فصل: تفسير الآية رقم (109):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: محاسن التأويل



.تفسير الآية رقم (109):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّن بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُواْ وَاصْفَحُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [109].
{وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّن بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً} علة ودّ: {مِنْ عِندِ أَنفُسِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ} من صحة رسالة محمد صلى الله عليه وسلم بشهادة ما طابقه من التوراة: {فَاعْفُواْ وَاصْفَحُواْ} أي: أعرضوا عما يكون منهم من الجهل والعداوة فلا تجازوهم: {حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ} وهو الإذن في قتالهم وإجلائهم: {إِنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} فينتقم منهم إذا آن أوانه.

.تفسير الآية رقم (110):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُواْ لأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللّهِ إِنَّ اللّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [110].
{وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُواْ لأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ} أي: ثوابه: {عِندَ اللّهِ إِنَّ اللّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} فلا يضيع عنده عمل عامل.

.تفسير الآية رقم (111):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَقَالُواْ لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَن كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} [111].
{وَقَالُواْ} أي: أهل الكتاب من اليهود والنصارى: {لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَن كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى} نشر لما لفّته الواو في: {وقالوا}، واليهود جمع هائد، كعوذ جمع عائذ. وقرئ: {إلا من كان يهودياً أو نصرانياً} {تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ} جملة معترضة مبينة لبطلان ما قالوا. والأماني جمع أمنية وهي ما يتمنى، كالأعجوبة والأضحوكة. فإن قيل: قوله: {لن يدخل الجنة} أمنية واحدة، فلم قال: أمانيّهم؟ أجيب: بأن الجمع باعتبار صدوره عن الجميع. وأجاب صاحب الانتصاف بأنهم لشدة تمنيهم هذه الأمنية، ومعاودتهم لها وتأكيدها في نفوسهم، جمعت؛ ليفيد جمعها أنها متأكدة في قلوبهم، بالغة منهم كل مبلغ، والجمع يفيد ذلك، وإن كان مؤداه واحداً. ونظيره قوله: معي جياعٌ، فجمعوا الصفة، ومؤادها واحد؛ لأن موصوفها واحد، تأكيد لثبوتها وتمكنها.
وهذا المعنى أحد ما روي في قوله تعالى: {إِنَّ هَؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ} [الشعراء: 54] فإنه جمع: قليلاً، وقد كان الأصل إفراده فيقال: لشرذمة قليلة. كقوله تعالى: {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ} [البقرة: 249] لولا ما قصد إليه من تأكيد معنى القلة بجمعها. ووجه إفادة الجمع في مثل هذا للتأكيد، أن الجمع يفيد بوضعه الزيادة في الآحاد، فنقل إلى تأكيد الواحد، وإبانة زيادته على نظرائه، نقلاً مجازياً بديعاً، فتدبر هذا الفصل فإنه من نفائس صناعة البيان. والله الموفق: {قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ} حجتكم على اختصاصكم بدخول الجنة: {إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} في دعواكم. قال الرازي: دلت الآية على أن المدعي سواه ادعي نفياً أو إثباتاً، فلابد له من الدليل والبرهان، وذلك من أصدق الدلائل على بطلان القول بالتقليد، قال الشاعر:
مَنِ ادَّعَى شَيْئَاً بِلَا شَاْهِدٍ ** لَاْبُدَّ أَنْ تَبْطُلَ دَعْوَاْهُ

انتهى كلام الرازي. وسبقه إلى ذلك الزمخشري حيث قال: وهذا أهدم شيء لمذهب المقلدين، وإن كل قول لا دليل عليه، فهو باطل غير ثابت. انتهى.

.تفسير الآية رقم (112):

القول في تأويل قوله تعالى: {بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِندَ رَبِّهِ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} [112].
{بَلَى} إثبات لما نفوه من دخول غيرهم الجنة: {مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلّهِ} من أخلص نفسه له لا يشرك به غيره. وإنما عبر عن النفس بالوجه، لأنه أشرف الأعضاء، ومجمع المشاعر، وموضع السجود، ومظهر آثار الخضوع. أو المعنى: من أخلص توجهه وقصده، بحيث لا يلوي عزيمته إلى شيء غيره: {وَهُوَ مُحْسِنٌ} في عمله، موافق لهديه صلى الله عليه وسلم، وإلا لم يقبل، ولذا قال صلى الله عليه وسلم: «من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد» رواه مسلم {فَلَهُ أَجْرُهُ عِندَ رَبِّهِ} وهو عبارة عن دخول الجنة، وتصويره بصورة الأجر للإيذان بقوة ارتباطه بالعمل: {وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ} من لحوق مكروه: {وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} من فوات مطلوب. والجمع في الضمائر الثلاثة باعتبار معنى: {مَنْ} كما أن الإفراد في الضمائر الأول باعتبار اللفظ.

.تفسير الآية رقم (113):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَىَ شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} [113].
{وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَىَ شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ} بيان لتضليل كل فريق صاحبه بخصوصه، إثر بيان تضليله كل من عداه على وجه العموم. ومعنى: {على شيء} أي: أمر يُعتدّ به من الدين: {وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ} الواو للحال، والكتاب للجنس. أي: قالوا ذلك وحالهم أنهم من أهل العلم والتلاوة للكتب. وحق من حمل التوراة أو الإنجيل، أو غيرهما من كتب الله، وآمن به، أن لا يكفر بالباقي، لأن كل واحد من الكتابين مصدق للثاني، شاهد بصحته، وكذلك كتب الله جميعاً متواردة على تصديق بعضها بعضاً: {كَذَلِكَ} أي: مثل الذي سمعت به على ذلك المنهاج: {قَالَ} الجهلة: {الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ} لا علم عندهم ولا كتاب كعبدة الأصنام، قالوا لأهل كل دين: {مِثْلَ قَوْلِهِمْ} ليسوا على شيء. وهذا توبيخ عظيم، حيث نظموا أنفسهم، مع علمهم، في سلك من لا يعلم.
{فَاللّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} أي: يفصل بينهم بقضائه العدل، فيحكم بين المحق والمبطل فيما اختلفوا فيه، وهذه الآية كقوله تعالى في سورة الحج: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصابئينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [الحج: 17] وكما قال تعالى: {قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ} [سبأ: 26].
قال الرازي: واعلم أن هذه الواقعة بعينها قد وقعت في أمة محمد صلى الله عليه وسلم، فإن كل طائفة تكفر الأخرى. مع اتفاقهم على تلاوة القرآن. انتهى.
فها هنا تسكب العبرات بما جناه التعصب في الدين على غالب المسلمين من الترامي بالكفر، لا بسنة ولا قرآن، ولا لبيان من الله ولا لبرهان، بل لمّا غلت مراحل العصبية في الدين، تمكن الشيطان من تفريق كلمة المسلمين.
يَأْبَى الْفَتْحِ إِلَّا اتِّبَاعَ الْهَوَىْ ** وَمَنْهَجُ الْحَقِّ لَهُ وَاْضِحٌ

مع أن الله تعالى أمر بالجماعة والائتلاف، ونهى عن الفرقة والاختلاف. فقال تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا} [آل عِمْرَان: 103]. وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْء} [الأنعام: 159]. وقال تعالى: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ} [آل عِمْرَان: 105]. وقال تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} [الأنعام: 153]. وقد امتاز أهل الحق، من هذه الأمة بالسنة والجماعة، عن أهل الباطل الذين يزعمون أنهم يتبعون الكتاب ويعرضون عن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعما مضت عليه جماعة المسلمين.

.تفسير الآية رقم (114):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مَسَاجِدَ اللّهِ أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُوْلَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَن يَدْخُلُوهَا إِلاَّ خَائفِينَ لهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [114].
{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مَسَاجِدَ اللّهِ أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا} إنكار واستبعاد لأن يكون أحد أظلم ممن فعل ذلك، ولما وجّه تعالى الذم فيما سبق في حق اليهود والنصارى، ذيّله بذم المشركين في قوله: {كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ}. ثم وجّه بهذه الآية أيضاً للمشركين الذين أخرجوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه من مكة، ومنعوهم من الصلاة في المسجد الحرام، وصدوهم أيضاً عنه، حين ذهب إليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه من المدينة عام الحديبية، وكل هذا تخريب للمسجد الحرام؛ لأن منع الناس من إقامة شعائر العبادة فيه، سعى في تخريبه. وأي خراب أعظم مما فعلوا؟ أخرجوا عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه. واستحوذوا عليه بأصنامهم وأندادهم وشركهم، كما قال تعالى: {وَمَا لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} [الأنفال: 34]، وقال تعالى: {مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُواْ مَسَاجِدَ الله شَاهِدِينَ عَلَى أَنفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللّهِ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاَةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللّهَ فَعَسَى أُوْلَئِكَ أَن يَكُونُواْ مِنَ الْمُهْتَدِينَ} [التوبة: 17- 18]، وقال تعالى: {هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ} [الفتح: 25]، فإذا كان من آمن بالله واليوم الآخر... إلخ مصدوداً عنه، مطروداً منه، فأي خراب له أعظم من ذلك، والعمارة إحياء المكان وشغله بما وضع له. وليس المراد بعمارته زخرفته وإقامة صورته فقط، إنما عمارته بذكر الله فيه وإقامة شرعه فيه، ورفعة عن الدنس والشرك، وإنما أوقع المنع على المساجد، وإن كان الممنوع هو الناس لما أن المآل عائد لها، ولا يقال: كيف قيل مساجد والمراد المسجد الحرام فقط؟ لأنه لا بأس أن يجيء الحكم عاماً، وإن كان السبب خاصاً، كما تقول لمن آذى صالحاً واحداً: ومن أظلم ممن آذى الصالحين؟ وكما قال تعالى: {وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ} [الهمزة: 1]، والمنزول فيه واحد.
وقوله: {أُوْلَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَن يَدْخُلُوهَا إِلاَّ خَائفِينَ} هذا بشارة من الله للمسلمين بأنه سيظهرهم على المسجد الحرام، ويذل لهم المشركين، حتى لا يدخل المسجد الحرام واحد منهم إلا خائفاً، يخاف أن يؤخذ فيعاقب، أو يقتل إن لم يُسلم، وقد أنجز الله صدق هذا الوعد فمنعهم من دخول المسجد الحرام، ونادى فيهم عامَ حجَّ أبو بكر رضي الله عنه: «ألا لا يحجن بعد العام مشرك». فحج النبي صلى الله عليه وسلم من العام الثاني ظاهراً على المسجد الحرام، لا يجترئ أحد من المشركين أن يحج، ويدخل المسجد الحرام.
وهذا هو الخزي لهم في الدنيا، المشار إليه بقوله تعالى: {لهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ} لأن الجزاء من جنس العمل، فكما صدوا المؤمنين صُدُّواً عنه: {وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} وهو عذاب النار لما انتهكوا من حرمة البيت وامتهنوه، من نصب الأصنام حوله، ودعاء غير الله، والطواف به عرياً، وغير ذلك من أفاعيلهم التي يكرهها الله ورسوله.
وفي الآية وجه آخر وهو أن الآية في ذم اليهود، تبعاً للسابق واللاحق، وما جنوه بكفرهم على بيت المقدس من خرابه وتسليط عدوّهم عليهم حتى خربه ودمر مدينتهم، وقتل وسبى منهم، وأسرهم وبقوا في الأسر البابلي سبعين سنة، كل ذلك كان برفضهم كتاب الله، والعمل بشريعته.
وفي قوله تعالى: {أُوْلَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَن يَدْخُلُوهَا إِلاَّ خَائفِينَ} إشارة إلى رجوعهم إليه بعد الأسر على تخوف من العدو ومذلة لصقت بهم، وهو وجه وجيه؛ لأن لفظ: سعى، يرشد إلى ذلك، كما أن مفهومها يشعر بذم القائمين على الخراب بالأولى وهم النصارى، حينما تمكنت سلطتهم انتقاماً من أعدائهم اليهود.
روى ابن جرير عن مجاهد، قال في الآية: هم النصارى كانوا يطرحون في بيت المقدس الأذى، ويمنعون الناس أن يصلوا فيه. وقال قتادة: حملهم بغض اليهود على أن أعانوا بختنصر البابلي المجوسي على تخريب بيت المقدس، وتدل على أن أماكن العبادة تصان وتحترم؛ لأنها المدرسة العامة التي تتلى فيها الحكم والأحكام، والإرشاد إلى سبل السلام.
وقد ورد الحديث بالاستعاذة من خزي الدنيا وعذاب الآخرة، فيما رواه الإمام أحمد عن بُسر بن أرطاة قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو: «اللهم أحسن عاقبتنا في الأمور كلها، وأجرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة».
قال الحافظ ابن كثير: وهذا حديث حسن، وليس في شيء من الكتب الستة، وليس لصحابه، وهو بسر بن أرطاة، ويقال ابن أبي أرطاة حديث سواه، وسوى حديث: «لا تقطع الأيدي في الغزو».

.تفسير الآية رقم (115):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَلِلّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللّهِ إِنَّ اللّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [115].
{وَلِلّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللّهِ إِنَّ اللّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} بيان لشمول ملكوته لجميع الآفاق، المتسبب عنه سعة علمه. وفي ذلك تحذير من المعاصي وزجر عن ارتكابها. وقوله تعالى: {إِنَّ اللّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} نظير قوله: {إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ} [الرحمن: 33]، وكقوله تعالى: {هُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} [الحديد: 4] وقوله: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ} [المجادلة: 7]، وقوله: {رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً} [غافر: 7]، أي: عمّ كل شيء بعلمه وتدبيره وإحاطته به وعلوه عليه.

.تفسير الآية رقم (116):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَقَالُواْ اتَّخَذَ اللّهُ وَلَداً سُبْحَانَهُ بَل لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ} [116].
{وَقَالُواْ اتَّخَذَ اللّهُ وَلَداً سُبْحَانَهُ بَل لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ} يريد الذين قالوا المسيح ابن الله، وعزيرٌ ابن الله، والملائكة بنات الله، فأكذب الله تعالى جميعهم في دعواهم وقولهم: إن لله ولداً، فقال: {سبحانه} أي: تقدس وتنزه عما زعموا تنزهاً بليغاً. وكلمة: {بل} للإضراب عما تقتضيه مقالتهم الباطلة من مجانسته سبحانه وتعالى لشيء من المخلوقات. أي: ليس الأمر كما زعموا، بل هو خالق جميع الموجودات التي من جملتها عزير والمسيح والملائكة، والتنوين في: {كلٌّ} عوض عن المضاف إليه. أي: كل ما فيهما، كائناً ما كان من أولي العلم وغيرهم: {لَّهُ قَانِتُونَ} منقادون، لا يستعصي شيء منهم على تكوينه وتقديره ومشيئته، ومن كان هذا شأنه لم يتصور مجانسته لشيء، ومن حق الولد أن يكون من جنس الوالد.
قال الراغب في تفسيره: نبه على أقوى حجة على نفي ذلك، وبيانها: هو أن لكل موجود في العالم، مخلوقاً طبيعياً، أو معمولاً صناعياً، غرضاً وكمالاً أوجد لأجله، وإن كان قد يصلح لغيره على سبيل العرض، كاليد للبطش، والرجل للمشي، والسكين لقطع مخصوص، والمنشار للنشر، وإن كانت اليد قد تصلح للمشي في حالٍ، والرجل للتناول، لكن ليس على التمام.
والغرض في الولد للإنسان إنما هو لأن يبقى به نوعه، وجزء منه، لَمّا لم يجعل الله له سبيلاً إلى بقائه بشخصه، فجعل له بذراً لحفظ نوعه. ويقوي ذلك، أنه لم يجعل للشمس والقمر وسائر الأجرام السماوية بذراً واستخلافاً، لمّا لم يجعل لها فناء النبات والحيوان.
ولما كان الله تعالى هو الباقي الدائم، بلا ابتداء ولا انتهاء، لم يكن لاتخاذه الولد لنفسه معنى، ولهذا قال: {سُبْحَانَهُ أَن يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ} أي: هو منزه عن السبب المقتضي للولد. ثم لما كان اقتناء الولد لفقرٍ ما، وذلك لما تقدم، أن الْإِنْسَاْن افتقر إلى نسل يخلقه لكونه غير كامل إلى نفسه- بيّن تعالى بقوله: {لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} أنه لا يتوهم له فقر، فيحتاج إلى اتخاذ ما هو سد لفقره، فصار في قوله: {له ما في السماوات والأرض} دلالة ثانية، ثم زاد حجة بقوله: {قانتون} وهو أنه لما كان الولد يعتقد فيه خدمة الأب، ومظاهرته كما قال: {وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَة} [النحل: 72] بيّن أن كل ما في السماوات والأرض، مع كونه ملكاً له، قانتاً أيضاً، إما طائعاً، وإما كارهاً، وإما مسخراً. كقوله: {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً} [الرعد: 15]، وقوله: {إِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ} [الإسراء: 44] وهذا أبلغ حجة لمن هو على المحجة.
ثم قال الراغب: إن قيل من أين وقع لهم الشبهة في نسبة الولد إلى الله تعالى؟ قيل قد ذكر في الشرائع المتقدمة: كانوا يطلقون على البارئ تعالى اسم الأب وعلى الكبير منهم اسم الإله، حتى إنهم قالوا: إن الأب هو الرب الأصغر، وإن الله هو الأب الأكبر، وكانوا يريدون بذلك أنه تعالى هو السبب الأول في وجود الْإِنْسَاْن، وإن الأب هو السبب الأخير في وجوده، وإن الأب هو معبود الابن من وجه أي: مخدومه. وكانوا يقولون للملائكة: آلهة. كما قالت العرب للشمس: إلاهة، وكانوا يقصدون معنى صحيحاً كما يقصد علمائنا بقولهم: الله محب ومحبوب، ومريد ومراد ونحو ذلك من الألفاظ. كما يقال للسلطان: الملك، وقولُ الناس: رب الأرباب وإله الآلهة وملك الملوك، مما يكشف عن تقدم ذلك التعارف، ويقوي ذلك ما يروى أن يعقوب كان يقال له بكر الله، وأن عيسى كان يقول: أنا ذاهب إلى أبي. ونحو ذلك من الألفاظ، ثم تصور الجهلة منهم بآخرة: معنى الولادة الطبيعية. فصار ذلك منهياً عن التفوه به في شرعنا، تنزهاً عن هذا الاعتقاد، حتى صار إطلاقه، وإن قصد به ما قصده هؤلاء، قرين الكفر. اه- كلام الراغب رحمه الله.