فصل: تفسير الآية رقم (28):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: محاسن التأويل



.تفسير الآية رقم (28):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَإِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً قَالُواْ وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءنَا وَاللّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء أَتَقُولُونَ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} [28].
{وَإِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً} أي: ما تناهى قبحه من الذنوب، كالشرك وكشف العورة في الطواف {قَالُواْ وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءنَا وَاللّهُ أَمَرَنَا بِهَا} أي: إذا فعلوها إعتذروا بأن آباءهم كانوا يفعلونها، فاقتدوا بهم، وبأن الله أمرهم بأن يفعلوها، حيث أقرنا عليها إذ لو كرهها لنقلنا عنها، وهما باطلان، لأن أحدهما تقليد للجهال، والتقليد ليس بطريق للعلم، والثاني افتراء على ذي الجلال.
قال الشهاب: في قوله تعالى: {وَاللّهُ أَمَرَنَا}: مضاف مقدر أي: أمر آباءنا، فلا يقال الظاهر أمرهم بها، والعدول عن الظاهر إشارة إلى إدعاء أن أمر آباءهم أمر لهم.
{قُلْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء} أي: هذا الذي تصنعونه فاحشة منكرة، والله لا يأمر بمثل ذلك، لأن عادته سبحانه وتعالى جرت على الأمر بمحاسن الأفعال والحث على مكارم الخصال: {أَتَقُولُونَ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} إنكار لإضافتهم الأمر بالفحشاء إليه سبحانه، يتضمن النهي عن الإفتراء عليه تعالى، وفيه شهادة على أن مبنى قولهم على الجهل المفرط.
قال الشهاب: ولا دليل في الآية لمن نفى القياس، بناء على أن ما يثبت به مظنون لا معلوم، لأنه مخصوص في عمومها بإجماع الصحابة ومن يعتد به، أو بدليل آخر.
تنبيه:
قال مجاهد: كان المشركون يطوفون بالبيت عراةً، يقولون: نطوف كما ولدتنا أمهاتنا، فتضع المرأة على قُبُلها النِّسعة أو الشيء وتقول:
اليومَ يبدو بعضهُ أو كلُّهُ ** وما بدا منه فلا أُحِلُّهُ

فأنزل الله: {وَإِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً} الآية، قال ابن كثير: كانت العرب، ما عدا قريشاً، لا يطوفون بالبيت في ثيابهم التي لبسوها، يتأولون في ذلك أنهم لا يطوفون في ثياب عصوا الله فيها.
وكانت قريش- وهم الحمس- يطوفون في ثيابهم، ومن أعاره أحمسي ثوباً طاف فيه، ومن معه ثوب جديد طاف فيه ثم يلقيه، فلا يتملكه أحد، ومن لم يجد ثوباً جديداً، ولا أعاره أحمسي ثوباً، طاف عرياناً، وربما كانت امرأة، فتطوف عريانة، فتجعل على فرجها شيئاً ليستره بعد الستر، فتقول: اليوم يبدو...- البيت- وأكثر ما كان النساء يطفن بالليل، وكان هذا شيئاً قد ابتدعوه من تلقاء أنفسهم، واتبعوا فيه آباءهم، ويعتقدون أن فعل آبائهم مستند إلى أمر من الله وشرع، فأنكر تعالى عليهم ذلك.
وذكر السيوطي في الإكليل عن ابن عباس أيضاً، أنه نزلت في طوافهم بالبيت عراة، رواه أبو الشيخ وغيره، قال: ففيها وجوب ستر العورة في الطواف.
تنبيهان:
الأول: ذهب المعتزلة إلى أن الإرادة مدلول الأمر، ولازمة له، والفحشاء- أعني الشرور والمعاصي- غير مأمور بها بنص الآية، فلا تكون مرادة له تعالى.
وأجاب أهل السنة بأن الأمر قد ينفك عن الإرادة، بمعنى أنه يوجد بدون الإرادة، فلا تكون الإرادة تابعة له وجوداً، ومما يوضح أن الشيء قد يؤمر به ولا يكون مراداً، أن السيد إذا أراد أن يظهر على الحاضرين عصيان عبده، يأمره بالشيء ولا يريده منه.
ومنها أن الأمر أمران:
أمر تكويني: يحصل به وجود الأشياء، وهو خطاب كن وهو تابع للإرادة، يعم جميع الكائنات. فالطاعات والمعاصي كلها مأمورة ومرادة بهذا الأمر، ولا يتعلق بهذا الأمر الطاعة والعصيان والثواب والعقاب، لأنه يتعلق بالأشياء حال العدم.
وأمر تشريعي تدويني: أي: شرعه الله لعباده، وكلفهم به، مما دون في كتب الشريعة وبُين، وهذا الأمر يتعلق به الطاعة والعصيان والثواب والعقاب والرضا والسخط، والكفر والمعاصي ليست مأمورة بهذا الأمر.
والمعتزلة لم يفرقوا بين الأمرين، وقالوا: إن الكفر والمعاصي لو كانت مراده تعالى، لكانت مأموراً بها، وإتيان المأمور به طاعة، فيكون الكافر والفاسق مطيعين، فإنهما مأمور بهما بالأمر الأول، وليس مأموراً بهما بالأمر الثاني، حتى يكون إتيانهما طاعة.
قال السيلكوتي: ولا يخفى عليك تقسيم الأمر إلى أمرين، إنما يستقيم إذا كان قوله تعالى: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} على ظاهره، كما ذهب إليه البعض.
وأما إذا كان عبارة عن الإيجاد من غير أن يتعلق بها خطاب، كما ذهب إليه الأشعري ومن تبعه، فلا. انتهى.
والمسألة مبسوطة في محالها المعروفة.
الثاني: قوله تعالى: {قُلْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء} جواب عن شبهتهم الثانية.
ولم يذكر جواباً عن الأولى، قال الإمام: لأنها إشارة إلى محض التقليد، وقد تقرر في المعقول أنه طريقة فاسدة، لأن التقليد حاصل في الأديان المتناقضة، فلو كان التقليد حقاً، لزم القول بحقية الأديان المتناقضة، فلما كان فساده ظاهراً، لم يذكره تعالى.
الثالث: قال في فتح البيان: في هذه الآية الشريفة أعظم زاجر، وأبلغ واعظ، للمقلدة الذين يتبعون آباءهم في المذاهب المخالفة للحق، فإن ذلك من الاقتداء بأهل الكفر، لا بأهل الحق، فإنهم القائلون: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ}
والقائلون: {وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءنَا وَاللّهُ أَمَرَنَا بِهَا}. والمقلد، لولا اغتراره بكونه وجد آباءه على ذلك المذهب، مع اعتقاده بأنه الذي أمر الله به، وأنه الحق لم يبق عليه.
وهذه الخصلة هي التي بقى بها اليهودي على يهوديته، والنصراني على نصرانيته، والمبتدع على بدعته، فما أبقاهم على هذه الضلالات إلا كونهم وجدوا آباءهم في اليهودية والنصرانية والبدعة، وأحسنوا الظن بهم بأن ما هم عليه هو الحق الذي أمر الله به، ولم ينظروا لأنفسهم ولا طلبوا الحق كما يجب، ولا بحثوا عن الله كما ينبغي، وهذا هو التقليد البحت القصور الخالص.
ثم قال: وإن من أعجب الغفلة وأعظم الذهول عن الحق، اختيار المقلدة لآراء الرجال، مع وجود كتاب الله ووجود سنة رسوله بين ظهرانيهم، ووجود من يأخذونهما عنه بين أيديهم، ووجود آلة الفهم لديهم، وملكة العقل عندهم. انتهى.
ولما نفى ما تقولوه عليه وأخبر أنه لا يأمر بالفحشاء، بين ما أمر به بقوله تعالى:

.تفسير الآية رقم (29):

القول في تأويل قوله تعالى: {قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُواْ وُجُوهَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ} [29].
{قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ} أي: بالعدل، وللسلف فيه هنا وجوه: ما ظهر في العقول كونه حسناً، أو التوحيد، أو كلمة الإخلاص.
وعن أبي مسلم: جميع الطاعات، قال الحاكم: وهو الوجه: ولا يخفى أن الجميع مما يشمله: {القِسْط} فلا منافاة.
{وَأَقِيمُواْ وُجُوهَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ} معطوف على الأمر الذي ينحل إليه المصدر مع: {أن}، أي: بأن أقسطوا وأقيموا، والمصدر ينحل إلى الماضي والمضارع والأمر، كما نقله المُعرب، أو معطوف على: {أمَرَ رَبِّي} أي: قل أقيموا.
قال الجرجاني: الأمر معطوف على الخبر، لأن المقصود لفظه، أو لأنه إنشاء معنى. انتهى.
والوجوه مجاز عن الذوات. ومسجد إما مصدر، والوقت مقدر قبله، و{عِنْدَ} بمعنى في، أي: أقيموا ذواتكم في كل وقت سجود، وذلك بمنعها عن الالتفات إلى الغير فيه، وبمراعاة موافقة الأمر مع صدق النية، أو باستقبال القبلة فيه، وإما اسم زمان أو مكان بالمعنى اللغوي، أي: في كل وقت سجود أو مكانه.
والسجود على هذه الأوجه مجاز عن الصلاة، أو المسجد هو المصطلح عليه، والمعنى: في أيّ مسجد حضرتكم الصلاة ولا تؤخروها حتى تعودوا إلى مساجدكم، والأمر على هذا الوجه للندب، قيل: وهو لا يناسب المقام، وإما على ما قبله، فهو للوجوب.
وهذه الوجود مستفادة مما روي عن السلف. قال في اللباب: معنى الآية في قول مجاهد والسدّيّ: وجهوا وجوهكم حيثما كنتم في الصلاة إلى الكعبة.
وقال الضحاك: المعنى إذا حضرت الصلاة وأنتم عند المسجد فصلوا فيها، ولا يقولن أحدكم: أصلي في مسجدي، أو مسجد قومي، وقيل معناه اجعلوا سجودكم لله خالصاً.
{وَادْعُوهُ} أي: اعبدوه: {مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} أي: الطاعة بتخصيصها له، لأنه استحق عبادتكم بإبدائه إياكم، ولا يسعكم تركها، إذا إليه عودكم بالآخرة، فإنه: {كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ} أي: كما أنشأكم ابتداء، يعيدكم إليه أحياء، فيجازيكم على أعمالكم، فأخلصوا له العبادة. وإنما شبه الإعادة بالابتداء، تقريراً لإمكانها والقدرة عليها.

.تفسير الآية رقم (30):

القول في تأويل قوله تعالى: {فَرِيقاً هَدَى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلاَلَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ اللّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ} [30].
{فَرِيقاً هَدَى} بأن وفقهم للإيمان: {وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلاَلَةُ} وهم الكافرون: {إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاء} أي: أنصاراً وأرباباً: {مِن دُونِ اللّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ} أي: أنهم على هداية وحق فيما اعتقدوا.
تنبيهان:
الأول: قال ابن جرير: قوله تعالى: {وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ} من أبين الدلالة على خطأ قول من زعم أن الله لا يعذب أحداً على معصية ركبها، أو ضلالة اعتقدها، إلا أن يأتيها بعد علم منه بصواب وجهها، فيركبها عناداً منه لربه فيها، لأن ذلك لو كان كذلك، لم يكن بين فريق الضلالة الذي ضل، وهو يحسب أنه مهتد، وفريق الهدى فرقٌ، وقد فرق الله تعالى بين أسمائهما وأحكامهما في هذه الآية. انتهى.
وحاصله، كما قال القاضي: إن الآية دلت على أن الكافر المخطئ والمعاند سواء في استحقاق الذم.
قال القاضي: وللفارق أن يحمله على المقصر في النظر، أي: يحمل الضمير في: {اتَّخَذُوا} على الكافر المقصر في النظر، وأما الذين اجتهدوا وبذلوا الوسع فمعذورون، كما هو مذهب البعض، كذا في العناية.
الثاني: قال الرازي: هذه الآية تدل على أن مجرد الظن والحسبان لا يكفي في صحة الدين، بل لابد فيه من الجزم والقطع واليقين، لأنه تعالى عاب الكفار بأنهم يحسبون كونهم مهتدين، ولولا أن هذا الحسبان مذموم، لما ذمهم بذلك. انتهى.
قال المهايمي: ومما حسبوا فيه أنهم مهتدون بمتابعة الشيطان، تركهم التزين والتلذذ مع العبادة، فطافوا عراة، وتركهم اللحم والسم مع الإحرام، فقال عز وجل:

.تفسير الآية رقم (31):

القول في تأويل قوله تعالى: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} [31].
{يَا بَنِي آدَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ} أي: من اللباس: {عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ} أي: بيت بُنِي للعبادة، على أنه اسم مكان، أو مصدر بمعنى السجود، مراداً به الصلاة والعبادة، فإن العبادة أولى أوقات التزين: {وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ} أيام الحج تقوياً على العبادة: {وَلاَ تُسْرِفُواْ} أي: إسرافاً يوجب الإنهماك في الشهوات ويشغل عن العبادة، أو لا تحرموا الطيبات من الرزق واللحم والدسم: {إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} المعتدين.
تنبيهات:
الأول: كما أسلفنا في مقدمة هذا التفسير، أن من فوائد معرفة سبب النزول الوقوف على المعنى، وإزالة الإشكال، وهذه الآية إنما أجملنا تفسيرها بما ذكرنا، لأنها نزلت في ذلك.
فقد روى مسلم عن ابن عباس قال: كانت المرأة تطوف بالبيت وهي عُريانة، فتقول: من يعيرني تِطْْوافاً؟ تجعله على فرجها وتقول:
اليوم يبدو بعضه أو كله ** وما بدا منه فلا أُحله

فنزلت هذه الآية: {خُذُواْ زِينَتَكُمْ} الآية. ونزلت: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّه} الآية.
وعند ابن جرير عن ابن عباس قال: كانوا يطوفون عراة، الرجال بالنهار، والنساء بالليل، وكانت المرأة تقول:
اليوم يبدو بعضه أو كله ** فما بدا منه فلا أُحله

فنزلت: {خُذُواْ زِينَتَكُمْ}. قال في اللباب: وفي رواية أخرى عنه: فأمرهم الله تعالى أن يلبسوا ثيابهم ولا يتعروا. وروى العوفي عن ابن عباس أيضاً في الآية قال: كان رجال يطوفون بالبيت عراة، فأمرهم الله بالزينة، والزينة اللباس، وهو ما يواري السوأة، وما سوى ذلك من جيد البزّ والمتاع، فأمروا أن يأخذوا زينتهم عند كل مسجد.
وأخرج أبو الشيخ عن طاوس قال: أُمروا بلبس الثياب، وأخرج من وجه آخر عنه قال: الشملة من الزينة، وقال مجاهد: كان حيٌّ من أهل اليمن إذا قدم أحدهم حاجاً أو معتمراً يقول: لا ينبغي لي أن أطوف في ثوب قد عصيت فيه فيقول: من يعيرني مئزراً؟ فإن قدر عليه وإلا طاف عرياناً. فأنزل الله تعالى فيه ما تسمعون: {خُذُواْ زِينَتَكُمْ} الآية.
وقال الزهري: إن العرب كانت تطوف بالبيت عراة إلا الحمس- وهم قريش وأحلافهم- فمن جاء من غير الحمس، وضع ثيابه، وطاف في ثوب أحمسي، ويرى أنه لا يحل له أن يلبس ثيابه، فإن لم يجد من يعيره من الحمس فإنه يلقي ثيابه، ويطوف عرياناً، وإن طاف في ثياب نفسه ألقاها، وإذا قضى طوافه وحرمها، أي: جعلها حراماً عليه، فلذلك قال تعالى: {خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ}.
والمراد من الزينة الثياب التي تستر العورة. قال مجاهد: ما يواري عوراتكم، ولو عباءة- انتهى-
قال ابن كثير: هكذا قال مجاهد وعطاء وإبراهيم النَّخَعِي، وسعيد بن جبير وقتادة والسدي، والضحاك ومالك عن الزهري وغير واحد من أئمة السلف في تفسيرها: أنها نزلت في طواف المشركين بالبيت عراة. انتهى.
فظهر أن المراد بالزينة ما يستر العورة لأنه اللازم المأمور به الذي بينه سبب النزول، دون لباس التجمل المتبادر منه، لأن المستفاد من: {خُذُواْ} هو وجوب الأخذ، ولباس التجمل مسنون- قاله الشهاب- وأقول دلت الآية بما أفاده سبب نزولها على أن الزينة لا تختص لغة بالجيد من اللباس كما توهم، وبين ذلك العوفي عن ابن عباس فيما نقلناه.
وفي التهذيب: الزينة إسم جامع لكل شيء يتزين به. ومثله في الصحاح والقاموس وعبارته: الزينة ما يتزين به.
وقال الحراني: الزينة تحسين الشيء بغيره من لبسة أو حلية أو هيئة.
وقال الراغب: الزينة الحقيقية ما لا يشين الْإنسَان في شيء من أحواله، ولا في الدنيا ولا في الآخرة. انتهى.
وقد نقل الرازي إجماع المفسرين على أن المراد بالزينة لبس الثياب التي تستر العورة.
قال: والزينة لا تحصل إلا بالستر التام للعورات، قال: وأيضاً إنه تعالى قال في الآية المتقدمة: {قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاساً يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشا} فبين أن اللباس الذي يواري السوأة من قبيل الرياش والزينة.
ثم إنه تعالى أمر بأخذ الزينة في هذه الآية، فوجب أن يكون المراد من هذه الزينة هو الذي تقدم ذكره في تلك الآية.
وأيضاً فقوله: {خُذُواْ زِينَتَكُمْ} أمر، والأمر للوجوب، فثبت أن أخذ الزينة واجب، وكل ما سوى اللبس فغير واجب، فوجب حمل الزينة على اللبس عملاً بالنص بقدر الإمكان، ولا يقال: إن قوله: {وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ} أمر إباحة، فيكون المعطوف عليه كذلك، لأنه لا يلزم من ترك الظاهر في المعطوف، تركه في المعطوف عليه.
هذا، وقد روى الحافظ ابن مردويه من حديث سعيد بن بشير والأوزاعي عن قتادة عن أنس مرفوعاً: أنها نزلت في الصلاة في النعال، وكذا أخرجه أبو الشيخ عنه، وعن أبي هريرة مثله، قال ابن كثير: وفي صحته نظر- والله أعلم-
قلت: لا نظر، لأن ذلك مما تشمله الزينة، وقد أسلفنا في المقدمة أن قولهم: نزلت في كذا، لا يقصد به أن حكم الآية مخصوص به، بل مخصوص بنوعه، فتعم ما أشبهه، فتذكر.
والأحاديث في مشروعية الصلاة في النعل كثيرة جدًّا، منها: عن أبي مسلمة سعيد بن يزيد، قال: سألت أنساً: أكان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي في نعليه؟ قال: نعم. متفق عليه.
قال العراقي في شرح الترمذي: وممن كان يفعل ذلك- يعني لبس النعل في الصلاة- عُمَر بن الخطاب وعثمان بن عفان وعبد الله بن مسعود وعويمر بن ساعدة وأنس بن مالك وسلمة بن الأكوع وأوس الثقفي، ومن التابعين:
سعيد بن المسيب والقاسم وعروة بن الزبير وسالم بن عبد الله وعطاء بن يسار، وعطاء بن أبي رَبَاح ومجاهد وطاوس وشريح القاضي، وأبو مجلز وأبو عمر الشيباني والأسود بن يزيد وإبراهيم النَّخَعِي وإبراهيم التَّيمي وعلي بن الحسين وإبنه أبو جعفر. انتهى.
وقد أخرج أبو داود من حديث أبي سعيد أنه قال: قال صلى الله عليه وسلم: «إذاجاء أحدكم إلى المسجد فلينظر فإن رأى في نعليه قذراً أو أذى فليمسحه وليصل فيهما».
وحديث عَمْرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي حافياً ومنتعلاً. أخرجه أبو داود وابن ماجة.
الثاني: دلت الآية على وجوب الستر عند الطواف، لأنه سبب النزول، قالوا: واللفظ شامل للصلاة لأنها مفعولة في المسجد.
الثالث: حاول بعضهم استنباط التجمل عند الصلاة منها حيث قال: لما دلت على وجوب أخذ الزينة بستر العورة في الصلاة، فُهِم منها في الجملة، حسن التزين بلبس ما فيه حسن وجمال فيها.
قال الكيا الهراسي: ظاهر الآية الأمر بأخذ الزينة عند كل مسجد، للفضل الذي يتعلق به تعظيماً للمسجد والفعل الواقع فيه، مثل الاعتكاف والصلاة والطواف.
وقال ابن الفرس: استدل مالك بالآية على كراهية الصلاة في مساجد القبائل بغير أردية، واستدل بها قوم من السلف على أنه لا يجوز للمرأة أن تصلي بغير قلادة أو قرطين، كذا في الإكليل، والأخير من الغلو في النزع.
وقال ابن كثير: ولهذه الآية وما ورد في معناها من السنة، يستحب التجمل عند الصلاة، ولاسيما يوم الجمعة ويوم العيد، والطيب لأنه من الزينة، والسواك لأنه من تمام ذلك، ومن أفضل اللباس البياض لما روى الإمام أحمد وأبو داود والترمذي عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إلبسوا من ثيابكم البياض، فإنها من خير ثيابكم وكفنوا فيها موتاكم، وإن من خير أكحالكم الِإثمد، يجلو البصر وينبت الشعر» ولأحمد وأهل السنن، عن سمُرة بن جُنْدب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «عليكم بالثياب البيض فالبسوها فإنها أطهر وأطيب، وكفنوا فيها موتاكم».
وروى الطبراني بسند صحيح، عن قتادة عن محمد بن سيرين: أن تميماً الداري اشترى رداءً بألف، وكان يصلي فيه.
الرابع: وجه تأثر الأمر بأخذ الزينة، بالأمر بالأكل والشرب في قوله تعالى: {وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ} ما رواه الكلبي أن بني عامر كانوا لا يأكلون في أيام حجهم إلا قوتاً، ولا يأكلون دسماً، يعظمون بذلك حجهم.
فقال المسلمون: نحن أحق أن نفعل ذلك يا رسول الله. فأنزل الله عز وجل: {وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ}.
وقال السدي: كان الذين يطوفون بالبيت عراة يحرمون عليهم الودك ما أقاموا في الموسم. فقال الله تعالى لهم: {وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ} الآية.
الخامس: فسر الإسراف بمجاوزة الحد فيما أحل، وذلك بتحريمه، وقال الجشمي اليمني في تفسيره التهذيب: تدل الآية على المنع من الإسراف. وذلك على وجهين:
أولهما: إنفاق في معصية كالفخَار واللعب والزنى والخمر ونحوها.
وثانيهما: أن يتعدى الحدود وذلك مختلف بحال اليسار والإعسار، لأن من له قدر يسير، لو أنفقه في ضيافة أو طيب أو ثياب خز، وهو وعياله يحتاجون إليه، فهو سرف محرم.
ومثله في الموسرين لا يقبح ولا يكون سرفاً، وتدل على أن الأشياء على الإباحة.
والعقل يدل على ذلك، لأنه تعالى خلقه لمنافعهم، والسمع ورد مؤكداً، ولذلك قال: {مَنْ حَرَّمَ} مطالباً بدليل سمعي.
وقد روى الإمام أحمد عن عَمْرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «كلوا واشربوا والبسوا وتصدقوا من غير مخيلة ولا سرف، فإن الله يحب أن يرى نعمته على عبده».
وأخرج النسائي وابن ماجة نحوه.
وقال البخاري: قال ابن عباس: كلْ ما شئت، ما أخطأتك اثنتان: سرف أو مخيلة.
ورواه ابن جرير عنه أيضاً بلفظ: أحل الله الأكل والشرب، ما لم يكن سرفاً أو مخيلة.
قال الشهاب: هذا- أي: ما قاله ابن عباس- لا ينافي ما ذكره الثعالبي وغيره من الأدباء، أن ينبغي للإنسان أن يأكل ما يشتهي، ويلبس ما يشتهيه الناس، كما قيل:
نصيحة نصيحة ** قالت بها الأكياس

كل ما اشتهيت والبس ** نَّ ما اشتهته الناس

فإنه لِترك ما لم يعتد بين الناس، وهذا لإباحة كل ما اعتادوه. والمخيلة: الكبر. وما دوامية زمانية. وأخطأتك، من قولهم أخطأ فلان كذا، إذا عدمه.
وفي الأساس: من المجاز لن يخطئك ما كُتب لك ووأخطأ المطر الأرض: لم يصبها، وتخاطأته النبل: تجاوزته وتخطأته. انتهى.
وفي قوله تعالى: {إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} وعيد تهديد لمن أسرف في هذه الأشياء، لأن من لم يحبه الله لم يرض عنه.
السادس: تناقل المفسرون وغيرهم ما قيل إن قوله تعالى: {وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ} الآية، جمع الطب كله. وأصله ما حكاه الزمخشري والكرماني في عجائبه، أن الرشيد كان له طبيب نصراني حاذق، فقال لعلي بن الحسين بن واقد: ليس في كتابكم من علم الطب شيء، والعلم علمان: علم الأبدان، وعلم الأديان.
فقال له: قد جمع الله الطب كله في نصف آية من كتابه، قال: وما هي؟ قال: قوله تعالى: {وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ}، فقال النصراني: ولا يؤثر من رسولكم شيء في الطب! فقال: قد جمع رسولنا صلى الله عليه وسلم الطب في ألفاظ يسيرة، قال: وما هي؟ قال قوله: «المعدة بيت الداء، والحمية رأس الدواء، وأعط كل بدن ما عودته» فقال النصراني: ما ترك كتابكم ولا نبيكم لجالينوس طباً.
قال في العناية: وترك بعضهم تمام القصة، لأن في ثبوت هذا الحديث كلاماً للمحدثين.
وفي شعب الإيمان للبيهقي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «المعدة حوض البدن، والعروق إليها واردة، فإذا صحت المعدة صدرت العروق بالصحة، وإذا فسدت المعدة صدرت العروق بالسقم». انتهى.
أقول: إن صحت هذه الحكاية، فصواب جواب النصراني في سؤاله الثاني بالتفنيد والفرية، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم أُثر عنه من بدائع الطب وأصناف العلاج ما لم يؤثر عن نبي قط، وللمحدثين في عهد السلف منه قسم كبير في جوامعهم ومسانيدهم. وأما أعلام المتأخرين فقد اضطرهم وفرة ما روي في ذلك إلى تدوينه في أسفار مطولة ومختصرة بعنوان الطب النبوي.
وقد بين الإمام ابن القيم: عليه الرحمة، اشتمال التنزيل العزيز على أصول الطب، والسنة المطهرة على بدائعه، في كتابه زاد المعاد، بياناً يدهش الألباب، وفوق كل ذي علم عليم، قال عليه الرضوان في كتابه زاد المعاد في هدي خير العباد:
فصل:
قد أتينا على جمل من هديه صلى الله عليه وسلم في المغازي والسير والبعوث والسرايا والرسائل والكتب التي كتب بها إلى الملوك ونوابهم، ونحن نتبع ذلك بذكر فصول نافعة في هديه في الطب الذي تطبب به، ووصفه لغيره، ونبين ما فيه من الحكمة التي يعجز أكثر عقول أكثر الأطباء عن الوصول إليها، وأن نسبة طبهم إليها كنسبة طب العجائز إلى طبهم، فنحن نقول وبالله المستعان:
المرض نوعان:
مرض القلوب، ومرض الأبدان، وهما مذكوران في القرآن.
ومرض القلب نوعان: مرض شبهة وشك، ومرض شهوة وغي، وكلاهما في القرآن.
قال تعالى في مرض الشبهة: {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً} وقال تعالى: {وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلاً}، وقال تعالى في حق من دعي إلى تحكيم القرآن والسنة فأبى وأعرض: {وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ وَإِن يَكُن لَّهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ أَفِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَن يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}، فهذا مرض الشبهات والشكوك.
وأما مرض الشهوات فقال تعالى: {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً}، فهذا مرض شهوة الزنى- والله أعلم-.
وأما مرض الأبدان فقال تعالى: {لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ}، وذكر مرض البدن في الحج والصوم والوضوء لسر بديع، يبين ذلك عظمة القرآن والاستغناء به، لمن فهمه وعقله، عن سواه، وذلك أن قواعد طب الأبدان ثلاثة: حفظ الصحة، والحمية عن المؤذي، واستفراغ المواد الفاسدة، فذكر سبحانه هذه الأصول الثلاثة في هذه المواضع الثلاثة. فقال في آية الصوم: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَر}.
فأباح الفطر للمريض لعذر المرض، والمسافر، طلباً لحفظ صحته وقوته، لئلا يذهبه الصوم في السفر، لاجتماع شدة الحركة وما يوجبه من التحليل وعدم الغذاء الذي يخلف ما تحلل، فتخور القوة وتضعف، فأباح للمسافر الفطر حفظاً لصحته وقوته عما يضعفها.
وقال في آية الحج: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُك} فأباح للمريض ومن به أذى من رأسه، من قمل أو حكة أو غيرهما، أن يحلق رأسه في الإحرام استفراغاً لمادة الأبخرة الرديئة التي أوجبت له الأذى في رأسه باحتقانها تحت الشعر، وإذا حلق رأسه تفتحت المسامات فخرجت تلك الأبخرة منها.
فهذا الإستفراغ يقاس عليه استفراغ يؤذي انحباسه. والأشياء التي يؤذي انحباسها ومدافعتها عشرة: الدم إذا هاج، والمني إذا سبغ، والبول والغائط والريح والقيء والعطاس والنوم والجوع والعطش.
وكل واحد من هذه العشرة يوجب حبسه داء من الأدواء بحبسه، وقد نبه سبحانه باستفراغ أدناها وهو البخار المحتقن في الرأس، على استفراغ ما هو أصعب منه، كما هي طريقة القرآن، التنبية بالأدنى على الأعلى.
وأما الحمية، فقال في آية الوضوء: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّبا} فأباح للمريض العدول عن الماء إلى التراب حميةٌ له أن يصيب جسده ما يؤذيه.
وهذا تنبيه على الحمية عن كل مؤذٍ له، من داخل أو خارج. فقد أرشد سبحانه عباده إلى أصول الطب، ومجامع قواعده.
ونحن نذكر هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك ونبين أن هديه فيه أكمل هدي.
فأما طب القلوب، فمسلّم إلى الرسل صلوات الله وسلامه عليهم، ولا سبيل إلى حصوله إلا من جهتهم، وعلى أيديهم، فإن صلاح القلوب أن تكون عرافة بربها وفاطرها، وبأسمائه وصفاته وأفعاله وأحكامه، وأن تكون مؤثرة لمرضاته ولمحابه، متجنبة لمناهيه ومساخطه.
ولا صحة لها ولا حياة لها البتة إلا بذلك، ولا سبيل إلى تلقيه إلا من جهة الرسل.
وما يظن من حصول القلب بدون اتباعهم، فغلط ممن يظن ذلك، وإنما ذلك حياة نفسه البهيمية الشهوانية وصحتها وقوتها، وحياة قلبه وصحته وقوته عن ذلك بمعزل. ومن لم يميز بين هذا وبين هذا، فليبك على حياة قلبه، فإنه من الأموات، وعلى نوره، فإنه منغمس في بحار الظلمات. انتهى.
وقد قرر رحمه الله هذا المقام بأسلوب آخر في كتاب طريق الهجرتين نورده أيضاً لبداعة أسلوبه قال عليه الرحمة:
ولما كان مرض البدن خلاف صحته وصلاحه وهو خروجه عن اعتداله الطبيعي بفساد يعرض له، يفسد به إدراكه وحركته الطبيعية، فإما أن يذهب إدراكه بالكلية كالعمى والصمم والشلل، وإما أن ينقص إدراكه لضعف في آلات الإدراك مع استقامة إدراكه وإما أن يدرك الأشياء على خلاف ما هي عليه، كما يدرك الحلو مراً، والخبيث طيباً، والطيب خبيثاً.
وأما فساد حركته الطبيعية، فمثل أن تضعف قوته الهاضمة أو الماسكة أو الدافعة أو الجاذبة.
فيحصل له من الألم بحسب خروجه عن الاعتدال، ولكن مع ذلك لم يصل إلى حد الموت والهلاك، بل فيه نوع قوة على الإدراك والحركة، سبب هذا الخروج عن الاعتدال، إما فساد في الكمية أو في الكيفية، فالأول إما نقص في المادة فيحتاج إلى زيادتها، وإما زيادة فيها فيحتاج إلى نقصانها.
والثاني إما بزيادة الحرارة أو البرودة، أو الرطوبة أو اليبوسة أو نقصانها عن القدر الطبيعي، فيداوى بمقتضى ذلك، ومدار الصحة على حفظ القوة والحمية عن المؤذي، واستفراغ المواد الفاسدة، نظر الطبيب دائر على هذه الأصول الثلاثة، وقد تضمنها الكتاب العزيز، وأرشد إليها من أنزله شفاء ورحمة.
فأما حفظ القوة فإنه سبحانه أمر المسافر والمريض أن يفطرا في رمضان، ويقضي المسافر إذا قدم، والمريض إذا برأ، حفظاً لقوتهما عليهما.
فإن الصوم يزيد المريض ضعفاً، والمسافر محتاج إلى توفير قوته عليه لمشقة السفر، فالصوم يضعفها.
فأما الحمية عن المؤذي، فإنه سبحانه حمى المريض عن استعمال الماء البارد في الوضوء والغسل إذا كان يضره، وأمره بالعدول إلى التيمم، حمية له عن ورود المؤذي عليه من ظاهر بدنه، فكيف بالمؤذي له في باطنه؟ وأما استفراغ المادة الفاسدة، فإنه سبحانه أباح للمُحرم الذي به أذى من رأسه أن يحلقه، فيستفرغ الحلق الأبخرة المؤذية له، وهذا من أسهل أنواع الإستفراغ وأخفها، فنبه به على ما هو أحوج إليه منه.
وذاكرت مرة بعض رؤساء الطب بمصر بهذا فقال: والله لو سافرت إلى الغرب في معرفة هذه الفائدة، لكان سفراً قليلاً أو كما قال. انتهى.
ثم ردّ تعالى على من حرَّم شيئاً من المآكل والمشارب والملابس، من تلقاء نفسه من غير شرع من الله، تأكيداً لما سبق، بقوله سبحانه.