فصل: تفسير الآية رقم (87):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: محاسن التأويل



.تفسير الآية رقم (87):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} [87].
{وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ} عطف على: {كُلاًّ} أو: {وَنُوحاً} أي: كلاًّ منهم فضلنا، وفضلنا بعض آبائهم، أو هدينا من آبائهم ومن معهم للدين الخالص جماعاتٍ كثيرة، فالمفعول محذوف {وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} أي في الاعتقادات والأخلاق والأعمال، فجعلت لهم هذه الفضائل أيضاً، ولحقت إبراهيم، فازداد ارتفاع درجاته.

.تفسير الآية رقم (88):

القول في تأويل قوله تعالى: {ذَلِكَ هُدَى اللّهِ يَهْدِي بِهِ مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُواْ لَحَبِطَ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} [88].
{ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ} إشارة إلى ما دانوا به {يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا} أي: هؤلاء مع عظمتهم: {لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} من الأعمال المرضية. فكيف بمن عداهم؟
قال ابن كثير: فيه تشديد لأمر الشرك، وتغليظ لشأنه، وتعظيم لملابسته، كقوله تعالى: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزمر: 65]. وهذا شرط، والشرط لا يقتضي جواز الوقوع كقوله: {قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ} [الزخرف: 81]. وكقوله تعالى: {لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ} [الأنبياء: 17]. وكقوله: {لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} [الزمر: 4].

.تفسير الآية رقم (89):

القول في تأويل قوله تعالى: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِن يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاء فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْماً لَّيْسُواْ بِهَا بِكَافِرِينَ} [89].
{أُولَئِكَ} إشارة إلى المذكورين من الأنبياء الثمانية عشر، والمعطوفين عليهم، باعتبار اتصافهم بما ذكر من الهداية وغيرها {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ} أي: جنس الكتاب المتحقق في ضمن أي: فرد كان من أفراد الكتب السماوية. والمراد بـ إيتائه؟ التفهيم التام بما فيه من الحقائق. والتمكينُ من الإحاطة بالجلائل والدقائق، أعمّ من أن يكون ذلك بالإنزال ابتداء، أو بالإيراث نقاءً. فإن المذكورين لم ينزل على كل واحد منهم كتاب معيّن- أفاده أبو السعود-.
{وَالْحُكْمَ} أي: الحكمة، أو فصل الأمر على ما يقتضيه الحق والصواب {وَالنُّبُوَّةَ} قال البيضاوي وأبو السعود: أي: الرسالة. قال الخفاجي: النبوة وإن كانت أعم، إلا أن المراد بها ما يشتمل الرسالة، لأن المذكورين رسل. انتهى.
{فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا} أي: بهذه الثلاثة {هَؤُلاءِ} يعني: قريشاً، فإنهم بكفرهم برسول الله صلى الله عليه وسلم وما أنزل عليه من القرآن، كافرون بما يصدقه جميعاً {فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا} أي: وفقنا للإيمان بها {قَوْماً لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ} وهم الأنبياء عليهم السلام، المذكورين وأتباعهم. أو أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم- وهو الأظهر- في مقابلة كفار قريش. أي: فإن في إيمانهم غنية عن إيمان الكفرة بها. وفي التكنية عن توفيقهم للإيمان بها، بالتوكيل الذي أصله الحفظ للشيء، ومراعاته- إيذان بفخامتها وعلوّها، وأنه مما ينبغي أن يقدر قدرها قياماً بحق الوكالة، وعهد الاستحفاظ.
قال الرازي: دلت هذه الآية على أنه تعالى سينصر نبيه، ويقوي دينه، ويجعله مستعلياً على كل من عاداه، قاهراً لكل من نازعه. وقد وقع هذا الذي أخبر الله تعالى عنه في هذا الموضع. فكان جاريًا مجرى الإخبار عن الغيب، فيكون معجزاً.

.تفسير الآية رقم (90):

القول في تأويل قوله تعالى: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ} [90].
{أُولَئِكَ} إشارة إلى الأنبياء المذكورين: {الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ} أي: إلى الصراط المستقيم: {فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} أي: بطريقتهم في الإيمان بالله وتوحيده، والأخلاق الحميدة، والأفعال المرضية، والصفات الرفيعة، اعمل.
تنبيهات:
الأول- استدل بهذه الآية من قال: إن شرع من قبلنا شرع لنا، ما لم يرد ناسخ.
الثاني- استدل بها ابن عباس رضي الله عنه على استحباب السجدة في (ص)، لأن داود عليه السلام سجدها، رواه البخاري وغيره- ولفظ البخاري: عن العوّام، قال سألت مجاهداً عن سجدة (ص)، فقال: سألت ابن عباس: من أين سجدت؟ فقال: أو ما تقرأ: {وَمِن ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} فكان داود ممن أمر نبيكم صلى الله عليه وسلم أن يقتدي به، فسجدها داود عليه السلام فسجدها رسول الله صلى الله عليه وسلم. الثالث- قال الرازي: احتج العلماء بهذه الآية على أن رسولنا صلى الله عليه وسلم أفضل من جميع الأنبياء عليهم الصلاة والسلام. وتقريره: أنا بيّنا أن خصال الكمال، وصفة الشرف، كانت مفرقة فيهم بأجمعهم، فداود وسليمان كانا من أصحاب الشكر على النعمة، وأيوب كان من أصحاب الصبر على البلاء، ويوسف كان مستجمعاً لهاتين الحالتين، وموسى عليه السلام كان صاحب الشريعة القوية القاهرة، والمعجزات الظاهرة، وزكريا ويحيى وعيسى وإلياس كانوا أصحاب الزهد، وإسماعيل كان صاحب الصدق، ويونس كان صاحب التضرع، فثبت أنه تعالى إنما ذكر كل واحد من هؤلاء الأنبياء، لأن الغالب غليه خصلة معينة من خصال المدح والشرف. ثم إنه تعالى لما ذكر الكل، أمر نبينا صلى الله عليه وسلم بأن يقتدي بهم بأسرهم، فكأنه أمر بأن يجمع من خصال العبودية والطاعة كل الصفات التي كانت مفرقة فيهم بأجمعهم، وهو معصوم عن مخالفة ما أمر به، فثبت أنه اجتمع فيه جميع ما تفرق فيهم من الكمال، وثبت أنه أفضلهم. وهو استنباط حسن.
الرابع-: {اقْتَدِهْ} يُقرأ بسكون الهاء وإثباتها في الوقف دون الوصل، وهي على هذا هاء السكت. ومنهم من يثبتها في الوصل أيضاً لشبهها بهاء الإضمار. ومنهم من يكسرها وفيه وجهان:
أحدهما هي هاء السكت أيضاً، شبهت بهاء الضمير، وليس بشيء.
الثاني هي هاء الضمير والمصدر أي: اقتد الاقتداء. ومثله:
هذا سُرَاقَةُ للقرآن يدرُسُهُ ** والمرء عند الرُّشا، إنْ يَلَقَهَا ذيبُ

فالهاء ضمير الدرس لا مفعول، لأن يدرس قد تعدى إلى القرآن. وقيل: مَنْ سكن الهاء جعلها هاء الضمير، وأجرى الوصل مجرى الوقف- أفاده أبو البقاء-.
وأما قول الواحدي: الذين أثبتوا الهاء راموا موافقة المصحف، فإن الهاء ثابتة في الخط، فكرهوا مخالفة الخط في حالتي الوقف والوصل، لأثبتوا- فقد قال الخفاجي: إنه مما لا ينبغي ذكره، لأنه يقتضي أن القراءة بغير نقل تقليداً للخط. فمن قاله فقد وهم.
{قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً} أي: على القرآن أو التبليغ. فإن مساق الكلام يدل عليهما، وإن لم يجر ذكرهما {إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ} أي: عظة وتذكير لهم ليرشدوا من العمى إلى الهدى.
تنبيهان:
الأول- فيه دليل على أنه صلى الله عليه وسلم كان مبعوثاً إلى جميع الخلق، من الجن والإنس. وأن دعوته قد عمت جميع الخلائق.
الثاني- قال الخفاجي: قيل الآية تدل على أنه يحلّ أخذ الأجر للتعليم وتبليغ الأحكام. قال: وللفقهاء فيه كلام. انتهى.
وعكس بعض مفسري الزيدية حيث قال: في هذا إشارة إلى أنه لا يجوز أخذ الأجرة على تعليم العلوم، لأن ذلك جرى مجرى تبليغ الرسالة. انتهى.
أقول: إن الآية على نفي سؤاله صلى الله عليه وسلم منهم أجراً، كي لا يثقل عليهم الامتثال. وأما ما استفاده الحل والتحريم منها، ففيه خفاء. والقائل بالأول يقول: المعنى لا أسألكم جعلاً تعففاً. أي: وإن حلّ لي أخذه. وبالثاني: لا أسألكم عليه أجراً لأني حظرت من ذلك.
قال ابن القيمّ: أما الهدية للمفتي، ففيها تفصيل: فإن كانت بغير سبب الفتوى، كمن عادته يهاديه أو من لا يعرف أنه مفت، فلا بأس بقبولها، والأولى أن يكافأ عليها. وإن كانت بسبب الفتوى، فإن كانت سبباً إلى أن يفتيه بما لا يفتي به غيره ممن لا يهدي له، لم يجز له قبول هديته. لأنها تشبه المعاوضة على الإفتاء. وأما أخذ الرزق من بيت المال، فإن كان محتاجاً إليه، جاز له ذلك. وإن كان غنيّاً عنه، ففيه وجهان: وهذا فرع متردد بين عامل الزكاة، وعامل اليتيم. فمن ألحقه بعامل الزكاة قال: النفع فيه عام، فله الأخذ. ومن ألحقه بعامل اليتيم منعه من الأخذ. وحكم القاضي في ذلك حكم المفتي، بل القاضي أولى بالمنع. وأما أخذ الأجرة فلا يجوز، لأن الفتيا منصب تبليغ عن الله ورسوله، فلا يجوز المعاوضة عليه، كما لو قال: لا أعلمك الإسلام والوضوء والصلاة إلا بأجرة. أو سئل عن حلال أو حرام؟ فقال للسائل: لا أجيبك عنه إلا بأجرة، فهذا حرام قطعاً، ويلزمه ردّ العوض، ولا يملكه، انتهى.
وفي حديث عبد الرحمن بن شِبْل عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «اقرؤوا القرآن، ولا تغلوا فيه، ولا تجفوا عنه، ولا تأكلوا به، ولا تستكثروا به»- أخرجه الإمام أحمد برجال الصحيح. وأخرجه أيضاً البزار وله شواهد-.
وأخرج أحمد والترمذي- وحسّنه- عن عِمْرَان بن حصين أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «من قرأ القرآن فليسأل الله تبارك وتعالى به، فإنه سيجيء قوم يقرؤون القرآن يسألون الناس به». وأخرج ابن ماجة والبيهقي عن أبيّ بن كعب قال: علّمت رجلاً القرآن فأهدى لي قوساً، فذكرت ذلك للنبيّ صلى الله عليه وسلم فقال: إن أخذتها أخذت قوساً من نار.
وهناك أحاديث أخر، ومنها استدل على حظر أخذ الأجرة على التعليم.
وأما أخذ الأجرة على التلاوة، ففي الصحيحين عن عبد الله بن مسعود في قصة اللديغ من قوله صلى الله عليه وسلم: «إن أحق ما أخذتم عليه أجراً، كتاب الله، أصبتم اقتسموا، واضربوا لي معكم سهماً».
قال العلامة الشوكاني: حديث «أحق ما أخذتم عليه أجراً» عامٌّ يصدق على التعليم، وأخذ الأجرة على التلاوة. لمن طلب من القارئ ذلك، وأخذ الأجرة على الرقية، وأخذ ما يدفع إلى القارئ من العطاء، لأجل كونه قارئاً، ونحو ذلك. فيخص من هذا العموم تعليم المكلف، ويبقى ما عداه داخلاً تحت العموم. وبعض أفراد العامّ فيه، أدلة خاصة تدل على جوازه، كما دل العامّ على ذلك. فمن تلك الأفراد أخذ الأجرة على الرقية، وتعليم المرأة في مقابلة مهرها. قال: هكذا ينبغي تحرير الكلام في المقام، والمصير إلى الترجيح من ضيق العطن. أي: لأنه يُصار إليه عند تعذر الجمع، وقد أمكن، فكان الأحق- والله الموفق-.
ولما بين تعالى شأن القرآن العظيم، وأنه نعمة كبرى على العالمين، تأثره ببيان كفرهم بذلك، على وجه سرى إلى الكفر بجميع الكتب المنزلة، فقال سبحانه:

.تفسير الآية رقم (91):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَمَا قَدَرُواْ اللّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُواْ مَا أَنزَلَ اللّهُ عَلَى بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاء بِهِ مُوسَى نُوراً وَهُدًى لِّلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيراً وَعُلِّمْتُم مَّا لَمْ تَعْلَمُواْ أَنتُمْ وَلاَ آبَاؤُكُمْ قُلِ اللّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ} [91].
{وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} أي: ما عظموه حق تعظيمه و{حق} نصب على المصدرية، وهو في الأصل صفة للمصدر. أي: قَدْرَهُ الحق، فلما أَضيف إلى موصوفه انتصب على ما كان ينتصب عليه موصوفه {إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ} أي: حين اجترؤوا على التفوه بهذه الجملة الشنعاء، وذلك منهم مبالغة في إنكار إنزال القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فألزموا بما لا سبيل لهم إلى إنكاره أصلاً، حيث قيل في جواب سلبهم العام، بإثبات قضية جزئية بديهية التسليم:
{قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُوراً} حال من الضمير في: {به} أو من: {الكتاب} {وَهُدىً لِلنَّاسِ} أي: ضياء من ظلمة الجهالة، وبياناً يفرق بين الحق والباطل {تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا}: يجزئونه أوراقاً يبدونها للناس مما ينتخبونه. أي: فكيف ينكر إنزال شيء، وهذا المنزل المذكور ظاهر للعيان. والعدول عن التوراة إلى ذكر الكتاب وصفته، والحال بعده- لزيادة التقريع، وتشديد التبكيت، وإلقام الحجر {وَتُخْفُونَ كَثِيراً} معطوف على {تُبْدُونَهَا}، والعائد محذوف. أي: كثيراً منها. أو كلام مبتدأ لا محل له من الإعراب. أي: وهم يخفون كثيراً. أي: ومع ذلك فالإلزام يكفي بما يبدونه، المعترف لديهم بحقيّته. وفيه نعي على أهل الكتاب بسوء صنيعهم المذكور، إذ ما يريدون بإخفاء كثير منها إلا تبديل الدين.
{وَعُلِّمْتُمْ} أي: على لسان محمد صلى الله عليه وسلم: {مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آبَاؤُكُمْ} من المعارف التي لا يرتاب في أنها تنزيل رباني {قُلِ اللَّهُ} أي: أنزله الله، أو الله أنزله. أَمَرَهُ بأنه يجيب عنهم، إشعاراً بأن الجواب متعين لا يمكن غيره، وتنبيهاً على أنهم بُهِتُوا، بحيث إنهم لا يقدرون على الجواب.
{ثُمَّ} بعد التبليغ وإلزام الحجة: {ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ} أي: في باطلهم: {يَلْعَبُونَ} أي: يفعلون فعل اللاعب، وهو ما لا يجر لهم نفعاً، ولا يدفع عنهم ضرراً، مع تضييع الزمان.
تنبيه:
في هذه الآية قولان:
الأول- أنها مكية النزول تبعاً للسورة، وأن القائل ذلك هم المشركون، وإلزامهم إنزال التوراة، لما أنه كان عندهم من المشاهير الذائعة، وهذا هو الظاهر.
قال ابن كثير: قال ابن عباس، ومجاهد وعبد بن كثير: هذه الآية نزلت في قريش، واختاره ابن جرير. قال ابن كثير: وهو الأصح، لأن اليهود لا ينكرون إنزال الكتب من السماء، وأما كفار قريش فكانوا ينكرون رسالة النبيّ صلى الله عليه وسلم، لأنه من البشر كما قال تعالى: {أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ} [يونس: 2]. وكقوله تعالى: {وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَراً رَسُولاً} [الإسراء: 94]. وكذا قالوا هنا: {مَا أَنزَلَ اللّهُ عَلَى بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ}. فألزموا بإنزال الكتاب الذي جاء به موسى، وهو التوراة التي علموا هم وكل أحد أن الله أنزلها على موسى تكذيباً لقولهم، وإيقافاً على عنادهم. ومعلوم ما كان بين قريش ويهود المدينة من التعارف، وتسليم قريش أنهم أهل كتاب، وأنهم أعلم منهم لأجله، مما يوجب اعترافهم بحقية التوراة، وأنها منزلة من لدنه تعالى، وعلى هذا القول، فالقراءة بالياء التحتية ظاهرة. وعلى قراءة الخطاب، فهو التفات من خطاب قوم إلى خطاب قوم آخرين. وهو التفات عند الأدباء- حكاه الخفاجي- وإنما جعل من الانتقال عن خطابهم إلى خطاب اليهودية، تعريضاً لهم بأن إنكارهم إنزال الله تعالى من جنس فعل هؤلاء بالتوراة في البطلان، وعدم الإسناد إلى برهان. ثم القول بأن الخطاب في: {عُلِّمْتُم} لمؤمني قريش. لا يقتضيه السياق ولا السباق، وفيه تفكيك للنظم الجليل، كالقول بأنه اعتراض للامتنان على النبيّ صلى الله عليه وسلم وأتباعه، لهدايتهم للمجادلة بالتي هي أحسن. بل الخطاب فيه كسابقه، والمراد بتعليمهم، وهم مشركون، ما يسمعونه ويتلقفونه من النبيّ صلى الله عليه وسلم وصحابته، من فرائد الوحي وفوائده، مما لا يرتاب في تنزيلها، كما أوضحناه قبل.
القول الثاني- إن هذه الآية مدنية النزول. ولا يرد أن هذه السورة مكية، ومناظرات اليهود كانت في المدينة، لأن كثيراً من السور المكية ألحقت بها آيات مدنية، وحينئذ فقولهم هذه السورة مكية أي: إلا ما استثني مما ألحق بها، كما أوضحه السيوطي في الإتقان وساق له شواهد. وقد أشرنا إلى ذلك أول هذه السورة، فتذكر!.
ثم القائلون بأنها مدنية، منهم من قال: نزلت في طائفة من اليهود، أو في فنحاص، أو في مالك بن الصيف. أخرج ابن جرير من طريق ابن أبي طلحة عن ابن عباس قال: قالت اليهود: والله ما أنزل الله من السماء كتاباً، فأنزلت.
وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير- مرسلاً- قال: جاء رجل من اليهود يقال له مالك بن الصيف، فخاصم النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «أنشدك بالذي أنزل التوراة على موسى، هل تجد في التوراة أن الله يبغض الحبر السمين- وكان حبراً سميناً-؟ فغضب» وقال: ما أنزل الله على بشر من شيء! فقال له أصحابه: «ويحك! ولا على موسى؟» فأنزل الله: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ}.. الآية. قال البغويّ: وفي القصة أن مالك بن الصيف، لما سمعت اليهود منه تلك المقالة، عتبوا عليه، وقالوا: أليس الله أنزل التوراة على موسى، فلم قلت: ما أنزل الله من شيء؟ فقال مالك بن الصيف: أغضبني محمد، فقلت ذلك! فقالوا له: وأنت إذا غضبت تقول على الله غير الحق! فنزعوه عن الحبرية. وبعد الوقوف على ذلك، فلا معنى لاعتراض بعضهم بأن مالك بن الصيف كان مفتخراً بكونه يهودياً متظاهراً بذلك، ومع هذا المذهب لا يمكنه البتة أن يقول: ما أنزل الله على بشر من شيء، لأنه تبين أنه قال ذلك متغيظاً، وقد أخذ الغضب منه مأخذه عناداً ومكابرة، توصلاً لدفع ما يريده. وقد يبلغ الحمق بصاحبه إلى حدٍّ يتبرأ فيه من مذهبه ومعتقده، إغاظة لخصمه على زعمه. وبوادر اللسان في حق المولى تعالى وتقدس، مما لا تغتفر، ولذا بين تعالى جهل ذاك القائل بقوله: {وَمَا قَدَرُواْ اللّهَ حَقَّ قَدْرِهِ}.
قال العلامّة البقاعيّ: لأن من نسب ملكاً تام الملك إلى أنه لم يبث أوامره في رعيته بما يرضيه ليفعلوه، وما يسخطه ليجتنبوه، فقد نسبه إلى نقص عظيم. فكيف إذا كانت تلك النسبة كذباً؟ وإنما أسند إلى الكل- والقائل بعضهم- لأنهم لم يردّوا على قائله، ولم يعالجوه بالأخذ على يده، تهويلاً للأمر، وبياناً لأنه يجب على كل من سمع بآيه من آيات الله أن يسعى إليها، ويتعرف أمورها، فمن طعن فيها أخذ على يده بما تصل إليه قدرته، فقال مشيراً إلى اليهود قائلوا ذلك. ملزماً لهم بالاعتراف بالكذب، أو المساواة للأميّين في التمسك بالهوى دون كتاب، موبخاً لهم، ناعياً عليهم سوء جهلهم، وعظيم بهتهم، وشدة وقاحتهم، وعدم حيائهم: {قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاء بِهِ مُوسَى}؟ أي: قل لهؤلاء السفهاء الذين تجرأوا على هذه المقالة، غير ناظرين في عاقبتها، وما يلزم منها، توبيخاً لهم، وتوقيفاً على شنيع جهلهم: {مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاء بِهِ مُوسَى} الذي أنتم تزعمون التمسك بشرعه: {تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ} أي: أوراقاً مفرقة، لتتمكنوا بها من إخفاء ما أردتم {تُبْدُونَهَا} للناس أي: تظهرونها للناس {وَتُخْفُونَ كَثِيراً} أي: منها مما تريدون به تبديل الدين. هذا على قراءة الفوقانية. وعلى قراءة التحتانية التفات مؤذن بشدة الغضب، مشير إلى أن ما قالوه حقيق بأن يستحي من ذكره، فكيف بفعله. وقوله: {وَعُلِّمْتُم} أي: أيها اليهود بالكتاب الذي أنزل على موسى: {مَّا لَمْ تَعْلَمُواْ أَنتُمْ} أي: أيها اليهود من أهل هذا الزمان: {وَلاَ آبَاؤُكُمْ} أي: الأقدمون. انتهى كلام البقاعيّ رحمه الله تعالى. وفي قوله: وإنما أسند إلى الكل.. إلى آخره، نظر. لأن إسناده ليس إليهم، لأنهم رضوا به، لأن القصة السالفة تدل على خلافه. وللبقاعي رحمه الله وجه آخر في الآية. قال: ويمكن أن تكون مكية، ويكون قولهم هذا حين أرسلت إليهم قريش تسألهم عنه صلى الله عليه وسلم في أمر رسالته، فاحتج عليهم بإرسال موسى عليه السلام، وإنزال التوراة عليه. انتهى. وهو قريب وجيه جدًّا.
وبالجملة، فالآية الكريمة من صادقة مع الأوجه المذكورة، وتتنزل في التأويل، على ما بينا في كلٍ تنزيلاً لا شائبة معه لإشكال مّا. وقد استصعب الرازي تأويلها، وأخذ يحاول أسئلة هي على طرف الثُّمام، بعد النظر فيما بينّا، فالحمد الله الذي هدانا لهذا.
لطائف:
الأولى- قال أبو السعود رحمه الله: ليس المراد بالآية مجرد إلزامهم بالاعتراف بإنزال التوراة فقط، بل بإنزال القرآن أيضاً، فإن الاعتراف بإنزالها مستلزم للاعتراف بإنزاله قطعاً، لما فيها من الشواهد الناطقة به.
الثانية- قال أيضاً في قوله تعالى: {تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ} أي: تضعونه في قراطيس مقطعة، وورقات مفرقة، بحذف الجار، بناء على تشبيه القراطيس بالظرف المبهم، أو تجعلونه نفس القراطيس المقطعة. وفيه زيادة توبيخ لهم بسوء صنيعهم، كأنهم أخرجوه من جنس الكتاب، ونزلوه منزلة القراطيس الخالية عن الكتابة.
الثالثة- في قوله تعالى: {تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيراً} دلالة على أنه لا يجوز كتم العلم الدينيّ عمن يهتدي به. قاله بعض الزيدية.
ولما أبطل تعالى كلمتهم الشنعاء بتقرير إنزال التوراة، بين تنزيل ما يصدقها بقوله: