فصل: تفسير الآية رقم (137):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: محاسن التأويل



.تفسير الآية رقم (137):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُواْ يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائيلَ بِمَا صَبَرُواْ وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُواْ يَعْرِشُونَ} [137].
{وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُواْ يُسْتَضْعَفُونَ} أي: بالإستعباد وقتل الأبناء، وفي التعبير عنهم بهذا، إظهار لكمال لطفه تعالى بهم، وعظيم إحسانه إليهم، وفي رفعهم من حضيض المذلة إلى أوج العزة.
{مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا} أي: الأرض المقدسة، أي: جوانبها الشرقية والغربية، حيث ملكها بنو إسرائيل بعد الفراعنة والعمالقة، وتصرفوا في أكنافها حيث شاءوا.
وقوله تعالى: {الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا} أي: بالخصب وسعة الأرزاق.
{وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائيلَ} أي: مضت واستمرت عليهم، وهي وعده إياهم بالنصر والتمكين.
{بِمَا صَبَرُواْ} أي: بسبب صبرهم على الشدائد التي كابدوها من فرعون وقومه.
قال الزمخشري: وحسبك به حاثّاً على الصبر، ودالاً على أن من قابل البلاء بالجزع، وكله الله إليه، ومن قابله بالصبر وانتظار النصر، ضمن الله له الفرج.
وعن الحسن: عجبت ممن خفّ كيف خفّ، وقد سمع قوله تعالى- وتلا الآية- ومعنى خفّ طاش جزعاً وقلة صبر، ولم يرزن أولي الصبر.
{وَدَمَّرْنَا} أي: خربنا وأهلكنا: {مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ} أي: ما كانوا يعملون ويسووّن من العمارات وبناء القصور: {وَمَا كَانُواْ يَعْرِشُونَ} بكسر الراء وضمها، أي: من الجنات.
أو ما كانوا يرفعون من الأبنية المشيدة في السماء، كصرح هامان، وهذا كما قال تعالى: {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ}، وقال تعالى: {كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْماً آخَرِينَ}.
قال الزمخشري: وهذا آخر ما اقتص الله من نبأ فرعون والقبط، وتكذيبهم بآيات الله، وظلمهم ومعاصيهم، ثم أتبعه اقتصاص نبأ إسرائيل، وما أحدثوه بعد إنقاذهم من مُلكَةِ فرعون واستعباده، ومعاينتهم الآيات العظام، ومجاوزتهم البحر من عبادة البقر، وطلب رؤية الله جهرة، وغير ذلك من أنواع الكفر والعاصي، ليعلم حال الْإِنْسَاْن وأنه كما وصفه: {لَظَلُومٌ كَفَّارٌ}، جهول كنود، إلا من عصمه الله: {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ}، وليسلي رسول الله صلى الله عليه وسلم مما أري من بني إسرائيل بالمدينة، فقال تعالى:

.تفسير الآية رقم (138):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْاْ عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَّهُمْ قَالُواْ يَا مُوسَى اجْعَل لَّنَا إِلَهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} [138].
{وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائيلَ الْبَحْرَ} أي: الذي أغرق فيه أعداءهم، وهو بحر القلزم كقنفذ، بلد كان في شرقي مصر، قرب جبل الطور، أضيف إليه، لأنه على طرفه، ويعرف البلد الآن بالسويس، ومن زعم أن البحر هو نيل مصر، فقد أخطأ، كما في العناية.
{فَأَتَوْاْ عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ} قرئ بضم الكاف وكسرها، {عَلَى أَصْنَامٍ لَّهُمْ} أي: يواظبون على عبادتها ويلازمونها {قَالُواْ يَا مُوسَى اجْعَل لَّنَا إِلَهاً} أي: صنماً نعكف عليه: {كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} أي: أصنام يعكفون عليها: {قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} أي: شأن الألوهية وعظمتها، وأنه لا يستحقها إلا الله وحده.
قال البغوي رحمه الله: ولم يكن ذلك شكاً من بني إسرائيل في وحدانية الله تعالى، وإنما معناه: اجعل لنا شيئاً نعظمه، ونتقرب بتعظيمه إلى الله تعالى، وظنوا أن ذلك لا يضر بالديانة، وكان ذلك لشدة جهلهم. انتهى.

.تفسير الآية رقم (139):

القول في تأويل قوله تعالى: {إِنَّ هَؤُلاء مُتَبَّرٌ مَّا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} [139].
{إِنَّ هَؤُلاء} يعني عَبْدة تلك التماثيل {مُتَبَّرٌ} أي: مهلك.
{مَّا هُمْ فِيهِ} أي: من الشرك {وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} أي: عبادة الأصنام، وإن كان قصدهم بذلك التقرب إلى الله تعالى، فإنه كفر محض.
قال الرازي: أجمع كل الأنبياء، عليهم السلام، على أن عبادة غير الله تعالى كفر، سواء اعتقد في ذلك الغير كونه إلهاً للعالم، أو اعتقد أن عبادته تقرب إلى الله تعالى، لأن العبادة نهاية التعظيم، فلا تليق إلا بمن يصدر منه غاية الإنعام، وهي بخلق الجسم والحياة والشهوة والقدرة والعقل وخلق الأشياء المنتفع بها.
والقادر على هذه الأشياء ليس إلا الله تعالى، فوجب أن لا تليق العبادة إلا به. انتهى.
وعن أبي واقد الليثي رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما خرج إلى غزوة حنين مر بشجرة للمشركين كانوا يعلقون عليها أسلحتهم يقال لها ذات أنواط، فقالوا: يا رسول الله! اجعل لنا ذات أنواط، كما لهم ذات أنواط. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «سبحان الله! هذا كما قال قوم موسى: {اجْعَلْ لَنَا إِلَهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَة} والذي نفسي بيده! لتركبن سنن من كان قبلكم»- أخرجه الإمام أحمد والترمذي وابن جرير وغيرهم-.
وقال الإمام أبو بكر الطرطوشي المالكي: انظروا رحمكم الله أينما وجدتم سدرة أو شجرة يقصدها الناس، فيعظمونها ويرجون البرء والشفاء من قبلها، ويضربون بها المسامير والخرق، فهي ذات أنواط، فاقطعوها.
وقال الحافظ أبو شامة الشافعي الدمشقي في كتاب البدع والحوادث: وقد عم الإبتلاء بتزيين الشيطان للعامة تخليق الحيطان والعمد، فيفعلون ذلك ويحافظون عليه، مع تضييعهم فرائض الله وسننه، ويظنون أنهم متقربون بذلك، ثم يتجاوزون هذا إلى أن يعظم وقع تلك الأماكن في قلوبهم، فيعظمونها، ويرجون الشفاء لمرضاهم، وقضاء حوائجهم، وبالنذر لها، هي من بين عيون وشجر وحائط وحجر.
ثم شرح شجرة مخصوصة فقال: ما أشبهها بذات أنواط، التي في الحديث.
وروى ابن وضاح في كتابه قال: سمعت عيسى بن يونس يقول: أمر عُمَر بن الخطاب رضي الله عنه بقطع الشجرة التي بويع تحتها النبي صلى الله عليه وسلم فقطعت، لأن الناس كانوا يذهبون فيصلون تحتها، فخاف عليهم الفتنة. ولهذا البحث تتمة مهمة في إغاثة اللهفان لابن القيم. فلتنظر.

.تفسير الآية رقم (140):

القول في تأويل قوله تعالى: {قَالَ أَغَيْرَ اللّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهاً وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ} [140].
{قَالَ} أي: موسى، مذكراً لقومه نعمه تعالى عليهم، الموجبة لتخصيصه تعالى بالعبادة: {أَغَيْرَ اللّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهاً} أي: أطلب لكم معبوداً. يقال: أبغاه الشيء طلبه له، كبغاه إياه، يتعدى إلى مفعولين، وليس من باب الحذف والإيصال.
وفي الحديث: أبغني أحجاراً أستطيب بها، بهمزة القطع والوصل. وقال الشاعر:
وكم آمل من ذي غنى وقرابة ** لتبغيه خيراً وليس بفاعل

والإستفهام في الآية للإنكار والتعجب والتوبيخ: {وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ} أي: والحال، أنه تعالى خصكم بنعم لم يعطها غيركم.

.تفسير الآية رقم (141):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَإِذْ أَنجَيْنَاكُم مِّنْ آلِ فِرْعَونَ يَسُومُونَكُمْ سُوَءَ الْعَذَابِ يُقَتِّلُونَ أَبْنَاءكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءكُمْ وَفِي ذَلِكُم بَلاء مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ} [141].
{وَإِذْ أَنجَيْنَاكُم مِّنْ آلِ فِرْعَونَ} أي: من فرعون وقوم.
{يَسُومُونَكُمْ سُوَءَ الْعَذَابِ} أي: يكلفونكم إياه، أو يولونكم إياه، يقال: سامه الأمر يسومه، كلفه إياه وجشمه وألزمه. أو أولاه إياه: {يُقَتِّلُونَ أَبْنَاءكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءكُمْ وَفِي ذَلِكُم بَلاء مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ} أي: فنجاكم منه وحده، من غير شفاعة أحد.
تنبيه:
قال الجشمي: تدل الآية على أن هلاك الأعداء نعمة من الله يجب مقابلتها بالشكر. وتدل على أن المحن في الأولاد والأهل بمنزلة المحن في النفس، ويجري مجراه. انتهى.

.تفسير الآية رقم (142):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاَثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقَالَ مُوسَى لأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلاَ تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ} [142].
{وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاَثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً}.
روي أن بني إسرائيل لما خرجوا من مصر، نزلوا في برّية طور سيناء، وكانت مدة خروجهم إلى أن نزلوا شهراً ونصفاً. ولما نزلوا تلقاء الجبل، صعد موسى إليه وسمع كلامه تعالى وأوامره ووصاياه... ثم انحدر موسى إلى قومه، وأعلمهم بما أمروا به، وصاروا يشاهدون على الجبل ضباباً، وصوت رعود، وبروقاً، ثم أمر تعالى موسى أن يصعد إلى الجبل ليؤتيه الشرائع التي كتبها على قومه، فصعد موسى الجبل، وكان مغطى بالغمام، فدخل موسى في وسط الغمام وأقام في الجبل أربعين يوماً، لم يأكل ولم يشرب، لما أُمد من القوة الروحانية، والتجليات القدسية، وأُوتي في برهتها الألواح التي كتبت فيها شرائعهم، ولما رجع إلى قومه، كان على وجهه أشعة نور مدهشة، فخافوا من الدنو منه، فجعل على وجهه برقعاً، فكان إذا صعد الجبل للمناجاة، رفعه، وإذا أتاهم وضعه. والله أعلم.
{وَقَالَ مُوسَى لأَخِيهِ هَارُونَ} أي: حين توجه للمناجاة، {اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي} أي: كن خليفتي فيهم: {وَأَصْلِحْ وَلاَ تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ} أي: لا تتبع من سلك الإفساد ولا تطع من دعاك إليه.
تنبيه:
قال الجشمي: تدل الآية على أنه استخلف هارون عند خروجه لما رأى أنهم أشد طاعة له، وأكثر قبولاً منه، ومخاطبات موسى عليه السلام لهارون وجوابه له كقوله: {أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي}، كل ذلك كالدال على أن موسى كان يختص بنوع من الولاية وإن اشتركا في النبوة.
والظاهر أنه استخلفه إلى أن يرجع لأنه المعقول من الإستخلاف عند الغيبة.
وتدل على أنه يجوز أن ينهاه عن شيء يعلم أنه لا يفعله، ويأمره بما يعلم أن سيفعله، عظة له واعتباراً لغيره، وتأكيداً ومصلحة للجميع. انتهى.

.تفسير الآية رقم (143):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَلَمَّا جَاء مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَن تَرَانِي وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاً وَخَرَّ موسَى صَعِقاً فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ} [143].
{وَلَمَّا جَاء مُوسَى لِمِيقَاتِنَا} أي: حضر الجبل لوقتنا الذي وقتنا له وحددنا.
{وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ} أي: خاطبه من غير واسطة ملك {قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَن تَرَانِي وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي} أي: لن تطيق رؤيتي، لأن هذه البنية الآدمية في هذه النشأة الدنيوية، ولا طاقة لها بذلك، لعدم استعدادها له، بل ما هو أكبر جرماً، وأشد خلقاً وصلابة- وهو الجبل- لا يثبت لذلك، بل يندك، ولذا قال تعالى: {انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ} أي: الذي هو أقوى منك.
{فإِنِ اسْتَقَرَّ} أي: ثبت مكانه، حين أتجلى له، ولم يتزلزل: {فَسَوْفَ تَرَانِي}، أي: تثبت لرؤيتي إذا تجليت عليك، وإلا فلا طاقة.
وفيه من التلطيف بموسى والتكريم له، والتنزل القدسي ما لا يخفى.
{فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ} أي: ظهر له وبان- قاله الزجاج-.
{جَعَلَهُ} أي: التجلي: {دَكّاً} أي: مفتتاً، فلم يستقر مكانه. فنبه تعالى على أن الجبل، مع شدته وصلابته، إذا لم يستقر، فالآدمي مع ضعف بنيته أولى بأن لا يستقر، وفيه تسكين لفؤاد موسى، بأن المانع من الإنكشاف الإشفاق عليه، وأما أن المانع محالية الرؤية، فليس في القرآن إشارة إليه.
{وَخَرَّ} أي: وقع: {موسَى صَعِقاً} أي: مغشياً عليه من هول ما رأى.
{فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ} أي: من الإقدام على سؤالي الرؤية {وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ} أي: بأنه لا يستقر لرؤيتك أحد في هذه النشأة.
قال في الإنتصاف: إنما سبح موسى عليه السلام لما تبين له من أن العمل قد سبق بعدم وقوع الرؤية في الدنيا، والله تعالى مقدس عن وقوع خلاف معلومه، وعن الخلف في خبره الحق وقوله الصدق، فلما تبين أن مطلوبه كان خلاف المعلوم، سبح الله، وقدس علمه وخبره عن الخلف.
وأما التوبة في حق الأنبياء فلا تستلزم كونها عن ذنب، لأن منصبهم الجليل ينبغي أن يكون منزهاً مبرأًَ من كل ما ينحط به، ولا شك أن التوقف في سؤال الرؤية على الإذن كان أكمل. وقد ورد: سيئات المقربين، حسنات الأبرار.
تنبيه:
قالا متكلمون: دلت الآية على جواز رؤيته تعالى من وجهين:
الأول: أن سؤال موسى عليه السلام الرؤية يدل على إمكانها، لأن العاقل، وفضلاً عن النبي صلى الله عليه وسلم، لا يطلب المحال، ولا مجال للقول بجهل موسى عليه السلام بالإستحالة، فإن الجاهل بما لا يجوز على الله، لا يصلح للنبوة، إذ الغرض من النبوة هداية الخلق إلى العقائد الحقة، والأعمال الصالحة، ولا ريب في نبوة موسى عيه السلام، وأنه من أولي العزم.
الثاني: أنه تعالى علق الرؤية على استقرار الجبل، وهو أمر ممكن في نفسه والمعلق على الممكن ممكن، لأن معنى التعليق الإخبار بوقوع المعلق عند وقوع المعلق به، والمحال لا يثبت على شيء من التقادير الممكنة.
وأما زعم المعتزلة أن الرؤية مجاز عن العلم الضروري، فمعنى قوله: {أرِنِي} أي: اجعلني عالماً بك علماً ضرورياً خلاف ظاهر. فإن النظر الموصول بإلى نص في الرؤية البصرية فلا يترك بالإحتمال، مع أن طلب العلم الضروري لمن يخاطبه ويناجيه غير معقول.
وكذا زعمهم أن موسى عليه السلام، كان سألها لقومه حيث قالوا: {لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً}، فسأل ليعلموا امتناعها، فإنه خلاف الظاهر، وتكلف يذهب رونق النظم، فترده ألفاظ الآية. وقد ثبت وقوع رؤيته تعالى في الآخرة، بالكتاب والسنة، أما الكتاب فلقوله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَة إلى ربِّهاَ ناظِرةٌ}، وأما السنة فلا تحصى أحاديثها ولكن إذا أصيب أحد بداء المكابرة في الحق الصراح، عسر إقناعه مهما قوي الدليل وعظمت الحجة.
قال في فتح البيان: رؤيته تعالى في الآخرة، ثبتت بها الأحاديث المتواترة تواتراً لا يخفى على من يعرف السنة المطهرة، والجدال في مثل هذا والمراوغة لا تأتي بفائدة. ومنهج الحق واضح، ولكن الإعتقاد لمذهب نشأ الْإِنْسَاْن عليه، وأدرك عليه أباه، وأهل بلده، مع عدم التنبه لما هو المطلوب من العباد من هذه الشريعة المطهرة يوقع في التعصب. والمتعصب، وإن كان بصره صحيحاً، فبصيرته عمياء، وأذنه عن سماع الحق صماء، يدفع الحق وهو يظن أنه ما دفع غير الباطل، ويحسب أن ما نشأ عليه هو الحق، غفلة منه، وجهلاً بما أوجبه الله عليه من النظر الصحيح، وتلقى ما جاء به الكتاب والسنة بالإذعان والتسليم، وما أقل المنصفين بعد ظهور هذه المذاهب في الأصول والفروع، فإنه صار بها باب الحق مرتجاً، وطريق الإنصاف مستوعرة، والأمر لله سبحانه والهداية:
يأبى الفتى إلا اتّباعَ الهوى** ومَنْهَجُ الحقِّ له واضِحُ

انتهى.
وهذا تعريض بالمعتزلة، وفي مقدمتهم الزمخشري، وقد انتقل- عفا الله عنه- أخيراً إلى هجاء أهل السنة بما أنشده:
لجماعة سموا هواهم سنة ** وجماعة حمر لعمري موكفه

قد شَبَّهُوهُ بِخَلْقِهِ وتَخَوَّفُوا ** شُنْعَ الورى فَتَسَتَّرُوا بِالْبَلْكَفَهْ

والبلكفة نحتٌ، كالبسملة، أي: بقولهم: بَلا كَيْفَ.
قال في الإنتصاف: ولولا الإستنان بحسان بن ثابت الأنصاري، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وشاعره، والمنافح عنه، وروح القدس معه، لقلنا لهؤلاء المتلقبين بالعدلية وبالناجين سلاماً، ولكن كما نافح حسان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعداءه، فنحن ننافح عن أصحاب سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أعداءهم، فنقول:
وجماعةٌ كفروا برؤية ربِّهم ** حقاً ووعدُ الله ما لن يُخلفَهْ

وتلقَّبوا عدليَّة قلنا: أجل ** عدلوا بربهم فحسبهمو سفَهْ

وتلقَّبوا الناجين كلاَّ إنهم ** إن لم يكونوا في لظى فَعلَى شفَهْ

وقال أبو حيان في الرد عليه:
شبهت جهلاً صدر أمة أحمدٍ ** وذوي البصائر بالحمير المُوكَفَهْ

وجب الخسار عليك فانظر ** منصفاً في آية الأعراف فهي المنصفهْ

أتُرى الكليم أتى بجهلٍ ما أتى ** وأتى شيوخك ما أتوا عن معرفهْ

إن الوجوه إليه ناظرةٌ بذا ** جاء الكتاب فقلتم: هذا سفهْ

نطق الكتاب وأنت تنطق بالهوى ** فهوى الهوى بك في المهاوي المتلفهْ

وقال العلامة الجاربردي:
عجباً لقوم ظالمين تستَّروا ** بالعدل ما فيهم لعمري معرفهْ

قد جاءهم من حيث لا يدرونه** تعطيل ذات الله مع نفي الصِّفهْ

وقد ساق السبكي في طبقاته في ترجمة الجاربردي عدة قصائد ومقاطيع في الرد عليه، ثم ذكر الله تعالى أن خاطب موسى باصطفائه، بقوله سبحانه: