فصل: تفسير الآية رقم (100):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: محاسن التأويل



.تفسير الآية رقم (100):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَجَعَلُواْ لِلّهِ شُرَكَاء الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُواْ لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ} [100].
{وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ} أي: جعلوهم شركاء له في العبادة. فإن قيل: فكيف عُبدت الجن مع أنهم إنما كانوا يبدون الأصنام؟ فالجواب: أنهم ما عبدوها إلا عن طاعة الجن، وأمرهم بذلك. كقوله: {إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثاً وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَاناً مَرِيداً لَعَنَهُ اللَّهُ وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيباً مَفْرُوضاً وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيّاً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَاناً مُبِيناً} [النساء: 117- 119]. وكقوله تعالى: {أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي} [الكهف: 50] الآية. وقال إبراهيم لأبيه: {يَا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيّاً} [مريم: 44]. وكقوله: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} [يس: 60- 61] وتقول الملائكة يوم القيامة: {سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ} [سبأ: 41].
{وَخَلَقَهُمْ} حال من فاعل: {جَعَلُواْ}، مؤكدة لما في جَعْلِهِمْ ذلك من كمال القباحة والبطلان، باعتبار علمهم بمضمونها. أي: وقد علموا أن الله خالقهم دون الجن: {أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ}: {وفي المطبوع وليس من يخلق كمن لا يخلق}! وقيل: الضمير للشركاء. أي: والحال أنه تعالى خلق الجن، فكيف يجعلون مخلوقه شريكاً له؟ كقول إبراهيم: {قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات: 95- 96]. أي: وإذا كان هو المستقل بالخالقية، وجب أن يفرد بالعبادة، وحده لا شريك له.
تنبيه:
ما ذكرناه من معنى قوله تعالى: {وَجَعَلُواْ لِلّهِ شُرَكَاء الْجِنَّ} أنهم أطاعوا الجن في عبادة الأوثان، هو ما قرره ابن كثير، وأيده بالنظائر المتقدمة، ونقل عن الحسن، فتكون الكناية لمشركي العرب. وقيل: المراد بالجن الملائكة، فإنهم عبدوهم وقالوا عنهم بنات الله. وكلا الأمرين موجب للشريك. أما الأول فظاهر. وأما الثاني فلأن الولد كفء الوالد، فيشاركه في صفات الألوهية. وتسمية الملائكة جنّاً حقيقة، لشمول لفظ الجن لهم. وقيل: استعارة. أي: عبدوا ما هو كالجن، فيكون مخلوقاً مستتراً عن الأعين.
وذهب بعض السلف- منهم الكلبي- إلى أنها نزلت في الثنوية القائلين بأن للعالم إلهين: أحدهما خالق الخير وكل نافع. وثانيهما خالق الشر وكل ضار. ونقله ابن الجوزي عن ابن السائب. وحكاه الفخر عن ابن عباس رضي الله عنه، وأنه قال: نزلت في الزنادقة الذين قالوا: إن الله وإبليس أَخَوَانِ. فالله تعالى خالق الناس والدواب والأنعام والخيرات، وإبليس خالق السباع والحيات والعقارب والشرور.
قال الرازي: وقول ابن عباس المذكور أحسن الوجوه المذكور في هذه الآية، وذلك، لأن بهذا الوجه يحصل لهذه الآية مزيد فائدة مغايرة لما سبق ذكره في هذه الآيات المتقدمة.
وقوّى ابن عباس قوله المذكور بقوله تعالى: {وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبا} [الصافات: 158]. وإنما وصف بكونه من الجن، لأن لفظ الجن مشتق من الاستتار، والملائكة والروحانيين مستترة من العيون، فلذلك أطلق لفظ الجن عليها.
قال الفخر: هذا مذهب المجوس. وإنما قال ابن عباس: هذا قول الزنادقة، لأن المجوس يلقبون بالزنادقة، لأن الكتاب الذي زعم زرادشت أنه نزل عليه من عند الله مسمى بـ الزند، والمنسوب إليه يسمى زندي، ثم عُرّب فقيل: زنديق، ثم جمع فقيل: زنادقة. واعلم أن المجوس قالوا: كل ما فيه هذا العالم من الخيرات فهو من يزدان، وجميع ما فيه من الشرور فهو من اهرمن محدث، ولهم في كيفية حدوثه أقوال عجيبة. والأقلون منهم قالوا: إنه قديم أزلي. وعلى القولين فقد اتفقوا على أنه شريك الله في تدبير هذا العالم، فخيرات هذا العالم من الله تعالى، وشروره من إبليس. فهذا شرح ما قاله ابن عباس رضي الله عنهما. وإنما جمع حينئذ في الآية، لكونه مع أتباعه كأنهم معبودون.
ثم قال الرازيّ: وقوله تعالى: {وَخَلَقَهُمْ} إشارة إلى الدليل القاطع على فساد كون إبليس شريكاً، وتقريره أنا نقلنا عن المجوس أن الأكثرين منهم معترفون بأن إبليس ليس بقديم، بل هو محدث. إذا ثبت هذا فنقول: إن كل محدث فله خالق وموجد، وما ذلك إلا الله سبحانه وتعالى. فهؤلاء المجوس يلزمهم القطع بأن خالق إبليس هو الله تعالى. ولما كان إبليس أصلاً لجميع الشرور والآفات والمفاسد والقبائح، والمجوس سلّموا أن خالقه هو الله تعالى، فحينئذ قد سلموا أن إله العالم هو الخالق لما هو أصل الشرور والقابئح والمفاسد. وإذا كان كذلك امتنع عليهم أن يقولا: لابد من إلهين، فسقط قولهم. انتهى ملخصاً.
وقوله تعالى: {وَخَرَقُوا لَهُ} أي: اختلقوا وافتروْا له: {بَنِينَ} كقول أهل الكتابين في المسيح وعزير: {وَبَنَاتٍ} كقول بعض العرب في الملائكة.
قال الزمخشري: يقال خلق الإفك وخرقه واختلقه بمعنى. وسئل الحسن عنه فقال كلمة عربية كانت العرب تقولها. كان الرجل إذا كذب كذبة في نادي القوم يقول له بعضهم: قد خرقها والله! ويجوز أن يكون من خَرَقَ الثَّوْبَ إذا شقه: أي: اشتقوا له بنين وبنات. وقُرئ: {وَخَرَقُواْ} بالتشديد للتكثير لقوله {بنين وبنات}
{بِغَيْرِ عِلْمٍ} أي: من غير أن يعلموا حقيقة ما قالوه من خطأ أو صواب، ولكن رمياً بقولٍ عن عمى وجهالة، من غير فكر وروية، أو بغير علم بمرتبة ما قالوا، وأنه من الشناعة والبطلان بحيث لا يقادَرُ قدره. وفيه ذم لهم بأنهم يقولون بمجرد الرأي والهوى. وفيه إشارة إلى أنه لا يجوز أن ينسب إليه تعالى إلا ما جزم به، وقام عليه الدليل.
ثم نزه ذاته العلية عما نسبوه إليه بقوله: {سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ} من أوصاف الحوادث الخسيسة من المشاركة والتوليد.
ثم استدل تعالى على بطلان ما اجترؤوا عليه بوجوه أربعة. بدأ منها بقوله:

.تفسير الآية رقم (101):

القول في تأويل قوله تعالى: {بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُن لَّهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [101].
{بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} أي: مبدعهما بلا مثال سبق. وقيل: بمعنى عديم النظير فيهما. قال أبو السعود: والأول هو الوجه. والمعنى: أنه تعالى مبدع لقطري العالم العلويّ والسفليّ، بلا مادة، فاعل على الإطلاق، منزه عن الأنفعال بالمرة.
والوالد عنصر الولد منفعل بانتقال مادته عنه، فكيف يمكن أن يكون له ولد؟
{أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ} أي: من أين وكيف يكون له ولد- كما زعموا- والحال أنه ليس له على زعمهم أيضاً صاحبة يكون الولد منها؟ ويستحيل ضرورة وجود الولد بلا والدة، وإن أمكن وجوده بلا والد. وأيضاً، الولد لا يحصل إلا بين متجانسين، ولا مجانس له تعالى.
وقوله تعالى: {أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ} جملة مستأنفة، لتقرير تنزهه عنه، والحالية بعدها مؤكدة للاستحالة المذكورة.
وقوله تعالى: {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ} جملة أخرى مستأنفة، لتحقيق ما ذكر من الاستحالة أو حال ثانية مقررة لها. أي: أنى يكون له ولد والحال أنه خلق كل شيء انتظمه التكوين والإيجاد من الموجودات التي من جملتها ما سموه ولداً له تعالى: فكيف يتصور أن يكون المخلوق ولداً لخالقه؟- أفاده أبو السعود-.
{وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} أي: مبالغ في العلم أزلاً وأبداً. جملة مستأنفة أيضاً، مقررة لمضمون ما قبلها من الدلائل القاطعة، ببطلان مقالتهم الشنعاء. أي: أنه سبحانه لذته عالم بكل المعلومات، فلو كان له ولد، فلابد أن يتصف بصفاته، ومنها عموم العلم، وهو لغيره تعالى منفي بالإجماع.

.تفسير الآية رقم (102):

القول في تأويل قوله تعالى: {ذَلِكُمُ اللّهُ رَبُّكُمْ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} [102].
{ذَلِكُمُ} أي: الموصوف بما سبق، البعيد رتبته عن مراتب من يشارك أو ينسب إليه الولادة، إذ هو: {اللَّهُ رَبُّكُمْ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ} أي: بالإيمان به وحده، فإن من جمع تلك الصفات استحق العبادة وحده {وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} أي: رقيب وحفيظ، يدبر كل ما سواه ويرزقهم ويكلؤهم بالليل والنهار.

.تفسير الآية رقم (103):

القول في تأويل قوله تعالى: {لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [103].
قوله تعالى: {لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ} جملة مستأنفة، إما مؤكدة لقوله تعالى: {وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} ذكرت للتخويف بأنه رقيب من حيث لا يرى فليحذر، وإما هي مؤكدة لما تقرر قبل من تنزهه وتعاليه عن إفكهم أعظم تأكيد، ببيان أنه لا تراه الأبصار المعهودة وهي أبصار أهل الدنيا، لجلاله وكبريائه وعظمته، فأنى يصح أن ينسب إلى عليائه تلك العظيمة؟ وذلك لأنه تعالى لم يخلق لأرباب هذه النشأة الدنيوية استعداداً لرؤيته المقدسة.
قال العارف الجليل الشيخ الأكبر قدس سره في فتوحاته: سبب عجز الناس عن رؤية ربهم في الدنيا ضعف نشأة هذه الدار، إلا لمن أمده الله بالقوة، بخلاف نشأة الآخرة لقوتها. وسبب رؤيته تعالى في المنام كون النوم أخا الموت. وفي الحديث إنكم لن تروا ربكم حتى تموتوا. فما نفى الشرع إلا رؤية الله في الدنيا يقظة. انتهى.
وقال بعضهم: إن الأبصار المعهودة في الدنيا لا تدركه تعالى، لأن هذه الأحداق مادامت تبقى على هذه الصفات التي هي موصوفة بها في الدنيا لا تدرك الله تعالى، وإنما تدركه إذا تبدلت صفاتها، وتغيرت أحوالها.
وفي الصحيحين من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله لا ينام، ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه، يرفع إليه عمل النهار قبل الليل، وعمل الليل قبل النهار، حجابه النور أو النار، لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه».
قال ابن كثير: وفي الكتب المتقدمة، أن الله تعالى قال لموسى لما سأل الرؤية: يا موسى! إنه لا يراني حيّ إلا مات، ولا يابس إلا تدهده. وقال تعالى: {فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاً وَخَرَّ مُوسَى صَعِقاً فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ} [الأعراف: 143].
أقول: كون المنفيّ من الإدراك في هذه الآية هو الإدراك الدنيويّ خاصة، لا يحتاج إلى حجة ولا برهان. ومن فهم من تعض الفرق، كالمعتزلة، من هذه الآية أن المنفيّ هو الإدراك في النشأتين، فقد نادى على نفسه بالجهل بما دل عليه كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم المتواترة. أما الكتاب فمثل قوله: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة: 22- 23]. وأما السنة فما روي عن جرير بن عبد الله البجلي قال: كنا جلوساً عند النبيّ صلى الله عليه وسلم، إذ نظر إلى القمر ليلة البدر وقال: «إنكم سترون ربكم كما ترون هذا القمر، لا تضامّون في رؤيته، فإن استطعتم أن لا تغلبوا عن صلاة قبل طلوع الشمس، وقبل غروبها»، فافعلوا ثم قرأ: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ}.
قال ابن كثير: تواترت الأخبار عن أبي سعيد وأبي هريرة وأنس وجرير وصهيب وبلال وغير واحد من الصحابة عن النبي صلى الله عليه وسلم: «أن المؤمنين يرون الله في الدار الآخرة في العرصاة وفي روضات الجنات». انتهى.
قال الحافظ ابن حجر في الفتح: وأدلة السمع طافحة بوقوع ذلك في الآخرة لأهل الإيمان دون غيرهم، ومنع ذلك في الدنيا. إلا أنه اختلف في نبينا صلى الله عليه وسلم. انتهى.
قال ابن كثير: كانت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها تثبت الرؤيا في الدار الآخرة وتنفيها في الدنيا، وتحتج بهذه الآية. انتهى.
فعن مسروق قال: قلت لعائشة رضي الله عنها: يا أمتاه! هل رأى محمد صلى الله عليه وسلم ربه، فقالت لقد قفّ شعري مما قلت! أين أنت من ثلاث من حدثكهن فقد كذب: من حدثك أن محمداً رأى ربه فقد كذب. ثم قرأت: {لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ} {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَاب} [الشورى: 51]. ومن حدثك أنه يعلم ما في غد فقد كذب. ثم قرأت: {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَداً} [لقمان: 34] ومن حدثك أنه كتم فقد كذب ثم قرأت: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} [المائدة: 67]. ولكنه رأى جبريل في صورته مرتين- أخرجه الشيخان والترمذيّ-.
وخالفها ابن عباس. فعنه إطلاق الرؤية، وعنه أنه رآه بفؤاده. والمسألة تذكر مبسوطة في أول سورة النجم إن شاء الله تعالى. ومن الناس من ذهب إلى أن الإدراك ليس هو مطلق الرؤية، بل معرفة الكنه أو الإحاطة.
قال ابن كثير: قال آخرون: لا منافاة بين إثبات الرؤية ونفي الإدراك. فإن الإدراك أخص من الرؤية، ولا يلزم من نفي الأخص انتفاء الأعم. ثم اختلف هؤلاء في الإدراك المنفيّ ما هو؟ فقيل: معرفة الحقيقة، فإن هذا لا يعلمه إلا هو، وإن رآه المؤمنين، كما أن من رأى القمر فإنه لا يدرك حقيقته وكنهه وماهيته، فالعظيم أولى بذلك، وله المثل الأعلى.
وقال آخرون: الإدراك أخص من الرؤية، وهو الإحاطة. قالوا: ولا يلزم من عدم الإحاطة عدم الرؤية، كما لا يلزم من عدم إحاطة العلم عدم العلم. قال تعالى: {وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً} [طه: 110].
وفي صحيح مسلم: «لا أحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك». ولا يلزم منه عدم الثناء، فكذلك هذا. انتهى.
وقال النسفي: تشبثُ المعتزلة بهذه الآية لا يستتب، لأن المنفيّ هو الإدراك لا الرؤية والإدراك هو الوقوف على جوانب المرئيّ وحدوده، وما يستحيل عليه الحدود والجهات، يستحيل إدراكه، لا رؤيته، فنزّل الإدراك من الرؤية منزلة الإحاطة من العلم، ونفى الإحاطة التي تقتضي الوقوف على الجوانب والحدود، لا يقتضي نفي العلم به، فكذا هذا. على أن مورد الآية، وهو التمدح، يوجب ثبوت الرؤية، إذ نفي إدراك ما تستحيل رؤيته. لا تمدح فيه، لأن كل ما لا يرى لا يدرك، وإنما التمدح بنفي الإدراك مع تحقق الرؤية، إذ انتفاؤه مع تحقق الرؤية، دليل ارتفاع نقيصة التناهي والحدود عن الذات، فكانت الآية حجة لنا عليهم. انتهى.
وقد جود العلامة العضد في المواقف البحث في هذه الآية، ونقل شبه المنكرين فيها، وأجاب عنها. ونحن، لنفاسته، ننقل كلامه مع شرحه للسيد الشريف قدس سره، وبعض حواشيه، ونصه:
الأولى- من شبه المنكرين للرؤية السمعية قوله تعالى: {لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ}:
1- والإدراك المضاف إلى الأبصار إنما هو الرؤية. فمعنى قولك: أدركته ببصري، معنى رأيته. لا فرق إلا في اللفظ. أو هما أمران متلازمان لا يصح نفي أحدهما مع إثبات الآخر، فلا يجوز: رأيته وما أدركته ببصري ولا عكسه. فالآية نفت أن تراه الأبصار وذلك يتناول جميع الأبصار بواسطة اللام الجنسية في مقام المبالغة، في جميع الأوقات، لأن قولك: فلان تدركه الأبصار، لا يفيد عموم الأوقات، فلابد أن يفيده ما يقابله، فلا يراه شيء من الأبصار، لا في الدنيا، ولا في الآخرة لما ذكرنا.
2- ولأنه تعالى تمدح بكونه لا يُرى، فإنه ذكره في أثناء المدائح: وما كان من الصفات عدمه مدحاً، كان وجوده نقصاً، يجب تنزيه الله عنه، فظهر أنه يمتنع رؤيته، وإنما قلنا: من الصفات احترازاً عن الأفعال، كالعفو والانتقام، فإن الأول فضل، والثاني عدل، وكلاهما كمال. والجواب:
أما عن الوجه الأول في الاستدلال بالآية فمن وجوه:
الأول- أن الإدراك هو الرؤية، على نعت الإحاطة بجوانب المرئيّ، إذ حقيقته النيل والوصول، و{إنا لمدركون} أي: ملحقون، وأدركت الثمرة أي: وصلت إلى حد النضج وأدرك الغلام أي: بلغ. ثم نقل إلى الرؤية المحيطة، لكونها أقرب إلى تلك الحقيقة. والرؤية المكيفة بكيفية الإحاطة، أخص مطلقاً من الرؤية المطلقة. فلا يلزم من نفي المحيطة عن الباري سبحانه، لامتناع الإحاطة، نفي المطلقة عنه. وقوله: لا يصح نفي أحدهما مع إثبات الآخر. ممنوع، بل يصح أن يقال: رأيته وما أدركه بصري. أي: لم يحط به من جوانبه، وإن لم يصح عكسه.
الثاني- أن {تدركه الأبصار} موجبة كلية، لأن موضوعها جمع محلَّى باللام الاستغراقية. وقد دخل عليها النفي فرفعها. ورفع الموجبة الكلية سالبة جزئية. وبالجملة فيحتمل قوله: {لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} إسناد النفي إلى الكل، بأن يلاحظ أولاً دخول النفي، ثم ورود العموم عليه، فيكون سالبة كلية. ونفي الإسناد إلى الكل بأن يعتبر العموم أولاً، ثم ورود النفي عليه، فيكون سالبة جزئية. ومع احتمال المعنى الثاني، لم يبق فيه حجة لكم علينا. لأن أبصار الكفار لا تدركه، إجماعاً. هذا ما نقوله: لو ثبت أن اللام في الجمع للعموم والاستغراق، وإلا عكسنا القضية، فادَّعَيْنَا أن الآية حجة لنا وقلنا: {لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} سالبة مهملة في قوة الجزئية، فالمعنى: لا تدركه بعض الأبصار، وتخصيص البعض بالنفي يبدل بالمفهوم على الإثبات للبعض، فالآية حجة لنا لا علينا. انتهى- لكن هذا إنما يستقيم إذا كانت المهملة مرادفة للجزئية. وكونها في قوتها لا يفيد المرادفة. ولهذا اعترض عليه بأن الجنس في حيزّ النفي يفيد العموم اتفاقاً، نحو: ما جاءني الرجل. وإنما الاحتمال لعموم السلب، وسلب العموم عند قصد الاستغراق، فكيف تعكس القضية على تقدير حمل اللام على الجنس؟ ولو ثبت المرادفة لا ندفع الاعتراض، إذ تصير الآية حينئذ حجة لنا إلزامية، حيث يرجع قيد البعضية إلى النفي، كما أرجع المعتدل قيد العموم، على تقدير الاستغراق، إليه. فتأمل!- كذا في حواشي الحلبي والشرواني-.
الثالث- من تلك الوجوه أنها- أي: الآية- وإن عمت في الأشخاص باستغراق اللام، فإنها لا تعم في الأزمان، فإنها سالبة مطلقة لا دائمة، ونحن نقول بموجبه، حيث لا يرى في الدنيا.
قال العلامة حسن حلبي: وما استدل به الخصم سابقاً على أنها دائمة، من أن إيجابها لا يفيد عموم الأوقات، فلابد أن يفيد ما يقابله- فجوابُه: أنه إنما يتم إذا كان التقابل ببينهما تقابل التناقض، وهو ممنوع. فإن القضية الموجبة والسالبة، الغير الموجهتين، لم توضعا في العربية لمعنيين متناقضين، بل لهما محامل يحملهما المستعمل حسب ما يريده.
الرابع- منها أن الآية تدل على أن الأبصار لا تراه، ولا يلزم منه أن المبصرين لا يرونه، لجواز أن يكون ذلك النفي المذكور في الآية، نفياً للرؤية بالجارحة مواجهة وانطباعاً، كما هو العادة، فلا يلزم نفي الرؤية بالجارحة مطلقاً. وأما الجواب عن الوجه الثاني وهو قوله: تمدح الباري بأنه لا يرى، فنقول: هذا مدعاكم، فأين الدليل عليه؟ إن قلت: أشير فيما تقدم إلى دليله بأنه ذكر في أثناء المدائح، والمذكور بينهما يجب أن يكون مدحاً- قلت: ذلك الدليل إنما يدل على التمدح بنفي المبصرية، لا بنفي الرؤية، والفرق قد سبق في الجواب الأول. انتهى.
وإذا ثبت أن سياق الكلام يقتضي أنه تمدح، لم يكن لكم فيه دليل على امتناع رؤيته، بل لنا فيه الحجة على صحة الرؤية، لأنه لو امتنعت رؤيته لما حصل المدح بنفيها عنه، إذ لا مدح للمعدوم بأنه لا يُرى، حيث لم يكن له ذلك، وإنما المدح في عدم الرؤية للمتمنع المتعزز بحجاب الكبرياء، كما في الشاهد. انتهى.
وناقش الخيالي قولهم: لا مدح للمعدوم بأن عدم مدح المعدوم لاشتماله على معدن كل نقص أعني: العدم، فإن أصل الممادح والكمالات هو الوجود، وقد عرا عنه. كما أن الأصوات والروائح لا تمدح بمنع إمكان رؤيتها، لكونها مقرونة بسمات النقص.
قال: والحق أن امتناع الشيء لا يمتنع التمدح بنفيه، إذ قد ورد التمدح بنفي الشريك، ونفي اتخاذ الولد في القرآن، مع امتناعهما في حقه تعالى. انتهى.
ووافقه حسن حلبي في حواشي شرح المواقف، لكنه أجاب بأن المدح بجهة لا يقتضي الكمال من جهات أخر، وكذا النقصان من جهة لا ينافي المدح بغيرها. انتهى.
وأجاب قره خليل بوجوه:
الأول- أن مراد ذلك المستدل هو الإلزام على المعتزلة، لا تحقيق الاستدلال على جواز الرؤية.
الثاني- أن مبنى كلامه على العرف واللغة، فإن أهلها إذا أرادوا مدح شيء يقولون هذا الشيء مما لا تدركه الأبصار، أو مما لا تراه العيون، مع أنها مما تدركه عادة. فهذا القول منهم يدل على إمكان رؤية ذلك الشيء عادة، بل على وقوعها أيضاً. بخلاف الأصوات والروائح ونحوها، فإنها ليست مما تدركه الأبصار عادة، فلا يحسن مدحها بعدم إدراك الأبصار، أو بعدم رؤيتها. نعم! إذا أرادوا مدح الأصوات يقولون: لم تسمعها أذن، وإذا أرادوا مدح الروائح، يقولون: لم يشمها أنف.
الثالث- إنا قلنا: إن نفي الرؤية في مقام المدح يدل على إمكان الرؤية، ولم نقل إن نفي كل شيء في مقام المدح يدل على إمكان ذلك الشيء، حتى يرد علينا النقض بنفي الشريك، أو بنفي اتخاذ الولد في مقام المدح، مع أن إمكان المنفي في صورة النقض نقص ينافي الألوهية، وإمكان المنفي فيما نحن بصدده ليس نقصاً، بل هو كمال. انتهى.
قال حسن حلبي: إن قيل: يلزم على ثبوت التمدح بنفي الرؤية، تعززاً وتمنعاً، أن لا يزول، لأن زوال ما به التمدح نقص، فيلزم أن لا يرى في الآخرة. والجواب: أن ذلك فيما يرجع إلى الصفات. والتمدحُ بنفي الرؤية يرجع إلى التمدح بخلق ضدها، وهو من قبيل الأفعال، كما أنخلق الرؤية أيضاً منها. انتهى.
وقد بيناه أولاً، وسيأتي لذلك تتمة شافية إن شاء الله تعالى عند قوله سبحانه: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ}، مما هو أعظم حجة، وأوضح برهاناً، والله الموفق. وقوله تعالى: {وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ} أي: يرى جميع المرئيات، ويبصر جميع المبصرات، لا يخفى عليه شيء منها {وَهُوَ اللَّطِيفُ} أي: الذي يعامل عباده باللطف والرأفة {الْخَبِيرُ} أي: العليم بدقائق الأمور وجلياتها. وجوز أن تكون الجملة وتعليلاً لما قبلها، على طريقة اللف، أي: لا تدركه الأبصار لأنه اللطيف، وهو يدرك الأبصار لأنه الخبير. قيل: فيكون: {اللَّطِيفُ} مستعاراً من مقابل الكثيف، فشبه به الخفيّ عن الإدراك. وهذا بناء على أنه في ظاهر الاستعمال من أوصاف الجسم والتحقيق أن اللطافة المطلقة لا توجد في الجسم، لأن الجسمية يلزمها الكثافة، وإنما لطافتها بالإضافة، فاللطافة المطلقة لا يبعد أن يوصف بها النور المطلق، الذي يجلّ عن إدراك البصائر، فضلاً عن الإبصار، ويعز عن شعور الأسرار، فضلاً عن الأفكار، ويتعالى عن مشابهة الصور والأمثال، وينزه عن حلول الألوان والأشكال. فإن كمال اللطافة إنما يكون لمن هذا شأنه، ووصف الغير بها لا يكون على الإطلاق، بل بالقياس إلى ما هو دونه في اللطافة، ويوصف بالنسبة إليه بالكثافة- كذا حققه البهائي قي شرح الأسماء الحسنى. وقول الخفاجي: اللطيف المشتق من اللطف بمعنى الرأفة، لا يظهر له مناسبة هنا- مدفوعٌ بملاحظة أن قوله تعالى: {لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} ذكر للتخويف، كما أسلفنا، وحينئذ يناسب أن يشفع ببيان رأفته ورحمته، جرياً على سنن الترغيب والترهيب.