوله: {لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ} لأن إشراكهم تضمن عدم صحة عبادتهم، وشكرهم لأنه عبادة، بل نفيها لعدم الاعتداد بها معه. إذ التوحيد ملاك الأمر، وأساس العبادة، فوضعه موضعه توبيخاً لهم، لعدم الوفاء بالعهد. ولم يذكر متعلقه لتنزيله منزلة اللازم، تنبيهاً على استبعاد الشرك في نفسه- كذا في العناية-.

.تفسير الآية رقم (65):

القول في تأويل قوله تعالى: {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِّن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُم بَأْسَ بَعْضٍ انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ} [65].
{قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِنْ فَوْقِكُمْ} قال المهايمي: أي: قل للمشركين بعد النجاة الموعود فيها بالشكر: إنما أشركتم لأمنكم من الشدائد، لكن لا وجه للأمان منها، لاستمرار منشأ الخوف، وهو القدرة الإلهية على أنواع الشدائد من الجهات كلها. إذ هو القادر على إرسال عذاب أعظم من تلك الشدة من فوقكم، كإمطار النار أو الحجارة، أو إسقاط السماء.
{أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ} كالخسف والطوفان {أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً} أي: يخلطكم فرقاً خلط اضطراب، فيجعلكم متحزبين مختلفين في القتال، بأن يقوي أعداءكم: {وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ} أي: شدة: {بَعْضٍ} يعني: يسلط بعضكم على بعض بالقتل والتعذيب.
{انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ} أي: نحوِّلها من نوع إلى آخر {لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ} أي: يفهمون ويعتبرون، فيكفوا عن كفرهم وعنادهم.
تنبيهان:
الأول- روى البخاري عن جابر رضي الله عنه قال. لما نزلت هذه الآية: {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِنْ فَوْقِكُمْ} قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أعوذ بوجهك!: {أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ} قال: أعوذ بوجهك!: {أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ} قال: هذا أهون، أو أيسر».
قال الحافظ ابن حجر: وقد روى ابن مردويه من حديث ابن عباس ما يفسر به حديث جابر، ولفظه: عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «دعوت الله أن يرفع عن أمتي أربعاً، فرفع عنهم اثنتين، وأبى أن يرفع عنهم اثنتين. دعوت الله أن يرفع عنهم الرجم من السماء والخسف من الأرض، وأن لا يلبسهم شيعاً، ولا يذيق بعضهم بأس بعض، فرفع الله عنهم الخسف والرجم، وأبى أن يرفع عنهم الأخريين». فيستفاد من هذه الرواية بقوله: {مِّن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ}، ويستأنس له أيضاً بقوله تعالى: {أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُم} [الإسراء: 68].
وروى الإمام مسلم عن سعد بن أبي وقاص أنه أقبل مع النبيّ صلى الله عليه وسلم ذات يوم من العالية، حتى إذا مرّ بمسجد بني معاوية، دخل فركع فيه ركعتين، وصلينا معه ودعا ربه طويلاً، ثم انصرف إلينا فقال: «سألت ربي ثلاثاً، فأعطاني ثنتين، ومنعني واحدة. سألت ربي أن لا يهلك أمتي بالسنة، فأعطانيها. وسألته أن لا يهلك أمتي بالغرق، فأعطانيها. وسألت ربي أن لا يجعل بأسهم بينهم، فمنعنيها».
وروى الإمام أحمد من حديث أبي بصرة نحوه، لكن قال بدل خصلة الإهلاك. أن لا يجمعهم على ضلالة. وكذا الطبري من مرسل الحسن.
قال الخفاجي: فإن قلت: كيف أجيبت الدعويان، وسيكون خسف بالمشرق وخسف بجزيرة العرب؟ أي: كما رواه الترمذي وغيره؟
قلت: الممنوع خسف مستأصل لهم، وأما عدم إجابته في بأسهم، فبذنوب منهم، ولأنهم بعد تبليغه صلى الله عليه وسلم لهم، ونصيحته لهم، لم يعملوا بقوله. انتهى.
وقد روى أحمد والترمذي من حديث سعد بن أبي وقاص قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية: {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ}.. الخ. فقال: «أما إنها كائنة، ولم يأت تأويلها بعدُ». قال الحافظ ابن حجر: وهذا يحتمل أن لا يخالف حديث جابر، بأن المراد بتأويلها ما يتعلق بالفتن ونحوها. انتهى. أي: مما ستصدق عليها الآية، ولما تقع بالمسلمين. فقوله: إنها كائنة، أي: في المسلمين، لا أنها خطاب لهم، ونزولها فيهم- كما وهم- إذ يدفعه السياق والسباق، وتتمة الآية- كما لا يخفى- وسنزيده بياناً.
الثاني- ما روي عن ابن عباس من أنه كان يقول في قوله تعالى: {عَذَاباً مِّن فَوْقِكُمْ} يعني أئمة السوء و{مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ} يعني: خدم السوء. رواه ابن جرير وابن أبي حاتم. فإن صح إنه، فمراده أن لفظ الآية مما يصدق على ذلك. لأن العذاب كل ما مرّ من المرارة على النفس، وشق عليها، لا أن ذلك هو المراد من الآية. لنبوه عن مقام التهويل، في شديد الوعيد، ولخفاء الكناية عن ذلك من جوهر اللفظ، ولعدم موافقته لنظائر الآية في هذا الباب- كما لا يخفى.
والظاهر أن السلف كانوا يبلون بعض الآيات في بعض المقامات، إشعاراً بأن معناها يحاكي تلك الواقعات، لا أنها نزلت في تلك القضيات. ومن ذلك قول أبيّ بن كعب، قال في هذه الآية: هن أربع خلال، كلهن واقع، منها ثنتان بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم بخمس وعشرين: {يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً}:- في المطبوع أُلْبِسُوا شِيَعاً- وذَاقَ بَعْضُهُمْ بَأْسَ بَعْضٍ، وبقيت اثنتان لابد منهما الرجم والخسف- رواه الإمام أحمد وغيره- وقد أعلّ هذا الأثر بأن أبيّاً لم يدرك خمس وعشرين من الوفاة النبوية، وكأن التقييد بذلك من كلام أبي العالية، رواية عنه. وبالجملة، فاستشهاد السلف بالآيات في بعض الشؤون، للإشعار المذكور- مما لا ينكر، فافهم ذلك، فإنه ينفعك في مواطن كثيرة.