فصل: تفسير الآية رقم (114):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: محاسن التأويل



.تفسير الآية رقم (114):

القول في تأويل قوله تعالى: {أَفَغَيْرَ اللّهِ أَبْتَغِي حَكَماً وَهُوَ الَّذِي أَنَزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلاً وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِّن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} [114].
وقوله تعالى: {أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَماً} على تقدير القول، كما في نظائره، أي: قل لهم: أفغير الله أطلب من يحكم ببيني وبينكم، ويفصل المحق منّا من المبطل. والمعني: أطلب معبوداً، لأنه كانوا يتحاكمون إلى طواغيتهم- وهذا عندي أظهر- ثم رأيت في تنوير المقباس الاقتصار عليه، حيث قال: {أَبْتَغِي حَكَماً} أعبد ربّاً. وأما كون الآية واردة على قولهم اجعل بيننا وبينك حكماً. فلا يصح، لأنهم بمعزل عن الانصياع لذلك.
{وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ} أي: القرآن المعجز {مُفَصَّلاً} أي: مبيناً فيه الفصل بين الحق والباطل، والحلال والحرام، وأنتم أمة أمية، لا تدرون ما تأتون وما تذرون.
وفي الآية مسائل:
الأولى- قال في الإكليل: استدل الخوارج بقوله تعالى: {أَفَغَيْرَ اللّهِ أَبْتَغِي حَكَماً} على إنكارهم التحكيم. قال: وهو مردود، فإن التحكيم المنكر أن يريد حكماً يحكم بغير ما حكم الله تعالى. انتهى.
قلت: هذا مبني على الوجه الأول، وقد عرفت أن الأظهر الوجه الثاني، فلا استدلال، ولا ردَّ.
الثانية- قالوا: الحكم أبلغ من الحاكم، وأدل على الرسوخ، لما أنه لا يطلق إلى إلا على العادل، وعلى من تكرر منه الحُكْم، بخلاف الحاكم.
الثالثة- في الآية تنبيه على أن القرآن الكريم كافٍ في أمر الدين، مغنٍ عن غيره، ببيانه وتفصيله.
{وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ} لما عندهم من البشارات بك من الأنبياء المتقدمين، ولتصديقه ما عندهم، مع أنه صلى الله عليه وسلم لم يمارس كتبهم، ولم يخالط علماءهم. وهذا تقرير لكونه منزلاً من عند الله ببيان أن الذين وثق بهم المشركون من علماء أهل الكتاب عالمون بحقيقته ونزوله من عنده تعالى.
{فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} أي: في أنه منزل من ربك بالحق، بسبب جحود أكثرهم وكفرهم به، فيكون من باب التهييج والإلهاب، كقوله تعالى: {وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [الأنعام: 14].
قال ابن كثير: هذا كقوله تعالى: {فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَأُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} [يونس: 94]. قال: وهذا شرط، والشرط لا يقتضي وقوعه. ولهذا جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا أشك ولا أسأل». انتهى.

.تفسير الآية رقم (115):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لاَّ مُبَدِّلِ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [115].
{وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ} وقُرئ {كلمات ربك} أي: بلغت الغايةَ أخباره وأحكامه ومواعيده: {صِدْقاً} في الأخبار والمواعيد: {وَعَدْلاً} في الأقضية والأحكام.
وقال القاشانيّ: أي: تم قضاؤه تعالى في الأزل بما قضى وقدر من إسلام من أسلم، وكفر من كفر، ومحبة من أحب، وعداوة من عادى، قضاءً مبرماً، وحكماً صادقاً، مطابقاً لما يقع، عادلاً بمناسبة كل قول وكل كمال وحال، لاستعداد من يصدر عنه واقتضائه له. انتهى.
{لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ} أي: لا أحد يبدل شيئاً منها بما هو أصدق وأعدل. أو لا أحد يقدر أن يحرفها شائعاً ذائعاً، كما فعل بالتوراة. على أن المراد بها القرآن فيكون ضماناً لها منه تعالى بالحفظ، كقوله: {وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9].
وقال القاشاني: أي: لا مبدل لأحكامه الأزلية. انتهى.
قال السيوطي في الإكليل: يستدل به من قال إن اليهود والنصارى لم يبدلوا لفظ التوراة والإنجيل، وإنما بدلوا المعنى، لأن كلمات الله لا تبدل. انتهى- وهو رواية عن ابن عباس- أخرجها البخاري في آخر صحيحه. وبسط المقام في ذلك الحافظ ابن حجر في فتح الباري. وتقدم لنا في سورة البقرة شذرة من هذا البحث، فجدد به عهداً.
{وَهُوَ السَّمِيعُ} لما يظهرون من الأقوال: {الْعَلِيمُ} أي: بما يخفون. ثم حذر تعالى من الركون إليهم والعمل بآثارهم بقوله:

.تفسير الآية رقم (116):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللّهِ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ} [116].
{وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ} أي: من الناس، وهو الكفار: {يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} أي: عن الطريق الموصل إله، بتزيينهم زخارفهم عليك، ودعوتهم إياك إلى ما هم فيه من اتباع الهوى، كما قال: {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ} وهو ظنهم أن آباءهم كانوا على الحق، فهم يقلدونهم: {وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ} يكذبون على الله تعالى فيما ينسبون إليه، كاتخاذ الولد، وجعل عبادة الأوثان وصلة إليه، وتحليل الميتة، وتحريم البحائر. و{إنْ} فيه وفيما قبله نافية. والخرص: الحَزْرُ والتخمين، وقد يعبر به عن الكذب والافتراء، وأصله القول بالظن، وقول ما لا يستيقن ويتحقق- قاله الأزهري-.

.تفسير الآية رقم (117):

القول في تأويل قوله تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَن يَضِلُّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} [117].
{إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} تقرير لمضمون الشرطية، وما بعدها. وتأكيد لما يفيده من التحذير. أي: هو أعلم بالفريقين، فاحذر أن تكون من الأولين.- أفاده أبو السعود-.
تنبيه:
قال الرازي: تمسك نفاة القياس بهذه الآية فقالوا: رأينا أن الله تعالى بالغ في ذم الكفار في كثير من آيات القرآن، بسبب كونهم متبعين للظن. والشيء الذي يجعله الله تعالى موجباً لذم الكفار، لابد وأن يكون في المعنى في أقصى مراتب الذم. والعلم بالقياس يوجب اتباع الظن، فوجب كونه مذموماً محرماً. لا يقال: لما ورد الدليل القاطع بكونه حجة، كان العمل له عملاً بدليل مقطوع، لا بدليل مظنون. لأنا نقول: هذا مدفوع من وجوه:
الأول- أن ذلك الدليل القاطع إما أن يكون عقليّاً، وإما أن يكون سمعيّاً، والأول باطل، لأن العقل لا مجال له في أن العمل بالقياس جائز أو غير جائز، لاسيما عند من ينكر تحسين العقل وتقبيحه. والثاني أيضاً باطل لأن الدليل السمعيّ إنما يكون قاطعاً لو كان متوتراً، أو كانت ألفاظه غير محتملة لوجه آخر، سوى هذا المعنى الواحد. ولو حصل مثل هذا الدليل لعلم الناس بالضرورة كون القياس حجة، ولارتفع الخلاف فيه بين الأمة. فحيث لم يوجد ذلك. علمنا أن الدليل القاطع على صحة القياس مفقود.
الثاني- هب أنه وجد الدليل القاطع على أن القياس حجة، إلا أن مع ذلك لا يتم العمل بالقياس إلا مع اتباع الظن. وبيانه أن التمسك بالقياس مبنيّ على مقامين: الأول: أن الحكم في محل الوفاق معلل بكذا. والثاني: أن ذلك المعنى حاصل في محل الخلاف. فهذان المقامان، إن كانا معلومين على سبيل القطع واليقين، فهذا مما لا خلاف فيه بين العقلاء في صحته. وإن كان مجموعهما، أو كان أحدهما ظنيّاً، فحينئذ لا يتم العلم بهذا القياس إلا بمتابعة الظن، وحينئذ يندرج تحت النص الدالّ على أن متابعة الظن مذمومة. والجواب لِمَ لا يجوز أن يقال: الظن عبارة عن الاعتقاد الراجح إذا لم يستند إلى أمارة، وهو مثل اعتقاد الكفار. أما إذا كان الاعتقاد الراجح مستندا إلى أمارة، فهذا الاعتقاد لا يسمى ظنّاً، وبهذا الطريق سقط هذا الاستدلال. انتهى.

.تفسير الآية رقم (118):

القول في تأويل قوله تعالى: {فَكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ إِن كُنتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ} [118].
وقوله تعالى: {فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} أمر مترتب على النهي عن اتباع المضلين الذين من جملة إضلالهم تحليل الحرام وتحريم الحلال. وذلك أنهم خاصموا المسلمين فقالوا: ما ذبح الله لا تأكلونه، وما ذبحتم أنتم أكلتموه- أخرجه النسائي عن ابن عباس- فنزلت الآية. والمعنى: كلوا مما ذكر اسم الله على ذبحه، لرفعه تنجيس الموت إياه المانع من الأكل، لا مما ذكر عليه اسم غيره، أو مات حتف أنفه.
{إِنْ كُنْتُمْ بِآياتِهِ مُؤْمِنِينَ} فإن الإيمان بها يقتضي استباحة ما أحله سبحانه، واجتناب ما حرمه.

.تفسير الآية رقم (119):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تَأْكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيراً لَّيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِم بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ} [119].
قوله تعالى: {وَمَا لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} إنكار لأن يكون لهم شيء يدعوهم إلى الاجتناب عن أكل ما ذكر عليه اسم الله تعالى من البحائر والسوائب. أي: وأي غرض لكم في أن تتحرجوا من أكله، وما يمنعكم عنه؟: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ} أي: بيّنه ووضحه.
قال بعض المفسرين: يعني في آية المائدة في قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} [المائدة: 3] الآية. وردّ بأن المائدة من آخر ما نزل بالمدينة، والأنعام مكية. فالصواب أن التفصيل إمّا في قوله تعالى بعد هذه الآية: {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً} [الأنعام: 145] الآية. فإنه ذكر بعد بيسير، وهذا القدر من التأخر لا يمنع أن يكون هو المراد، وإما على لسان الرسول، ثم أنزل بعد ذلك في القرآن. و{فصل} و{حرم} قرئ كل منهما معلوماً ومجهولاً. ومعنى الآية: لا مانع لكم من أكل ما ذكر، وقد بين لكم المحرم أكله، وهذا ليس منه.
{إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} أي: مما حرم عليكم. أي: إلا أن تدعوكم الضرورة إلى أكله بسبب شدة المجاعة، فيباح لكم.
{وَإِنَّ كَثِيراً لَيُضِلُّونَ} قُرئ بفتح الياء وضمها: {بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ} أي: يضلون فيحرّمون ويحللون بأهوائهم وشهواتهم، من غير تعلق بشريعة.
{إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ} أي: المتجاوزين لحدود الحق إلى الباطل، والحلال إلى الحرام.
تنبيه:
قال الرازي: دلت هذه الآية على أن القول في الدين بمجرد التقليد حرام، لأن القول بالتقليد قول بمحض الهوى والشهوة، والآية دلت على أن ذلك حرام. انتهى.
وقال بعض الزيدية: في الآية دلالة على تحريم الفتوى والحكم بغير دلالة، ولكن اتباع الهوى.
ولما بين تعالى أنه فصل المحرمات، أتبعه بما يوجب تركها بالكلية، فقال سبحانه:

.تفسير الآية رقم (120):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَذَرُوا ظَاهِرَ الإِثْمِ وَبَاطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْأِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُواْ يَقْتَرِفُونَ} [120].
{وَذَرُوا ظَاهِرَ الْأِثْمِ} أي: سيئات الأعمال والأقوال الظاهرة على الجوارح: {وَبَاطِنَهُ} أي: ما يسّر منه بالقلب كالعقائد الفاسدة، والعزائم الباطلة. أو ما يعلن من الذنوب وما يسر منها، ويستتر فيه.
قال السديّ: ظاهره الزنا مع البغايا ذوات الرايات، وباطنه مع الخليلة والصدائق والأخدان. ولا يخفى أن اللفظ عامّ في كل محرم، ولذا قال قتادة: أي: سره وعلانيته، قليله وكثيره، وصغيره وكبيره. كقوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} [الأعراف: 33].
{إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْأِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُوا يَقْتَرِفُونَ} أي: يكتسبون. قال الشهاب: الاقتراف في اللغة الاكتساب، وأكثر ما يقال في الشر والذنب. ولذا قيل: الاعتراف يزيل الاقتراف وقد يرد في الخير كقوله تعالى: {وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْناً} [الشورى: 23] انتهى.
وقد روى مسلم وغيره عن نواس بن سمعان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «البِرّ حسن الخلق، والإثم ما حاك في نفسك وكرهت أن يطلع عليه الناس».
قال الحاكم: في الآية دلالة على أن العبد يؤاخذ بأفعال القلب، كما يؤاخذ بأفعال الجوارح. أي: على التفسير الأول فيها.

.تفسير الآية رقم (121):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} [121].
{وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} أي: عند ذبحه. أي: بأن ذكر عليه اسم غيره، يعني: ذبح لغيره تعالى {وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} والفسق ما أُهِلَّ لغير الله به، كما في الآية الآتية آخر السورة. قال المهايمي: {وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} أي: خروج عن الحسن إلى القبح، بتناول ما تنجس بالموت بلا مانع عن تأثيره {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ} أي: يوسوسون {إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ} أي: من الكفار {لِيُجَادِلُوكُمْ} أي: في تحليل الميتة {وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ} أي: في تحليل ما حرم الله، أو تحريم ما أحل {إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} أي: لهم مع الله، فيما يختص به من التحليل والتحريم.
تنبيهات:
الأول- روي في سبب نزول هذه الآيات عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: أتى ناس إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله! إنا نأكل ما نقتل، ولا نأكل ما يقتل الله تعالى، فأنزل الله تعالى: {فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآياتِهِ مُؤْمِنِينَ} إلى قوله: {وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ}. أخرجه أصحاب السنن.
وفي رواية لأبي داود في قوله تعالى: {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ} قال: يقولون ما ذبح الله- فلا تأكلوا، وما ذبحتم أنتم فكلوا؟ فأنزل الله تعالى: {فَكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ}، فنسخ، واستثنى من ذلك فقال: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلُّ لَّهُمْ}.
وعند النسائي قال: خاصمهم المشركون، فقالوا: ما ذَبَحَ اللهُ لا تأكلونه، وما ذبحتم أنتم أكلتموه؟- كذا في تيسير الوصول.
الثاني- دلت الآية على مشروعية التسمية عند الذبح فقيل: باسم الله، بهذا اللفظ الكريم. وقيل بكل قول فيه تعظيم له كالرحمن، وسائر أسمائه الحسنى، لقوله تعالى: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَن} [الإسراء: 110]، ولقوله تعالى: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} [الأعراف: 180].
الثالث- ما قدمناه من حمل الآية على ما ذبح لغير الله تعالى هو الأظهر في تأويلها، لقوله تعالى بعد: {أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ} ومراعاة النظائر في القرآن أولى ما يلتمس به المراد.
وقد روى ابن أبي حاتم عن عطاء قال: نزلت عي ذبائح كانت تذبحها قريش على الأوثان، وذبائح المجوس. وقد حاول بعضهم أن يقويه فجعل الواو في قوله: {وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} حالية، لقبح عطف الخبر على الإنشاء. قال: والمعنى: لا تأكلوه حال كونه فسقاً. والفسق مجمل يفسره قوله: {أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ}، فيكون النهي مخصوصاً بما أهل لغير الله به، فيبقى ما عداه حلالاً، إما بالمفهوم، أو بعموم دليل الحل، أو بحكم الأصل. واعترض على هذا الحمل بأنه يقتضي أن لا يتناول النهي أكل الميتة، مع أنه سبب النزول، وبأن التأكيد بـ إن واللام ينفي كون الجملة حالية، لأنه إنما يحسن فيما قصد الإعلام بتحققه البتة، والرد على منكر تحقيقاً أو تقديراً على ما بين في المعاني، والحال الواقع في الأمر والنهي مبناه على التقدير، كأنه قيل: لا تأكلوا منه إن كان فسقاً، فلا يحسن وإنه لفسق بل وهو فسق وأجيب عن الأول بأنه دخل بقوله: {وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ}: {مَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللّهِ} وبقوله: {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ}... إلخ الميتة، فيتحقق أن هذا النهي مخصوص بما ذبح على النصب، أو مات حتف أنفه. وعن الثاني بأنه لما كان المراد بالفسق هاهنا الإهلال لغير الله، كان التأكيد مناسباً، كأنه قيل: لا تأكلوا منه إذا كان هذا النوع من الفسق الذي الحكم به متحقق، والمشركون ينكرونه- كذا في العناية-.
ومما يقويه أيضاً قوله تعالى: {وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} على أن المراد به الخروج عن طاعة الله تعالى، وهو وجه ثان فيه، وقوله تعالى: {إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} فإن من أكل الميتة، أو ما على النصب فسق، ومع، الاستحلال يكفر، بخلاف ما ذبحه المسلم ولم يسم عليه، فإن آكله لا يفسق ولا يكفر إجماعاً- أشار له الرازيّ- وحينئذ فلا دلالة في الآية على تحريم ذبيحة المسلم التي تركت التسمية عليها عمداً أو سهواً.
وقد روى أبو داود في مراسيله عن الصلت السدوسي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ذبيحة المسلم حلال، ذكر اسم الله أو لم يذكره، إنه إن ذكر لم يذكر إلا اسم الله».
قال الحافظ ابن كثير: وهذا مرسل يعضد بما رواه الدارقطنيّ عن ابن عباس أنه قال: «إذا ذبح المسلم ولم يذكر اسم الله، فليأكل، فإن المسلم في اسم من أسماء الله تعالى».
واحتج البيهقي أيضاً بحديث عائشة رضي الله عنها أن قوماً قالوا للنبيّ صلى الله عليه وسلم: إن قوماً يأتوننا باللحم لا ندري أذكر اسم الله عليه أم لا، فقال: «سموا عليه أنتم وكلوه» قالت: وكانوا حديثي عهدٍ بكفر- رواه البخاري والنسائي- قال: فلو كان وجود التسمية شرطاً لم يرخص لهم إلا مع تحققها. وكذا قال الخطابي: فيه دليل على أن التسمية غير شرط على الذبيحة، لأنها لو كانت شرطاً لم تستبح الذبيحة بالأمر المشكوك فيه، كما لو عرض الشك في نفس الذبيحة، فلم يعلم هل وقعت الذكاة المعتبرة أم لا؟ وهذا هو المتبادر من سياق الحديث، حيث وقع الجواب فيه: سموا أنتم، كأنه قيل لهم: لا تهتموا بذلك، بل الذي يهمكم أنتم أن تذكروا اسم الله وتأكلوا. وهذا من الأسلوب الحكيم. ومما يدل أيضاً قوله تعالى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} [المائدة: 5] فأباح الأكل من ذبائحهم، مع وجود الشك في أنهم سموا أم لا. هذا، وقد تمسك بظاهر الآية قوم فذهبوا إلى أن الذبيحة لا تحل إذا لم يذكر اسم الله عليها، وإن كان الذابح مسلماً، عمداً تركت التسمية أو نسياناً. واحتجوا أيضاً بقوله تعالى في آية الصيد: {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ} [المائدة: 4]، وبالأحاديث الواردة في الأمر بالتسمية عند الذبيحة والصيد، كحديثي عديّ بن حاتم وأبي ثعلبة: «إذا أرسلت كلبك المعلَّم، وذكرت اسم الله فكل»، وهما في الصحيحين.
وحديث رافع بن خديج: «ما أنهر الدم وذُكِر اسمُ الله فكلوه»- في الصحيحين أيضاً-. وحديث ابن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال للجنّ: «لكم كل عظم ذكر اسم الله عليه»- رواه مسلم-.
وحديث جُنْدب بن سفيان البجليّ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من ذبح قبل أن يصلي، فليذبح مكانها أخرى، ومن لم يكن ذبح حتى صلينا، فليذبح باسم الله»- أخرجاه.
قالوا: ففي هذه الأحاديث إيقاف الإذن في الأكل على التسمية، والمعلق بالوصف ينتفي هند انتفائه، عند من يقول بالمفهوم. والشرط أقوى من الوصف.
واحتجوا أيضاً بحديث عائشة المتقدم «سموا عليه أنتم وكلوا». قالوا: إن القوم فهموا أن التسمية لابد منها، وخشوا أن لا تكون وجدت من أولئك، لحداثة إسلامهم، فأمرهم بالاحتياط بالتسمية عن الأكل، لتكون كالعوض عن المتروكة عند الذبح، إن لم تكن وجدت. أي: فتسميتكم الآن تستبيحون بها كل ما لم تعلموا أَذَكَرُوا اسم الله عليه أم لا، إذا كن الذابح ممن تصح ذبيحته إذا سمّى. قالوا: ويستفاد منه أن كل ما يوجد في أسواق المسلمين محمول على الصحة، وكذا ما ذبحه أعراب المسلمين، لأن الغالب أنهم عرفوا التسمية. انتهى.
وأجاب من حمل الآية على الوجه الأول، بأن الأمر في حديث عديّ وأبي ثعلبة محمول على التنزيه، من أجل أنهما كانا يصيدان على مذهب الجاهلية، فعلمهما النبيّ صلى الله عليه وسلم أمر الصيد والذبح، فرضه ومندوبه، لئلا يوافقا شبهة في ذلك، وليأخذا بأكمل الأمور. وأما الذين سألوا عن تلك الذبائح، فإنهم سألوا عن أمر قد وقع لغيرهم، فعرّفهم بأصل الحل فيه.
وقال ابن التين: يحتمل أن يراد التسمية هنا عند الأكل، وبذلك جزم النووي.
وأما التسمية على ذبحٍ تولاه غيرهم، فلا تكلف عليهم فيه، وإنما يحمل على غير الصحة إذا تبين خلافها.
وقال المهلب: هذا الحديث أصل في أن التسمية ليست فرضاً. فلما نابت تسميتهم عن التسمية على الذبح، دل على أنها سنة، لأن السنة لا تنوب عن فرض. انتهى.
وذهب بعض من اشترط التسمية في الحل إلى جواز أكل ما تُرِكَتْ عليه سهواً لا عمداً. واحتج بما رواه البيهقيّ عن ابن عباس مرفوعاً: «المسلم يكفيه اسمه، إن نسي أن يسمي حين يذبح، فليذكر اسم الله وليأكله». قال الحافظ ابن كثير: وَرَفْعُهُ خطأ والصواب وقفه على ابن عباس، من قوله. نص عليه البيهقيّ. واحتج أيضاً بالحديث المرويّ من طرق عند ابن ماجة عن ابن عباس وأبي هريرة وأبي ذر وعقبة بن عامر وعبد الله بن عَمْرو عن النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الله وضع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه».
ورواه الطبراني عن ثوبان مرفوعاً بلفظ: «رفع عن أمتي الخطأ...». الحديث.
وروى ابن عدي عن أبي هريرة قال: جاء رجل إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! أرأيتَ الرجل منا يذبح وينسى أن يسمي! فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «اسم الله على كل مسلم». قال ابن كثير: وإسناده ضعيف.
وقد علمت الأظهر في تأويل الآية أولاً- والله أعلم-.
الرابع- قال ابن جرير: اختلف أهل العلم في هذه الآية: هل نُسِخ من حُكمها شيءٌ أم لا؟ فقال بعضهم: لم ينسخ منها شيء، وهي محكمة فيما عُنِيَتْ به. وعلى هذا قول مجاهد وعامة أهل العلم.
وروي عن الحسن البصري وعكرمة أنه تعالى نسخ من هذه الآية واستثنى قوله: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ}. وروى ابن أبي حاتم عن مكحول أيضاً أنه تعالى نسخها بذلك وأحل طعام أهل الكتاب.
قال ابن جرير: والصواب أنه لا تعارض بين حل طعام أهل الكتاب، وبين تحريم ما لم يذكر اسم الله عليه.
قال ابن كثير: وهذا الذي قاله صحيح. ومن أطلق نم السلف النسخ ههنا، فإنما أراد التخصيص. انتهى.
وقد قدمنا في المقدمة أنه علم من استقراء كلام الصحابة والتابعين أنهم كانوا يستعلمون النسخ بإزاء المعنى اللغويّ، الذي هو إزالة شيء بشيء، لا بإزاء مصطلح الأصوليين. فمعنى النسخ عندهم إزالة بعض الأوصاف من الآية بآية أخرى. إما بانتهاء مدة العمل، أو بصرف الكلام عن المعنى المتبادر إلى غيره، أو بيان كون قيد من القيود اتفاقياً، أو تخصيص عام، وغير ذلك مما أسلفنا، فتذكر!
الخامس- قال الزجاج: في قوله تعالى: {وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ}. دليل على أن كل من أحل شيئاً مما حرم الله تعالى، أو حرم شيئاً مما أحل الله تعالى، فهو مشرك. وإنما سمي مشركاً لأنه أثبت حاكماً سوى الله تعالى. وهذا هو الشرك. انتهى.
وقال ابن كثير: {إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} أي: حيث عدلتم عن أمر الله لكم وشرعه إلى قول غيره، فقدّمتم عليه غيره، فهذا هو الشرك. كقوله تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ} [التوبة: 31]... الآية. وقد روى الترمذي في تفسيرها عن عديّ بن حاتم أنه قال: يا رسول الله! ما عبدوهم. قال: إنهم أحلوا لهم الحرام، وحرموا عليهم الحلال فاتبعوهم. فذاك عبادتهم إياهم. انتهى.
السادس- قال الكعبي: الآية حجة على أن الإيمان اسم لجميع الطاعات، وإن كان معناه في اللغة التصديق، كما جعل تعالى الشرك اسماً لكل ما كان مخالفاً لله تعالى، وإن كان في اللغة مختصاً بمن يعتقد أن لله شريكاً، بدليل أنه تعالى سمى طاعة المؤمنين للمشركين، في إباحة الميتة، شركاً.
وتعقبه الرازي، بأنه لِمَ لا يجوز أن يكون المراد من الشرك هاهنا اعتقاد أن لله شريكاً في الحكم والتكليف؟ وبهذا التقدير يرجع معنى هذا الشرك إلى الاعتقاد فقط. انتهى.
ثم ضرب تعالى مثلاً للمؤمن والكافر، لتنفير المسلمين عن طاعة المشركين، إثر تحذيرهم عنها، بقوله سبحانه: