فصل: تفسير الآية رقم (154):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: محاسن التأويل



.تفسير الآية رقم (154):

القول في تأويل قوله تعالى: {ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَاماً عَلَى الَّذِيَ أَحْسَنَ وَتَفْصِيلاً لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَّعَلَّهُم بِلِقَاء رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ} [154].
{ثُمَّ آتَيْنَا} أي: أعطينا: {مُوسَى الْكِتَابَ} يعني التوراة: {تَمَاماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ} يقرأ بفتح النون على أنه فعل ماض وفاعله إما ضمير {الَّذي} أي: تماماً للكرامة والنعمة على الذي أحسن. أي: على من كان محسناً صالحاً. يريد جنس المحسنين. وتدل عليه القراءة عبد الله {عَلَى الذين أحسنوا} وإما ضمير موسى عليه السلام ومفعوله محذوف. أي: تتمة للكرامة على العبد الذي أحسن الطاعة في التبليغ وفي كل ما أمر به. أو تماماً على الذي أحسن موسى من العلم والشرائع. من أحسن الشيء إذا أجاد معرفته، أي: زيادة على علمه على وجه التتميم وعلى الأول فـ: {تماماً} في موقع المفعول له. وجاز حذف اللام لكونه في معنى إتماماً أو مصدر لقوله {ءَاتَيْنَا} من معناه. لأن إيتاء الكتاب إتمام للنعمة. كأنه قيل: أتممنا النعمة إتماماً. فتمام بمعنى إتمام كنبات في قوله تعالى: {وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتاً}. أو أصله إيتاء تمام. وعلى الوجه الثاني هو حال من الكتاب. وقرأ يحيى بن يعمر {عَلَى الَّذِي أَحْسَنُ} بالرفع أي: على الذي هو أحسن، أو على الوجه الذي هو أحسن ما يكون عليه الكتب. فـ: {تماماً} حال من الكتاب بمعنى تاماً أي: حال كون الكتاب تامّاً كائناً على أحسن ما يكون. قال ابن جرير: هذه قراءة لا استجيز القراءة بها. وإن كان في العربية له وجه صحيح {وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ} أي: وبياناً مفصلاً لكل ما يحتاج إليه بنو إسرائيل في الدين: {وَهُدىً} لهم إلى ربهم في سلوك سبيله: {وَرَحْمَةً} عليهم بإفاضة الفوائد: {لَعَلَّهُم} أي: أهل الكتاب: {بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ} يصدقون بلقائه للجزاء.
لطيفة:
قال السيوطي في الإكليل: استدل بقوله تعالى: {ثُمَّ آتَيْنَا} مَن قال إن: {ثُمَّ} لا تفيد الترتيب. انتهى.
قال ابن كثير و{ثُمَّ} هاهنا لعطف الخبر بعد الخبر، لا للترتيب كما قال الشاعر:
قل لمن سَادَ ثُمَّ سَادَ أَبُوهُ** ثُمَّ سَادَ قَبْلَ ذَلِكَ جَدُّهْ

وقال أبو السعود: و{ثُمَّ} للتراخي في الأخبار كما في قولك: بلغني ما صنعت اليوم، ثم ما صنعت أمس أعجبُ. أو للتفاوت في الرتبة كأنه قيل: ذلك وصاكم به قديماً وحديثاً. ثم أعظم من ذلك أنا آتينا موسى التوراة. فإن إيتاءها مشتملة على الوصية المذكورة وغيرها، أعظم من التوصية بها فقط. انتهى.
ثم أشار إلى أن التوراة. وإن كانت تماماً على النهج الأحسن، فالقرآن أتم منه وأزيد حسناً. فهو أولى بالمتابعة، فقال:

.تفسير الآية رقم (155):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [155].
{وَهَذَا} أي: القرآن: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ} أكثر نفعاً من التوراة ديناً ودنيا: {فَاتَّبِعُوهُ} أي: اعملوا بما فيه من الأوامر والنواهي والأحكام: {وَاتَّقُوا} يعني مخالفته واتباع غيره لكونه منسوخاً به: {لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} أي: لترحموا بواسطة اتباعه، وهو العمل بما فيه. وفيه إشارة إلى أنه لا رحمة بمتابعة المنسوخ وإن آمن صاحبها بلقاء ربه.
قال بعض الزيدية: وفي قوله تعالى: {فَاتَّبِعُوهُ} دلالة على وجوب تعلم القرآن ليمكن الاتباع له. لكن هو كسائر العلوم فرض كفاية إلا ما يتعين على كل مكلف، كتعلم ما لا تصح الصلاة إلا به، فإنه يجب عليه. انتهى.: {مُوسَى إِمَاماً وَرَحْمَةً وَهَذَا كِتَابٌ مُصَدِّقٌ لِسَاناً عربيًّا} [الأحقاف 12] [وفي المطبوع: هود: 17]، وقوله أول السورة: {قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى} [الأنعام 91]، ثم قال: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ} [الأنعام 92] الآية، وقوله تعالى مخبراً عن المشركين: {فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا لَوْلا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى} [القصص 48]. وقوله تعالى مخبراً عن الجن أنهم قالوا: {يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} [الأحقاف 30] الآية.

.تفسير الآية رقم (156):

القول في تأويل قوله تعالى: {أَن تَقُولُواْ إِنَّمَا أُنزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائفَتَيْنِ مِن قَبْلِنَا وَإِن كُنَّا عَن دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ} [156].
{أَنْ تَقُولُوا} علة لـ: {أَنْزَلْنَاهُ}. أي: كراهة أن تقولوا يوم القيامة. أو لئلا تقولوا: {إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا} اليهود والنصارى: {وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ} عن تلاوة كتابهم: {لَغَافِلِينَ} لا علم لنا بشيء منها لأنها ليست بلغتنا.
قال أبو السعود: ومرادهم بذلك دفع ما يرد عليهم من أن نزوله عليهما لا ينافي عموم أحكامه. فلِمَ لَمْ تَعْملوا بأحكامه العامة؟ والمعنى: وإن كنا لا ندري ما في كتابهم، إذ لم يكن على لغتنا حتى نتلقى منه تلك الأحكام العامة ونحافظ عليها، وإن لم يكن منزلاً علينا. وبهذا تبين أن معذرتهم هذه، مع أنهم غير مأمورين بما في الكتابين لاشتمالهما على الأحكام المذكورة المتناولة لكافة الأمم، أن قطع تلك المعذرة بإنزال القرآن لاشتماله أيضاً عليها، لا على سائر الشرائع والأحكام فقط. انتهى.

.تفسير الآية رقم (157):

القول في تأويل قوله تعالى: {أَوْ تَقُولُواْ لَوْ أَنَّا أُنزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ فَقَدْ جَاءكُم بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَذَّبَ بِآيَاتِ اللّهِ وَصَدَفَ عَنْهَا سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آيَاتِنَا سُوءَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُواْ يَصْدِفُونَ} [157].
{أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ} أي: كما أنزل عليهم: {لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ} أي: إلى الحق وأسرع منهم إجابة للرسول لمزيد ذكائنا وجدّنا في العمل: {فَقَدْ جَاءَكُمْ} قال أبو السعود: متعلق بمحذوف ينبئ عنه الفاء الفصيحة، إما معلل به، أي: لا تعتذروا بذلك فقد جاءكم. وإما شرط له. أي: إن صدقتم فيما كنتم تعدون من أنفسكم من كونكم أهدى من الطائفتين على تقدير نزول الكتاب عليكم، فقد حصل ما فرضتم وجاءكم: {بَيِّنَةٌ} أي: كتاب حجة واضحة: {مِنْ رَبِّكُمْ} متعلق بـ: {جَاءَكُمْ} أو بمحذوف صفة لـ: {بَيِّنَةٌ} أي: بينة كائنة منه تعالى لا يتوهم فيه السحر: {وَهُدىً} بإقامة الدلائل ورفع الشبه: {وَرَحْمَةٌ} بإفاضة الفوائد وتسهيل طريقكم وتيسيرها إلى أشرف الكمالات: {فَمَنْ أَظْلَمُ}. قال أبو السعود: الفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها. فإن مجيء القرآن المشتمل على الهدى والرحمة موجب لغاية أظلمية من يكذبه. أي: وإذا كان الأمر كذلك: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآياتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْهَا} أي: صَرَفَ الناس وصدَّهُم عنها. فجمع بين الضلال والإضلال. والمعنى إنكار أن يكون أحد أظلم منه أو مساوياً له: {سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ} الناس: {عَنْ آيَاتِنَا} أي: التي لو لم يصدفوا عنها لعرفوا إعجازها: {سُوءَ الْعَذَابِ} أي: العذاب السيء: {بِمَا كَانُوا يَصْدِفُونَ} وهذا كقوله تعالى: {الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَاباً فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ} [النحل: 88].

.تفسير الآية رقم (158):

القول في تأويل قوله تعالى: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن تَأْتِيهُمُ الْمَلائكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لاَ يَنفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِن قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْراً قُلِ انتَظِرُواْ إِنَّا مُنتَظِرُونَ} [158].
{هَلْ يَنْظُرُونَ} يعني قد أقمنا حجج الوحدانية وثبوت الرسالة وأبطلنا ما كانوا يعتقدون من الضلالة. فما ينتظر هؤلاء بعد تكذيبهم الرسل وإنكارهم القرآن وصدّهم عن آيات الله؟.
قال البيضاوي: يعني أهل مكة. وهم ما كانوا منتظرين لذلك. ولكن لما كان يلحقهم لحوق المنتظر، شبهوا بالمنتظرين {إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ} يعني للحكم وفصل القضاء بين الخلق يوم القيامة.
قال ابن كثير: وذلك كائن يوم القيامة. وقد تقدم الكلام في معنى الآية في سورة البقرة عند قوله تعالى: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ} [البقرة 210] بما فيه كفاية.
ومذهب السلف: إمرار ذلك بلا كيفٍ، كما مرّ مراراَ.
قيل: {إِلاَّ أَن تَأْتِيهُمُ الْمَلائكَةُ} أي: ملائكة الموت لقبض أرواحهم: {أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ} وذلك قبل يوم القيامة، كائن من أمارات الساعة وأشراطها حين يرون شيئاً من ذلك. كما روى البخاريّ في تفسير هذه الآية عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تقوم الساعة حتى تطلع الشمس من مغربها. فإذا رآها الناس آمن من عليها. فذاك حين لا ينفع نفساً إيمانُها لم تكن آمنت من قبل». ورواه مسلم أيضاً، ولمسلم والترمذيّ عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ثلاث إذا خرجن لا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيراً: طلوع الشمس من مغربها، والدجال، ودابة الأرض» {يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ} صفة {نفساً}: {أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْراً} عطف على {ءَامَنَتْ} والمعنى أن بعض أشراط الساعة إذا جاء، وهي آية ملجئة مضطرة، ذهب أوان التكليف عندها، فلم ينفع الإيمان حينئذ نفساً غير مقدّمة إيمانها من قبل ظهور الآيات. أو مقدمة الإيمان غير كاسبة في إيمانها خيراً لفسقها. فتوبتها حينئذ لا تجدي.
قال الطبري: معنى الآية لا ينفع كافراً لم يكن آمن قبل الطلوع، إيمانٌ بعد الطلوع. ولا ينفع مؤمناً لم يكن عمل صالحاً قبل الطلوع، عملٌ صالح بعد الطلوع. لأن حكم الإيمان والعمل الصالح حينئذ، حكم من آمن أو عمل عند الغرغرة. وذلك لا يفيد شيئاً. كما قال تعالى: {فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا} [غافر 85]. وكما ثبت في الحديث الصحيح: «إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر». انتهى.
وبالجملة: فالمعنى أنه لا ينفع من كان مشركاً إيمانُه. ولا تقبل توبة فاسق عند ظهور هذه الآية العظيمة التي تضطرهم إلى الإيمان والتوبة. وذلك لذهاب زمن التكليف.
قال الضحاك: من أدركه بعض الآيات، وهو على عمل صالح مع إيمانه، قبل الله منه العمل الصالح بعد نزول الآية، كما قبل منه قبل ذلك. فأما من آمن من شركٍ أو تاب من معصية عند ظهور هذه الآية، فلا يقبل منه. لأنه حالة اضطرار. كما لو أرسل الله عذاباً على أمة فآمنوا وصدقوا. فإنهم لا ينفعهم إيمانهم ذلك، لمعاينتهم الأهوال والشدائد، التي تضطرهم إلى الإيمان والتوبة.
وقال ابن كثير: إذا أنشأ الكافر إيماناً يومئذ لم يقبل منه. فأما من كان مؤمناً قبل ذلك، فإن كان مصلحاً في عمله، فهو بخير عظيم. وإن لم يكن مصلحاً، فأحدث توبة حينئذ، لم تقبل منه توبته. كما دلت عليه الأحاديث. وعليه يحمل قوله تعالى: {أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْراً} أي: لا يقبل منها كسب عمل صالح، إذا لم يكن عاملاً به قبل. انتهى.
والأحاديث المشار إليها، منها ما رواه مسلم عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من تاب قبل طلوع الشمس من مغربها تاب الله عليه». وروى الترمذيّ وصححه عن صفوان بن عسال المرادي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بابٌ من قِبَل المغرب مسيره عرضه- أو قال يسير الراكب في عرضه- أربعين أو سبعين سنة خلقه الله تعالى يوم خلق السماوات والأرض. مفتوحاً للتوبة لا يغلق حتى تطلع الشمس منه». ولأبي داود والنسائي من حديث معاوية رفعه: «لا تزال تقبل التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها».
قال ابن حجر: سنده جيد. وأخرجه أحمد والدارمي وعبد بن حميد من حديثه أيضاً بلفظ: لا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها. وروى اللإمام أحمد عن ابن السعديّ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا تنقطع الهجرة مادام العدوّ يقاتل». فقال معاوية وعبد الرحمن بن عوف وعبد الله بن عَمْرو بن العاص: إن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «إن الهجرة خصلتان: إحداهما أن تهجر السيئات، والأخرى أن تهاجر إلى الله ورسوله ولا تنقطع ما تُقُبِّلَتِ التوبة، ولا تزال التوبة مقبولة حتى تطلع الشمس من المغرب فإذا طلعت طُبِعَ على كل قلب بما فيه، وكُفِيَ الناسُ العملَ».
قال ابن كثير: هذا الحديث حسن الإسسناد ولم يخرجه أحد من أصحاب الكتب الستة.
وهاهُنا مسائل:
الأولى: ذهب الجمهور إلى أن المراد بـ البعض في الآية هو طلوع الشمس من مغربها. كما في حديث الصحيحين السابق. ولا يقال يخالف ذلك حديث مسلم: «ثلاث إذا خرجن لا ينفع نفساً إيمانها» الحديث. وفي ثبوت ذلك بخروج الدجال نظراً. لأن نزول عيسى صلى الله عليه وسلم بعده. وفي زمنه خير كثير دنيويّ وأخرويّ. فالإيمان مقبول وقتئذ. لأنا نقول: لا منافاة. وذلك لأن البعض في الآية، إن كان عدة آيات، فطلوع الشمس هو آخرها المتحقق به عدم القبول، وإن كان إحدى آيات، فهو محمول على المعيّن في الحديث، لأنه أعظمها. كذا في العناية.
قال ابن عطية: إذا أخبر النبيّ صلى الله عليه وسلم بتخصيص ِمانع القبول بالطلوع، في الحديث الصحيح، لم يجز العدول عنه، وتعيّن أنه معنى الآية. انتهى.
وقال القاضي عياض: المعنى لا تنفع توبة بعد ذلك. بل يختم على عمل كل أحد بالحالة التي هو عليها. والحكمة في ذلك أن هذا أول ابتداء قيام الساعة بتغير العالم العلويّ. فإذا شوهد ذلك حصل الإيمان الضروري بالمعاينة. وارتفع الإيمان بالغيب. فهو كالإيمان عند الغرغرة وهو لا ينفع. فالمشاهدة لطلوع الشمس من المغرب مثله. الثانية: قال السيوطي في الإكليل: استدل المعتزلة بهذه الآية على أن الإيمان لا ينفع مع عدم كسب الخير فيه. وهو مردود. ففي الكلام تقدير. والمعنى: لا ينفع نفساً لم تكن آمنت من قبلُ، إيمانُهَا حينئذ، ولا ينفع نفساً لم تكسب خيراً قبلُ، توبتُها حينئذ.
وقال الشهاب السمين: قد أجاب الناس بأن المعنى في الآية إنه إذا أتى بعض الآيات لا ينفع نفساً كافرة، إيمانُها الذي أوقعته إذ ذاك. ولا ينفع نفساً سبق إيمانها ولم تكسب فيه خيراً. فقد علق نفي الإيمان بأحد وصفين: إما نفي سبق الإيمان فقط، وإما سبقه مع نفي كسب الخير. ومفهوم الصفة قويّ فيستدل بالآية لمذهب أهل السنة. ويكون فيه قلب دليل المعتزلة، دليلاً عليهم.
وأجاب ابن المنير في الانتصاف فقال: هذا الكلام من البلاغة يلقب اللف وأصله: يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفساً، لم تكن مؤمنة قبلُ، إيمانُها بعدُ. ولا نفساً لم تكسسب خيراً قبلُ، ما تكتسبه من الخير بعدُ، فَلَفَّ الكلامين فجعلهما كلاماً واحداً إيجازاً. وبهذا التقرير يظهر أنها لا تخالف مذهب أهل الحق. فلا ينفع بعد ظهور الآيات اكتساب الخير ولو نفع الإيمان المتقدم من الخلود. فهي بالرد على المعتزلة أولى من أن تدل لهم.
وقال ابن الحاجب في أماليه: الإيمان قبل مجيء الآية نافع لو لم يكن عمل صالح غير، ومعنى الآية: لا ينفع نفساً إيمانها ولا كسبها العمل الصالح، لم يكن الإيمان قبل الآية، أو لم يكن العمل مع الإيمان قبلها. فاختصر للعلم.
ونقل الطيبيّ كلام الأئمة في ذلك. ثم قال: المعتد ما قال ابن المنير وابن الحاجب. وبسطه: أن الله تعالى، لما خاطب المعاندين بقوله تعالى: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ} [الأنعام 155] الآية، علل الإنزال بقوله: {أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ} [الأنعام 156] الخ، إزالة للعذر وإلزاماً للحجة. وعقبه بقوله: {فَقَدْ جَاءكُم بَيِّنَةٌ} الخ، تبكيتاً لهم وتقريراً لما سبق ممن طلب الاتباع. ثم قال: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَذَّبَ} الآية. أي: أنه أنزل هذا الكتاب المنير كاشفاً لكل ريب وهادياً إلى الطريق المستقيم ورحمة من الله للخلق، ليجعلوه زاداً لمعادهم فيما يقدمونه من الإيمان والعمل الصالح. فجعلوا شكر النعمة أن كذبوا بها ومنعوا من الانتفاع بها. ثم قال: {هَلْ يَنظُرُونَ} الآية. أي: ما ينتظر هؤلاء المكذبين إلا أن يأتيهم عذاب الدنيا بنزول الملائكة بالعقاب الذي يستأصل شأفتهم. كما جرى لمن مضى من الأمم قبلهم. أو يأتيهم عذاب الآخرة بوجود بعض قوارعها، فحينئذ تفوت تلك الفرصة السابقة فلان ينفعهم شيء مما كان ينفعهم من قبلُ، من الإيمان، وكذا العمل الصالح مع الإيمان، فكأنه قيل: يؤم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفساً إيمانها ولا كسبها العمل الصالح في إيمانها حينئذ، إذ لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيراً من قبل. ففي الآية لف. لكن حذفت إحدى القرينتين بإعانة النشر، ونظيره قوله تعالى: {وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعاً} [النساء 172].
قال: فهذا الذي عناه ابن المنير بقوله: إن هذا الكلام في البلاغة يقال له اللف والمعنى يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفساً، لم تكن مؤمنة من قبل ذلك، إيمانها من بعد ذلك، ولا ينفع نفساً كانت مؤمنة، لكن لم تعمل في إيمانها عملاً صالحاً قبل ذلك، ما تعمله من العمل الصالح بعد ذلك. قال: وبهذا التقرير يظهر مذهب أهل السنة. فلا ينفع بعد ظهور الآية اكتساب الخير، أي: لإغلاق باب التوبة ورفع الصحف والحفظة، وإن كان ما سبق قبل ظهور الآية من الإيمان ينفع صاحبه في الجملة.
ثم قال الطيبي: وقد ظفرتُ، بفضل الله بعد هذا التقرير، على آية أخرى تشبه هذه الآية وتناسب هذا التقرير معنىً ولفظاً، من غير إفراط ولا تفريط. وهي قوله تعالى: {وَلَقَدْ جِئْنَاهُم بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِن قَبْلُ قَدْ جَاءتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَل لَّنَا مِن شُفَعَاء فَيَشْفَعُواْ لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ} [الأعراف: 52- 53]. فإنه يظهر منه أن الإيمان المجرد قبل كشف قوارع الساعة نافع. وأن الإيمان المقارن بالعمل الصالح أنفع. وأما بعد حصولها أنفع. وأما بعد حصولها فلا ينفع شيء أصلاً. والله أعلم. انتهى ملخصاً.
الثالثة: قال في الوجيز في قوله تعالى: {أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ} أي: لفصل القضاء بين خلقه. وإتيانه نؤمن به ولا نعرف كيفه. انتهى.
وفي حواشي جامع البيان: كيف لا يؤمن بإتيانه ومجيئه تعالى يوم القيامة، وقد جاء في القرآن في عدة مواضع: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ} [البقرة 210] {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً} [الفجر: 22] {إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ} [النحل 33]. وأي أمر أصرح منه في القرآن؟.
وروي الطبري في تفسيره عن ابن عباس مرفوعاً: إن في الغمام طاقات يأتي الله فيها، محفوفاً. وذلك قوله: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الإمام وَالْمَلائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ} [البقرة: 210].
قال عِكْرِمَة: والملائكة حوله، فهذا من صفات الله تعالى. يجب علينا الإيمان بظاهرها ونؤمن بها كما جاءت وإن لم نعرف كيفيتها. وعدم علمنا بكيفيتها، بمنزلة عدم علمنا بكيفية ذاته. فلا نكذب بما علمناه لعدم علمنا بما لم نعلمه. وهذا هو مذهب سلف هذه الأمة وأعلام أهل السنة. انتهى.
وقوله تعالى: {قُلِ انتَظِرُواْ} أي: قل لهؤلاء الكافرين، بعد بيان حقيقة الحال على وجه التحديد: انتظروا ما تنتظرونه من إتيان أحد الأمور الثلاثة لتروا أي: شيء تنتظرون.
{إِنَّا مُنتَظِرُونَ} أي: لذلك، لنشاهد ما يحل بكم من سوء العاقبة.
ثم بيّن تعالى أحوال أهل الكتاب، إثر بيان حال المشركين بقوله سبحانه.