فصل: تفسير الآية رقم (144):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: محاسن التأويل



.تفسير الآية رقم (144):

القول في تأويل قوله تعالى: {قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاَتِي وَبِكَلاَمِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُن مِّنَ الشَّاكِرِينَ} [144].
{قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ} أي: اخترتك على أهل زمانك، وآثرتك عليهم {بِرِسَالاَتِي وَبِكَلاَمِي}
أي: وبتكليمي إياك: {فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ} أي: ما أعطيتك من شرف النبوة والمناجاة: {وَكُن مِّنَ الشَّاكِرِينَ} أي: على النعمة في ذلك.

.تفسير الآية رقم (145):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الأَلْوَاحِ مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِّكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُواْ بِأَحْسَنِهَا سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ} [145].
{وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الأَلْوَاحِ مِن كُلِّ شَيْءٍ} من الحال والحرام.
{فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ} أي: بعزم على العمل بما فيها: {وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُواْ بِأَحْسَنِهَا} أي: بما أروا به دون ما نهوا عنه {سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ} وهي الأرض التي وعدوا بها من فلسطين، فإنهم لم يعطوها إلا بعد أربعين سنة من خروجهم من مصر وبقائهم في البرية.
فإن موسى عليه السلام لما مات، خلفه يشوع بن نون، فحارب الأمم والملوك الذين كانوا يسكنون أرض كنعان، وفتح بلادهم، وصارت ملكة للإسرائيليين.
تنبيه:
قال الجشمي: تدل الآية على حدوث كلامه، لأن قوله:
{اصْطَفَيْتُكَ} أي: اختصصتك به، ولو كان قديماً لكان موسى وغيره سواء، ولما صح الإختصاص، ويدل قوله:
{وَكَتَبْنا} أنه أعطاه التوراة مكتوبة في الألواح عند الميقات، لتكون محروسة، وليبلغه الحاضرون إلى الباقين، ليقع لهم العلم ضرورة.
ويدل على أن في التوراة شرائع، وجميع ما يحتاج إليه. ويدل قوله: {بِقُوَّةٍ} أن العبد قادر على الفعل قبل الفعل، وأنه يفعل بقدرة. انتهى.

.تفسير الآية رقم (146):

القول في تأويل قوله تعالى: {سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِن يَرَوْاْ كُلَّ آيَةٍ لاَّ يُؤْمِنُواْ بِهَا وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الرُّشْدِ لاَ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَكَانُواْ عَنْهَا غَافِلِينَ} [146].
{سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ} أي: سأمنع فهم الحج والأدلة الدالة على عظمتي وشريعتي وأحكامي، قلوب المتكبرين عن طاعتي، والمتكبرين على الناس، أي: فكما استكبروا أذلهم الله بالجهل، كقوله تعالى: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ}، وقوله تعالى: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُم}، وقوله تعالى: {بِغَيْرِ الْحَقِّ} إما صلة للفعل، أي:
يتكبرون بما ليس بحق، وهو دينهم الباطل، أو حال من فاعله، أي: يتكبرون غير محقين.
{وَإِن يَرَوْاْ كُلَّ آيَةٍ} أي: حجة من الآيات والحجج المنزلة عليهم.
{لاَّ يُؤْمِنُواْ بِهَا} تكبراً عليها {وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الرُّشْدِ} يعني طريق الحق والهدى والإستقامة واضحاً ظاهراً {لاَ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً} لمنافاته أهويتهم {وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الْغَيِّ}
أي: الضلال عن الحق والهلاك {يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً} أي: طريقاً يميلون إليه {ذَلِكَ} أي: الصرف عن الآيات، أو اتخاذهم الغي سبيلاً.
{بِأَنَّهُمْ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَكَانُواْ عَنْهَا غَافِلِينَ} أي: لاهين لا يتفكرون فيها، ولا يتعظون بها، أو غافلين عما ينزل بهم من مخافة الرسل، ثم بين وعيد المكذبين بقوله:

.تفسير الآية رقم (147):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَلِقَاء الآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} [147].
{وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَلِقَاء الآخِرَةِ} أي: القيامة، وهي الكرة الثانية، سميت آخرة لتأخرها عن الدنيا، {حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ} أي: بطلت: فلم تعقب نفعاً، والمراد جزاء أعمالهم، لأن الحابط إنما يصح في المنتظر، دون ما تقضى، وهذا كقوله: {لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ}.
{هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} أي: إلا جزاء علمه من الكفر والمعاصي.
تنبيه:
ذهب بعضهم إلى أن قوله تعالى: {سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِي} الخ، كلام مع قوم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو متصل بما سبق من قصصهم، وهو: {أوَ لَمْ يَهْدِ} الخ.
وإيراد قصة موسى وفرعون للإعتبار.
وقال الكعبي وأبو مسلم الأصفهاني: إن هذا الكلام تمام لما وعد الله موسى عليه السلام به من إهلاك أعدائه، ومعنى صرفهم إهلاكهم، فلا يقدرون على منع موسى من تبليغها، ولا على منع المؤمنين من الإيمان بها، وهو شبيه بقوله:
{بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ}، فأراد تعالى أن يمنع أعداء موسى عليه السلام من إيذائه، ومنعه من القيام بما يلزمه في تبليغ النبوة والرسالة. انتهى. والله أعلم.

.تفسير الآية رقم (148):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِن بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَداً لَّهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّهُ لاَ يُكَلِّمُهُمْ وَلاَ يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً اتَّخَذُوهُ وَكَانُواْ ظَالِمِينَ} [148].
{وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِن بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَداً لَّهُ خُوَارٌ} يخبر تعالى عن ضلال من ضل من بين إسرائيل، في عبادتهم العجل الذي اتخذه لهم السامري من حلي القبط، الذي كانوا استعاروه منهم، فشكل لهم منه عجلاً، جسداً لا روح فيه، وقد احتال بإدخال الريح فيه، حتى صار يسمع له خوار، أي: صوت كصوت البقر، وإنما أضاف الصوت إليه، لأنه كان محله عند دخول الريح جوفه، وكان هذا منهم بعد ذهاب موسى لميقات ربه تعالى وأعلمه الله تعالى بذلك وهو على الطور، حيث يقول إخباراً عن نفسه الكريمة: {فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ}.
لطائف:
قال الزمخشري: فإن قلت: لم قيل: {واتَّخَذَ قَوْمُ مُوسى عِجْلاً} والمتخذ هو السامري؟
قلت: فيه وجهان:
أحدهما: أن ينسب الفعل إليهم، لأن رجلاً منهم باشره، ووُجد فيما بين ظهرانيهم، كما يقال: بنو تميم قالوا كذا وفعلوا كذا والقائل والفاعل واحد. ولأنهم كانوا مريدين لاتخاذه، راضين له، فكأنهم أجمعوا عليه.
والثاني: أن يراد: واتخذوه إلهاً وعبدوه.
فإن قلت: لم قال: {مِنْ حُلِّيِهِمْ} ولم يكن الحلي لهم، إنما كانت عواري في أيديهم؟
قلت: الإضافة تكون بأدنى ملابسة وكونها في أيديهم عواري، كفى به ملابسة، على أنهم قد ملكوها بعد المُهلكين، كما قال تعالى: {وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرائيلَ}. انتهى.
قال النسفي: وفيه دليل على أن من حلف أن لا يدخل دار فلان، فدخل داراً استعارها يحنث، وأن الإستيلاء على أموال الكفار يوجب زوال ملكهم عنها. انتهى.
والحُليُّ بضم الحاء والتشديد، جمع حَلْي بفتح فسكون، كثَدْي وثُدِيّ، وهو اسم لما يتحسن به من الذهب والفضة.
وقوله تعالى: {أَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّهُ لاَ يُكَلِّمُهُمْ وَلاَ يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً} تقريع على فرط ضلالهم وإخلالهم بالنظر، والمعنى: ألم يروا، حين اتخذوه إلهاً، أنه لا يقدر على كلام، ولا على إرشاد سبيل، كآحاد البشر؟ فهو جماد لا ينفع ولا يضر، فكيف يكون إلهاً؟
وقوله تعالى: {اتَّخَذُوهُ} تكرير لتأكيد الذم، أي: اتخذوه إلهاً وعبدوه {وَكَانُواْ ظَالِمِينَ} أي: واضعين الأشياء في غير مواضعها، والجملة إما استئنافية، أو اعتراض تذييلي للإخبار بأن ذلك دأبهم وعادتهم قبل ذلك، فلا ينكر هذا منهم. أو حالية، أي: اتخذوه في هذه الحالة المستقرة لهم.
تنبيه:
قال الجشمي: تدل الآية على صحة الحجاج في الدين، وأنه تعالى دلهم، في بطلان اتخاذ العجل إلهاً، بأنه لا يتكلم ولا يهدي، وإنما ذكر الكلام لأن الخوار تنفد فيه الحيلة، ولا تنفد في الكلام.
وتدل على أن إزالة الشبه في الدين واجب، كما أزالها الله تعالى، وتدل على أن القوم كانوا جهالاً غير عارفين حقيقة الأشياء، لذلك عبدوا العجل، وتدل على أن تلك الحلي كانت ملكاً لبني إسرائيل، لذلك قال: {حُلِّيِهِمْ}، فإن ثبت أنهم استعاروه، فيدل على زوال ملكهم، وانتقال الملك إلى بني إسرائيل، كما تملك أموال أهل الحرب، وتدل على أن الإتخاذ فعلهم.

.تفسير الآية رقم (149):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَلَمَّا سُقِطَ فَي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْاْ أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّواْ قَالُواْ لَئِن لَّمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [149].
{وَلَمَّا سُقِطَ فَي أَيْدِيهِمْ} أي: ندموا على عبادة العجل {وَرَأَوْاْ} أي: علموا وأيقنوا: {أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّواْ} أي: عن الحق والهدى.
{قَالُواْ لَئِن لَّمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا} أي: بقبول توبتنا {وَيَغْفِرْ لَنَا} أي: ما قدمنا من عبادة العجل {لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} أي: بالعقوبة، أي: ممن خسروا أعمالهم وأعمارهم.
لطيفة:
يقال للنادم على ما فعل، الحسر على ما فرط منه قد سُقِطَ في يده وأُسقط مضمومتين- قاله الزجاج-.
وقال الفراء: يقال سُقط في يده وأسقط، من الندامة، وسُقط أكثر وأجود.
وأنكر أبو عَمْرو أُسقط بالألف، وجوزه الأخفش.
قال الزمخشري: من شأن من اشتد ندمه وحسرته، أن يعض يده غماً، فتصير يده مسقوطاً فيها، لأن فاه قد وقع فيها.
وقال الزجاج: معناه: سقط الندم في أيديهم، أي: في قلوبهم وأنفسهم، كما يقال: حصل في يده مكروه، وإن كان محالاً أن يكون في اليد، تشبيهاً لما يحصل في القلب وفي النفس، بما يحصل في اليد، ويرى بالعين. انتهى.
وقال الفارسي: أي: ضربوا أكفهم على أكفهم من الندم، فإن صح ذلك فهو إذن من السقوط.
وفي العباب: هذا نظم لم يسمع به قبل القرآن، ولا عرفته العرب، والأصل فيه نزول الشيء من أعلى إلى أسفل، ووقوعه على الأرض، ثم اتسع فيه فقيل للخطأ من الكلام سقط، لأنهم شبهوه بما لا يحتاج إليه، فيسقط، وذكر اليد لأن الندم يحدث في القلب، وأثره يظهر في اليد، كقوله تعالى: {فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَق}، ولأن اليد هي الجارحة العظمى فربما يسند إليها ما لم تباشره، كقوله تعالى: {ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاك}. انتهى.
وعليه، فيكون سُقط من السقاط، وهو كثرة الخطأ كما قال:
كيف يرجون سِقَاطِي بَعْدَ ما ** لَفَعَ الرأسَ بياضٌ وَصَلعْ

وقيل: من عادة النادم أن يطأطئ رأسه، يضعه على يده، معتمداً عليه وتارة يضعها تحت ذقنه، وشطر من وجهه على هيئة لو نزعت يده لسقط على وجهه، فكانت اليد مسقوطاً فيها، لتمكن السقوط فيها.
ويكون قوله: {سُقِطَ فِي أيْدِيهِمْ} بمعنى سقط على أيديهم، كقوله: {وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْل}، أي: عليها، وسُقط عده بعضهم من الأفعال التي لا تتصرف، كنعم وبئس. وقرئ رباعي مجهول، وهي لغة نقلها الفراء والزجاج، كما قدمنا.
ثم بين تعالى ما جرى من موسى عليه السلام بعد رجوعه من الميقات، وكان أعلمه تعالى بفتنة قومه فقال سبحانه: