فصل: تفسير الآية رقم (23):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: محاسن التأويل



.تفسير الآية رقم (23):

القول في تأويل قوله تعالى: {قَالا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [23].
{قَالا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا} أي: أضررناها بالمعصية: {وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا} أي: ما سلف: {وَتَرْحَمْنَا} أي: بالتوبة وقبولها {لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} أي: لنصيرن ممن خسر جميع ما حصل له من الكمالات.
قال الضحاك بن مُزَاحم في قوله: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا} الآية: هي الكلمات التي تلقاها آدم من ربه.
لطيفة:
قال الجشمي: يقال إن آدم عليه السلام سعد بخمسة أشياء: إعترف بالذنب، وندم عليه، ولام نفسه، وسارع إلى التوبة، ولم يقنط من الرحمة، وشقي إبليس بخمسة أشياء: لم يقر بالذنب، ولم يندم، ولم يلم نفسه بل أضاف إلى ربه فلم يتب، وقنط من الرحمة.

.تفسير الآية رقم (24):

القول في تأويل قوله تعالى: {قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ} [24].
{قَالَ اهْبِطُوا} أي: من الجنة إلى ما عداها، وقال أبو مسلم: معناه اذهبوا، وهو خطاب لآدم وحواء وإبليس.
قال ابن كثير: والعمدة في العداوة آدم وإبليس، ولهذا قال في سورة طه: {قَالَ اهْبِطَا مِنْهَما جَمِيعاً} الآية، وحواء تبع لآدم، والحية إن كان ذِكْرها صحيحاً فهي تبع لإبليس.
وقد ذكر المفسرون الأماكن التي هبط فيها كل منهم، ويرجع حاصل تلك الأخبار إلى الإسرائيليات، والله أعلم بصحتها، ولو كان في تعيين تلك البقاع فائدة، تعود على المكلفين، في أمر دينهم أو دنياهم، لذكرها الله تعالى في كتبه، أو رسوله صلى الله عليه وسلم. انتهى.
{بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ} أي: استقرار أو موضع استقرار {وَمَتَاعٌ} أي: تمتع ومعيشة.
{إِلَى حِينٍ} أي: إلى تقضيّ آجالكم.

.تفسير الآية رقم (25):

القول في تأويل قوله تعالى: {قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ} [25].
{قَالَ فِيهَا} أي: الأرض {تَحْيَوْنَ} تعيشون {وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ} أي: يوم القيامة للجزاء، كقوله تعالى {مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى}. ثم ذكرهم سبحانه بنعمته في تبوئة الدار والمستقر في الأرض وكسوتهم لباساً يسترون به سوءاتهم، بعدما نزع عنهما لباس الجنة، وذلك لما هم بعد الإهباط، من الحاجة إلى اللباس والمعاش، فقال سبحانه:

.تفسير الآية رقم (26):

القول في تأويل قوله تعالى: {يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاساً يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشاً وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ} [26].
{يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاساً} يعني ما يلبس من الثياب وغيره.
قال الزمخشري: جعل ما في الأرض منزلاًَ من السماء، لأنه قضى ثمة وكتب، أي: قضى وقسم لكم، وقضاياه وقسمه توصف بالنزول من السماء، حيث كتب في اللوح المحفوظ.
وقال أبو البقاء: لما كان الريش واللباس ينبتان بالمطر، والمطر ينزل، جعل ما هو المسبب بمنزلة السبب. انتهى.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في فتوى له في معنى النزول: لا حاجة إلى إخراج اللفظ عن معناه المعروف لغة، في اللباس والأثاث، وهذا- والله أعلم- معنى إنزاله، فإنه ينزله من ظهور الأنعام، وهو كسوة الأنعام من الأصواف والأوبار والأشعار، وينتفع به بنو آدم في اللباس والرياش، فقد أنزلها عليهم، وأكثر أهل الأرض كسوتهم من جلود الدواب، فهي لدفع الحر والبرد، وأعظم مما يصنع من القطن والكتان.
{يُوَارِي سَوْآتِكُمْ} أي: يستر عوراتكم التي قصد إبليس إبداءها من أبويكم حتى اضطرا إلى خصف الأوراق، وأنتم مستغنون عن ذلك.
{وَرِيشاً} عطفه إما من عطف الصفات، فوصف اللباس بشيئين: مواراة السوأة والزينة، فالريش بمعنى الزينة، لأنه زينة الطير فاستعير منه، وأما من عطف الشيء على غيره، أي: أنزلنا لباسين:
لباس مواراة، ولباس زينة، فيكون مما حذف فيه الموصوف، أي: لباساً ريشاً، أي: ذا ريش، والريش مشترك بين الاسم والمصدر.
وروى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس وحكاه البخاري عنه: الريش المال، وحكاه غير واحد من السلف، قال الإمام ابن تيمية: وبعض المفسرين أطلق عليه لفظ المال، والمراد به مال مخصوص، قال ابن زيد: جمالا، قال ابن السكيت: الرياش هو الأثاث من المتاع والأموال، وقد يكون في الثياب دون الأموال، وإنه لحسن الريش، أي: الثياب. انتهى.
ويقال: راش فلان، أي: جمع الريش، وهو المال والأثاث. وراش الصديق أطعمه وسقاه وكساه، وأصله من الريش كأن الفقير المملق لا نهوض له، كالمقصوص منه الجناح وكل من أوليته خيراً، فقد رشته، كذا في تاج العروس.
فائدة:
روى الإمام أحمد عن أبي أمامة عن عُمَر بن الخطاب قال: قال رسول صلى الله عليه وسلم: «من استجد ثوباً فلبسه، فقال حين يبلغ ترقوته: الحمد لله الذي كساني ما أواري به عورتي، وأتجمل به في حياتي، ثم عمد إلى الثوب الذي أخلق فتصدق به كان في ذمه الله تعالى وفي جوار الله، وفي كنف الله حياً وميتاً». ورواه الترمذي وابن ماجة، وروى الإمام أحمد عن أبي مطر أنه رأى علياً رضي الله عنه أتى غلاماً حدثاً، فاشترى منه قميصاً بثلاثة دراهم، ولبسه إلى ما بين الرسغين إلى الكعبين، ويقول ولبسه: الحمد لله الذي رزقني من الرياش ما أتجمل به في الناس، وأواري به عورتي. فقيل: هذا شيء ترويه عن نفسك أو عن نبي الله صلى الله عليه وسلم عند الكسوة: الحمد لله الذي رزقني من الرياش ما أتجمل به في الناس وأواري به عورتي.
ولما بين تعالى ساتر الظاهر وزينته، أشار إلى ساتر عيوب الباطن وزينته بقوله: {وَلِبَاسُ التَّقْوَى} أي: خشية الله، أو الإيمان، أو السمت الحسن، والكل متقارب، ورفعة بالابتداء خبره جملة: {ذَلِكَ خَيْرٌ} أو خيرٌ، وذلك صفته، كأنه قيل: ولباس التقوى المشار إليه خير.
قال المهايمي: لأن الظاهر محل نظر الخلق، والباطن محل نظر الحق، والعيوب الباطنة أفحش من العورات الظاهرة.
وقال القاشاني: لباس التقوى صفة الورع والحذر من صفة النفس، ذلك خير لأنه من جملة أركان الشرائع، لأنه أصل الدين وأساسه، كالحمية في العلاج. انتهى.
قال أبو علي الفارسي: معنى الآية: ولباس التقوى خير لصاحبه إذا أخذ به، وأقرب له إلى الله تعالى، مما خلق من اللباس والرياش الذي يتجمل به، قال: وأضيف اللباس إلى التقوى، كما أضيف إلى الجوع في قوله: {فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ}. انتهى.
أي: فهو استعارة مكنية وتخييلية بأن يتوهم للتقوى حالة شبيهة باللباس، تشتمل على جميع بدنه، بحسب الورع والخشية من الله، اشتمال اللباس على اللابس، أو من قبيل لجين الماء. وقرأ نافع وابن عامر والكسائي {ولباس التقوى} بالنصب، عطفاً على {لباساً}.
{ذَلِكَ} أي: إنزال اللباس: {مِنْ آيَاتِ اللَّهِ} الدالة على فضله ورحمته على عباده {لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ} أي: نعمته عليهم فيعرفون عظمتها فيشكرونها.
قال الزمخشري: وهذه الآية واردة على سبيل الاستطراد عقيب ذكر بدو السوآت، وخصف الأوراق عليها، إظهاراً للمنة فيما خلق من اللباس، ولما في العري، وكشف العورة من المهانة والفضيحة، وإشعاراً بأن التستر باب عظيم من أبواب التقوى.
تنبيه:
قال الجشمي: تدل الآية على عظيم نعمه تعالى بهذه النعم التي عدها، وذهب علي بن موسى القمي إلى أنها تدل على وجوب ستر العورة، وقال آخرون: لا تدل، وليس في الظاهر إلا الإنعام به من حيث نفي الحر والبرد وستر العورة والتجمل به، فأما أنه واجب، فبعيد، ولو ثبت وجوبه عليه، احتجنا إلى وجوبه في شريعتنا إلى دليل مستأنف، وقد ثبت في هذه الشريعة وجوبه بالخبر المستفيض والإجماع، فلا حاجة إلى الرجوع إلى شريعة أخرى.
وتدل على أنه تعالى كما أنعم بنعم الدنيا، أنعم بنعم الدين، فإن الأقرب أن لباس التقوى العلم والعمل الصالح، فكأنه ضم إلى نعم الدنيا نعم الدين التي بها يحصل الفوز بالثواب، فتحصل نعمة الدارين.

.تفسير الآية رقم (27):

القول في تأويل قوله تعالى: {يَا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ} [27].
{يَا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ} أي: لا يخدعنكم عن دخول الجنة، بنزع لباس الشريعة والتقوى عنكم، فيخرجكم من نظر الله بالرحمة إليكم: {كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ} نعت لمصدر محذوف، أي: لا يفتننكم فتنةً مثل إخراج أبيكم.
{يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا} أي: الظاهر بسبب نزع لباس التقوى {لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا} أي: الظاهرة الدالة على السوأة الباطنة. وجملة: {يَنْزِعُ} حال من: {أَبَوَيْكُمْ} أو من فاعل: {أَخْرَجَ}
أي: أخرجهما نازعاً لباسهما، بأن كان سبباً في أن نزع عنهما، وصيغة المضارع لاستحضار الصورة.
تنبيهان:
الأول: قال السيوطي في الإكليل: استدل بهذه الآية أيضاً على وجوب ستر العورة، واستدل بالآيتين من قال: إن العورة هي السوأتان خاصة. انتهى.
الثاني: قال الإمام الرازي: أعلم أن المقصود من ذكر قصص الأنبياء عليهم السلام حصول العبرة لمن يسمعها، فكأنه تعالى لما ذكر قصة آدم، وبين فيها شدة عداوة الشيطان لآدم وأولاده، أتبعها بأن حذر أولاده من قبول وسوسة الشيطان، فقال: {يَا بَنِي ءَادَمَ} الآية، وذلك لأن الشيطان لما بلغ أثر كيده، ولطف وسوسته، وشدة اهتمامه، إلى أن قدر على إلقاء آدم في الزلة الموجبة لإخراجه من الجنة، فبأن يقدر على أمثال هذه المضار في حق بني آدم أولى.
فبهذا الطريق حذر تعالى بني آدم بالإحتراز عن وسوسته.
وقوله تعالى: {إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ} أي: جنوده من الشياطين: {مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ} أي: من مكان لا ترونهم فيه.
والجملة استئناف لتعليل النهي، وتأكيد التحذير من فتنته بأنه بمنزلة العدو المداجي، يكيدكم ويغتالكم من حيث لا تشعرون.
عن مالك بن دينار: إن عدواً يراك ولا تراه، لشديد المؤنة، إلا من عصم الله.
تنيبه:
قال السيوطي في الاكليل: قال ابن الفرس: استدل بها بعضهم على أن الجن لا يرون وأن من قال إنهم يُرون فهو كافر. انتهى.
ومراده بالبعض، المعتزلة، ولذا قال الزمخشري: فيه دليل بين أن الجن لا يرون ولا يظهرون للإنس، وأن إظهارهم أنفسهم ليس في استطاعتهم، وأن زعم من يدعي رؤيتهم زور ومخرقة. انتهى.
وقال الجشمي: تدل على بطلان قول العامة إن الشيطان يتصور لنا ونراه، ثم قال: ومتى قيل: أليس يُرون زمن الأنبياء، ويرى المعاين الملَك؟ فجوابنا: أنه يزداد قوة الشعاع أو تتكاثف أبدانهم، فيكون معجزة للنبي. انتهى.
وأجاب أهل السنة كما في العناية: بأنه قد ثبتت رؤيتهم، بالأحاديث الصحيحة المشهورة، وهي لا تعارض ما في الآية لأن المنفي فيها رؤيتهم إذا لم يتمثلوا لنا.
وقال في فتح البيان: وقد استدل جماعة من أهل العلم بهذه الآية على أن رؤية الشيطان غير ممكنة، وليس في الآية ما يدل على ذلك، وغاية ما فيها أنه يرانا من حيث لا نراه وليس فيها أنا لا نراه أبداً، فإن انتفاء الرؤية منّاً له، وفي وقت رؤيته لنا، لا يستلزم انتفاءها مطلقاً.
والحق جواز رؤيتهم كما هو ظاهر الأحاديث الصحيحة، وتكون الآية مخصوصة بها، فيكونون مرئيين في بعض الأحيان لبعض الناس دون بعض. انتهى.
وقد أوضح الغزالي رحمه الله رؤيا الجن والشياطين برؤيا الملائكة حيث قال في الركن الثاني: الملائكة والجن والشياطين جواهر قائمة بأنفسها. مختلفة بالحقائق إختلافاً يكون بين الأنواع، ثم قال: ويمكن أن تشاهد هذه الجواهر- أعنى جواهر الملائكة- وإن كانت غير محسوسة، وهذه المشاهدة على ضربين:
إما على سبيل التمثيل، كقوله تعالى: {فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً سَوِيّاً}.
وكما كان النبي عليه الصلاة والسلام، يرى جبريل في صورة دَحْيَة الكلبي.
والقسم الثاني: أن يكون لبعض الملائكة بدن مخصوص، كما أن نفوسنا غير محسوسة ولها بدن محسوس هو محل تصرفها وعالمها الخاص بها، فكذلك بعض الملائكة، وربما كان هذا البدن المحسوس موقوفاً على إشراق نور النبوة، كما أن محسوسات عالمنا هذا موقوفة عند الإدراك على إشراق نور الشمس، وكذا في الجن والشياطين. انتهى.
وقوله تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاء لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ} قال الزجاج: يعني سلطناهم عليهم، يزيدون في غيهم. انتهى.
والجملة تعليل آخر للنهي، وفيه تحذير أبلغ من الأول.