فصل: تفسير الآية رقم (103):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: محاسن التأويل



.تفسير الآية رقم (103):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُواْ واتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِّنْ عِندِ اللَّه خَيْرٌ لَّوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ} [103].
{وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُواْ} أي: بما دعوا إليه من القرآن الحكيم: {واتَّقَوْا} أي: ما يؤثمهم، ومنه السحر والتمويه وقوله: {لَمَثُوبَةٌ مِّنْ عِندِ اللَّه خَيْرٌ} جواب: لو، وأصله: لأثيبوا مثوبة من عند الله خيراً مما شروا به أنفسهم. فحذف الفعل وغيّر السبك إلى ما عليه النظم الكريم، دلالة على ثبات المثوبة لهم والجزم بخيريتها، وحذف المفضل عليه إجلالاً للمفضل من أن ينسب إليه، وقوله تعالى: {لَّوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ} أي: أن ثواب الله خير. وإنما نسبوا إلى الجهل لعدم العمل بموجب العلم.

.تفسير الآية رقم (104):

القول في تأويل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقُولُواْ رَاعِنَا وَقُولُواْ انظُرْنَا وَاسْمَعُوا ْوَلِلكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [104].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقُولُواْ} للنبي صلى الله عليه وسلم: {رَاعِنَا} التي تقصدون بها الرعاية والمراقبة لمقصد الخير وحفظ الجانب، فاغتنمها اليهود لموافقة كلمة سيئة عندهم فصاروا يلوون بها ألسنتهم، ويقصدون بها الرعونة، وهي إفراط الجهالة، فنهاهم عن موافقتهم في القول، منعاً للصحيح الموافق في الصورة لشبهه من القبيح، وعوضهم منها ما لا يتطرق إليه فساد فقال: {وَقُولُواْ انظُرْنَا} فأبقى المعنى وصرف اللفظ. أي: أنظر إليها. بالحذف والإيصال، أو انتظرنا. على أنه من نظره إذا انتظره، وقرئ: {انظرنا} من النظرة أي: أمهلنا حتى نحفظ. وقرئ: {راعونا} على صيغة الجمع للتوقير. و{راعناً} على صيغة الفاعل أي: قولاً ذا رعن، كدارع ولابن، لأنه لما أشبه قولهم راعينا وكان سبباً للسب بالرعن اتصف به.
{وَاسْمَعُوا} أي: قولوا ما أمرتكم به، وامتثلوا جميع أوامري، ولا تكونوا كاليهود، حيث قالوا سمعنا وعصينا: {وَلِلكَافِرِينَ} أي: اليهود الذي توسلوا بقولكم المذكور إلى التهاون بمقام رسول الله صلى الله عليه وسلم: {عَذَابٌ أَلِيمٌ} لما اجترؤوا عليه من العظيمة، وهو تذييل لما سبق، فيه وعيد شديد لهم، ونوع تحذير للمخاطبين عما نُهوا عنه.
وهذه الآية يظير قوله تعالى في سورة النساء: {مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيّاً بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلاً} [النساء: 46]، ومن ليّهم ما جاء في الحديث أنهم كانوا إذا سلموا يقولون: السام عليكم. والسام هو الموت، ولهذا أمرنا أن نرد عليهم بـ «وعليكم» وإنما يستجاب لنا فيهم، ولا يستجاب لهم فينا.

.تفسير الآية رقم (105):

القول في تأويل قوله تعالى: {مَّا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلاَ الْمُشْرِكِينَ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْكُم مِّنْ خَيْرٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَاللّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَاء وَاللّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [105].
{مَّا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلاَ الْمُشْرِكِينَ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْكُم مِّنْ خَيْرٍ مِّن رَّبِّكُمْ} بيان لشدة عداوة الكافرين من القَبِيْلَيْنِ للمؤمنين، حسداً وبغياً. ليقطع التشبه بهم، فإن مخالفة الأعداء من الأغراض العظيمة للمتمكنين في الأخلاق الفاضلة.
ثم بين أن الحسد لا يؤثر في زوال ذلك بقوله: {وَاللّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَاء وَاللّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} والاختصاص: عناية تعيّن المختص لمرتبة ينفرد بها دون غيره، وفيه تنبيه على ما أنعم به على المؤمنين، من الشرع التام الكامل الذي شرعه لهم.
ولمّا أنكرت اليهود أن يقع شيء من النسخ لآيات الله، توصلاً بذلك إلى إنكار آيات القرآن، وتأييدِ تأبيد التوراة، ردّ عليهم سبحانه بعد تحقيق الوحي بقوله:

.تفسير الآية رقم (106):

القول في تأويل قوله تعالى: {مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللّهَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [106].
{مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ} أي: ما نبدّل من آية بغيرها، كنسخنا آيات التوراة بآيات القرآن: {أو ننسها} أي: نذهبها من القلوب كما أخبر بقوله: {وَنَسُوا حَظّاً مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ} [المائدة: 13].
وقرئ: {أَوْ نَنْسَأْهَا} أي: نؤخرها ونتركها بلا نسخ، كما أبقى كثيراً من أحكام التوراة في القرآن. وعلى هذه القراءة، فقد نشر على ترتيب هذا اللف قوله: {نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا} أي: من المنسوخة المبدلة كما فعل في الآيات التي شرعت في الملة الحنيفية ما فيه اليسر، ورفع الحرج والعنت، فكانت خيراً من تلك الآصار، والأغلال. وقوله: {أَوْ مِثْلِهَا} أي: مثل تلك الآيات الموحاة قبل، كما يُرى في كثير من الآيات في القرآن الموافقة لما بين يديها مما اقتصت الحكمة بقاءه واستمراره.
قال الراغب: فإن قيل: إن الذي تُرك ولم يُنسخ ليس مثله بل هو هو، فكيف قال: بمثلها؟ قيل: الحكم الذي أنزل في القرآن وكان ثابتاً في الشرع الذي قبلنا يصح أن يقال هو هو، إذا اعتبر بنفسه ولم يعتبر بكسوته، التي هي اللفظ، ويصح أن يقال هو مثله إذا لم يعتبر بنفسه فقط بل اعتبر باللفظ، ونحو ذلك أن يقال: ماء البئر هو ماء النهر إذا اعتبر جنس الماء، وتارة يقال: مثل ماء النهر إذا اعتبر قرار الماء. على أن إرادة العين بالمثل شائعة، كما في قولهم: مثلك لا يبخل.
{أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللّهَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} فهو يقدر على الخير، وما هو خير منه، وعلى مثله في الخير، قال الراغب: أي: لا تحسبن أن تغييري لحكمٍ حالاً فحالاً، وأني لم آت بالثاني في الابتداء، هو العجز، فإن من علم قدرته على كل شيء لا يظن ذلك. وإنما تغير ذلك يرجع إلى مصلحة العباد، وأن الأليق بهم، في الوقت المتقدم، الحكم المتقدم. وفي الوقت المتأخر، الحكم المتأخر.

.تفسير الآية رقم (107):

القول في تأويل قوله تعالى: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ} [107].
{أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} فهو يملك أموركم ويدبرها، وهو أعلم بما يتعبدكم به من ناسخ أو منسوخ {وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللّهِ مِن وَلِيٍّ} يلي أموركم: {وَلاَ نَصِيرٍ} ناصر يمنعكم من العذاب.
وقضية العلم بما ذكر من الأمور الثلاثة، هو الجزم والإيقان بأنه تعالى لا يفعل بهم- في أمر من أمور دينهم أو دنياهم إلا ما هو خيرٌ لهم، والعمل بموجبه من الثقة به، والتوكل عليه، وتفويض الأمر إليه، من غير إصغاء إلى أقاويل اليهود، وتشكيكاتها التي من جملتها ما قالوا في أمر النسخ، حيث إنكروا نسخ أحكام التوراة، وجحدوا نبوة عيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام، لمجيئهما بما جاءا به من عند الله بتغيير ما غير الله من حكم التوراة. فأخبرهم الله أن له ملك السموات والأرض وسلطانهما، وأن الخلق أهل مملكته وطاعته، عليهم السمع والطاعة لأمره ونهيه، وأن له أمرهم بما يشاء، ونهيهم عما يشاء، ونسخ ما يشاء، وإقرار ما يشاء. والذي حمل اليهود على منع النسخ إنما هو الكفر والعناد، وإلا فقد وُجد في شريعتهم النسخ بكثرة.
وقد ذكر العلامة الشيخ رحمه الله الهندي في كتابه إظهار الحق أمثلة وافرة مما وقع من ذلك في التوراة والإنجيل. فارجع إليها في الباب الثالث منه.
تنبيهان:
الأول: قال بعض الفضلاء: نزلت هذه الآية لمّا قال المشركون أو اليهود: إن محمداً يأمر أصحابه بأمرٍ ثم ينهاهم عنه ويأمر بخلافه. وفي الآية ردّ عليهم بأن المقصود من نسخ الحكم السابق: تهيؤ النفوس لأرقى منه، وهو معنى قوله تعالى: {نأت بخير منها} لأن الخالق تعالى ربّى الأمة العربية في ثلاث وعشرين سنة تربيةً تدريية لا تتم لغيرها- بواسطة الفواعل الاجتماعية- إلا في قرون عديدة. لذلك كانت عليهم الأحكام على حسب قابليتها، ومتى ارتقت قابليتها بدّل الله لها ذلك الحكم بغيره. وهذه سنة الخالق في الأفراد والأمم على حد سواء. فإنك لو نظرت في الكائنات الحية- من أول الخلية النباتية إلى أرقى شكلٍ من أشكال الأشجار، ومن أول رتبةٍ من رتب الحيوانات إلى الْإِنْسَاْن- لرأيت أن النسخ ناموس طبيعي محسوس في الأمور المادية، والأدبية معاً...! فإن انتقال الخلية الْإِنْسَاْنية إلى جنين، ثم إلى طفل، فيافعٍ، فشاب، فكهلٍ، فشيخ، وما يتبع كل دور من هذه الأدوار- من الأحوال الناسخة للأحوال التي قبلها- يريك بأجلى دليل: أن التبدل في الكائنات ناموس طبيعي محقق. وإذا كان هذا النسخ ليس بمستنكر في الكائنات، فكيف يستنكر نسخ حكم وإبداله بحكم آخر في الأمة، وهي في حالة نمو وتدرج من أدنى إلى أرقى؟ هل يرى إنسان له مسكة من عقل أن من الحكمة تكليف العرب- وهم في مبدأ أمرهم- بما يلزم أن يتصفوا به، وهم في نهاية الرقي الْإِنْسَاْني، وغاية الكمال البشري....؟! وإذا كان هذا يصح، وجب أن الشرائع تكلف الأطفال بما تكلف به الرجال، وهذا لم يقل به عاقل في الوجود....! وإذا كان هذا لا يقول به عاقل في الوجود، فكيف يجوز على الله- وهو أحكم الحاكمين- بأن يكلف الأمة- وهي في دور طفوليتها- بما لا تتحمله إلا في دور شبوبيتها وكهولتها...؟ وأي الأمرين أفضل: أشرعنا الذي سن الله لنا حدوده بنفسه، ونسخ منه ما أراد بعلمه، وأتمه- بحيث لا يستطيع الإنس والجن أن ينقصوا حرفاً منه- لانطباقه على كل زمان ومكان، وعدم مجافاته لأي حالة من حالات الْإِنْسَاْن...؟! أم شرائع دينية أخرى، حرفها كهانها، ونسخ الوجودُ أحكامها- بحيث يستحيل العمل بها- لمنافاتها لمقتضيات الحياة البشرية من كل وجه...؟!.
الثاني: أسلفنا- في مقدمة التفسير- إلى أن النسخ باصطلاح السلف أعم منه في اصطلاح الخلف، بما ينبغي مراجعته.

.تفسير الآية رقم (108):

القول في تأويل قوله تعالى: {أَمْ تُرِيدُونَ أَن تَسْأَلُواْ رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِن قَبْلُ وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاء السَّبِيلِ} [108].
{أَمْ تُرِيدُونَ أَن تَسْأَلُواْ رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِن قَبْلُ}: {أَمْ} هنا، إما متصلة معادلة للهمزة في: {أَلَمْ تَعْلَمْ} أي: ألم تعلموا أنه مالك الأمور، قادرٌ على الأشياء كلها، يأمر وينهى كما أراد... أم تعلموا وتقترحون بالسؤال كما اقترحت اليهود على موسى عليه السلام؟ وإما منقطعة- بمعنى بل- للإضراب والانتقال على حملهم على العمل بموجب علمهم بما ذكر عند ظهور بعض مخايل المساهلة منهم في ذلك، وأمارات التأثر من أقاويل الكفرة، إلى التحذير من ذلك. ومعنى الهمزة: إنكار وقوع الإرادة منهم، واستبعاده؛ لما أن قضية الإيمان وازعة عنها. وتوجيه الإنكاري إلى الإرادة- دون متعلقها- للمبالغة في إنكاره واستبعاده، ببيان أنه مما لا يصدر عن العاقل إرادته، فضلاً عن صدور نفسه، وقوله: {وَمَن يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ} أي: يختره، ويأخذه لنفسه: {بِالإِيمَانِ}. بمقابلته بدلاً منه: {فَقَدْ ضَلَّ سَوَاء السَّبِيلِ} أي: عدل عن الصراط المستقيم. جملة مستقلة مشتملة على حكم كلي أخرجت مخرج المثل جيء بها لتأكيد النهي عن الاقتراح المفهوم من قوله: {أَمْ تُرِيدُونَ} الخ، معطوفة عليه. ومعنى الآية لا تقترحوا فتضلوا وسط السبيل ويؤدي بكم الضلال إلى البعد عن المقصد، وتبديل الكفر بالإيمان. فظهر وجه ذكر قوله: {أَمْ تُرِيدُونَ} إلخ بعد قوله تعالى: {مَا نَنسَخْ}. فإن المقصود من كل منهما تثبيتهم على الآيات وتوصيتهم بالثقة بها.
قال الراغب: فإن قيل ما فائدة قوله: {وَمَن يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ} إلخ ومعلوم أنه بدون الكفر يضل الْإِنْسَاْن سواء السبيل فكيف بالكفر؟ وقيل معنى ذلك من يتبدل الكفر بالإيمان يعلم أنه قد ضل، قبلُ سواء السبيل، وفي ذلك تنبيه أن ضلاله سواء السبيل قاده إلى الكفر بعد الإيمان، ومعناه: لا تسألوا رسولكم كما سئل موسى، فتضلوا سواء السبيل فيؤدي بكم إلى تبديل الكفر بالإيمان. فمبدأ ذلك: الضلال عن سواء السبيل. ووجه آخر وهو أنه سمى معاندة الأنبياء عليهم السلام، بعد حصول ما تسكن النفس إليه كفراً؛ إذ هي مؤدية إليه، كتسمية العصير خمراً، فقال: {وَمَن يَتَبَدَّلِ} أي: يطلب تبديل: {الكفر}، أي: المعاندة التي هي مبدأ الكفر: {بالإيمان} أي: بما حصل له من الدلالة المتقضية لسكون النفس، فقد ضل سواء السبيل.
ووجه ثالث: وهو أن ذلك نهاية التبكيت لمن ظهر له الحق فعدل عنه إلى الباطل، وأنه كمن كان على وضح الطريق فتاه فيه.
ووجه رابع: وهو أن: {سَوَاء السَّبِيلِ} إشارة إلى الفطرة التي فطر الناس عليها. والإيمان إشارة إلى المكتسب من جهة الشرائع فقال: {وَمَن يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالإِيمَانِ} أي: بالإيمان المكتسب فقد أبطله، وضيّع الفطرة التي فطر الناس عليها فلا يرجى له نزوع عما هو عليه بعد ذلك.
هذا. وما قررناه في الآية من أن الخطاب للمسلمين هو ما يترجح ويكون كقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} [المائدة: 101]. ويرشحه قوله: {ومن يتبدل الكفر بالإيمان} فإن موقع خطابه إنما يتضح مع المؤمنين.
ورجح الرازي كون الخطاب مع اليهود، قال: لأن هذه السورة من أول قوله: {يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ} حكاية عنهم ومحاجة معهم ولأنه لم يجر ذكر غيرهم في السياق، وقد قص تعالى عنهم سؤال النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: {يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَن تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَاباً} الآية، وحينئذ فمعنى تبدل الكفر بالآية، وهم بمعزل من الإيمان، إعراضهم عنه، مع تمكنهم منه، وإيثارهم للكفر عليه، كما أن إضافة الرسول إليهم باعتبار أنهم من أمة الدعوة.